المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التحقيق في دعوى حصر المكارم الخلقية في المقاصد التحسينية



أهــل الحـديث
10-10-2012, 10:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هذا ملخص لبحث "التحقيق في دعوى حصر المكارم الخلقية في المقاصد التحسينية" تقدمت به لندوة علمية دولية حول "مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر"، والتي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط يومي 5/6 يونيو 2012


بسم الله الرحمن الرحيم

تنقسم مقاصد الشرع عند العلماء إلى الضرورية والحاجية والتحسينية، وقد وضحوا المراد بكل مرتبة..إلا أن ما يشد الانتباه بقوة كلام أغلبهم في بيان المراد بالتحسينيات من حيث حصرهم مكارم الأخلاق ضمن هذه المرتبة التي تصنف من حيث أهميتُها في أدنى مراتب المقاصد الشرعية. فهل مكارم الأخلاق كما وصفوا تقع موقع التحسين والتزيين، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات بحيث لا يتضرر الناس بتركها، ولا يلحقهم حرج وضيق بفقدها؟ وهل يمكن أن تقوم قائمة للدين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال بدونها؟ وهل يصح أن تكون البعثة المحمدية منحصرة في تتميم أوصاف زائدة على ما هو ضروري وحاجي متمثلة في مكارم الأخلاق؟.. الإجابة عن تلكم الأسئلة هي موضوع البحث المقدم لهذه الندوة المباركة.
لقد نص العديد من العلماء على أن فقدان المصالح التحسينية لا يخل بمقصد ضروري ولا حاجي، ولا يدخل على المكلف الحرج والضيق بذلك، وإنما تجري مجرى التحسين والتزيين". وهي كما عرفها الجويني ما لا يتعلق بضرورة خاصة ولا حاجة عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو نفي نقيض لها". وقال الرازي: وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري مجرى التحسينات وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقال الشاطبي: «وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق». وبمثل هذا قال ابن السبكي والعز بن عبد السلام والزركشي وابن أمير الحاج والأمير بادشاه والشوكاني وغيرهم كثير.
ومن المعاصرين الدكتوران الخادمي ومحمد اليوبي قالا:"هي التي تليق بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، والتي لا يؤدي تركها غالباً إلى الضيق والمشقة" وقال الدكتورالبوطي: "إنتركهالا يؤديإلىضيق،ولكنمراعاتَها متفقةمعمبدأالأخذبمايليق،و تجنبمالايليق،ومتمشيةمعمكا رمالأخلاقومحاسنالعادات"، وغيرهم أيضا كثير ممن درجوا على إيراد هذا المعنى في التعريف بالتحسينيات.
وصنيعهم هذا في عد المكارم الخلقية من المقاصد التحسينية يعطي انطباعا أن الأخلاق من الكماليات، وهنا نحن من حيث الفهم لهذا الصنيع بين أمرين اثنين، فإما أن يحمل كلامهم على الظاهر وهذا لا يسلم من الاعتراض، ولا يصح بإطلاق للأسباب التي ستأتي، وإما أن يكون هؤلاء الأعلام قد أغفلوا حقيقة الأخلاق في شريعة الإسلام، وهذا لا يستقيم، فهم في العلم بالشرع قامات عالية وقمم شامخة.
ولما لا يصح في الاعتبار هذا ولا ذاك، وجب بيان معنى كلامهم في حصر المكارم الخلقية في المرتبة التحسينية، فأقول والله المستعان:
لقد نص القرآن المجيد في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان و تهذيب نفسه والسمو بها إلى الغاية التي خلق لأجلها ـ إفراد الخالق بالعبودية ـ مقصود بعث الرسل عمومًا، وخاتِمهم رسول الإسلام خصوصًا، قال تعالى: (( هو ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِم ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ))((..يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..))((..يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ..().
.. وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هي العلة الغائية والمقصد الشرعي لإرسال الرسل وتنزيل الرسالات.
والتزكية هي عينها التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن سيئها، قال ابن كثير في معنى هذه الآيات السالفات: "..ويزكيهم أي يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس .."
فالغاية الخلقيَّة والسلوكيَّة هي المبتغَاة من وراء التكليف بالعبادة في إجمالها وفي تفصيلها، بل إن تزكية النفس تكون بالدين، وإقامة الدين تكون بتزكية النفس، والدين هو حسن الخلق، قال الشاطبي:"الشريعة كلها إنما هي تَخَلُّقٌ بمكارم الأخلاق"،فليست الأخلاق فضائل منفصلة، وإنما هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة هي دين الاسلام فمن العقيدة تنشأ الأخلاق وهي بدورها تسري في العبادات وتتفاعل مع المعاملات، ولم ينفك حكم شرعي عن واحدة أو أكثر من القيم الأخلاقية، كما لم ينفك أبدا خلق عن حكم شرعي. والقواعد الخلقية موصولة بالقواعد الدينية وصلا لا انفصام فيه، فالدين كله أخلاق, أحكاما ومقاصد.
والخلق في لسان العرب: معناه الدين، والدين حسن الخلق، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر، قال: (البر حسن الخلق). والله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنِ الْبِرُّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾
قال ابن القيم:" وهذا يدل على أن حسن الخلق هو الدينُ كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ".
ولما كانت مراتب مقاصد الدين الاسلامي عند العلماء ثلاثة: الضرورية والحاجية والتحسينية، فكذلك هي المراتب في لازمه وفي ما لا ينفك عنه أي حسن الخلق، فمنه الضروري الذي يختل بفقده ليس نظام السلوك فحسب بل نظام الحياة كلها، كما منه ما يعد في مرتبة الحاجي ومنه ما يقع موقع التحسين والتكملة، وهذا ما اعتبره علماء الأصول من المقاصد التحسينية.
ذلك أن الأخلاق ليست كلها جملة من الصفات الحسنة التي يكمل بها سلوك الأشخاص, وإنما منها ما هو ضروري لهذا السلوك, بحيث إذا فقدها الفرد, نزل عن رتبته في الأنام وعد في صفات الأنعام، كما ليست الأخلاق كلها جملة من محاسن العادات التي يتصف بها تعامل المجتمعات فيما بينها, وإنما منها مجموعة من العادات الضرورية لهذا التعامل, بحيث إذا فقدها المجتمع اختل نظام الحياة فيه وأصبح معدودا في القطعان..
فالأخلاق هي الأساس في بناء الأمة، وهدف عباداتها، وسبب الأمن من هلاكها وفنائها، إذ ورد الوعيد بهلاك الناس في الدنيا لفساد أخلاقهم، قال تعالى:"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" بظلم أي بشرك وكفر، "مصلحون"أي محققون لمعنى العدل فيهم رغم كفرهم، ولذلك كان هلاك قوم لوط لا لكفرهم فحسب بل لانضمام ذلك إلى جور وفساد متفش بينهم حتى انقلبت قيم الفضيلة فيهم إلى الرذيلة "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" وأيضا كان هلاك قوم شعيب لإصرارهم على نقصهم الميزان والمكيال..ومن تأمَّلَ مصارِعَ الغابرين وجدَ أن الانحلال الخلقي، والفساد السلوكي، كانا أسباب هلاكهم على الإطلاق.
ثم إن قوام الدين خلق الصدق "ومن أصدق من الله حديثا" وسمى جل وعلا القرآن المجيد صدقا"وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" وقوام التدين الصدق: الصدق في الإيمان والصدق في الإسلام والصدق في الإحسان.
والدين الذي هو خطاب التكليف سماه الله عز وجل أمانة، وإذا انقرضت الأمانة، فقد اضمحلت الديانة وكانت القيامة، كما جاء في الحديث "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة".
والإمام الشاطبي نفسُه ذكر ما يفيد تفاضل رتب الأخلاق، أي منها الضروري والحاجي فالتحسيني، حيث قال:" كل خصلة أمر بها أو نهي عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها .. ..
وكلامه في هذا طويل ينحصر كله في ذكر مكارم الأخلاق في المأمورات ومساوئها في المنهيات، والضابط في معرفة مراتبها في كلتيهما النظر إلى درجة المصلحة أو المفسدة التي تعلقت بكل أمر وبكل نهي، فعلى قدر تحصيل الأولى ودرء الثانية يأخذ الحكم التكليفي درجته من حيث الترتيب المقاصدي، فإن كان ذلك مهما جدا عد من الضروريات وإن كان قليل الأهمية فمن التحسينيات وما كان متوسطا بين ذلك فمن الحاجيات.
وبتتبعي لكلام الشاطبي تبين أنه جعل للمقاصد الضرورية معايير أربعة:
أولها: أن تحقق أعظم المصالح، وفي الإخلال بها أعظم المفاسد.
ثانيها: أن تكون مطلوبة بالقصد الأول أي أصالة، دون نظر المكلف الى تحصيل حظه أو سعي في نفع نفسه في الامتثال.
ثالثها: أن تكون مطلوبة بحيث لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت.
رابعها: أن يقترن على الإخلال بها وعيد أو حد من الحدود.
ومن مكارم الأخلاق ما تتحقق فيها هذه المعايير جميعها، فالصدق والأمانة والعدل والإحسان والعفة والوفاء مثلا ورد الأمر بالتزامها في كل حال وفي كل وقت وفي كل صورة دون نظر الى ما قد يترتب عليها من حظوظ وغيرها، كما ورد الوعيد على الإخلال بها، وورد النهي عن أضداد هذه الأخلاق وعن الكبر والرياء والبخل والظلم والحسد وغير ذلك مع دوام الانتهاء عنها في كل حال ووقت ومكان دون نظر المكلف الى ما ينشأ عن هذا الكف والامتناع من الحظوظ والنتائج، كما ورد في نصوص الشرع الوعيد على الاتصاف بها. مما يدل بوضوح على أن من مكارم الأخلاق ما يعد من قسم الضروريات.
ولما كانت الضروريات منحصرة في الكليات الخمسة، فإن واسطة العِقد التي تجمعها كلَها وتحفظها هي الدين، ولما كان الدين هو حسن الخلق فلا يمكن بحال حفظ النفس والنسل والعقل والمال بغير مكارم الأخلاق.
و للضروريات مكملات: الحاجيات والتحسينيات، وكذلك حسن الخلق له مكملات، ومقصود الشرع تحصيل محاسن الأخلاق في كمالها، ذلك أن الشريعة الإسلامية أتت بكمال المكارم قال عليه الصلاة والسلام:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقد كان الرسول عليه السلام بالغا الكمال في حسن الخلق،وجعله سبحانه أسوة حسنة لجميع المسلمين بل للناس أجمعين إلى قيام الساعة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم أقرب الناس إلى خلقه عليه الصلاة والسلام، وكانوا أفضل الناس وخيارهم في كل زمان،وكانوا مع ذلك يتفاضلون في ما بينهم في بعض المكارم، قال الشاطبي:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان..، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ..وقال "وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح".
الشاهد من هذا أن مكارم الأخلاق مراتبُ بعضها أفضل من بعض، ومطلوب الشرع السعي الى تحصيل أعلاها، وقد ورد في سبب نزول قوله تعالى:"ولا ياتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا اولي القربى والمساكين وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ (http://www.wa7e.net/vb/showthread.php?t=29650)يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.." أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه، فنزلت هذه الآية، قال الشاطبي:" ..فجاء هذا حضا له على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة والهجرة ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ولكن أحب الله له معالي الأخلاق". ومعالي الأخلاق هذه هي ما عده الأصوليون في مرتبة التحسينيات، لأنها محاسن زائدة على أصل الضروري والحاجي.
وبهذا يرتفع الإشكال في شأن الاستدلال بالحديث الشريف "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، من حيث ما يفيده ظاهره أن البعثة المحمدية منحصرة في تتميم أوصاف زائدة على ما هو ضروري وحاجي.
فالتتميم لمكارم الأخلاق أي تتميم الدين كله، ذكر تفضيلا وتمييزا للإسلام عن جميع الشرائع التي كانت قبله من حيثأنه حوى كلّ ما جاءت به تلك الشرائع مما هو من الأصول والقواعد الكلية مع الزيادة عليها بعد نسخ وتغيير ما كان لا يصلح إلا لظرف معيّن وأجل محدود، فأتت الشريعة الإسلامية كاملة بتمام مكارم الأخلاق ومحاسن الأحكام، قال الشاطبي: " فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى ".
وخلاصة القول في نهاية هذا البحث: إن مكارم الأخلاق هي الدين كله، الذي هو أحد الكليات الخمسة الضرورية، وأن ما عده الإمام الشاطبي وغيره في مرتبة التحسينات إنما هي فضائل مكارم الأخلاق، وأعني بالفضيلة المعنى المشتق من الفضل، أي ما زاد على الحاجة، أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة وحد الضرورة، وهي الآداب العامة وما يحسن في مجاري العادات..
وتلك هي زينة الإنسان وحليته في كل جوانب حياته وحتى في تحقيق حاجته الطبيعية ..فهو خلق مميز عن الحيوان بل مكرم من الله جل وعلا، وإنه على قدر تخلقه تتحدد قيمته الإيمانية وكرامته الإنسانية التي ما حازها إلا لأنه جمع بين المظهرين الخَلقي المقوم المسوّى المكرم به فضلا دون تكليف، والخُلقي العظيم المكلف به حفظا ورعاية وارتقاء نحو الكمال، لكنه إن خان أمانة التكليف انسلخ عن كرامته الإنسانية وارتد إلى أسفل المخلوقين والسافلين. هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.