المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة نبوغ عالم



أهــل الحـديث
04-09-2012, 06:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قصة نبوغ عالم
مطالعة تراجم العلماء النابغين ، مدرسة تشحذ الهِمم الى الترقِّي في أعلى المراتب . والعلماء الربانيون معهد يُعزِّز القِيم والأخلاق في قلوب العامة والخاصة . وتتبُّع مواطن النبوغ في سِير العلماء طريق لاحب لتحصيل المعالي والصعود الى مدارج الفالحين .
ومن العلماء النَّابهين النابغين : أبو جعفر : محمد بن جرير بن يزيد الطبري ( ت: 310هـ ) ، من أئمة أهل السنه والجماعة ، علاَّمة في التفسير والتاريخ والفقه والحديث ، ولد في (أمل طبرستان ) في بلاد فارس ، واستوطن بغداد . وعرض عليه القضاء فامتنع . كان حصورا لا يعرف النساء . وتوفي ببغداد . رحمه الله تعالى .
من أشهر مؤلفاته : (جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) وفيه قال أبو حامد الاسفراييني(ت: 406هـ ) رحمه الله تعالى :" لو سافر رجل الى الصين في تحصيل تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا " .
و(تهذيب الآثار ) ، لم يُتمَّه و(تاريخ الرسل والملوك ) و( صريح السنة ) وقد بسط فيه مذهب اهل السنه والجماعة . و(تبصير أُولي النهى معالم الهدى ) و( جزء في الاعتقاد ) . قال عنه الامام الذهبي ( ت: 748هـ )رحمه الله تعالى : " كان من أفراد الدهر علما وذكاء ، قلَّ ان ترى العيون مثله " .
· معالم نبوغ الامام الطبري :
1-الاستعداد الفطري : ظهرت ألمعية الطبري منذ نعومة أظفاره ، فكان مُنكبَّا على العلم والاجتهاد وتحصيل الفضائل منذ صغره . وكان يحكي أن والده رأى له رؤيا، كانت حافزا له على الظفر بالرُّقي في ُسلَّم العِلم ، واستجلاء غوامض الفنون . قال رأى أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعي مِخلاة مملوءة بالحجارة وأنا أرمي بين يديه . وقد عُبِّرت له على النُّصح في دين الله والتفوق على أقرانه .
ومن عناية الله بالطبري أنه كان في طفولته يؤم الناس في الصلاة وهو ابن ثماني سنين . وقد أتم حفظ القران وعمره سبع سنين .

2-الجلد في التحصيل : من دلائل نبوغ الطبري أنه بدأ الرحلة والسفر الى الأمصار لطلب العلم منذ أن بلغ الثانية عشر من عمره ، فرحل إلى بلاد فارس ومدنها طبرستان والري . ثم رحل الى العراق ومدنها بغداد وواسط والبصرة والكوفة . ثم يمَّم نحو الشام وزار الساحل ومُدنه . ثم قصد مِصر وقرأ على علمائها . ثم عاد الى مسقط رأسه بعد أن تفنَّن في كل العلوم والفنون وقابل العلماء والشيوخ . وكانت مدة رحلاته في طلب العلم أربعين عاما .
وقد ذكر تلاميذه أنه مكث أربعين عاما يكتب في كل يوم أربعين ورقة . فيكون مجموع ما كتبه ستمائة الف ورقة . ومن جلده في الفهم والحفظ أنه سئل عن علم العروض فاعتذر ، فلما كان من الغد حفظه وفهمه كله في يوم واحد . وقد قصَّ على تلاميذه بعض ما كابده في طلبه للعلم فقال : " كنا نمضي الى أحمد بن حماد الدولابي( ت: نحو270 هـ ) رحمه الله تعالى ، وكان في قرية من قُرى الريِّ ، بينها وبين الريِّ قطعة ، ثم نغدو كالمجانين حتى نصير الى ابن حُميد ، فنلحق مجلسه " .

3-العناية بالتحليل والاستقصاء : ويظهر ذلك جليا في استيعابه للمسائل والتصانيف . ومعرفته للقراءآت بأنواعها ، واستظهار أقوال الصحابة والتابعين ، وتحقيقه للآثار في كتب الفقه والحديث ، وعنايته بالتأريخ وحوادثه ودول الاسلام ومراحلها . والمطالع لتصانيفه يلحظ عليها النفس الطويل في سرد الاقوال والمقارنة بين الأدلة ، وترجيح المسائل المختارة مع العناية بالضبط والمناقشة والتحقيق في أغلب أبحاثه . ويروي تلاميذه عنه أنه قبل وفاته بشهور قصد الى تأليف كتابٍ في القياس ، وجمع لذلك نيِّفا وثلاثين كتابا ، لكن الموت اختطفه قبل تصنيفه ، وقد وجد في مصادره التي أعدَّها علامات بِحُمرة قد علَّم عليها . وهذا يدل على حرصه على جمع الاقوال والمقارنة بين المذاهب ونقد الآراء والموازنة بين الراجح والمرجوح . وهي عملية ذهنية لا تحصل بالتمنِّي والدعة .

4- نقد المذاهب : تميَّزالامام الطبري بتمحيص الأقوال وتحريرها والبحث في مسالك الادلة ومناطها وتنقيحها . وأثمرت رحلاته
الطويلة على وزن الآراء بالميزان الدقيق المعتمد على النصوص الشرعية . ونظريته التي يؤمن بها عدم التسليم بالثناء المطلق على مذهب متبوع من الائمة المشهورين ، مع حفظ حقه في أسبقية العلم والفضل . ولما صنف كتابه : ( اختلاف الفقهاء) لم يُعرِّج على قول الامام أحمد(ت: 241هـ) رحمه الله تعالى ، في المسائل الخلافية ، ونبَّه الى أنه مُحدِّث ضليع، لكنه ليس بفقيه . وقد أثار عليه هذا النقد شغب الحنابلة في بغداد، في قصة دوَّنها المؤرخون . وللطبري ردود قوية على مذهب الظاهرية ومؤسِّسها داود الظاهري (ت: 270هـ ) رحمه الله تعالى ، ومناظرة مشهورة مع الامام المزني (ت: 264هـ) رحمه الله تعالى ، تلميذ الشافعي ، وردود على المعتزلة والقدرية . وردود على من ضعَّف حديث غدير خُمّ وغيرها من الاحاديث . وقد خلط ذلك كله بأدب جمِّ ونفس مهذَّبة .


5-التفرغ وقطع الشواغل : المتأمِّل لسيرة الامام الطبري يلحظ التفرغ الكامل منه للعلم ، والاقبال عليه بنهمة لا تعرف الكلل والملل . ويتضح ذلك جليا في أمرين : ترك الزواج – وقد يكون سبب ذلك عارض صحي - ، وكثرة الأسفار والترحال في البلاد لاقتناص العلوم والفوائد . وقد أثمر ذلك تصنيفاته الواسعة والمحققة مثل : كتاب التفسير في ثلاثين الف ورقة ، الذي أملاه في ثمان سنوات ، وكتاب التاريخ في نحو حجم كتاب التفسير . اضافة الى تخريجاته واستنباطاته واختياراته في المسائل الشرعية .

6-الافادة من القريحة الذهنية : لم يكن الامام الطبري ناقلا لأقوال الرجال فحسب ، أو جامعا للمسائل حاشدا لها بين ثنايا صفحاته . بل كان يستعمل الأدوات العقلية التي تدرَّب عليها ذهنه في رحلاته ولقائه بشيوخه ومناظراته في المجالس . والشواهد على ذلك لا حصر لها . فقد كان يسلك في الترجيح في المسائل التفسيرية الأدوات الخمسة التي اختطَّها لنفسه وهي : الترجيح بتفسير القران بالقران ، والترجيح بالاستدلال بالسنة ، والترجيح بالمنقول عن السلف ، والترجيح بالاجتهاد والرأي ، والترجيح باللغة .
وكان الامام الطبري معتنيا بالاستنباط ، ويظهر ذلك جليا في اختياراته الفقهية ومناقشته للمسائل الاصولية . ومن طالع كتابه ( تهذيب الأثار ) عرف قيمته العلمية التي تدل على النضوج في فهم المسائل والأبحاث .

7- الصبر على أذى المخالفين : ابتلي الامام الطبري ببلايا ومِحن من العامة، وبعض المخالفين لمذهبه ، فقد أتُّهم رحمه الله بالرفض ( مذهب الرافضه ) ، واستدلوا بأدلة باطله منها : تصحيح الطبري لحديث غدير خُمّ ، ونصُّه : " من كنتُ مولاه فعليُّ مولاه " .
وقالوا إن الطبري ينتمي الى أهل بلدة قديمي التشيع ، وإن أكثر شيوخه مُتَّهمون بالرفض ، وأنه انفرد بمذهبٍ مستقل ،أسماه المذهب الجريري ، فلم يتبع المذاهب الفقهية المعروفة ، وأنه استشهد في تفسيره بأبيات للشاعر الشيعي ( الكميت بن يزيد) ( ت :126هـ ) عامله الله بعدله .
والصحيح أنَّ كل ما استدلوا به لاتهام الطبري بالرفض لا حُجة لهم فيه . فتصحيح الطبري لحديث خُمّ ، تبع فيه غيره من مشاهير الحفاظ الذين صحَّحوه وجمعوا طرقه كـ : أحمد في مسنده ، وابن أبي عاصم( ت: 287هـ ) ، وابن أبي شيبة (ت: 235هـ )رحمهم الله تعالى .
أما الدليل الثاني فإن الطبري رحل عن بلدته في سنِّ مبكرة جداً، وعندما رجع اليها وجد الرفض منتشرا بين أهلها ، فكتب في فضائل أبي بكر وعمر – رضى الله عنهما – للذّبِّ عنهما . أما عن شيوخه فلا يلزم أن يقلِّد من ضلَّ منهم في عقيدته ، فكثير من التلاميذ خالفوا شيوخهم في مذاهبهم واتجاهاتهم . أما عن انفراده بمذهبٍ مستقل ، فهذا ليس بدليل على انتمائه إلى مذهب الشيعة، وكثير من العلماء خالفوا المذاهب الاربعه كالليث بن سعد (ت: 175هـ ) والاوزاعي( ت: 157هـ ) رحمهما الله تعالى ، ولم يقل أحد عنهم إنهم شيعة . أما عن استدلاله بأبيات ( الكميت ) فهو أوهن الادلة وأضعفها .
ولعل من أسباب اتِّهام الامام الطبري بالرفض كون ذلك نشأ نتيجة لتشابه اسمه وكنيته مع أبي جعفر " محمد بن جرير بن رستم الطبري الرافضي "(ت: القرن الرابع الهجري ) وهذا دليل قوي لنفي تهمة الرفض عن شيخ المفسرين .

إنَّ تلك المعالم القيمة هي التي صبغت الامام الطبري بعد توفيق الله تعالى بصبغة الذكاء العلمي ، والنبوغ الذهني، والتوقد العقلي الباهر ، وصيَّرته اماما يبقى أثره في الخالدين . فأين شبابنا اليوم من سيرة ذلك النابغة ، أين من يعجر عن المشي الى المكتبات أو الندوات ، لاقتناص فائدة أو تحقيق مسألة أو حفظ شاردة ؟! ، أين من يُضِّيعون الأوقات والأعمار في الملاهي الفارغة والمشاغل الكاذبة ؟! نسأل الله صلاح الحال والمآل . هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .


المصادر :
1--تاريخ بغداد 2/162-169 .
2- البداية والنهاية 11/146. وفيه أن من الجهلة من رماه بالإلحاد وأن بعض العوام اتهمه بالرفض .
3- الكامل لابن الاثير 8/134 وفيه قصة فتنته مع العامة
4- درء التعارض 7/406-418 . وفيه فوائد مهمه .
5- الفِصل لابن حزم 4/67 وفيه ( ذهب محمد بن جرير الطبري و الأشعرية الى أنه لا يكون مسلما الا من استدلَّ ، وإلا فليس مسلما. وقال الطبري: من بلغ الاحتلام او الاشعار من الرجال و النساء او بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع اسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال وقال : انه اذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك ...) أ.هـ
6- منهج أهل السنه والجماعة ومنهج الاشاعرة في توحيد الله تعالى 2/4247-425 .
7- طبقات أعيان الشيعة / للطهراني .
8- معالم العلماء 106 وفيه أن هناك رافضي آخر يُدعى ( أبي جعفر محمد بن أبي القاسم بن على الطبري ) من علماء الامامية في القرن السادس .
9- روضات الجنات للخوانساري 7/295.
10- التاريخ العربي والمؤرِّخون / لشاكر مصطفى / 261 وفيه تتبُّع للمآخذ على تأريخه .
11- تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة / أمحزون / 1/198 .
12- أصول مذاهب الشيعه / للقفاري/ 3/1196 .
13- منهج الطبري في الترجيح / تمام الشاعر/ رسالة لم تنشر/ مطبوعه على الراقمه .

أ / أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
http://lojainiat.com/main/Author/2083