المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مصطلح الاستبانة



أهــل الحـديث
06-08-2012, 02:10 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


المصطلحات القرآنية ذخيرة من الذخائر النفيسة التي يجب على الدارسين والمتأملين لكتاب الله تعالى أن يتدبروا معانيها ومضامينها ، ففي ثناياها لطائف رائقة وجليلة تزيد الايمان وتقوِّي الحصيلة العلمية المُعينة على فهم كلام الله تعالى .
ومن تلك المصطلحات الرائقة البديعة مصطلح ( الاستبانة ) الوارد في قول الله تعالى : " وكذلك نفُصِّل الآيات ولتستبين سبيلُ المجرمين " ( الأنعام :55) .
والاستبانة : الوضوح والظُّهور واليقين بصورة الشي ومعناه ومآلاته , وقد ورد هذا المصطلح في سياق الحجج والبراهين التي يسوقها الله تعالى للدلالة على الحق والرشاد الموصل الى رضوانه والفوز بجنته . فبعد أن أوضح الحق سبحانه الآيات والدلائل الداعية الى التوحيد والايمان به دون سواه ، أخبر تعالى أن الاستجابة لا تُعطى الا لمن يُصغي الى الحق وينبذ المجرمين المعاندين للهداية المحاربين والمحادِّين لله ولدينه ولأوليائه كما في قول الله تعالى : " إنما يستجيبُ الذين يسمعون " ( الأنعام : 36 ) .وقد تكّرَّر بعد هذا التوضيح القرآني لشحذ الهمم للهداية لفظة ( قل أرأيتم ) و( قل أرأيتكم) من أجل التحريض على قبول الحق ونبذ سبيل المجرمين .
فالاستبانة والظُّهور قد تُعرف بداهة ، فضل محضِ من الباري تعالى ، يميُّزها العاقل بنظره الثاقب ومعرفته الذهنية كما قال "دوقلة المنبجي ": ( ت :554 هـ) :
ضدان لما استجمعا حسنا والضدُّ يُظهر حسنه الضدُّ
وقد تكون الاستبانة نعمة من الله تعالى لأوليائه المتقين كما وقع لموسى عليه السلام وندمه على قتل القبطي ، واعانة الله له على الفرار من بطش فرعون المجرم ، كما قال سبحانه : " قال ربي إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي فغفر له انه هو الغفور الرحيم – قال ربي بما أنعمتَ عليَّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين " ( القصص : 16-17) .
والاستبانة قد تظهر بالتفكُّر في العواقب ومآلات الامور كما في قصة سحرة فرعون الذين خلعوا طاعة الطاغية المجرم وآثروا الايمان بالله تعالى على كل ماسواه ، وصبروا على مرارة الموت والصَّلب في جذوع النخل ،لأن الحق استبان وظهر كما قال الله سبحانه : " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " ( طه : 72 ) . والأمثلة القرآنية كثيرة على هذا المعنى تُطلب من مظانها في مصنفات التفسير .
ومن تتبع سِّير المجرمين في التاريخ يلحظ أنهم يطمسون كل شاهد على الحق وينكِّلون بأتباعه والداعين اليه من العلماء والمصلحين وأهل الخير والفضيلة . وهذه سنة الله في الكون من بدء الخليقة كم قال تعالى : " وكذلك جعلنا لكل نبيِّ عدوا من المجرمين " ( الفرقان : 31) . ومن الامثلة التاريخية على ذلك ما قام به ابراهيم بن محمد علي باشا ( ت : 1265هـ ) أحد ولاة مصر الجبَّارين المجرمين . فقد كان دؤوبا على طمس كل معلم من معالم التوحيد في الجزيرة العربية . وشواهد سيرته تبين بعضا من أحواله .
قدم مصر مع "طوسون بن محمد علي " سنة( 1220 )هـ ، فتعلَّم بها وأرسله متبنّيه "محمد علي " سنة (1231هـ )بحملة الى الحجاز ونجد فعاث فيها فسادا وخرابا ودمارا ، وأهلك الحرث والنسل .
فبعد أن احتل ابراهيم باشا الدرعية ونكَّل بعامة الناس وأحرق الممتلكات ، عاد فقتل العلماء والدعاة شرَّ قتله ، فمنهم من أعدمه بالرصاص ومنهم من وضعه في فُوَّهة المدفع بعد حشوه بالبارود وأشعله به .
فممن أُعدم بالرصاص الشيخ "رشيد السردي" قاضي الحوطه والحريق ، "وعبد الله بن احمد بن كثير" و"عبد الله بن محمد بن عبد الله سويلم "، و"حمد بن عيسى بن سويلم "، و"محمد بن إبراهيم بن سرحان ".
وممن أُعدموا قذفا ببارود المدفع : الشيخ "علي بن حمد بن راشد العريني " قاضي الخرج ، و"صالح بن رشيد الحربي " من بلدة الرس ، و"عبد الله بن صقر الحربي" من الدرعية .
وأما الشيخ " أحمد بن حسن بن رشيد" فقد أمر ( الباشا ) بتعذيبه وجلده فعُذِّب
وجلد ثم قُلعت أسنانه !!.
وفي آخر سنه (1233) هـ قام (الباشا ) بقتل الشيخ " سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب " ، حيث أحضره وأمر بعدد من العازفين على الرباب، بالعزف أمامه تحقيرا واهانة له ، ثم اقتيد الى المقبرة وأُوثق ثم أُعدم رميا بالرصاص ، وجُمع لحمه بعد ذلك قطعا . رحمهم الله جميعا على صبرهم وجهادهم .
وقد وصف الشاعر ما حلَّ بالدرعية مُؤرخاً لاحداثها بحساب الجُمَّل قائلا :
عامٌ به الناس جالوا حسبما جالوا ونال منَّا الأعادي فيه ما نالوا
قال الاخلُّاءُ أرِّخه فقلتُ لهم أَّرَّختُ قالوا بماذا ؟ قلت : غربالُ .

مكث إبراهيم باشا على فساده الى أن تُوفي بمصر، وقد بلغت مُدة حروبه و غاراته 34 سنه . عامله الله بعدله .
ومن مخازيه أنه كان يُجاهر بإحياء القومية العربية ويعدُّ نفسه عربيا ، وسئل كيف يطعن في الأتراك وهو منهم ؟ فأجاب : أنا لست تركيا ، فإنى جئتُ الى مصر صبيَّا ، ومن ذلك الحين مصَّرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دما عربيا .
والمقصود أن الاستبانة مطلب عزيز يجب على المسلم الجدُّ في السعي إليها لمعرفة الحق وللالتحاق بجند الله الفائزين . فإن المغبون من عرف الحق وداهن أهل الباطل . والله ولي التوفيق .

المصادر :
1-تفسير القرآن العظيم / ابن كثير .
2-أجمل عشرين قصيدة لفاروق شوشة / ص 76 . ومطلع القصيدة :
هـل بالطُّلـول لسائـل ردُّ أم هـل لهـا بتكلـم عهـدُ
درس الجديدُ جديد معهدهـا فكأنما هـي ريطـة جُـرد
من طول ماتبكي الغيومُ على عرصاتها ويقهقـه الرعـدُ .
3- دليل مصر/ ليوسف آصف 147-150 .
4- حلية البشر/ للبيطار (15-29) وفيه أمثلة على مخازي إبراهيم باشا وجبروته .
5- وثائق الشام في عهد محمد علي / ص43 وفيه فوائد .
6- التوفيقات الالهامية 632 .
7-عنوان المجد في تاريخ نجد 1/185 وما بعدها .
8- أعلام الجيش والبحرية 1/17 .
9-الأعلام للزركلي 1/70 وفيه وفاته (1264 هـ ) والصحيح ما أثبتُّه أعلاه .
10- المعجم الوسيط .



أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة .
http://lojainiat.com/main/Author/2083