المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرحلة إلى الفاروقي [مشاهدات وذكريات]



أهــل الحـديث
27-07-2012, 03:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الحمد لله الذي خص هذه الأمة بالإسناد، وجعله سبيلا في إقامة الحجة على أهل الزيغ والإلحاد، وأقامه دليلا يستضيء به المؤمن في حلكة الظلام والسواد.
ثم الصلاة والسلام على خير رُسْلِه، وخيرة خلقه ، وخليله محمد بن عبدالله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فقد وفقني الله تعالى –قبل أسابيع- لزيارة الهند في رحلة دامت 15 يوما قصدت فيها زيارة شيخنا المسند الحكيم محمد أكبر بن محمد زكريا الفاروقي –متع الله به وبارك في حياته- صاحب الإسناد الأغلى والأعلى لمن تطلب السماع-، ثم لما عدت محمّلا بالذكريات والمشاهدات طلب مني بعض الفضلاء أن أدون من أخبار وأحوال الرحلة ما لعل في بعضه فائدة رأيتها أو سمعتها، وهي جادة مطروقة من قبل.
وقبل أن أشرع في بيان المقصود، سألني أحد طلبة العلم: ما فائدة قطع هذه الأميال لقراءة كتاب أوتحصيل سماع، والرواية ليست إلا من التحسينيات والكماليات التي ليست من صلب العلم ولا من أصوله؟!
فأقول: في تطلب الرواية وتحصيلها جملة من الفوائد، ذكرها غير واحد في مظان مختلفة، ولكنني أنبه إلى أمور مهمة منها:
- ضبط طبقات العلماء، وتصور التسلسل العلمي، وما في ذلك من اعتناء بالتراجم وأحوال الفضلاء.
- سياحة شرعية، واستجمام علمي، وطالب العلم يحتاج لشيء من ذلك.
- التقاط درر الفوائد من أفواه من تأخذ عنهم، إذ من عادة الإنسان أن يبذل عصارة جهده في اللقاء الأول من تجارب ونصائح وتوجيهات، خاصة إذا كان المستجيز فقيها في إدارة دفة اللقاء.
وغير ذلك مما لا يتسع له هذا المقام ...
أما ما يتعلق بأصل الموضوع فأقول: لما بلغني خبر عن وجود تلميذ حي للشيخ أحمد الله بن أمير الله الدهلوي، عزمت على السفر إليه ولقاءه، فيسر الله الإتصال بابنه (محمد أجمل)، وتم الإتفاق على موعد أجتمع فيه مع أخ آخر –وهو الأخ حسام قبلاوي- أراد من الشيخ ما أردت، وتم إصدار التأشيرة وحجز التذكرة وإنهاء ترتيبات السفر.
في يوم الخميس 3 رجب 1433 هـ، الموافق 24/5/2012م توجهت لمطار الملكة علياء الدولي في عمان لتبدأ أحداث هذه الرحلة، انطلقت الطائرة متجهة إلى أبو ظبي في تمام الرابعة عصراً، ولما ركبنا الهواء واستوت بنا الطائرة، نظرت في أحوال من هم حولي وما رأيت إلا عجبا، فالعرب من الركاب يتشاغلون بالكلام والنوم وإضاعة الوقت، أما الأجانب فجلهم منشغل بالقراءة... فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم أقبلت على شأني، ومما يحلو لي في السفر -وأنا بين الأرض والسماء- أن أستمع لشيء من القرآن، فاستمعت إلى آيات من سورة المائدة استوقفني منها الآيات المشهورات (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك... هم الكافرون، هم الظالمون، هم الفاسقون) واستظهرت الخلاف فيها، واستقر في نفسي ذلكم التفصيل العلمي المحكم عند أهل السنة في حال الحاكم بغير ما أنزل الله، غير أني قلت في نفسي: لماذا تباينت الآيات الثلاث في الكلمة الأخيرة منها؟ وهي مسألة تكلم عنها أهل العلم قديما، قيل: لأن أحوال الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى مختلفة، فمنهم الكافر ومنهم الظالم ومنهم الفاسق! ويرد هذا القول بأمرين، أولا: أن كلا من هذه الألفاظ يطلق على الآخر فالكفر ظلم لقوله تعالى: (والكافرون هم الظالمون)، والكفر فسق لقوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)، وثانيا: اتحاد السياق العام للآيات في الكلام عن أهل الكتاب –أصالة- وحكمهم واحد. وقيل إن الألفاظ الثلاثة لموصوف واحد –وهذا لا ينافي التفصيل في أحوال الحاكم بغير ما أنزل الله- وبدا لي من خلال السياق أن هذا هو الأقرب للصواب، ولعل الختم للآية جاء ليناسب السياق، ففي الأولى كان الكلام عن منة الله على عباده بإنزال الكتب التي هي سبب الهداية والنور، وهي أعظم المنن وأغلاها والواجب على المنعم عليه أن يشكر المنعم عليها، فإن قابلها بتطلب الأدنى من خلال الثمن القليل فينطبق عليه وصف الكفر الذي في أصله يأتي بمعنى الغطاء، فكأنه تجاوز الشكر ونحاه وغطاه ليحصل غيره، أما الآية الثانية فالسياق فيها لإقامة العدل فالعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وتجاوز العدل إلى غيره ظلم!!، وفي الثالثة المقام فيها مقام أمر، والواجب على المأمور أن يمتثل، وعدم امتثاله خروج عن الطاعة وهو أصل معنى الفسق. وإنما هذه خواطر مسافر والتفصيل والتحقيق له أحواله ومقاماته..
انقضت الساعات حتى آن وقت الوصول إلى (أبو ظبي)، فهبطنا ورتبنا أوراق السفر إلى الهند، وتوجهت مع أخي حسام لأداء الصلاة في مصلى المطار، ومما أعجبني في المصلى أني رأيت اجتماع بعض العوام المصريين المسافرين في حلقة على شيخ منهم يعلمهم فيها القراءة الصحيحة لقصار السور، وبمثل هذا تعمر الأوقات!! فلما شرعت بالصلاة توقفوا، وبعدها قام إلي شيخهم مرحبا: أهلا بالشيخ السديس!! –لشبه في صوتي مع الشيخ الشريم!!-
ركبنا الطائرة المتجهة إلى الهند، وقبيل الإقلاع اتصل بي أحد الإخوة من تونس –من طلاب معهدنا- يعرب فيها عن الحاجة الماسة للإخوة هناك للعلم والدعوة، وأن أهل البدع يبذلون الغالي والنفيس لنشر دعوتهم وتأصيلها في قلوب العالمين!! فإلى الله المشتكى، وإنما قيدت هذا للتذكير بعد أن يسر الله بعض السبل التي كانت مغلقة، فأين الجهود؟!
اعتلت طائرتنا السماء، وأمضيت الوقت بين (أبو ظبي) والهند مع السابقين من خلال بعض البرامج الوثائقية حول أصول العثمانيين، وحياة ابن تاشفين، وأحداث الزلاقة وقشتالة، وآثار مراكش، وللتاريخ مذاقه الخاص ودروسه النيرة وأثره على العلم والدعوة، كما حكى القرافي عن الإمام الشافعي قوله: دأبت في قراءة التاريخ كذا وكذا سنة، وما قرأته إلا لأستعين به على الفقه!
وفي تمام الثالثة والنصف من فجر الجمعة 4 رجب 1433 هـ حطت رحالنا في عاصمة الهند دلهي –أو كما يسميها أهلها: دهلي- في مطار (آنديرا غاندي الدولي!) -وهي رئيسة وزراء الهند في فترات متفاوتة سابقة، واغتيلت على يد السيخ سنة 1984- وانتظرنا فيه حتى الساعة العاشرة والنصف، إذ كنا على موعد مع الطائرة التي ستقلنا إلى المدينة التي يقيم فيها شيخنا الفاروقي.
يقيم شيخنا في شمال الهند على بعد 253 كم من العاصمة في مدينة (دهرهدون) عاصمة ولاية (أوترابراديش)، وتتميز هذه المدينة بالهدوء والأمن وطيبة الناس، وفيها بعض المناطق السياحية والمعالم التاريخية، ومن أشهرها جبال (ميسوري) الخضراء والتي تطل على قمم جبال الهمالايا المشهورة، وغالبية سكانها من الهندوس، وأخبرني الحكيم محمد أجمل ابن شيخنا أن غالب سكانها كانوا من المسلمين، ولكن بعد أحداث تقسيم الهند تم تهجيرهم وتشريدهم ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بعد وصولنا إلى مطار (دهرهدون) توجهنا عبر شوارع المدينة إلى مقر إقامتنا في أحد الفنادق القريبة من منزل شيخنا، وفي الطريق ترى عجبا !! فوضى رهيبة مع تناغم عجيب بين الناس، وترى الكفر بأسوأ صوره وأرذلها؛ فهذا يعبد بقرة، وذاك يعبد صورة، وآخر يعبد وهما أو خيالا، وكأن الناس فقدوا عقولهم في باب الديانة! وكلٌ يحمل إلهه معه في مركبته أو على رقبته! وقد تشاهد بين الحين والحين مسلماً موحداً، بيد أن كثيراً منهم ممن تأثر بالمناهج الكلامية الدخيلة على أهل الإسلام؛ وخاصة أتباع الفرقة الماتريدية المتمثلة في المدرسة الديوبندية والمدرسة البريلوية [وهما مدرستان علميتان في الهند تمثلان طائفتين من طوائف الأحناف، إذ يؤيدون المذهب الحنفي في مسائل الفقه مع التعصب له، ويعتنقون أفكار الأشعري والماتريدي في باب العقائد، مع إفراط في التصوف خاصة من أتباع البريلوية، وينظر في تفصيل أحوالهم: الديوبندية: تعريفها وعقائدها لسيد طالب الرحمن، والبريلوية: عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير] ومما وقفت عليه من أخبارهم ما حدثني به حفيد شيخنا الفاروقي بأن الحكومة الهندية تقدم أتباع الطائفة البريلوية لإستلام المناصب المهمة المتاحة للمسلمين نظراً لضعف في ديانتهم!!
وصلنا إلى الفندق، وأصلحنا من حالنا، واتصلت بحفيد الشيخ وأخبرته بوصولي، فجاء إليّ واصطحبني إلى منزلهم القريب، وعرفني بوالده –ابن شيخنا- الحكيم الحافظ محمد أجمل الفاروقي، وهو ممارس معتمد للطب اليوناني –كوالده- وحافظ لكتاب الله تعالى، فرحب بنا، ثم اصطحبنا الحفيد إلى الغرفة التي سيتم مقابلة شيخنا فيها، وهي عبارة عن غرفة متواضعة تضم مكتبة صغيرة –لكتب دينية وطبية وكلها بالأردية والهندية إلا الصحيحين ونسخة من ثبت الكويت مهداة من مؤلفها الأخ الفاضل محمد زياد التكلة- وسريراً للشيخ بالإضافة لبعض الشهادات التقديرية لشيخنا الفاروقي.
وفي هذه الجلسة أكرمنا أحفاد شيخنا بالطعام والشراب والتحية، ورتبنا مبدئيا الأوقات المتاحة لقراءة صحيح البخاري على الشيخ، واتفقنا على أن يكون لنا مع الشيخ بشكل يومي عدة مجالس تتوزع على النحو التالي:
- المجلس الأول يبدأ في الصباح في تمام الساعة الثامنة، ويمتد لساعة كاملة تقريبا، ونتوقف بعدها ليرتاح شيخنا ويتناول إفطاره.
- المجلس الثاني: في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا، ومدته 45 دقيقة، نتوقف بعدها لصلاة الظهر.
- المجلس الثالث: قبل أذان العصر ومدته نصف ساعة، ثم نتوقف ليتوضأ الشيخ ويستعد للصلاة.
- المجلس الرابع: بعد صلاة العصر ويستمر إلى قبيل المغرب.
- المجلس الخامس: بعد صلاة المغرب وحتى العشاء.
وخلال هذا الوقت كان شيخنا المعمر الفاروقي قد بكر إلى صلاة الجمعة، فهو صاحب سنة واتباع، ومن حرصه –حفظه الله- على التبكير لها أننا في الجمعة الأخيرة لي والتي وافقت يوم ختم قراءة صحيح البخاري ولم يبق لنا إلا صفحات عرض عليه ابنه أن يؤخر من خروجه للجمعة لأتمم جل الصحيح إلا الحديث الأخير فنجعله في المسجد على الملأ بعد الصلاة، لكنه أصر على الخروج إدراكا لفضل التبكير، وقال لي : نتابع بعد الصلاة! فاسأل الله أن يرفع قدره وأن يبارك في علمه وعمله.
اصطحبنا حفيد الشيخ إلى المسجد لحضور صلاة الجمعة، والمسجد القريب من بيت شيخنا عائد إلى جماعة الدعوة والتبليغ، وجل أنشطته منصبة على هذا اللون والجانب، وجل أهل المسجد من الأحناف، وترى من مظاهر التعصب للمذهب في هذا المسجد وفي كثير من مساجد الهند ما ترى! وعادة القوم في خطبة الجمعة أن يلقى الإمام خطبة الحاجة مع تلاوة شيء من الآيات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبيان المحبة للخلفاء الراشدين الأربعة، ثم تقام الصلاة، ثم يلقى الخطيب تذكيراً بالأردية ومن ثم الدعاء!
أنهينا صلاتنا وعدنا مع حفيد الشيخ إلى البيت، ثم وصل الشيخ من المسجد ودخل علينا ورحب بنا ترحيبا شديداً، وأخبره حفيده بترتيبات القراءة فوافق على ذلك وغادرنا المكان ليستريح الشيخ ونستعد للقراءة.
وفي تمام الساعة الخامسة من عصر يوم الجمعة شرعنا بحمد الله تعالى ومنته بقراءة صحيح البخاري على شيخنا –نفع الله به ووفقه في الدارين-، وشيخنا يروي صحيح البخاري بسند جليل جداً، فقد تلقاه سماعاً على الشيخ المحدث أحمد الله بن أمير الله الدهلوي، وقد سمعه الشيخ أحمد الله على شيخ الكل في الكل المحدث العلامة نذير حسين الدهلوي، وعن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، وأسانيدهما معروفة متداولة متميزة بالسماع مع العلو.
ولد شيخنا محمد أكبر بن محمد زكريا بن إحسان الله الفاروقي في منطقة (برتاب كراه) يوم الجمعة (6/5/1921م) بحسب الأوراق الرسمية، وقد أخبرني ابنه الحكيم محمد أجمل أن أصولهم تعود إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بحسب المعروف لديهم، ولذلك نسبوا له (الفاروقي)، إذ قد دخل أحد أجدادهم الهند قديما مع بعض أفراد عائلته واستقر بها، وكان من نسله هذه العائلة. وكان والده الشيخ محمد زكريا الفاروقي مقدماً في قومه، وجيهاً بين الناس، معروفاً بصلاحه وديانته، ولم يكن له اشتغال بالعلم الشرعي، ولكنه كان يحث أبنائه على التعلم والتمسك بالدين، وكان يستضيف كثيراً من علماء الهند وفضلائها، فكان بيته مركزاً للمجالس العلمية والتربوية، فنشأ شيخنا في ظل هذه الأجواء، والتقى بعدد من الأعلام وهو صغير، وتتلمذ على بعض علماء منطقته كالشيخ محمد أيوب الفاروقي [ت 1339هـ] –أحد تلامذة الشيخ نذير حسين- وغيره، ثم انتقل إلى دلهي فالتحق بالمدرسة الفياضية، ودرس فيها سنتين، ثم انتقل إلى المدرسة الرحمانية –وهي مدرسة تابعة لأهل الحديث في الهند، وكان يقوم عليها ثلة من أعلام السنة في ذلك الوقت، وتوقفت بعد أحداث تقسيم الهند سنة 1947م- وتلقى فيها عن علمائها، ثم بعد أن انتقل شيخه الشيخ أحمد الله الدهلوي إلى المدرسة الزبيدية انتقل معه لها، لرابطة البلديّة بينهما، وأخذ عنه صحيح البخاري كاملاً، ومن صحيح الإمام مسلم من كتاب البيوع إلى نهايته، وقد أجازه بمروياته، وقد أخذ عن غيره أيضا ومما ضبطه أخذه للبخاري والموطأ سماعا على أبرز تلاميذ الشيخ أحمد الله وهو الشيخ عبيدالله المباركفوري، وكذا أخذه للنصف الأول لصحيح الإمام مسلم من الشيخ نذير أحمد الأملوي [وانظر السراج في أسانيد الشيخ محمد أكبر الفاروقي.. للشيخ الفاضل صالح بن عبدالله العصيمي، وقد نقلت في هذه الترجمة جل ما كتب وزدت عليها من مشاهداتي]
وقد سألت شيخنا عن الشيخ عبدالقيوم الرحماني فتذكره جيداً وقال: كان من زملائي، وسألته هل تذكر غيره من الزملاء فذكر منهم الشيخ عبدالخالق بن عبدالجبار الرحماني وقال: وقد غادر إلى باكستان [وقد توفي رحمه الله] ومن أقرانه ممن ذكرهم الشيخ صالح في السراج: أبو الخير الفاروقي، وعبدالستار الفاروقي، ومحمد عيص الفاروقي –رحمهم الله-.
وبعد أن أتم شيخنا دراسته الشرعية، انتقل لدراسة الطب اليوناني في دلهي، واستمر في ذلك لمدة أربع سنين حتى أتم دراستة وحصل على سند التشخيص والعلاج بالطب اليوناني سنة 1943هـ من كلية الحكيم أجمل خان الطبية، وجاء في نص شهادته في الطب اليوناني:
(نصدق بأن محمد أكبر ابن شيخ محمد زكريا قد استوعب تصاب أربع سنين للشعبة العربية اليونانية في كليتنا حتى فاز في الإمتحان النهائي فاضل الطب والجراحة في سنة 1943م وشاهد طرق تشخيص الأمراض مع مداواتها وأعمال اليد في دار الشفاء إلى أجل معين حتى تمكن فيه أمر التشخيص والتدبير، فالان نجيزه بإعطاء هذا السند أن يعالج المرضى ولا يغفل عن مراعاة مقاصد هذا الفن الشريف من خدمة الناس ...)
ثم رجع شيخنا إلى قريته وأقام بها سنتين، ثم انتقل إلى شمال الهند إلى مدينة ديهرهدون وعمل إماما لمسجد أهل الحديث فيها لمدة عامين، ثم مارس مهنة الطب، وخلال هذه المدة وقعت أحداث تقسيم الهند واضطر الشيخ للهروب وترك كتبه ووثائقه العلمية (ومنها الإجازة) في المسجد وقام الهندوس بإحراقها –كما أفاده ابن شيخنا -.
وقد برع شيخنا في الطب اليوناني، وابتكر جملة من الأدوية النافعة التي أنتجتها بعض المصانع، وأهدت له بعض المنظمات العالمية بيته الذي يسكن فيه في منطقة وسطية في المدينة ليقوم على مهنته في معالجة الناس، ومما قرأته عن شيخنا في أحد الصحف المحلية –في خبر تكريم له- أن الأجرة التي كان يتقاضاها على الفحص والإستشارات الطبية كانت روبيتان –وهو مبلغ زهيد جدا-.
وقد تم تكريم شيخنا من قبل عدد من المؤسسات والهيئات الخاصة والعامة، ويعد شيخنا من أعيان أهل الحديث في مدينته يزوره طلبة الحديث وأهله من مختلف المناطق، ومن جهوده حفظه الله أنه عمل مديراً ومشرفا لمدرسة إسلامية لتعليم الأطفال مبادئ الدين واللغات والعلوم المتنوعة، وقد غرس الإعتناء بهذه المدرسة في أبنائه وأحفاده، فقد دعاني ابن الشيخ لإلقاء عدة محاضرات في هذه المدرسة، ورأيت جهود الشيخ وعائلته في الإعتناء بتعليم الطلبة الفقراء ودعمهم وتنمية ثقافتهم الدينية والدنيوية، ومن جهود شيخنا كذلك أنه يعمل كمسؤول عن الأوقاف في منطقته، ويتابع إدارتها بنفسه.
ومن مهمات ما يذكر عن الشيخ في ترجمته، أنه حفظه الله صاحب سنة، متبع للهدي النبوي، له عناية بالتربية لأبنائه وأحفاده، ففي كثير من المرات لما كنت أقرأ عليه وكان يرى حفيده الأصغر (سيف) يضيع وقته بالجلوس كان يزجره آمراً إياه بمتابعة حفظه للقرآن الكريم، وفي أحد الأيام كنا نقرأ عليه أمام بيته بحضور الحفيد الصغير، فمر رجل في أحد ساقيه علة، فقطع الشيخ القراءة وأقبل على حفيده معلماً إياه أن يقول: الحمد لله الذي عفاني مما ابتلاه به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا. ومن ذلك أيضا أنه لما يحين موعد الصلاة يقوم الشيخ من مجلسه دون إشعار ليدرك الصلاة في أول وقتها، ومع كبر سنه ووضعه الصحي إلا أنه يحرص على الجماعة أشد الحرص، ويذهب إلى المسجد راكبا الدراجة النارية التي يقودها أحد أبناءه أو أحفاده. ولما كنا نقرأ في كتاب الأيمان والنذور ووصلنا حديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان...) أوقفني، وشرح الحديث وأوصاني أن أحافظ على هذه الكلمات ما حييت، وأنه لا ينفع الإنسان في قبره إلا هذا الأمر، وأخبرني أنه محافظ على هذا الذكر بشكل يومي، فلله دره!.
ومن عنايته بالعلم، أنه ما يقع بصره على كتاب إلا تناوله متصفحاً إياه، ولما رأى من حفيده الصغير رغبة في سماع البخاري وتحصيل الإجازة بين له أن المهم هو شرح البخاري لا مجرد السماع!
وقد أخبرني حفيده فرحان أن شيخنا قبل سنوات كان يمضي وقتاً طويلا في المسجد لتلاوة القرآن والتفرغ للعبادة، ولكنه في السنوات الأخيرة بعد توارد المرض عليه صار يحتاج إلى ساعات طويلة من الراحة والنوم، ومع ذلك فإنه يشغل وقته المتاح في الذكر وتلاوة القرآن والصلاة، حتى في مجالس السماع كان لا يفتر عن ذكر الله.
ومن أريحيته في التعامل أنني كنت أقرأ عليه وقد بدت عليه علامات التعب، فأخذ وسادة ووضعها على فخذي ونام عليها، وقد بذل مجهوداً عظيما ليتيسر لي ختم البخاري عليه، ولما علم باقتراب موعد سفري قال لحفيده سأعطي طلحة وقتا أطول، وأمره أن يوقظه رغبة منه في توفير وقت زائد يقتطعه من أوقات نومه، فجزاه الله عني كل خير.
وقد يسر الله تعالى لي ختم صحيح البخاري كاملاً على شيخنا –حفظه الله وبارك في عمره وعمله- وأجازني بسائر مروياته، وقد أكرمني بوقته، مع ضعفه ومرضه، فجزاه الله عني كل خير، ونفع به وبارك في جهوده.



قيده



طلحة بن بشير بن طاهر الجغبير



قبيل فجر الجمعة 8 رمضان 1433 هـ



الموافق 27/7/2012م