المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (وقفات) مع كلام ابن مسعود محاضرة صالح آل الشيخ (مفرغة)!



أهــل الحـديث
04-07-2012, 04:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم







بسم الله الرحمن الرحيم


وأنعم عليهم بقبولها منهم بعد التوفيق، وأنعم عليهم بمجازاتهم عليها يوم العرض عليه، فالحمد لله الذي تفضل وأنعم، وتكرم وأعطى بغير حساب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا معبود لنا غيره، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فلا خير إلا دلها عليه، ولا شر إلا حذرها منه، فتركها بعده - صلى الله عليه وسلم - على طريق واضح نهج بين لا يزيغ عنه بعده - صلى الله عليه وسلم - إلا هالك.
اللهم صل على محمد كفاء ما أرشد وعلم، اللهم صلى على محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى زوجاته، وعلى صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن من القصور الذي يعانيه الناس اليوم أنهم يعلمون كلام أهل العصر أو أهل العصور التي يعيشونها ويقصرون في تتبع ومعرفة وتدبر كلام سلفنا الصالح،
(وكلام السلف قليل كثير الفائدة، وكلام الخلف كثير قليل الفائدة)
كما قال ذلك ابن رجب عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم ‹فضل علم السلف على علم الخلف›، وأساس ذلك أن السلف كانوا إذا تكلموا اقتفوا في كلامهم أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يوجز كلامه، وقد أوتي جوامع الكلم، وهي الكلمات القليلة التي تحوي المعاني الكثيرة، فتجد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم من الكلمات ولهم من الوصايا ولهم من الخطط ولهم من الرسائل التي يوصي فيها بعضهم بعضا ما هو قيل الكلمات قليل الحروف، ولكن من تدبره وجد تحت كل جملة العجب العجاب من تفرُّع المعاني وكثرتها وقوتها، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طبقات، ومنهم المهاجرون الذين أسلموا قديما وصحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ومن هؤلاء خاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحب نعليه وصاحب طهوره: عبد الله بن مسعود الهذلي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة.
عبد الله بن مسعود أو ابن أم عبد كما كان عليه الصلاة والسلام يناديه، كان ممن أسلم في مكة، وصحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وسمع القرآن أول ما أنزل وحفظ القرآن، حتى إنه كان يقول: لو أني أعلم أن على الأرض أحدا يعلم في كتاب الله جل وعلا أكثر مما أعلم، تبلغه المطي لرحلت إليه.!
وكان يحفظ القرآن وكان أقرأ الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال فيه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعني عبد الله بن مسعود.
قال له عليه الصلاة والسلام مرة «يا عبد الله اقرأ علي القرآن». قال: أأقرأ عليك يا رسول الله وعليك أنزل؟ قال «إني أحب أن أسمعه من غيري». فافتتح عبد الله رضي الله عنه سورة النساء فمر حتى أتى قوله جل وعلا ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا(41)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا?[النساء:41-42]، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : «حسبك» .يعني يكفي ، قال عبد الله بن مسعود:فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام .
ابن مسعود وصى به عليه الصلاة والسلام، وصى الأمة أن تأخذ بعده، وأن تقتفي أثره.
فقد صح على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «تمسكوا بعهد ابن أم عبد». يعني إذا عهد إليكم عهدا فتمسكوا به.
وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد».
وصح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «قد رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد».
ولهذا كان ابن مسعود صاحب وصايا، يوصي ووصاياه -كما أسلفت- جمعت بين الكلام القليل والمعاني الكثيرة، وسيأتينا ما يدل على ذلك.
كان ورعا خاشعا، كان فلاَّءً للقرآن عاملا به، آمرا به ناهيا.
فهو الذي يقول: إذا سمعت ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? فأرعها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.
وهو الذي يقول في أهل القرآن: ينبغي لصاحب القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفترون.
وهو الذي أوصى في القرآن بقوله: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهزوه هز الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب.
فكان رضي الله عنه له أصحاب، وكان يوصيهم بوصايا حُفظت لنا، وكان أصحابه على هيئته يترسمون خطاه ويهتدون بهديه، وكان رضي الله عنه أشبه الناس هديا وسمتا ودلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني أنه كان حريصا على السنة، ولهذا كان أشبه الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام.
[الوصية الأولى]
كان له أصحاب، وهكذا العالم الداعي لا بد أن يتأثر به الناس، ومع ذلك كان مربيا حتى في إمامته وصُحبته.
رآهم مرة يتبعونه، ورأى العدد كثر رضي الله عنه، فقال لهم كلمته التي هي فاتحة الكلمات سنتدبر فيها من كلمات ابن مسعود قال رضي الله عنه لهم قال:


(لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب على رأسي، ولوددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي، وأني دعيت عبد الله بن روثة. أخرجه الحاكم وغيره.
يقول لأصحابه (لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان) وفي رواية أخرى قال: لو تعلمون -يقسم ويقول- والله الذي لا إله غيره لو علمي لحثيتم التراب على رأسي).


وهذه الكلمات مدرسة ولا شك؛ لأن البروز في الناس متوقع، إذا تميز أحد في الناس بشيء، ربما عظموه، وربما مدحوه، وربما تتابعوا خلفه يمشون، والمرء كلما ازداد علمه بالله جل وعلا علم أنَّ ذنوبه كثيرة كثيرة كثيرة، ولا عجب أنْ أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر -وهو أفضل هذه الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- الصديق الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر». علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو آخر صلاته بدعاء فيقول فيه: «ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت». القائل الموصِي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والموصَى أبو بكر الصديق رضي الله عنه «ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك»، كلما ازداد علم المرء بربه خشي الله جل وعلا، وخشي أن يطأ عقبه اثنان، خشي أن يعظم في الخلق، خشي أن يُرفع في الناس؛ لأنه يعلم من الله جل وعلا، ومما يستحقه الله جل وعلا ما يوقن بأنه لن يبلغ أن يوفي الله جل وعلا حقه، فيكون مقصرا في الشكر، وذلك ذنب من الذنوب.
قال ابن مسعود: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان. يشتهر الناس:
فمنهم القارئ للقرآن، يشتهر بحسن قراءته، وبحسن صوته، فيجتمع عليه الناس.
منهم العالم يشتهر بعلمه، وبفتواه، وبصلاحه، وبورعه، فيجتمع عليه الناس.
ومنهم الداعية يشتهر ببذله للناس، ويجتمعون حوله بما هداهم الله جل وعلا به إلى الحق.
ويشتهر من يؤدي الأمانة.
ويشتهر من يأمر بالمعروف وينهى عن المعروف، وهكذا.
ومقام الشهرة مقام مزلة عظمة، ولهذا ابن مسعود أوصى وصية على نفسه يبين فيها حاله، ويبين فيها ما يجب أن يكون عليه كل من كان له تبع، فيقول: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان ولحثيتم التراب على رأسي. لابد فيمن كان على شهرة، أو كان ممن ينظر إليه الناس أن يحتقر نفسه دائما بينهم، ويظهر ذلك لا ليرتفع بينهم، ولكن ليرتفع عند الله جل وعلا، ومدار ذلك الإخلاص، فإن من الناس من ربما يزدري نفسه أمام الناس ليظهر بينهم، وهذا من الشيطان، ومنهم من يزدري نفسه من الناس والله جل وعلا مطلع على قلبه أنه صادق في ذلك، يخشى لقاء الله جل وعلا، يخشى يوم يوفى ما في الصدور يوم يطلع على ما في القلوب، ولا تخفى على الله خافية، ولا يكتمون الله حديثا.
هذه عبرة من العبر يتنبه لها كل تابع وكل متبوع، أما التابع فينتبه إلى أن هذا المتبوع يجب أن لا يعظَّم وإنما يستفاد منه بما يبلغ على الله جل وعلا، أو بما ينفع به الخلق، وأما التعظيم فإنما هو الله جل وعلا، ثم لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما باقي الخلق فلهم إذا صلحوا فلهم المحبة في النفس، وينبغي على من اشتهر أن يكون دائما خاشعا ذليلا ذاكرا ذنوبه، ذاكرا مقامه بين يدي الله، ذاكرا أنه ليس بأهل أن يطأ عقبه اثنان، وأن يتبعه اثنان.
ولهذا لما مدح أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين الناس، وخطب بعد ذلك، صح عنه فما رواه أحمد وغيره قال رضي الله عنه: اللهم اجعلني -يقولها علنا- يقول اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما يعلمون. ينبه الناس أن عنده ذنوب، حتى لا يغلو الناس فيه، فهل يستقيم هذا مع ما نرى من أحوال يزيد فيها المعظَّم تعظيما لنفسه، ويزيد فيها المعظِّم تعظيما لمن عظمه واتبعه، ليس هذا من هدي الصحابة رضي الله عنهم، عمر رضي الله عنه ربما أعجبته نفسه وهو خليفة، وهو بعد أبي بكر رضي الله عنه في التبشير بالجنة فأخذ يحمل الشيء في السوق فيزدري نفسه حتى لا تتعاظم بنفسه.
ومن أبواب الخطايا العُجب والتعاظم أن يرى المرء نفسه معظَّما، كان من السلف الصالح من إذا أتى ليلقي شيئا، فرأى الناس اجتمعوا تركهم، لم؟ لأن صلاح نفسه ألزم عليه من صلاح الناس، لما رأى هذا الجمع اجتمعوا، ورأى أن نفسه بدأت تعالجه في أن هؤلاء حضروا، وهؤلاء أنصتوا، وهؤلاء فعلوا، وأقبلوا عليه، عالج نفسه بتركهم، فيقولون عنه ما يقولون، لكن أهم الأمر أن يكون صالحا قلبه فيما بينه وبين ربه، وصلاح قلبك أهم من صلاح قلب غيرك، فينبغي عند ذاك مجاهدة النفس في هذا المقام.
إذا فهذه الوصية من ابن مسعود حيث يقول: والله الذي لا إله إلا هو لو تعلمون علمي لحثيتم التراب على رأسي.
وهذه نرجوا أن يتذكرها كل من كان له بعض شهرة بين الخلق، معلم، أو عالم، أو قارئ، أو آمر ناهي، أو مسؤول في جهة، أو أمير، أو ملك، إلى آخره من أصناف الناس، ينبغي أن يكون مزدريا لنفسه حتى لا يتعاظم قلبه عليه، فيخسر الدنيا والآخرة. هذه وصية، وهي وصية بليغة تحتها معان كثيرة، وفيما ذكرنا إشارات، وتحت الإشارات عبارات، وتدبر تجد ذلك.




[الوصية الثانية]


الوصية الثانية والكلمة الثانية عن ابن مسعود ما رواه البخاري في صحيحه عنه رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا ولم يخرج لفظ كلام بن مسعود قال رضي الله عنه قال:
(إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا فذبه عنه.)


إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا-أي بيده- فذبه عنه.
مقام الناس في الذنوب مقامان:
* مقام المؤمن يذنب.
* ومقام الفاجر يذنب
المؤمن يعمل الطاعات وهو وَجِلْ قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ?[المؤمنون:60]، ما معناها؟ يعني الذين يصلون ويتصدقون ويزكون ويصومون ويخافون أن لا يُتقبل الله منهم، هذا في الطاعات فكيف إذا أذنب ذنبا ماذا يكون حاله قال ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. وهذه الحال التي ينبغي أن نكون أن نتعاظم أن نذنب في حق الله جل وعلا، نذنب في التفريط في الفرائض، التفريط في الصلوات، التفريط فيما يجب في الصيام، التفريط في أداء الزكاة، التفريط في أداء حقوق الخلق؛ في المعاملات، في الكسب، في الغش، في أداء الأمانة، في معاملة الأهل، في معاملة الوالدين، في عدم العقوق، في الإتيان بالخيرات، إذا ازداد علمك فسترى أن الله عز وجل عليك في كل لحظة تتحركَها أمر ونهي، إما أن يكون في عمل الجوارح، وإما أن يكون في عمل اللسان، وإما أن يكون في عمل القلب، في كل لحظة في حياتك فلله جل وعلا عليك أمر ونهي، حتى لو جلست ساكنا، فالقلب إما أن يتحرك في معاص معاصي القلوب من الكبر والظن ظن السوء، أو أن يدبر مثلا، أو يعمل عملا يرتب له من الذي لا يجوز، أو يفكر كيف يأخذ ما ليس له بحق، أو إلى آخره، فإن هذه ذنوب إذا عمل بها بعد خاطر القلب، ومنها ذنوب قلبية ولو لم يعمل مثل ترك التوكل، مثل ترك الصبر مثل العجب مثل الرياء ، إلى آخره، فلله جل وعلا عليك في كل لحظة تحريكة لك وكل تسكينة له عليك أمر نهي، ولابد أن يقع منك الغفلة والغفلة والغفلة، فالمؤمن يكون خائفا وجلا يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، ولهذا يحذِّر الناس من ذنوبه ومن أن يغتروا به، وأيضا يحذر هو أن يختم له قبل أن يستغفر، يحذر أن يكون من الموسوسين الثرى قبل أن يحدث توبة واستغفارا، فلهذا يكون المؤمن مع هذا القول على حذر شديد يتبع ذلك الحذر كثرة الاستغفار، ولهذا
النبي عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله جل وعلا في اليوم والليلة أكثر من مئة مرة، وفي المجلس الواحد سبعين أو مئة مرة عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان حال الصحابة، هذه حال المؤمن حال الخوف، فهو يخاف من الذنوب يرجو رحمة الله جل وعلا.
أما الفاجر الذي يعمل بالمعاصي بلا حساب، فيقع في الذنوب الكبيرة كبائر الذنوب وفي الموبقات والبدع، وفي ترك السنن، وفي الأخذ بالرأي وترك الأثر، وغير ذلك من الذنوب، وهو لا يشعر بها؛ بل كأنهما ذباب مر على أنفه فقال به هكذا، المؤمن رحمه الله بأن الصلاة إلى الصلاة مكفرات إلى ما بينهما، ورمضان إلى رمضان مكفرات إلى ما بينهما، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما؛ لكن بشرط تجتنب الكبائر، كما قال جل وعلا?إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا?[النساء:31]، فشرط لتكفير السيئات إن تجتنب الكبائر، فالصلاة إلى الصلاة مكفرات؛ لكن هل كل صلاة مكفرة؟ ليس كذلك؛ بل من الصلاة ما يعلها العبد ولا تكفر عنه ذنوبه، كذلك من الصيام ما يصومه العبد -يعني رمضان- ولا يكفر عنه ذنوبه، ومن العمرة ما لا يكفر به الذنوب، فلكل عبادة من هذه العبادات شرط أن تكفر السيئات، فمثلا في الصلاة ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه «من صلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها كانت له كفارة فيما بينها وبين الصلاة والأخرى ما اجتنبت الكبائر» الوضوء تتقاطر مع الماء الذنوب، لكن كما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه «من توضأ ما أمره الله»، العمرة كذلك.
ولهذا من رحمة الله أن نوّع؛ جعل الصلاة إلى الصلاة مكفرات، من الناس من يبقى عليه شيء فلا تكفرها صلاته فيكفره رمضان، من الناس من لا يقوم له رمضان بالتكفير فتكفرها الجمعة إلى الجمعة، منهم من لا تقوم له الجمعة فتأتي العمرة فتكفر ما بينهما من الكبائر، فيكون المرء على وجل من فعل المعاصي، فكيف إذا كان ما يفعل الكبيرة من الكبائر -الزنا وشرب الخمر والربا والسحر- وهذه يتنكب عنها الصالحون؛ لكن ثم كبيرة يغشاها الصالحون، ومنهم من لا يشعر بها، أو لا يكون كما قال ابن مسعود في خصلة الفاجر:كذباب مر على أنفه فقال هكذا.
وهذه الخصلة وقع فيها الأكثرون في هذا الزمن الغيبة، والغيبة من الكبائر لأن الله جل وعلا قال ?وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ?[الحجرات:12]، قال العلماء جعل الغيبة كأكل الميتة وأمل الميتة كبيرة فدل على أن الغيبة من الكبائر.
والنميمة والبهتان هذه من الكبائر، فالغيبة أن تذكر أخاك بما يكره، الصلاة إلى الصلاة مكفرات ما اجتنب الكبائر فهل نخاف أو نطمئن، الله المستعان، إذا لم تجتنب هذه الكبيرة فالصلاة إلى الصلاة ليست بمكفرة، فكيف إذا ازداد على الغيبة أن تكون بهتانا، الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته»، والبهتان أعظم إثما من الغيبة، وهذه من الناس من يغتاب ويتكلم بلسانه ولا يخاف، كذباب مر على أنفه فقال به هكذا، وهي أكثر ما تكون في الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الصالحين يجتنبون كبائر الذنوب مثل الزنا أو شرب الخمر والسرقة؛ ولكنهم يقعون في ذنوب اللسان والقلب.
يتعاظم بقلبه يتجبر يتكبر، يمرّ به أحد فيستصغر ذاك ويعظّم نفسه، ولو علم الحقيقة لربما كان ذلك الذي ازدراه أعظم عند الله جل وعلا منه، فالمرء ينبغي أن يكون حسيبا على نفسه، يجلس الناس مجالس طويلة يغتابون فيها.
والغيبة درجات، وأعظمها أن يغتاب من له الحق عليه من أهل العلم ومن الوالدين ونحو ذلك، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته، والله المستعان.
هذه ذنوب فتأمل هذه الكلمة، ولا تغتر بأنك صاحب طاعة، وتنظر إلى نفسك وأنك وأنك لا تحس بالذنوب التي تغشاها وأنت لا تشعر، لقصور علمك، أما الرجل إذا علم، أما المسلم أو المسلمة إذا علمت أمر الله فإنه سيكون في القلب الخشية ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?[فاطر:28]، فإذا أذنب ذنبا كان القلب وجلا خائفا، لا يدري ما الله جل وعلا يصنع فيما فعل من الذنب، الذي قد يكون ذنبا لسانيا، وقد يكون ذنبا قلبيا، وقد يكون أذنب ذنبا من ذنوب الجوارح.
إذا: هذه الوصية مدارها أن تعظِّم أمر ذنبك، ولا تخفف أمر الذنب، فإذا عظمته، وكأنك قاعد تحت جبل تخشى أن يقع عليك، فإنك ستسعى إلى طلب المغفرة، ستسعى إلى التوبة، ستسعى إلى مفارقة الذنوب وان تُلِظَّ باله جل وعلا إن يعفو عنك ويتسامح، وهذه عبادات تلو العبادات.




[الوصية الثالثة]


ومن كلمات ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه يقول لأصحابه:
(اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه).


وهذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الصحيح المروي في السنن «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» صحيح كما قال ابن مسعود: المرء لا يخاف إلا من يعجبه. يعجبه في تصرفاته، يعجبه في عقله، يعجبه في تفكيره، فإذا رأيت أحدا يخادن أحدا؛ يعني صديقا له، ملازما له، محبا له، فاعتبر هذا بذاك؛ فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
(فاعتبروا الناس بأخدانهم) وهذا ما يدل على ذاك.
فمن جهة الأعمال إذا رأيت من يخشى المعاصي والكبائر، ورأيت من يصاحبه ويلازمه فاعتبره بذاك، واخشَ عليه أن يكون مثل صاحبه، لأنه إما أنه لم يعمل بفعل صاحبه وإما أنه علم فرضي، ومن علم بالمعصية فرضيها كان شريكا لصاحبها في الإثم.
في الألسنة إذا وجدت إن فلانا سبابا شتاما، كثير الغيبة، كثير الوقيعة، وتجد أن فلانا كثير الصحبة له، لا يخالفه ولا ينهاه ولا يفارقه، فاعلم أنه شبيه به، رضي صنيعه.
في العقول الناس يتقاربون في العقول وفي التفكيرات، فإذا وجدت في عقل أحدهم محبة للعلم، ووجدت من يصاحبه، فتعلم أن من يصاحبه محب للعلم وإن لم يكن من أهل العلم، إذا وجدت من يصاحب صاحب السنة فتعلم أنه صاحب سنة؛ لأنه كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم. وإذا وجدت من يصاحب أهل الأثر فهو محب للأثر ولأهله، وإذا وجدت من يصاحب أهل الرأي ويلزمهم فتعلم أنه محب لهم وأن له حكمه، من أحب السنة صحب أهلها، ومن أحب المحدثات صحب أهلها، «والمرء على خليله» كما قال عليه الصلاة والسلام وهذه وصية وما وراء هذه الوصية بعد الاعتبار أن تعتبر نفسك، ليس المقصود أن تحكم على الناس؛ ولكن عبارة لطيفة من ابن مسعود حيث قال: اعتبروا الناس بأخدانهم. لكن إذا أردت أن تعتبر الناس فلا بد أن تعتبر نفسك قبل أن تعتبر الناس؛ ولكن من الناس من لا يحب أن يواجَه بالنصيحة والوصية؛ ولكن جعله ابن مسعود رضي الله عنه، جعل هذا الموصَى حكما على غيره وإذا تأمل وجد أن في العبارة أن يحكم على نفسه فاعتبر نفسك بأخدانك؛ فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه.
إذا كان كذلك فتأمل نفسك ومن تصاحب؟ هل تصاحب أهل الطاعة أم أهل المعصية؟
إذا وجدت من يأنس لأهل العصيان، ولو كان ظاهره الطاعة، ففي الغالب أن نفسه من داخلها تنازعه إلى العصيان، ولو من طرف خفي.
وإذا وجدت من يصاحب أهل العلم، وجدت أن نفسه تنازعه إلى العلم، ولو لم يكن من طلبته.
وإذا وجدت نفسك تصاحب أهل السنة، فمعنى ذلك أن قلبك محب لها.
وإذا وجدت نفسك تصاحب أهل المحدثات وأهل الغيبة وأهل النميمة وأهل الوقيعة فتعلم أن المرء على دين خليله.
فإذن تبدأ مع نفسك بالإصلاح.
كلمة ابن مسعود هذه لنفسك ولغيرك، وهذه وصية تربوية جامعة دعوية، وكل حسيب نفسه، والله جل وعلا يقول مخبرا عن قول بعضهم يوم القيامة ? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا?[الفرقان:28-29]، اتهم الرأي وعليك بالسلامة، أطلب السلامة، لا تأخذ نفسك بالأماني، بل كن على حذر، وكن طالبا للسلامة، لا طالبا للهو واللعب، فإن الحياة ليست مدتها كافية للهو واللعب، وإن غشى اللهو واللعب الأكثر، وإنما هي لمن عقل ميدان فقط لطاعة اله جل وعلا ولا تنسَ نصيبك من الدنيا.




[الوصية الرابعة]


من كلمات ابن مسعود رضي الله عنه التي أوصى بها الناس وقد قال عليه الصلاة والسلام «تمسكوا بعهد ابن أم عبد»، وقال «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن آدم عبد» قال ابن أم عبد -عبد الله بن مسعود لأصحابه:
(إنكم في زمان: كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان: قليل علماؤه كثير خطباؤه).
في زمن الصحابة -عبد الله بن مسعود توفي سنة اثنين وثلاثين للهجرة-، قال لأصحابه ينبه ويربي: إنكم في زمان كثير علماؤه -لأن الصحابة متوافرون- قليل خطباؤه -في كل بلد فيه مسجد واحد يخطب فيه العالم في البلد- قال: سيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه -العلماء قليل تبحث عنهم وهم قليل، ولكن من الكثير؟- قال: كثير خطباؤه. الخطباء هم الذين يخطبون الناس، ويتكلمون فيهم، فيدخل فيه خطيب الجمعة، يدخل فيه المحاضر، يدخل فيه المدرسون، كل من يخطب؛ يعني يُلقي كلاما علنيا على مجموعة من الناس، هؤلاء الخطبة.
وفي هذا الزمن الخطباء على هذا المعنى كثير، ولكن العلماء -كما قال ابن مسعود- قليل. هل يقصد ابن مسعود بهذا الكلام أن يُثقف أصحابه ثقافة مجردة عن العمل يعني الآن أنتم في زمن العلماء كثير والخطباء قليل، وسيأتي زمن الخطباء كثير والعلماء قليل. هكذا معلومة ليس وراءها عهد، ولا وراءها علم، ولا وراءها وصية، حاشا وكلا.
فابن مسعود هو العالم الداعي المربي، قال هذه الكلمة ليحذِّر الناس عن الابتعاد عن طريق أهل العلم وإتيان طريق الخطباء؛ لأن في زمنه العلماء كثير ولكن الخطباء قليل، وأما في الزمن الذي يكون بعد زمنه (سيأتيكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه)، وقد قال عليه الصلاة والسلام «خيركم قريني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فذكر ثلاثة قرون وقال«لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم»، وثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ليلة عرج به إلى السماء رأى أقواما من أمته تُقرض شفاههم ويعذبون، ففزع عليه الصلاة والسلام وقال لجبريل: «يا جبريل من هؤلاء؟» قال: «هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون».
ولهذا تجد أن أثر الكلام اليوم، أثر الكلام في النفوس لم؟ لأنه كما قيل إذا صدر الكلام من موفق مخلص دخل القلوب بإذن الله، وأما إذا صار رياء وسمعه فإنه للذة لا يجاوز الآذان، يستلذ كلام طيب جميل ما شاء الله، وعجيب، ولكن هل أثَّر في حياة الناس؟ هل أثر؟ دخل في القلوب؟ ما دخل ولا أثر.
كثير اليوم نحضر في خطب الجمعة، ويأتي أمر ونهي وتذكير عظيم؛ لكن هل فزع الناس من هذا التذكير؟ هل قبلوا؟ القليل من يقبل، الأكثرون لا يقبلون، ومن أسباب ذلك أشياء راجعة إلى الخطيب، ومنها أسباب راجعة إلى المستمع. فما المخرج؟
وصية ابن مسعود وعهده أن تهتم بالعلماء، وأن تذر الخطباء؛ يعني أن التوجيه والعهد والوصية والعلم تأخذها من أهل العلم؛ لكن الخطباء هؤلاء كثير ولكنهم غير العلماء، العالم موصوف بالعلم والخطيب موصوف بالخطابة، ولما غاير بين الخطباء والعلماء دلنا على أنه يريد العلماء غير الخطباء، وإذا نظرنا إلى هذا الكلام، وتأملنا إلى الواقع اليوم وجدنا أن سماع الناس لكلام الخطباء أكثر من سماعهم لكلام العلماء ...




[الوصية الخامسة]


كلمة أخرى لابن مسعود رضي الله عنه، قال رضي الله عنه لأصحابه محذرا وموصيا وعاهدا إليهم، وإلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال:
(إنها ستكون أمور مشتبِهات فعليكم بالتؤدة، فإن الرجل يكون تابعا في الخير، خير من أن يكون رأسا في الضلالة).
(إنها ستكون أمور مشتبهات)، ابن مسعود وتوفي سنة اثنين وثلاثين، قبل فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه - وقبل أن تبدأ الخلافات بعد مقتله، وما حصل لعلي رضي الله عنه وما يبنه وبين معاوية -رضي الله عنهما - إلى آخر ما حدث، وبداية الفُرقة في الأمة، وبداية الأقوال، وبداية الأخذ والرد، وتنوع الأفكار والأفعال.
قال لأصحابه وللأمة من بعدهم قال:إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتؤدة؛ فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة.
ستكون أمور متشبهات، ما معنى المشتبهات؟ العلم نوعان:
* محكم.
* ومتشابه أو مشتبه.
المحكم: ما تعمله حقا بدليله، أو تعلمه حقا من كلام أهل العلم الراسخين المؤتمنين على كلام الله جل وعلا وعلى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا نوع من العلم، المحكم وهو الذي الله جل وعلا فيه ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ?[آل عمران:7]، هذه المحكمات الواضحة البينة التي علمتها، وعلمت ما فيها من المعنى، وأخذتها.
لكن هناك أمور مشتبهات تحدث في الناس، ولا يجوز لك أن تنساق في المشتبهات, والمتشابهات وفق رأيك وهواك؛ بل لابد أن ترد المشتبهات إلى الشرع وإلى الدين (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]، لا خير إلا دلنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شر إلا حذرنا منه.
فماذا تفعل إذا أقبلت المتشبهات؟ قال رضي الله عنه مبينا كيف تكون عند ورود المشتبهات، قال: إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة. هذه الوصية (عليكم بالتؤدة) عليكم بالتؤدة يعني الزموا التؤدة، الزموا الرفق، التؤدة الأناة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على أشج عبد القيس فقال «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الرفق والأناة»، أو قال «الحلم والأناة»، يحبهما الله ورسوله: التؤدة والأناة والرفق، محبوبة لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله يحب الرفق والأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف».
وقد دخل رجل يهودي إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: السام عليك. السام يعني الموت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام «وعليك»، سمعت عائشة -رضي الله عنها- هذا الكلام فغضبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لليهودي: وعليك السام واللعنة. فقال لها عليه الصلاة والسلام «مهلا يا عائشة»، فقالت: يا رسول الله ألم تسمع إلى ما قال؟، قال «ألم تسمعي، أني قلت وعليكم -أو وعليك-، يا عائشة: إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
وقد ثبت أيضا في صحيح مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال«إن الله الرفق ويعطي عليه»، قال«إن الرفق ما كان في شيء إلا في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه».
وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «إن الله يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه مالا يعطي على العنف».
هذه وصية ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: إنها أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة.
أمور مشتبهات في الأقوال، أمور مشتبهات في الواقع، في أحوال الناس، فماذا ينبغي؟ ما الوصية؟ الرفق يحبه الله ورسوله، وهذه وصية ابن مسعود الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام «تمسكوا بعهد ابن أم عبد»، قال: فعليكم بالتؤدة. إذا ابتدأت المتشابهات التي لا تدري كيف تُرجعها، لا تدري هل تفعل فيها كذا أو تفعل فيها كذا، لا تدري ماذا تقول فيها؟ فماذا تعمل؟ عليك بالتؤدة؛ لأنه لا يجوز لك أن تتصرف تصرفا إلا عن علم، إذا تصرفت عن جهل فأنت حسيب نفسك وتصرفك عليك؛ لكن لا يجوز أن تتصرف إلا بعلم لأن العلم به النجاة والجهل أودى الناس بالهلاك.
فعليك بالتؤدة يعني تتأنى، فلا تتكلم إلا بكلام تعلم حسنه في الشرع وإصابته في الشرع، فإن كنت عاميا أو طالب علم فتسأل أهل العلم الراسخين فيه يبصرونك فيما ترى، فإذا ساقوا الأدلة على قولهم فإنك تعتقد الحق بدليله.
إذا أتت الأمور في الأقوال، أتى من يقول لك فكرة غريبة، في مجلس أتى من يقول كلاما جديدا على سمعك؛ لم تسمعه من قبل، فماذا تتصرف؟ هل تقبله هكذا أو تتئد وتترفق حتى تسأل أهل العلم حتى تكون فيما تقبل وما لا تقبل سائرا على وفق العلم، وصية ابن مسعود فعليكم بالتؤدة، فإن قيل لك كلام غريب تتئد وتتأنى وتترفق، فلا تُقْدم على شيء من تصديق قول أو تكذيبه، أو من اعتقاد أو نفي اعتقاده، أو من عمل ومسارعة في شيء أو بُعد عنه، إلا بعد الترفق والتأني والتأمل.
والفتن إذا أقبلت تشابهت، وإذا أدبرت عرفها كل أحد، كما قال السلف، إذا أقبلت تشابهت، ما أدري هذه تشبه هذه وتشبه هذه، وتشبه المشروع وهذه لا تشبه، تشتبه على الناس لأنها مقبلة، ولكن إذا أدبرت وانتهت عرفها كل أحد؛ ولكن من يعرفها حين تقع؟ إنما يعرفها أهل العلم الراسخين الذين هم ليسوا بأهل الزيغ قال الله جل وعلا في كتابه ?مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، (يَتَّبِعُونَ) الذي في قلبه زيغ يتبع المتشابه، وأما الراسخ في العلم هو الذي يعلم تأويله، قال ?فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7]، على أحد الوجهين في الوقف أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما اشتبه على أكثر الناس؛ لأنهم راسخون في العلم، فإذا أتت الأمور المشتبهات فوصية ابن مسعود رضي الله عنه إن يكون المرء متئدا مترفقا، قال معللا لماذا؟ قال: فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة.
إذا أقبلت الأمور المتشابهة إما أحوال في المجتمع وإما في بيت وإما في مجلس أو في عمل، يأتي من الناس من يغلي قلبه يريد أن يكون رأسا فيها ومتقدما فيها وآخر يتأنى، أيهما يحكم لفعله بالحسن؟ قال ابن مسعود: فإنّ الرجل يكون تابعا في الخير. تكون تابعا ليس المقصود أن تكون متبوعا، أن تكون رئيسا أن تكون رأسا لا المقصود أن تكون محصلا للخير، فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة؛ لأن الأمور المتشابهة إذا أقبلت فإنك إذا أتيتها ربما كانت عاقبتها إلى ضلالة؛ لأنك دخلت فيها دون معرفة شرعية صحيحة، والعلة أن تكون تابعا في الخير خير من أن تكون رأسا في الضلالة؛ لأن المحاسبة يوم القيامة على ما عملت لا على هل كنت رأسا أم كنت تابعا، ومن عباد الله من يحتقر فلا يشفع ولا يؤبه له ولكن من لو أقسم على الله لأبره -نسأل الله الكريم من فضله-.
فيه بقية وصايا لكن نكتفي بهذا القدر ساعة من الزمان، ووصيتي لنفسي -ولست بخيركم- ولكم جميعا أن نستمسك بعهد ابن أم عبد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أوصانا بذلك.
ثم الوصية الأخرى أن تتدبر كلمات السلف، أقبل على كلمات السلف، وتأمل هذه الكلمات، لا تمر عليها مر عجل؛ لكن قف عندها وتأمل ماذا يدل عليه الكلام، تدبر والتدبر فيه الخير، وأما العجلة فيحرم معها المرء كثيرا.
أسأل الله جل وعلا وإياكم في دينه، وأن يغفر لنا ذنوبنا وما أعظمها، وأن يعفو عنا زلاتنا، وأن يختم لنا برضاه، وأن يجعلنا من الذين إذا سمعوا عملوا، وإذا عملوا أخلصوا، هذا ورضي الله عن صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - رفع الله لهم المقام في الآخرة كما رفع لهم المقام في الدنيا، وغفر لنا وجعلنا معهم في الآخرة، وحشرنا تحت لواء محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأسأله أن يأتيكم على حسن الاستماع، وأن يجزل لكم التوبة، وأن يتقبل منكم الصيام والقيام، وأن يزيد كم من الخير، وأن لا يكلكم في أنفسكم طرفة عين ولا حول ولا قوة إلا بالله.


وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.