تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عصمة النص الإسلامي



أهــل الحـديث
01-07-2012, 01:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمدُ لله رَبِّ العالمين ، «حمدًا كثيرًا طَيِّبًا مباركًا فيه»، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صَلِّ اللهمَّ وسَلِّم وبَارِكْ عليه صلى الله عليه وسلم، وارْضَ اللهمَّ عَنْ آلِه وصَحْبِه الغُرِّ الميامين رضوان الله عليهم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أما بعد:

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
النصُّ الإسلامي له خصوصياته التي لا يشاركه فيها غيره، فهو النصُّ الوحيد الذي تكفُّل المولى سبحانه وتعالى بحفظه، وأقام له رجالًا على درجة عالية مِن الكفاءة واليقظة والصبر والأمانة، قاموا بتتبُّعه واتِّباعه أينما حلَّ وارتحل، فحفظوه في صدورهم، وكتبوه في ألواحهم، وهكذا سارت الأمور على مدار الأجيال، جيلًا بعد جيلٍ، حتى وصلنا غضًّا طريًّا كما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لم تمتد إليه يد بشرٍ بتعديل أو تغييرٍ، مهما طال الزمن وتغيَّر الأشخاص.

مصداقًا لقول الله عز وجل: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» [الحجر: 9].

وقوله تبارك وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» [فُصِّلَتْ: 41، 42] .

يقول الإمام البيهقي: «فمَن أَجَازَ أَنْ يتمكن أحدٌ مِن زيادة شيءٍ في القرآن، أو نقصانه منه، أو تحريفه؛ فقد كذَّبَ اللهَ في خبرِه، وأَجَازَ الخُلْفَ فيه، وذلك كُفْرٌ، وأيضًا فإِنَّ ذلك لو كان ممكنًا لم يكن أحدٌ مِن المسلمين على ثقة مِن دينه، ويقين ممَّا هو متمسِّكٌ به؛ لِأَنَّهُ كان لا يَأْمَنُ أَنْ يكونَ فيما كُتِمَ مِن القرآن أو ضاع بِنَسْخِ شيء مما هو ثابتٌ مِن الأحكام، أو تبديله بغيره، وبَسَطَ الحَلِيميُّ رحمه الله الكلامَ فيه، فصَحَّ أَنَّ مِن تمام الإيمان بالقرآن الاعترافُ بِأَنَّ جميعه هو هذا المتوارث خَلَفًا عن سَلَفٍ لا زيادة فيه، ولا نقصان منه»([1]).

فكان مِن فضل الله وكرمه على هذه الأمة المسلمة أنْ تكفَّل بحفظ كتابها ونصوصها، ولم يدع مهمة الحفظ لها، وإنما تكفَّل سبحانه بذلك، وهذه إحدى خصائص وفضائل المسلمين على غيرهم من الأمم.

ويمكننا أنْ نقرأ هذا في قول سفيان بن عُيَيْنَةَ «في قول الله عز وجل في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ} فَجَعَلَ حِفْظَهُ إليهم فضاع , وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَحَفِظَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ». وقد نقل البيهقيُّ كلامَ ابنِ عُيَيْنَةَ هذا؛ ثم قال البيهقيُّ: «وفي الكتاب ثم في أخبار السلف دلالةٌ على أَنَّ الأمم السالفة كانوا إذا غَيَّرُوا شيئًا مِن أديانهم غَيَّرُوهُ أَوَّلاً مِن كُتُبِهِمْ، واعْتَقَدُوا خِلاَفَهُ بقلوبهم، ثم أَتْبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ . وفي هذه الأمة قد حَفِظَ اللهُ تعالى عليهم كتابه، وسُنَّةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وَثَبَّتَهُمْ على عقائدهم، حتى لا يُغَيِّرُوا شيئًا منها، وإِنْ كان فِعْلاً؛ وقال بعضُهم بِشَهْوَةٍ أو بِغَفْلَةٍ خِلاَفَهَا، والحمدُ لله على حِفْظِ دِينِهِ، وعلى ما هدانا لمعرفته, وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ إلى الممات، والمغفرة يوم تُحْشَرُ الأموات, إِلَهٌ سميع الدعاء، فَعَّالٌ لما يشاء، والصلاة على نبيه محمدٍ وعلى آله وسلم»([2]).

وقد صدَّق التاريخ هذه الحقيقة الشرعية المستقرة، وشَهِدَتْ بها ألسنة المنصفين مِن أعداء هذه الأمة، فضلًا عن المحبين والمسلمين.

وينقسم النصّ الإسلامي إلى نوعين:
أحدهما: النص القرآني الكريم.
والثاني: النصّ النبوي الشريف، أو السنة المطهرة.
وكلا النصَّيْن معصومٌ محفوظٌ بحِفْظِ الله عز وجل له.
فأما النوع الأول: وهو النصُّ القرآني الكريم:
فقد تكفّل سبحانه وتعالى بعصمته مِن التحريف والتبديل والتغيير، فهو معصومٌ مِن الزيادة والنقصان بأي سبيلٍ كان، ولو أراد أحدهم أنْ يزيد فيه لأصبح مفضوحًا، ولما قدَرَ على ذلك أبدًا؛ لقطعه سبحانه وتعالى بحفظه، فلم يعد ثمة احتمال لتبديلٍ أو تحريفٍ.

ولهذا يقول الطبري: «في تأويل قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} يقول تعالى ذِكْره: {إنا نحن نزلنا الذكر} وهو القرآن، {وإنا له لحافظون} قال: وإِنَّا للقرآن لحافظون مِن أنْ يُزاد فيه باطلٌ؛ ما ليس منه، أو يُنْقَص منه ما هو منه؛ مِن أحكامه وحدوده وفرائضِه»([3]).

وهو مع هذا الحفظ والثبات والاستقرار، والحيلولة ضد أي تبديلٍ أو تغييرٍ: مُعْجِزٌ شاملٌ محيطٌ، يمكن لمن وفَّقه الله عز وجل، ورزقه الفهم؛ أنْ يستنبط منه أحكام الحوادث النازلة على مرِّ العصور واختلاف الحوادث بطريقٍ أو بآخر.

وقد جعلَه الله عز وجل مادةً للتحدّي، فعجزَ أصحاب البلاغة وأربابها عن مجاراته أو الإتيان بمثله، أو ببعضه.

كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24].

وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].

وقال جلَّ شأنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13].

وفي هذا يقول القاضي أبو بكرٍ الباقلاني: «والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحدَّاهم إليه حتى طال التَّحدِّي ، وجَعَلَهُ دلالةً على صِدْقه ونُبُوَّتِه ، وضَمَّنَ أحكامَهُ استباحةَ دمائِهم وأموالِهِمْ وَسَبْى ذُريتهم ، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا ، وتوصَّلُوا إلى تخليص أنفسِهم وأهليهم وأموالهم من حُكْمِهِ بأَمْرٍ قريبٍ هو عادتهم في لسانهم ومألوف مِن خطابهم ، وكان ذلك يغنيهم عن تَكَلُّفِ القتال ، وإكثار المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.

فلمَّا لم تحصُل هناك معارضة منهم عُلِمَ أنهم عاجزون عنها.
يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ العدوَ يقصد لدفع قول عدوِّه بكل ما قَدَر عليه من المكايد ، لا سيما مع استعظامه ما بَدَهَهُ([4]) بالْمَجِيء مِنْ خَلْعِ آلهته ، وتسفيه رأيه في ديانته ، وتضليل آبائه ، والتَّغريب عليه بما جاء به ، وإظهار أمر يُوجِبُ الانقياد لطاعته ، والتصرُّف على حُكْمِ إرادته ، والعدول عن إِلْفِهِ وعادتهِ ، والانخراط في سلك الأتباع ، بعد أَنْ كان متبوعًا ، والتشييع بعد أَنْ كان مُشَيَّعًا ، وتحكيم الغير في ماله ، وتسليطه إِيَّاه على جملةِ أحواله ، والدخول تحت تكاليف شاقة ، وعبادات متعبة بقوله ، وقد علم أن بعض هذه الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه ، هذا والحمية حميتهم ، والهمم الكبيرة هممهم ، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم!.

فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرَّدِّ عليه ، وإلى تكذيبه ، بأهون سعيهم ، ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين ، أو ينقطع دونه وتين ، أو يشتمل به خاطر ، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به ، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع ، والرتبة التي ليس فوقها منزع ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره وتكذيب قوله وتفريق جمعه وتشتيت أسبابه ، وكان مِنْ صدق به يرجع على أعقابه ، ويعود في مذهب أصحابه.

فلمَّا لم يفعلوا شيئًا مِنْ ذلك ، مع طول المدة ، ووقوع الفسحة ، وكان أمره يتزايد حالًا فحالًا ، ويعلو شيئًا فشيئًا ، وهم على العجزِ عن القدحِ في آيتهِ ، والطعن بما يُؤَثِّر في دلالته؛ عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّهم كانوا لا يقدرون على معارضته ، ولا على توهين حُجَّته.

وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قومٌ خصمون([5]) ، وقال: {وتنذر به قومًا لدا} [مريم: 97]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}([6]) [سورة يس: 77].

وعُلِمَ أيضًا ما كانوا يقولونه مِنْ وجوهِ اعتراضهم على القرآن ، مما حكى الله عز وجل عنهم مِنْ قولهم: {لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنفال: 31] ، وقولهم: {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36] ، وقالوا: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الْحِجْر: 6] ، وقالوا: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3] ، وقالوا: {أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 36] ، وقال: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 4 - 5] ، {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الفرقان: 8] ، وقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحِجْر: 91].. إلى آيات كثيرة في نحو هذا ، تدل على أنهم كانوا مُتَحَيِّرِينَ في أمرهم ، مُتَعَجِّبِيْنَ مِنْ عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدِّي إليه ووجد الحث عليه.

وقد عُلِمَ منهم أَنَّهم ناصبوه الحرب ، وجاهدوه ونابذوه ، وقطعوا الأرحام ، وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه بالآيات والإتيان بالملائكة وغير ذلك من المعجزات ، يريدون تعجيزه لِيَظْهَرُوا عليه بوجهٍ مِنَ الوجوه.

فكيف يجوز أَنْ يقدروا على معارضتهِ القريبة السهلة عليهم ، وذلك يدحض حجته ، ويُفسد دلالته ، ويُبطل أمره ، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف؟!.

هذا مما يمتنع وقوعه في العادات ، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.

وإلى هذا الموضع قد استقضى أهل العلم الكلام ، وأكثروا في هذا المعنى واحكموه ، ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة ، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة ، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته ، وأنهم يضعفون عن مجاراته ، ويكرر فيما جاء به ذِكْر عجزهم عن مثل ما يأتي به ، ويُقَرِّعهم ويُؤَنِّبهم عليه ، ويدرك آماله فيهم ، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة ، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه وتفخيم أمره حتى يتلو قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88] ، وقوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2] ، وقوله: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحِجْر: 87] ، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحِجْر: 9] ، وقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون} [الزخرف: 44] ، وقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] ، وقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23].. إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن ، فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع ، ومنها ما ينفرد فيها ، وذلك مما يدعوهم إلى المبادرة ، ويحضهم على المعارضة ، وإن لم يكن متحدِّيًا إليه.

أَلَا تَرَى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضُهم بعضًا؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة وأخبار مشهورة وآثار منقولة مذكورة ، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم؟.

فلن يجوز والحال هذه أَنْ يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها؟! تحداهم أو لم يتحدهم إليها؟!.

ولو كان هذا لقبيل مما يقدر عليه البشر لوجب في ذلك أمر آخر ، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به ، وكانوا لا يفتقرون إلى تكَلُّف وضعه ، وتعمُّل نظمه في الحال.

فلمَّا لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق ، وخطبة متقدمة ، ورسالة سالفة ، ونظم بديع ، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئتَ به وأغرب منه أو هو مثله؛ عُلِمَ أَنَّه لم يكن إلى ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير ، ولو كان وُجِدَ له مِثْلٌ لكان يُنْقَلُ إلينا ولعرفناه ، كما نُقِلَ إلينا أشعار أهل الجاهلية وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأُدِّيَ إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم وصنوف فصاحاتهم»([7])أهـ.

وقد جعلَهُ هذا التحدِّي مثارًا وغرضًا لسهام الحاقدين، فضلًا عن إثارة انتباه المحبِّين المؤمنين، فاتجهتْ إليه عيون الجميع، فطالعه المحبون بدافع المحبة ورجاء الثواب، كما قرأه الأعداء بدافع الحقد والحسد، وبغية التشويش عليه، وإظهار تناقضه وتضاربه، فما قدَرَ أحدٌ على إظهار شيءٍ مِن هذا قط، ومضى القرآن الكريم شامخًا عزيزًا معصومًا مصانًا عن التغيير والتبديل، قويًّا صامدًا في وجه كل حملات التشكيك والتشويه التي توجهت إليه، فعادت سهام الحقد على حامليها، ولم يُصب بشيءٍ، ولا يمكن أنْ يُصاب وقد تكفَّل المولى القادر بحفظه.

وقد حاول الحاقدون قديمًا وحديثًا إخضاع آياته وكلماته للنَّقْد اللغوي فيما زعموا، فخابوا وخسروا، وألْقى بهم التاريخ في مزابله، ولم يُعرهم اهتمامه، وكان في هؤلاء عرب أصحاب لسان، وعجم تقودهم نار حقد رهيب، ما لبثتْ أنْ انطفأتْ على صخرة التحدِّي القرآني الراسخ، وانقلب هؤلاء بفضل ورحمة إلى أولياء أتباع للقرآن الكريم، يدافعون عنه، ويذودون عن حياضه، آناء الليل وأطراف النهار.

وهذا كله معروفٌ مشهورٌ في أحاديث الناس، وما سطروه في كتبهم.
وما أجمل ما نُقِلَ عنِ الإمامِ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حين قال: «مَنْ قال: إِنَّ القرآنَ مقدورٌ على مثلِهِ ولكنَّ الله مَنَعَ قُدْرَتَهُمْ: كَفَرَ؛ بل هو مُعْجِزٌ بنَفْسِه ، والْعَجْزُ شَمَلَ الْخَلْق»([8])أهـ

وقال ابنُ مُفْلِحٍ رحمه الله: «وجزم ابنُ عقيل بأنَّ مَن وُجِدَ منه امتهانٌ للقرآنِ ، أو غَمْصٌ([9]) منه ، أو طَلَبُ تناقُضِهِ ، أو دعوى أنه مختلفٌ أو مُخْتَلَقٌ ، أو مقدورٌ على مثلِه([10]) ، أو إسقاطٌ لحُرْمَتِهِ: كلُّ ذلك دليلٌ على كفرِهِ ، فيُقْتَلُ بعد التوبةِ»([11])أهـ

وقال القاضي عياض رحمه الله: «مَن أنكرَ القرآنَ ، أو حرفًا منه ، أو غَيَّرَ شيئًا منه, أو زَادَ فيه؛ كفِعْلِ الباطنيّة والإسماعيليّة, أو زَعَمَ أَنَّه ليس بحُجَّةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم, أو ليس فيه حُجَّةٌ ولا مُعْجِزَةٌ؛ كقولِ هشـامٍ الْفُوطِيِّ ومَعْمَرٍ الصَّيْمَرِيِّ: إِنَّه لا يدلُّ على الله ولا حجةَ فيه لرسولهِ ولا يدل على صوابٍ ولا عقابٍ ولا حُكمٍ؛ ولا مَحَالَةَ في كُفرِهما بذلك القول, وكذلك نُكَفِّرُهُمَا بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يكونَ في سائرِ معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم حجةٌ له, أو في خلقِ السماوات والأرض دليلٌ على الله؛ لمخالفتِهم الإجماعَ والنقلَ المتواترَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم باحتجاجهِ بهذا كلِّه ، وتصريحِ القرآن به»([12]).

وقال القاضي عياض: «واعْلَمْ أَنَّ مَن استخفَّ بالقرآنِ, أو المصحفِ, أو بشيءٍ منه, أو سَبَّهُما, أو جَحَدَهُ, أو حَرْفًا منه ، أو آيةً, أو كَذَّبَ به, أو بشيءٍ منه, أو كَذَّبَ بشيءٍ مما صُرِّحَ به فيهِ؛ مِنْ حُكْمٍ أو خَبَرٍ, أو أَثْبَتَ ما نفاهُ أو نَفَى ما أَثْبَتَهُ, على عِلْمٍ منه بذلك, أو شَكَّ في شيءٍ مِن ذلك: فهو كافرٌ عند أهل العلم بإجماعٍ. قال الله تعالى: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا مِن خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:41-42]».

قال القاضي عياض: «وقد أَجْمَعَ المسلمون أَنَّ القرآنَ المتلوَّ في جميعِ أقطارِ الأرض ، والمكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ {الحمد لله رب العالمين} إلى آخر {قل أعوذ برب الناس} أنه كلامُ الله ، ووَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأَنَّ جميعَ ما فيه حقٌّ ، وأَنَّ مَنْ نَقَصَ منه حرفًا قاصِدًا لذلك ، أو بَدَّلَهُ بحرفٍ آخَرَ مكانَهُ ، أو زادَ فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأُجْمِعَ على أَنَّهُ ليس مِن القرآنِ ، عامِدًا لكلِّ هذا أَنّه كافرٌ.

ولهذا رَأَىَ مالكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عائشةَ رضي الله عنها بالفِرْيَةِ؛ لأنَّه خَالَفَ القرآنَ ، ومَنْ خالَفَ القرآنَ قُتِلَ؛ أَيْ: لأَنَّهُ كَذَّبَ بما فيهِ.
وقال ابنُ القاسم: مَنْ قال: إِنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى تكليمًا يُقْتَلُ.
وقاله عبدُ الرَّحْمَن بنُ مهدي.
وقال محمد بن سُحْنُونٍ ــ فيمن قال: الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنْ كتابِ الله ــ: يُضْرَبُ عُنُقُهُ؛ إلاَّ أَنْ يتوبَ ، وكذلك كلُّ مَنْ كَذَّبَ بحرفٍ منه.
قال: وكذلك إِنْ شَهِدَ شاهِدٌ على مَنْ قال: إِنَّ الله لم يُكِّلم موسى تكليمًا وشَهِدَ آخر عليه أَنَّهُ قال: إِنَّ الله لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا؛ لأنهما([13]) اجتمعا على أَنَّهُ كَذَّبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحِلُ التوحيد متفقونَ أَنَّ الْجَحْدَ لحرفٍ مِن التنزيلِ: كُفرٌ.
وكان أبو العالية إذا قَرَأَ عندهُ رجلٌ لم يقل له: لَيْسَ كما قَرَأْتَ ، ويقولُ: أَمَّا أَنا فأَقْرَأُ كذا ، فبَلَغَ ذلك إبراهيمَ ، فقال: أُرَاهُ سَمِعَ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بحرفٍ منه فقد كَفَرَ به كلِّه.
وقال عبد الله بن مسعود: مَنْ كَفَرَ بآيةٍ مِن القرآنِ فقد كَفَرَ به كلِّه([14]).
وقال أَصْبَغُ بنُ الفَرَج: مَنْ كَذَّبَ ببعضِ القرآنِ فقد كَذَّبَ به كلِّه ، ومَنْ كَذَّبَ به: فقد كَفَرَ به ، ومَن كَفَرَ به: فقد كَفَرَ بالله.

وقد سُئِلَ القَابِسيُّ عَمَّنْ خَاصَمَ يهوديًا فحلفَ له بالتوراةِ ، فقال الآخرُ: لَعَنَ الله التوراةَ ، فشَهِدَ عليه بذلكَ شاهدٌ ثم شَهِدَ آخرُ أَنَّه سأَلَهُ عن القضيةِ؛ فقال: إِنَّما لَعَنْتُ توراةَ اليهودِ ، فقال أبو الحسن([15]): الشاهدُ الواحد لا يُوجِبُ القتلُ ، والثاني عَلَّقَ الأمرَ بصفةٍ تحتملُ التأويلَ؛ إِذْ لعلَّهُ لا يَرَى اليهودَ مُتَمَسِّكِينَ بشيءٍ مِنْ عند الله؛ لتبدِيلِهِمْ وتحرِيْفِهِمْ ، ولو اتَّفَقَ الشاهدانِ على لعن التوراةِ مُجَرَدًّا لضاقَ التأويلُ.

وقد اتَّفَقَ فقهاءُ بغدادَ على استتابةِ ابن شَنْبُوذَ الْمُقْرِيءِ أحدِ أئمةِ الْمُقْرِئينَ الْمُتَصَدِّرينَ بها معَ ابنِ مجاهدٍ؛ لِقِرَاءتهِ وإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِن الحروفِ ، مما ليسَ في المصحفِ ، وعَقَدوا عليه بالرجوعِ عنه ، والتوبةِ منه سِجِلًّا أَشْهَدَ فيه بذلك على نفسِه في مجلسِ الوزيرِ أبى عليِّ بنِ مُقْلَةَ سنةَ ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وكان فيمَنْ أَفْتَى عليهِ بذلك أبو بكرٍ الأَبْهَرِيُّ وغيره.

وأَفْتَي أبو محمدٍ بنُ أبى زَيْدٍ بالأدبِ فيمَنْ قال لصبيٍّ: لَعَنَ اللهَ مُعَلِّمَكَ وما عَلَّمَكَ ، وقال([16]): أردتُ سوءَ الأدبِ ولم أُرِدِ القرآنَ ، قال أبو محمدٍ: وأمَّا مَنْ لَعَنَ المصحفَ فإِنَّهُ يُقْتَلُ»([17])أهـ.

وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: «باب ما جاء مِن الحجةِ في الرَّدِّ على مَنْ طعنَ في القرآنِ وخالَفَ مصحف عثمان بالزيادة والنقصان: لا خلاف بين الأمة ، ولا بين الأئمة أهل السنة؛ أن القرآن اسمٌ لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، معجزةً له على نحو ما تقدم ، وأنه محفوظٌ في الصدور ، مقروءٌ بالألسنة ، مكتوبٌ في المصاحف ، معلومةٌ على الاضطرارِ سورُه وآياتُه ، مبرأةٌ مِن الزيادةِ والنقصانِ حروفُه وكلماتُه ، فلا يحتاج في تعريفه بحَدٍّ ، ولا في حَصْرِهِ بِعَدٍّ ، فمَنِ ادَّعَى زيادةً عليه أو نقصانًا منه فقد أبطلَ الإجماع ، وبَهَتَ الناسَ ، ورَدَّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مِنَ القرآن المنزل عليه ، ورَدَّ قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء:88] ، وأبطل آيةَ رسولهِ عليه السلام؛ لأنَّه إِذْ ذاكَ يصير القرآن مقدورًا عليه حين شِيبَ بالباطل ، ولما قُدِرَ عليه لم يكن حجة ولا آية ، وخرج عن أَنْ يكون مُعْجِزًا ، فالقائل: إِنَّ القرآنَ فيه زيادةٌ ونقصانٌ رَادٌّ لكتابِ الله ، ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة ، وتَزَوُّج تسع مِن النساء حلالٌ ، وفرض الله أيامًا مع شهر رمضان ، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين ، فإذا ردّ هذا الإجماع؛ كان الإجماع على القرآن أثبت وآكَد وأَلْزَم وأَوْجَب».

ونقل القرطبي كلامًا مطولاً عن ابن الأنباري رحمه الله ، ومنه ذلك قول أبي بكرٍ ابن الأنباري رحمه الله تعالى: «إِنَّ الله عز وجل قد حَفِظَ القرآن مِن التغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، فإذا قَرَأَ قارئٌ: (تبت يدا أبي لهبٍ وقد تبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارًا ذات لهبٍ ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف)؛ فقد كذبَ على الله جل وعلا ، وَقَوَّلَهُ ما لم يقل ، وبَدَّلَ كتابَهُ وحَرَّفَهُ ، وحاول ما قد حَفِظَهُ منه ومنع مِن اختلاطه به ، وفي هذا الذي أَتَاهُ توطِئَةُ الطريق لأهل الإلحاد ليُدْخِلُوا في القرآن ما يُحِلُّون به عُرَى الإسلام ، وينسبونه إلى قومٍ كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم ، وفيه إبطال الإجماع الذي به يُحْرَسُ الإسلام ، وبثباته تُقَامُ الصلوات ، وتُؤَدَّى الزكوات ، وتُتَحَرَّى المتعبّدات ، وفي قول الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته} [هود:1]: دلالة على بدعةِ([18]) هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر؛ لأنَّ معنى {أُحْكِمَتْ آياتُه} [هود:1]: منع الخلق مِن القدرةِ على أَنْ يزيدوا فيها ، أو ينقصوا منها ، أو يعارضوها بمثلِها ، وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليٍّ وكان الله قويًّا عزيزًا) فقال في القرآن هُجْرًا وذَكَرَ عليًّا في مكانٍ لو سَمِعَهُ يذكرهُ فيه لأَمْضَى عليه الْحَدَّ وحَكَمَ عليه بالقتلِ ، وأَسْقَطَ مِنْ كلامِ الله: {قل هو} وغَيَّرَ {أحد} فقرأَ: (الله الواحد الصمد) ، وإِسْقَاطُ ما أسقطَ نفيٌ له وكفرٌ ، ومَن كفر بحرفٍ مِنَ القرآن فقدَ كفر به كلَّه ، وأَبْطَلَ معنى الآية؛ لأنَّ أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابًا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله سبحانه وتعالى: صِفْ لنا ربك أمِنْ ذهبٍ أم مِن نحاسٍ أم مِن صفر؟ فقال الله جل وعزَّ ردًّا عليهم: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] ففي {هو} دلالة على موضعِ الرَّدِّ ومكان الجواب ، فإذا سقط بطل معنى الآية ، ووضح الافتراء على الله عز وجل والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويُقَالُ لهذا الإنسان ومَنْ ينتحل نُصْرَتَه: أَخْبِرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا مَن كان قبلنا مِن أسلافنا سواه: هل هو مشتملٌ على جميع القرآن مِن أوله إلى آخره؟ صحيح الألفاظ والمعاني؟ عارٍ عن الفساد والخلل؟ أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين مِن أهل ملتنا؟ فإِنْ أجابوا بأَنَّ القرآن الذي معنا مشتملٌ على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها مِنْ كل زللٍ وخللٍ؛ فقد قضوا على أنفسِهم بالكفر حين زادوا فيه: (فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا مِن غسلين مِن عين تجري مِن تحت الجحيم) ، فأي زيادةٍ في القرآن أوضح مِن هذه؟ وكيف تُخْلَطُ بالقرآن وقد حرسَهُ الله منها؟ ومنعَ كلَّ مفترٍ ومُبْطِلٍ مِنْ أَنْ يُلْحِق به مثلها؟»([19])أهـ. ثم استطردَ ابن الأنباري رحمه الله في بيان فساد الزيادة المذكورة ، وبيان معنى الآية «فيما أَنْزَلَ الله تبارك وتعالى على الصحَّةِ في القرآنِ الذي مَن خالفَ حرفًا منه كَفَرَ» على حَدِّ تعبيره.

وأنتَ إذا تدبرتَ كيف أقام أهلُ العلم سياجًا عظيمًا حول النصّ القرآني الكريم؛ شعرتَ بآثار حِفْظِ الله عز وجل لكتابه الكريم.

وقد أشار الله عز وجل في مواضع من كتابه العزيز إلى كثيرٍ من صفات القرآن الأصيلة ، ودلائل إعجازه ، وبراهين عظمته ، فوصفَه سبحانه وتعالى بالمبين والحكيم والمنير والنور والمبارك ، وغيرها من الصفاتِ الْعَلِيَّةِ ، ونفى عنه الريب والشكّ والاختلاف ، وغيرها من الصفات المشينة ، كما نَزَّهَهُ اللهُ عز وجل وبرَّأَهُ من مشابهة أقوال الشعراء والكُهَّان.

وطَالَبَ اللهُ سبحانه وتعالى الناسَ بالتَّدبُّر في آياتِ كتابه، وتحدَّى به سبحانه وتعالى الناس، ونفى قُدْرَتهم على المجيء بمثله ، أو بعضه ، ولو اجتهدوا في ذلك ، وجمعوا أنصارهم وشهداءهم ، وطالَبَهُمُ الله سبحانه وتعالى بالتَّدبُّرِ فيه ، والنظر في آياته ، متحدِّيًا لهم أن يجدوا فيه اختلافًا ، أو شيئًا يشينه ، وهذا مما يُظهر محاسنه ، وينفي عنه كل عيبٍ ، ويلفت الأنظار إلى متانته وإعجازه لفتًا ، ويُجَلِّي صفاته أمام الأعين فتبصرها بلا عناء ، صافيةً بلا كَدَرٍ.

كما ذَكَرَ عز وجل أَنَّهُ كتابُ تذكرة وهدىً وبشرى للمؤمنين ، وحسرةً على الكافرين ، يهدي به الله أهل الطاعة والاستجابة إلى صراطٍ مستقيمٍ ، ويُثبِّتَ به قلوبهم.

فهو كتابٌ شاملٌ، ونصٌّ معصومٌ مُبْهِرٌ، يأخذ بالألباب، ويهزّ القلوب هزًّا.

وانظر إلى قول الأديب الأستاذ سيد قطب رحمه الله ، حين يقول في مقدمة تفسيره لسورة «الرعد»: «كثيرًا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرِّج أن أشوبها بأسلوبي البشري الفاني ، ولكن ماذا أصنع ونحن في جيلٍ لابد أنْ يُقدم له القرآن مع الكثير مِن الإيضاح ، ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصدَّيْتُ للترجمة عن هذا القرآن»([20]).

ونزداد إعجابًا بالنصِّ القرآني الكريم، حين نعلم أنه نصٌّ محكمٌ محصورٌ في كلمات لا يزيد عليها أو ينقص عنها، فلا مجال للزيادة فيه أو النقصان منه، وعلى الرغم مِن هذا فهو شاملٌ محيطٌ لما وقع في عصر النزول في أول الإسلام، ولما يحدث على مرِّ الأزمنة واختلاف الحوادث.

فهو ثابتٌ محصورٌ، وشاملٌ محيطٌ، في وقت واحدٍ، وتلك سمة أخرى مِن سمات روعته وإعجازه، وسموّه في كافة نواحيه.

نحن مع القرآن أمام نصّ فريدٍ، لا مجال لمقارنته مع غيره مِن النصوص التي تعرفها البشرية، والتي تزيد وتحذف منها كل يوم أو كل لحظة ما تحب.

وتراجعات الناس في كتاباتهم ونصوصهم مشهورة متداولة، فلا يكاد يستقر إنسان على شيء كتبه لأيامٍ، فضلًا عن شهور أو سنين، وما مِن أحدٍ إلا وله رجعة عن شيءٍ كتبه، أو شيءٍ خطَّه حين يعيد النظر فيه مرة أخرى؛ إِذْ هي نصوص بشرية عاجزة عن إدراك الكمال، ولا تملك مؤهلات الاستقرار والدوام، بل لا تملكه بعد موت صاحبها، فترى الآخرين يتوجهون إليها بسهام النقد والتمحيص، ويعيبون هذا وينكرون ذاك، وهذا واقعٌ مشاهدٌ لا يمكن جحده وإنكاره.

وانظر إلى قولِ حاجي خليفة في كتابه: «لكن الجواد قد يكبو، والفتى قد يصبو، ولا يعد إلا هفوات العارف، ويدخل الزيوف على أعلى الصيارف، ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب، لا سيما الطويلة، سهل بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها، كما يشاهد في الأبنية العظيمة، والهياكل القديمة، حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر، بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر.
هذا جوابي عما يرد على كتابي أيضًا.

وقد كتبَ أستاذ البلغاء، القاضي، الفاضل: عبد الرحيم البيساني، إلى العماد الأصفهاني، معتذرًا عن كلامٍ استدركَه عليه: إنّه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أُخبرك به، وذلك أني رأيتُ أنه لا يكتب إنسانٌ كتابه في يومه، إلا قال في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ لكان يُستحسن، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهذا مِن أعظم العِبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جلة البشر. انتهى.

هذا اعتذار قليل المقدار عن جميع الإيرادات والأنظار إجمالا»([21]) أهـ.
فهذا هو حال النصّ البشري في عجزه وقصوره.
ولله درُّ القائل([22]):

ما خطَّ كفُّ امرئ شيئًا وراجعهُ *** إلا وعَنَّ له تبديلُ ما فيهِ
وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا *** وإن يكن هكذا تسمو قوافيهِ

ولا يوجد هذا كله بفضل الله في النصِّ الإسلامي، قرآنًا وسُنَّةً؛ لسموّ مصدره القائم على الوحي، خلافًا للنصِّ البشري الناتج مِن الأرض بعجزه وقصوره.
والنوع الثاني مِن النصِّ الإسلامي: هو النص النبوي الشريف، أو السنة النبوية المطهرة:

ويشترك النص النبوي مع النص القرآني الكريم، في حفظ الله عز وجل له؛ إِذ الكل وحيٌ مِن الله عز وجل، مع الفوارق المعروفة بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية المطهرة، وقد ثبت أنها وحيٌ بأدلة عديدة منها على سبيل المثال:
* قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (النجم: 1-4).

«أي إنما يقول ما أُمِرَ به يُبَلِّغُه إلى الناس كاملًا موفورًا مِن غير زيادةٍ ولا نقصان»([23]).

قال النحاس: «أي ما يخرج نطقه عن رأيه إنما هو بوحي مِن الله عز وجل لأن بعده: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}»، وقال القرطبي: «وفيها أيضًا دلالة على أَنَّ السنة كالوحي المنزل في العمل»([24]).

* وقال عز وجل: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ» (الجمعة:2).

قال الإمامُ الشافعيُّ: «فَذَكَرَ اللهُ الكتابَ: وهو القرآن؛ وذكر الحكمة: فسمعتُ مَنْ أرْضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله.

وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خَلْقهِ بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فَلَمْ يَجُزْ ــ والله أعلم ــ أَنْ يقال الحكمة هاهنا إلا سُنةُ رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأَنَّ الله افترضَ طاعة رسوله، وحَتَّم على الناس اتباع أمْرِه؛ فلا يجوز أَنْ يقال لقولٍ: (فرضٌ)؛ إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله؛ لِمَا وصفنا مِن أنَّ الله جَعَلَ الإيمانَ برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أَرَادَ: دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قَرَنَ الحكمةَ بها بكتابه فاتبعها إياه ولم يجعل هذا لأحدٍ مِنْ خَلْقِه غير رسوله»([25]).

«وواضح مما ذكره الشافعي هنا رحمه الله أنه يجزم بأن الحكمة هي السنة؛ لأنَّ الله عطفها على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، ولا يصح أَنْ تكونَ شيئًا غير السنة؛ لأنها في معرض الْمِنَّة مَنَّ الله علينا بتعليمنا إيَّاها، ولا يمنّ إلا بما هو حقٌّ وصواب، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالقرآن، ولم يوجب علينا إلا اتباع القرآن والرسول؛ فتَعَيَّنَ أَنْ تكون الحكمة هي ما صدر عن الرسول من أحكام وأقوال في معرض التشريع»([26]).

وأشار الطبري([27]) إلى اختلاف أهل التأويل في معنى «الحكمة» في قوله تعالى: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» (البقرة:129) ثم قال الطبري: «فقال بعضهم : هي السنة» وساق ذلك بإسناده إلى قتادة قال: «السنة»، وبإسناده عن الإمام مالكٍ قال: «المعرفة بالدين والفقه في الدين والاتباع له»، وعن ابن زيد قال: «الحكمة: الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم؛ يعلمهم إياها»... إلى أنْ قال الطبري: «والصواب مِن القول عندنا في الحكمة : أنها العلم بأحكام الله التي لا يُدرك عِلْمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها وما دَلَّ عليه ذلك مِنْ نظائره، وهو عندي مأخوذٌ مِن الْحَكَم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة الجلسة والقعدة مِن الجلوس والقعود، يقال منه : إِنَّ فلانًا لحكيم بَيِّن الحكمة؛ يعني به: إِنَّه لَبَيِّن الإصابة في القول والفعل. وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها».

وقال الطبري في موضع آخر([28]): هي «السنن والفقه في الدين»، وقال ابن أبي زمنين: «والحكمة: السنة»([29])، وقال القرطبي: «الكتاب: القرآن والحكمة: المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو سجية ونور مِن الله تعالى؛ قاله مالكٌ، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد، وقال قتادة: الحكمة السنة وبيان الشرائع، وقيل: الحكم والقضاء خاصة. والمعنى متقاربٌ. ونُسِبَ لتعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مِن حيثُ هو يُعطي الأمور التي ينظر فيها ويعلم طريق النظر بما يُلْقيه الله إليه مِن وحيه»([30])، وقال القرطبي في موضعٍ آخر: «والحكمة : هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب»([31]).

وهذا يقتضي أن تكون السنة مِنْ وحي الله عز وجل الذي أوْحاهُ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوضِّح هذا ويُبَيِّنُه قوله عز وجل: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}([32])، وقوله تبارك وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}([33])؛ فصرَّح سبحانه وتعالى هنا بأنه قد أنزل الكتاب والحكمة، فالقرآن والسُّنة وحيٌ أوحاه الله عز وجل إلى نبِيِّه صلى الله عليه وسلم.

ويُؤَكِّدُ هذا: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ربما سُئِل عن الشيء ليس لديه فيه وحيٌ فينزل عليه الوحي فيُجِيب السائلَ بناءً على الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم:

ومن ذلك: ما رواه يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه أَنَّه كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ([34]) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ؛ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ([35]) كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ([36]): «أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟» فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: «أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ»([37]).

و«الأمة المسلمة مجمعةٌ سلفًا وخلفًا وإلى أن تقوم الساعة على أن السنة النبوية المطهرة وحيٌ مِن قِبَلِ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإجماع الأمة المسلمة على ذلك ليس صادرًا عن فراغٍ أو عن هوًى، ولكنه الحق الذي لا يُعارضه إلا غَوِيٌّ مبين»([38]).

وقال الزرقاني: «السنة وحيٌ من الله كما أَنَّ القرآن كذلك؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ولا فارق بينهما، إِلَّا أَنَّ ألفاظَ القرآن مِن ترتيب الله وإنشائه، وألفاظ السنة مِن ترتيب الرسول وإنشائه، والقرآن له خصائصه، وللسنة خصائصها»([39]).

وبهذا يشترك النص النبوي المطهر مع النص القرآني الكريم، في حِفْظ الله عز وجل لهما؛ إِذ الكل وحيٌ مِن الله عز وجل، وقد تكفَّل سبحانه وتعالى بحفظ الذِّكْر، وهذا شاملٌ للقرآن والسنة معًا، كما أشرنا آنفًا.

فالنصّ النبوي المطهر معصومٌ أيضًا، بعصمة الله عز وجل له، وقد هيَّأَ الله عز وجل له مِن أسباب العصمة عن التبديل والتحريف ما تعجز اللغة عن التعبير عنه، أو الإحاطة به، وقد شرحت ذلك مرارًا في أكثر مِن مناسبةٍ، ويمكن الرجوع في ذلك على سبيل المثال إلى ما كتبته عن «عبقرية السلف أهل الحديث».

وقد حاول أعداء الدين والزنادقة إبطال السُّنَن وضرب بعضها ببعضٍ، وإظهارها بمظهر التناقض والاختلاف، عن طريق وضع الأحاديث واختلاق الروايات المكذوبة، لكن باءتْ هذه الخطة الإبليسية بالفشل، وأظهر الله عز وجل عوار المعتدين، ومضت السُّنَّةُ صافية نقيَّة، وقام رجالها وفطاحل علمائها بإخراج المكذوب والتنبيه عليه حرفًا حرفًا، حماية وصيانة لجناب السنة المطهر.

وعن هذا تُحَدِّث وقائع التاريخ فتقول: «أخذ هارون الرشيد زنديقًا فأَمَرَ بضربِ عنقه، فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟! قال: أريح العباد منك، قال: فأين أنتَ مِن ألف حديثٍ وضعتُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّها ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأين أنت يا عدوَّ الله مِن أبي إسحاق الفَزَارِيِّ وعبدِ الله بنِ المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا»([40]).
وقد استمرَّتْ مسيرة الذَّب عن السنة، والدفاع عنها، وصدّ هجمات المعتدين على حياضها، وقيَّضَ الله عز وجل لهذه المهمة الصعبة رجالًا كبارًا، وقفَ التاريخ أمامهم مبهورًا، لعظيم ما بذلوه وما فعلوه في سبيل حماية السنة النبوية، والحفاظ على النص النبوي الشريف، والدفاع عنه ضد أيِّ معتدٍ أثيمٍ، وما مِن روايةٍ مكذوبة إلا ونبَّه عليه أهلُ العلم بالروايات، بعبارات واضحة جليَّة، «لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ» (الأنفال:37) .

وبناءًا على ما سبق:
نكون أمام مصدرٍ معصوم ثابتٍ، لا يتبدل ولا يتحول، ونأمن في جنابه مِن التغيير والتبديل لصالح فئة على حساب فئة أخرى مِن الناس.
بينما يعيش أصحاب الأطروحات الأرضية الوضعية في اهتزاز وتغيُّر وتبدُّل مستمر، مِن لحظة لأخرى، لا يقرّ لهم قرار؛ إِذْ يقوم مشروعهم على عقول البشر القاصرة عن الإدراك والإحاطة بتفاصيل الحاجات الإنسانية، مما يجعلها عرضة للتعديل المستمر لتواكب وتلاءم متطلبات الناس التي لا حدَّ لها ولا نهاية.

وانظر إلى عدد القوانين الوضعية، التي أنتجتها عقول البشر، ثم قامت بتعديلها مرات عديدة، لتعلم الفارق الجوهري بين الثابت والمتغيّر في هذا الباب.

ولا أدري كيف يقبل الناس هذا لأنفسهم، رغم بحثهم الحثيث عن الثبات والاستقرار والاضطراد في القواعد والأنظمة.

وإذا كان هذا مُتَوَقَّعًا في أُمَمٍ لا تؤمن بالإسلام، فما بال الأمة المسلمة تعرض عن نصها الثابت الرصين، وكنزها الذي أنزله الله عز وجل إليها، ليرفعها به إلى عِلِّيين؟!.

إننا ننادي أولئك الباحثين عن الاستقرار بالاجتماع حول مشكاة الإسلام، فهي طوق النجاة لنا جميعًا، ولا نجاة لنا بدونها، وقد رأيتم كيف عاشت البلاد والعباد لسنواتٍ في تيه الأقوال، ودوامة الأفكار، ولم تخرج بشيءٍ.

الآن عليكم العودة إلى مشكاة الإسلام، فهي السعادة الحقيقية لنا جميعًا.
وتذكروا أنَّ كل شيءٍ بيد الله عز وجل، «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ» (النور:40). والله المستعان.

· الهوامش :

([1]) «شعب الإيمان» للبيهقي (1/339).
([2]) «دلائل النبوة» للبيهقي (7/160).
([3]) «تفسير الطبري» (14/18).
([4]) في «مختار الصحاح» (مادة: بده): «بَدَهَهُ أمرٌ: فجأه ، وبابه قطع ، وبَدَهَهُ بأمرٍ إذا استقْبَلَهُ به ، وبَادَهَهُ فاجَأَهُ ، والاسمُ البَدَاهةُ والبَديِهةُ»أهـ
([5]) إشارةً إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
([6]) ذكر الباقلاني رحمه الله بعض الآية بمعناه ، وبعضها بلفظه ، فذكرت لفظها كله كما في المصحف.
([7]) «إعجاز القرآن» للباقلاني (ص/20 – فما بعد).
([8]) «الفروع» لابن مفلحٍ رحمه الله (6/161).
([9]) الغَمْصُ: الاحتقار أو الاستصغار والعَيْب ، تقول: غمص فلانٌ فلانًا؛ إذا احتقره أو عابَه أو استصْغَرَهُ.
([10]) يعني: أنَّه ليس مُعْجِزًا؛ بل يُقْدَرُ على الإتْيان بمثْلِه ، ولا شكَّ في كفر مَن قال ذلك ولو هازِلاً.
([11]) المصدر السابق.
([12]) «الشفا» للقاضي عياض (2/250).
([13]) يعني: الشاهدين.
([14]) أَوْرَدَهُ البيهقي في «السنن الكبرى» (10/43).
([15]) وهو القابِسي.
([16]) يعني: مَنْ لعَنَ الصبي.
([17]) السابق (2/263-265).
([18]) يعني: إتيانه بقولٍ مُحْدَثٍ لم يُسْبَقْ إليه ، وليس المراد البدعة الاصطلاحية؛ لأنَّ كلام الهالك المذكور هنا كفرٌ لا شكَّ فيه ، وهذا ظاهرٌ مٍن سياق الكلام هنا.
وقد ذكرتُ كلامَ القرطبي ونقله عن ابن الأنباري بأتمِّ ممَّا هنا ، في أثناء فصل: ((الاستهزاء بالقرآن يعني: هدمَ الإِسْلام)).
([19]) «تفسير القرطبي» (1/80- 85).
([20]) «في ظلال القرآن» لسيد قطب (4/2038).
([21]) «كشف الظنون» لحاجي خليفة (1/14).
([22]) «رحلة الشتاء والصيف» (ص/9).
([23]) تضمين من «تفسير ابن كثير» (4/315).
([24])«تفسير القرطبي» (7/75).
([25]) «الرسالة» للشافعي (ص/87 – 79، ت: الشيخ أحمد شاكر).
([26]) تضمين من «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» لمصطفى السباعي (ص/69).
([27]) «تفسير الطبري» (1/606).
([28]) المصدر السابق (2/39، 493).
([29]) «تفسير القرآن العزيز» للإمام ابن أبي زمنين (1/332، 3/390).
([30]) «تفسير القرطبي» (2/129).
([31]) المصدر السابق (3/147)، وانظر منه (18/81).
([32]) البقرة: 231.
([33]) النساء: 113.
([34]) قال النووي في «شرح مسلم»: «أَيْ : مُتَلَوِّث بِهِ مُكْثِر مِنْهُ».
([35]) قال النووي في «شرح مسلم»: «وَسَبَب ذَلِكَ شِدَّة الْوَحْي وَهَوْله , قَالَ اللَّه تَعَالَى : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْك قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]».
([36]) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
([37]) رواه البخاري (4329)، ومسلم (1180).
([38]) تضمين من «شبهات القرآنيين حول السنة النبوية» لمزروعة.
([39]) «مناهل العرفان» (2/170).
([40]) «تاريخ دمشق» لابن عساكر (7/127)، و«تذكرة الحفاظ» (1/273، أثناء ترجمة أبي إسحاق الفزاري رحمه الله).


http://www.arabicenter.net/ar/news.p...n=view&id=1769 (http://www.arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1769)