المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحاضرة الثانية في شرح كتاب الواضح في أصول الفقه للمبتدئين



أهــل الحـديث
27-06-2012, 06:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




المحاضرة الثانية

الحمد للهسبحانه وتعالى وعز وجل، الذي أحيا وأمات وهدى وأضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له أعطى وحرَم وأعز وأذل، وبكل ما دق وجل علمه استقل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم قدوة أهل العقد والحل، حذر أمته من كل شر، وعلى كل خير دل، أما بعد؛
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
- هذه هي المحاضرة الثانية من محاضرات شرح كتاب الواضح في أصول الفقه، والكلام في هذه المحاضرة يندرج تحت (تمهيد فيه مسألتان، وباب واحد فيه سبع مسائل):
تمهيد فيه مسألتان:
المسألة الأولى: مراجعة على كيفية تصنيف مباحث علم الأصول.
المسألة الثانية: الكلام التمهيدي على المبحث الأول منها أو القسم الأول من أقسام الكتاب: (الأحكام الشرعية).
الباب الأولمن أبواب القسم الأول، وهو (الحاكم)، والكلام فيه يندرج تحت المسائل التالية:
المسألة الأولى: ترتيب هذا الباب، والعلة في ترتيبه.
المسألة الثانية: الحاكم هو الله تعالى وحده.
المسألة الثالثة: العقل ليس بحاكم.
المسألة الرابعة: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاكم.
المسألة الخامسة: الأدلة المختلف فيها لا تعني أن ثمة حاكما غير الله.
المسألة السادسة: المجتهدون أيضا ليسوا حاكمين.
المسألة السابعة: أثر فهم قاعدة (إن الحكم إلا لله).


تفصيل المحاضرة

التمهيد، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: مراجعة على كيفية تصنيف مباحث علم الأصول.
- ذكرنا في المحاضرة السابقة أن مباحث علم الأصول أربعة مباحث، المبحث الأول: الأحكام الشرعية، المبحث الثاني: الأدلة الشرعية الإجمالية، المبحث الثالث: طرق الاستباط، المبحث الرابع: الاجتهاد وأحوال المجتهد([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn1)).
- وبناء على هذا قسم المؤلف ــ رحمه الله ــ كتاب الواضح إلى أربعة أقسام، جعل في كل قسم مبحثا من مباحث علم الأصول، فكان كتابه أربعة أقسام، القسم الأول منها يتكلم عن الأحكام الشرعية([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn2)).
المسألة الثانية: الكلام التمهيدي على القسم الأول (الأحكام الشرعية)، هذه المسألة فيها أربعة فروع:
الفرع الأول: أهمية هذا القسم.
- مبحث الأحكام الشرعية من أهم مباحث علم أصول الفقه؛ لأنه لايتصور أن يُطْلَبَ علمُ الفقهِ بدون هذا المبحث،
حتى لو لم يدرس الفقيه علم أصول الفقه، فإنه لابد أن يعرف الأحكام الشرعية حقيقتها وأقسامها؛ وذلك لأن علم الفقه يدور موضوعه حول الحكم الشرعي لكل فعل من أفعال المكلفين.
- وأضرب لك مثالا يوضح هذا، فأنت عندما تقرأ في الفقه في باب سنن الفطرة: الختان واجب على الرجال والنساء، فالختان فعل من أفعال المكلفين (الرجال والنساء)، حكمه الشرعي: الوجوب، فلو لم تعرف معنى الوجوب لم تستفد شيئا من دراسة علم الفقه، وهذا يبين لك أهمية هذا القسم لدارس علم الفقه.
الفرع الثاني: أبواب هذا القسم، وأهم باب فيه.
- ذكر المؤلف ــ رحمه الله تعالى ــ أن القسم الأول فيه أربعة أبواب:
الباب الأول: الحاكم. الباب الثاني: حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه.
الباب الثالث: المحكوم عليه وهو المكلَّف. الباب الرابع: المحكوم فيه وهو فعل المكلَّف.
- قلب هذا القسم وأهم باب فيه هو الباب الثاني؛ لأنه يتكلم عن معنى الحكم الشرعي، وعن أقسام الحكم الشرعي؛ لذا نرى كثيرا من كتب الأصول اكتفت بالباب الثاني في هذا القسم دون بقية أبوابه([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn3)).
الفرع الثالث: وهو سؤال يطرح نفسه، إذا كان الباب الثاني هو قلب هذا القسمِ فلمَ لمْ يكتفِ بذكره وقسم القسم الأول إلى أربعة أبواب؟
الجواب: أنه قسمه لأربعة أبواب لسببين:
السبب الأول: حتى يستكملَ البناءَ المنطقيَ للموضوعِ؛ لأنه لا يتصور وجود حكم إلا بوجود حاكم ومحكوم عليه ومحكوم فيه،
- والمعنى أنه ما دام سيتحدث عن الحكم الشرعي، فالأولى أن يتكلم عن الذي حكم بهذا الحكم (الحاكم)، وعن الشخص الذي حُكِمَ عليه بهذا الحكم (المحكوم عليه)، وعن الشيء الذي حكم فيه (المحكوم فيه) وهو فعل المكلف.
السبب الثاني: أن بعض موضوعات علم الأصول الأنسبُ فيها أن تدرجَ تحت هذه الأبواب، ومثال ذلك مسألة: (شروط التكليف) أي متى يكون العبد مكلفا، متى لا يكون مكلفا؛ فإن الأنسب في هذه المسألة أن توضع في الباب الثالث: (المحكوم عليه أو المكلَّف)؛ لأنها تعنى بالمكلف نفسه.
- وهنا فائدة: وهي أن وضع العلوم في مظانها ــ أي في المواضع التي يظن القارئ ــ للوهلة الأولى ــ أنها فيها ــ من حسن التصنيف.
الفرع الرابع: العلة في ترتيب هذه الأبواب على هذا النسق.
- العلة في أن المؤلف بدأ بـ(الحاكم) ثم ثنى بـ(حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه) ثم ثلث بـ(المحكوم عليه أو المكلف) ثم ختم بـ(المحكوم فيه) العلة في ذلك: أن الحاكم (الله)هو الذي أصدر الحكم، فكان البدء به أولى؛ لأنه أصل الحكم، ثم كانت التثنية بـ(الحكم) والثليث بـ(المحكوم عليه)؛ لأن الحكم صدر من الله ثم وقع على المكلف، ثم كان الختام بـ(المحكوم فيه وهو فعل المكلف)؛ لأن المكلف بعد ما وقع الحكم عليه يبدأ في تنفيذ الحكم بالفعل أو بالترك، انظر مثالا لهذه العلة في ترتيب أركان الإيمان الذي جاءت في حديث جبريل([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn4))، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.


الباب الأول من أبواب القسم الأول

الباب الأول هو الحاكم، والكلام فيه يندرج تحت سبع مسائل:
المسألة الأولى: ترتيب هذا الباب والعلة في ترتيبه.
1- رتب المصنف ــ رحمه الله ــ الباب الأول ترتيبا رائعا، حينما بدأ بمن هو الحاكم؟ ثم ثنى بأن العقل ليس بحاكم، ثم ثلث بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاكم، ثم ذكر بعد ذلك أن الأدلة التشريع ــ غير الكتاب والسنة ــلاتعني أن ثمة حاكما غير الله، ثم ذكر أن المجتهدين ليس معنى أن لهم حق الاجتهاد في المسائل الدينية أو في الأمر المستجدة ليس معنى ذلك أنه حاكمون، ثم ذكر ثمرة الإيمان بقاعدة: (إن الحكم إلا لله).
2- والعلة في هذا الترتيب: أن المؤلف ــ رحمه الله ــ كأنما افترض حوارا صامتا مع القارئِ،
= فإنه لما عنون للباب باسم الحاكم، فكأنما سأله القارئ من هو الحاكم؟ فبين له أن الحاكم هو الله تعالى،
= ثم كأنه دار في خَلَد القارئ أن من مصادر علم أصول الفقه العقلَ السليمَ الموافقَ للفطرةِ؛ فكان سؤال هل معنى ذلك أن العقل حاكم؟ وكانت الإجابة من المصنف ــ رحمه الله ــ العقل ليس بحاكم،
= ثم كأنه دار في خلد القارئ أن من أدلة التشريع سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان سؤال هل معنى ذلك أن الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ حاكم؟ فكانت الإجابة من المؤلف ــ رحمه الله ــ الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ ليس بحاكم،
= ثم كان نفس الأمر مع بقية أدلة التشريع الأخرى، وكانت الإجابة من المصنف، الأدلة المختلف فيها لا تعني أن ثمة حاكما غير الله،
= ثم كأنه دار في خلد القارئ أيضا مسألة الاجتهاد، وأن الشريعة تعطي الحق للعلماء أن يجتهدوا في المسائل الدينية والأمور المستجدة؛ فكان السؤال هل المجتهدون حاكمون مع الله؟ وكانت الإجابة من المؤلف: المجتهدون أيضا ليسوا حاكمين،
= ثم كأن القارئ بعد ما اقتنع تماما بأن الحكم لله وحده، وأنه ليس ثَمَّ حاكم مع الله، سأل المؤلفَ، ما هي ثمرات وفوائد الإيمان بقاعدة (إن الحكمُ إلا لله)؟ فأجابه المؤلف بقوله: أثر فهم هذه القاعدة.
3- وهنا فائدة مهمة: ينبغي أن تعلم أن علماء الفقه والأصول أدق الناس في التصنيف حيث إنهم يفترضون حوارا صامتا مع القارئ ويرتبون الموضوع بناء على هذا الحوار، وهذا يظهر لك عند التأمل في سبب وجود باب الآنية في كتاب الطهارة مثلا([5] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn5)).
المسألة الثانية: الحاكم هو الله تعالى وحده
- ذكر المؤلف تحت هذه الفقرة كلاما مختصرا فيه الكفاية، ولكني ألخصه فأقول:
- استدل المصنف رحمه الله لهذه المسألة بالنقل والعقل، وإن شئت فقل: بالأثر والنظر؛
أولا: النقل أو الأثر؛ فاستدل بآيتين من كتاب الله عز وجل: قوله تعالى: ﮁﯶﯷﯸﯹ ﯺﮀ [الرعد: ٤١]وقوله سبحانه: ﮁﮈﮉﮊﮋﮀ[يوسف: ٤٠].
أما الأولى؛ فتدل على كمال حكم الله؛ لأنها تعني أن حكم الله نافذ لا يتعقبه أحد بنقض، عادل لا يتعقبه أحد بتغيير،
وأما الثانية؛ فتدل على انفراد الله بالحكم؛ لأنها تثبت الحكم لله وتنفيه عمن سواه بالنفي والاستثناء.
ومن انفرد بالحكم مع كون حكمه كاملا هو بحق الحاكم وحده، بهذا يبين وجه الدلالة من الآيتين على المسألة.
ثانيا: العقل أو النظر؛ فيتبين لك إذا علمت أن العقل يعطي حق التصرف والحكم لأحد ثلاثة:
أولهم: صانع الشيء؛ لأنه أخبر الناس به وأعلم الناس بما يصلح له وما لايصلح، هذا مع العلم أن صانع الشيء قد لا يكون له كامل التصرفِ فيه؛ لأنه من الممكن أن تكونَ الموادُ الخام لهذا الشيء الذي صنعه ملكا لغيره فينازعه هذا المالك شيئا من التصرف فيه أو الحكم عليه بقدر ما يملك منه،
- فما بالك إذا كان هذا الصانع قد أوجد هذه المواد من العدم؛ فإنه والحال هذه سيكون له حق التصرف الكامل وحق الحكم التام.
الثاني: مالك الشيء، واعتبر في هذا بالسيد وعبده؛ فإن للسيد كامل التصرف فيه، وليس للعبد إلا الطاعة التامة
الثالث: المربي للشيء القائم عليه، واعتبر في هذا بالوالد وولده؛ فإن للوالد الحكم على ولده، وليس للولد البار إلا أن ينفذ هذا الحكم ردا لجميل أبيه؛ لأنه هو الذي رباه وقام عليه في صغره.
- هذه الثلاثة مجتمعة لله تعالى، فهو ــ سبحانه ــ خلق الخلق وأنشأهم من العدم، وهو ــ جل وعلا ــ مالكهم ولا يملكهم أحد سواه، وهو ــ عز وجل ــ الذي يربي عباده بنعمه عليهم، وبناء عليه؛ فإن العقل يحكم ولا بد بأن الحكم لله وحده، وأنه ليس لغير الله حكم، وهذا ما أشار الله إليه بقوله: ﭽﮞﮟ ﮠ ﮡﭼ[الأعراف: ٥٤].
- وهنا فائدة: أن قضية الحكم تتعلق بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فاعتقاد أن الله هو الحاكم من الربوبية، والتحاكم إليه من الألوهية، ويستدل لهذا بقوله تعالى:ﮁﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﮀ [التوبة: ٣١] فمن شرَّع مع الله فقد جعل من نفسه ربا مع الرب سبحانه وتعالى، ومن تحاكم إلى هذا المشرع فقد اتخذه ربا لنفسه يعبده مع الله أو دون الله على حسب الحال.
المسألة الثالثة: العقل ليس بحاكم، والكلام في هذه المسألة يندرج تحت خمسة فروع:
الفرع الأول: معنى قوله: (العقل ليس بحاكم)، وهذا الفرع بينه المؤلف ــ رحمه الله ــ ص: [18] حيث قال ما معناه:
- إذا قدر العقل في الفعل المعين نفعا أو مصلحة، لكن الشرع لم يأمر به، فإن هذا الفعل لا يتعلق به ثواب أخروي،
- وإذا رأى العقل في فعل ما ضررا أو مفسدة، لكن الشرع لم يحكم بتحريمه، فإن هذا الفعل لا يتعلق به عقاب أخروي،
- والسبب في ذلك أن العقل ليس حاكما؛ إذ لو كان حاكما لتعلق بحكمه الثواب والعقاب الأخرويان.
الفرع الثاني: دليل أن العقل ليس حاكما.
- استدل المؤلف لهذه المسألة بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: ﮁﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﮀ[الإسراء: ١٥].
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﮁﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮀ[النساء: ١٦٥]،
ووجه الدلالة منهما: أنه لو كان العقل حاكما لحل التعذيب على الناس ولقامت الحجة عليهم قبل بعثة الرسل، فلما نفى التعذيب وقيام الحجة قبل بعثة الرسل ــ مع أن العقل موجود قبل بعثتهم ويحكم بحسن الأشياء وقبحها ــ دل ذلك أن العقل ليس بحاكم.
الفرع الثالث: مثال يوضح أن العقل ليس بحاكم.
- ضرب المؤلف مثلا بالخمر فإنه كان ضارا وامتنع كثير من العقلاء عن شربه لكن لم يصر محرما إلا بعد نزول القرآن بتحريمها. انظر الواضح ص: [19].
الفرع الرابع: هل معنى أن العقل ليس حاكما أنه ينتهي دوره إذا جاء حكم الشرع؟([6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn6))
الجواب: أن أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على قولين، والحقيقة أنه خلاف لفظي.
القول الأول: أن دوره ينتهي، وضربوا لذلك مثلا؛ فقالوا: العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي،
فإن العامي (أ) إذا عَلِمَ مفتيا ما ودل عاميا آخر عليه ــ العامي(ب) ــ وبيَّن له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي (أ) مع المفتي، وجب على العامي (ب) أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي (أ): أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض، قدحت في الأصل الذي علمت به أنه مفتٍ،
قال له العامي (ب): الرد عليك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أنت لما شهدت بأنه مفتٍ ودلَّلت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك.
الوجه الثاني: أن موافقتي لك في قولك إنه مفتٍ، لا يستلزم منها أن أوافقك في جميع أقوالك.
الوجه الثالث: أن خطأك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يلزم منه خطؤك في علمك بأنه مفتٍ.
هذا مع أن المفتي يجوز عليه الخطأ، أما حكم الله فإنه لا يجوز فيه الخطأ، فتقديم قول الله على ما يخالفه من استدلال عقلي، أولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يخالفه.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا الحكم حكم الله ووجد في عقله ما ينازع هذا الحكم، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه.([7] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn7)).
القول الثاني: أن دور العقل لم ينته بل دوره يبين في أمرين:
الأول: أنه يفقه عن الله أحكامه وأخباره، ويستنبط من آيات القرآن أحاديث السنة مراد الشارع عز وجل فيها؛ ولهذا فقد جعل الله عز وجل الحجة على العباد سمعية (الكتاب والسنة) وعقلية (فهم المراد من الكتاب والسنة)؛ فقال تعالى: ﮁﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﮀ[الملك: ١٠].
الثاني: أنه لايزال مراقبا للخلل الذي قد يعتري النقل ولكن دون إسراف العقلانيين الذين يردون الآية والحديث لأي شبهة عقلية([8] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn8))، وما قواعد علم مصطلح الحديث إلا نتاجا عقليا عظيما لم تعرف له البشرية مثيلا، وهو علم يراقب الخلل الذي قد يعتري النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- والخلاصة: أن الخلاف لفظي؛ لأن الجميع اتفقوا على أن العقل ليس له حكم، وأن دوره أن يفهم مراد الله تعالى، لكن الفريق الأول يتكلم عن دور العقل في التشريع، والثاني يتكلم عن دوره في الفهم عن الله.
الفرع الخامس: ثمرة هذه المسألة وفائدتها.
أن من يؤمن بأن العقل ليس حاكما ويعتقد معنى ذلك لا يمكنه أبدا أن يستحسن ما استقبحه الشرع أو العكس
- وخذ مثالا: منع زواج الصغيرة، وتحديد سن لزواج المرأة، فإنهم مهما استقبحته عقولهم ونفروا الناس منه، فإننا نقول لهم: ولكن الشرع لم يستقبحه.
- وكذلك الأمر في منع تعدد الزوجات، فإنه وإن وافق هوى النساء، فإن الشرع قد أجازه ولم يستقبحه، فليس لأحد كائنا من كان أن يستقبحه أبدا.
المسألة الرابعة: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاكم، وكلام المؤلف في هذه المسألة يندرج تحت الفروع التالية:
الفرع الأول: معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاكم أي أنه ليس مشرعا مع الله، ويستدل لهذا بقوله تعالى: ﮁﮈﮉﮊﮋﮀ[يوسف: ٤٠]، فهي نفي وإثبات، أي: الحكم لله، وليس لغير الله حكم، فهذا نفي لأن يكون الحكم لأحد غير الله تعالى.
- فإن قلتَ: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم، والدليل: قوله تعالى: ﮁﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﮀ[النساء: ١٠٥]، فنسب الحكم إليه، وهذا يعنى أنه يطلق عليه أنه حاكم.
قلتُ: بيان معنى هذه الآية في الفرع الثاني.
الفرع الثاني: للرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ دَوْرَان رئيسان: أحدُهما يشترط فيه مقام النبوة، والآخرُ لايشترط فيه مقام النبوة.
الدور الأول: أنه مبلغ ومذكر ومبين للتشريع،
دليل التبليغ: قوله تعالى: ﮁﮟﮠﮡﮢﮀ [الشورى: ٤٨]، ودليل التذكير: قوله تعالى: ﮁﯟﯠﯡﯢﮀ[الغاشية: ٢١]، ودليل التبيين: قوله تعالى: ﮁﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﮀ [النحل: ٤٤]
وهذا الدور يشترط فيه مقام النبوة؛ لأنه ليس لأحد أن يعرف حكم الله ابتداءً إلا أن يكون نبيا يوحى إليه؛ لأن حكم الله من الغيب المطلق ابتداءً، والله يقول: ﮁﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﮀ[الجن: ٢٦ – ٢٧].
الدور الثاني: تطبيق حكم الله على العباد، وبيان انطباقه على الوقائع المفردة، وإلزام الناس به، وهذا دور لا يشترط فيه مقام النبوة؛ لأنه لا بد للأمة ممن يطبق فيها شرع الله على العباد.
- وهذا الدور هو الذي يُفَسَّرُ به قوله تعالى: ﮁﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﮀ[النساء: ١٠٥] أي لتطبق حكم الله على الناس، وليس معناه تخويل النبي صلى الله عليه وسلم الحق في أن يحكم بما رأى من عند نفسه، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:ﮁﯚﯛﯜﯝﯞﯟﮀ[المائدة: ٤٩].
- وبيان ذلك: أن الحكم يطلق ويراد به معنيان: المعنى الأول: التشريع، والمعنى الثاني: التنفيذ.
- أما المعنى الأول، فهو حق خالص لله تعالى، لا يشاركه فيه أحد، وأما المعنى الثاني، فهو للبشر؛ لأنهم ينفذون حكم الله ويقومون بتطبيقه على العباد.
- إذا تبين لك هذا فينبغي أن تعلم ثلاثة أمور في غاية الأهمية:
الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم من وجه، وليس حاكما من وجه آخر، فهو حاكم بمعنى أنه منفذ لحكم الله، وليس حاكما بمعنى أنه ليس مشرعا مع الله تعالى.
الأمر الثاني: أن عدم تحقيق هذا المعنى ــ أعني أن الحكم يطلق على التشريع والتنفيذ ــ كان سببا في ظهور أول بدعة في الإسلام وهي بدعة الخوارج؛ فإنهم ظنوا أن الحكم بمعنييه (التشريع والتنفيذ) يدخل في قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله) وأن التشريع والتنفيذ حقان خالصان لله تعالى،
فكان ذلك سببا في خروجهم على علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ، وكفروا الصحابة وقالوا عنهم: حكموا الرجال وتركوا كتاب الله والله يقول: ﮁﮈﮉﮊﮋﮀ[يوسف: ٤٠]،
فرد عليه عبد الله بن عباس بقوله تعالى: ﮁﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﮀ[المائدة: ٩٥]، فهذا الله حَكَّم بعض عباده في بعض الأمور.
الأمر الثالث: أن الفارقَ الكبيرَ والبونَ الشاسعَ بين الحكمِ في النظام الإسلامي والحكم في النظام الديمقراطي كان سببه عدم تحقيق هذا المعنى أيضا؛ إذ إن النظام الديمقراطي يجعل التشريع حقا من حقوق البشر، وبناء عليه فقد قسموا هيئة القضاء إلى قسمين: هيئة قضاء تشريعية، وهيئة قضاء تنفيذية، أما النظام الإسلامي، فليس فيه إلا هيئة القضاء التنفيذية؛ لأن التشريع في النظام الإسلامي حق خالص لله تعالى كما سبق.
الفرع الثالث: تعقيب على كلام المؤلف ص: [20].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: {ومن هنا كانت السنة دليلا شرعيا لا من حيث إنها صادرة عن محمد صلى الله عليه وسلم لذاته، بل من حيث إنها دالة على أحكام الله تعالى}.
قال أبوأسلم عفا الله عنه: اعلم أن السنة من حيث منبع صدورها اختلف فيها أهل العلم على أقوال ترجع كلها إلى قولين أساسين:
القول الأول: إن السنة كلها وحي من عند الله تعالى، واستدلوا بأدلة:
- منها قوله تعالى: ﮁﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﮀ[النجم: ٣ – ٤]، ووجه الدلالة منه أن كل ما ينطق به الرسول مما ينسبه إلى الدين فهو وحي من عند الله تعالى.
- ومنها حديث عائشة رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: " خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ ، أَمَا وَالله مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ؟ قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِي وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى، وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ الله ، إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ : كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ : فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ"([9] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn9)).
القول الثاني: أن من السنة ما هو وحي من الله ابتداء، ومنها ماهو اجتهاد أقر الله نبيه عليه.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
- قوله تعالى: ﮁﭑﭒﮀ [عبس: ١]، ومنها صلاته على المنافقين، ومنها حكمه في أسارى بدر، قالوا: فكل هذه الوقائع تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد من عند نفسه، فإن أصاب أقره الله تعالى، وإن أخطأ صوبه الله تعالى.
- واستدلوا من السنة بحديث أبي هريرة في خطبة حجة الوداع، وفيه: (فقال العباس: يارسول الله إلا الإذخر؛ فإنا نجعله في بيوتنل وقبورنا، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: إلا الإذخر) متفق عليه.
قالوا: فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من المصلحة إجابة العباس إلى إباحة قطع الإذخر، وهذا اجتهاد منه أقره الله عليه.
وعلى كل حال، فإن السنة حجة على كلا القولين؛ لسببين:
الأول: أن السنة على كلا القولين وحي من الله إما ابتداء، وإما تقريرا.
الثاني: أن كلاً من النوعين (الابتدائي والتقريري) اختلط في الآخر بحيث لا يستطيع أحد أن يميز بينهما؛ لأنه لايمكن لأحد أن يميز بين الوحي وبين الاجتهاد في كل واقعة تكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فقد كان الصحابة يحتجون بالنوعين دون تفريق.
المسألة الخامسة: الأدلة المختلف فيها لا تعني أن ثمة حاكما غير الله.
الكلام في هذه المسألة يندرج تحت ثلاثة فروع:
الفرع الأول: إدراجه الإجماع والقياس تحت الأدلة المختلف فيها فيه نظر شديد؛ لأن الإجماع حجة باتفاق أهل السنة والجماعة، وأما القياس، فهو حجة عند جمهورهم، ولم ينكره إلا الظاهرية على أنه قد ثبت عن بعضهم الاستدلال به في كثير من المسائل؛ لذا فإنني أقترح أن تسمى هذه المسألة: بقية أدلة التشريع لا تعني أن ثمة حاكما غير الله تعالى؛ ليدخل فيها الأدلة المتفق عليها والأدلة المختلف فيها.
الفرع الثاني: مراده من هذه المسألة أن يبين أن بقية أدلة التشريع ليست نقلا للسطة التشريع لغير الله بل هذه الأدلة علامات وأمارات على أن حكم الله في هذه المسألة هو ما دلت عليه هذه الأدلة، ويتبين لك هذا عند الحديث على الإجماع كمثال لهذه الأدلة في الفرع الثالث.
الفرع الثالث: الأدلة الدالة على أن اعتبار الإجماع دليلا من أدلة التشريع ليس معناه نقل سلطة التشريع إلى المجمعين أو إلى الأمة وهي:
أولا: أنه ما من مسألة أجمع عليها أهل العلم، إلا ولهذه المسألة دليل من الكتاب والسنة علمها من علمها وجهلها من جهلها، قال ابن تيمية: (ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص)([10] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn10))
ثانيا: أن الله عز وجل حكم بعصمة الأمة حال اجتماعها، وهذا يدل على أنهم لو أجمعوا على حكم مسألة ما أن هذا الحكم هو حكم الله؛ لأنه عصم إجماعهم من الخطأ.
ثالثا: أننا لو قلنا: إنهم مشرعون لأجزنا لهم أن يجتمعوا ويؤلفوا أحكاما من عند أنفسهم، لكننا نشترط لاعتبار إجماعهم حجة أن يكونوا مجتهدين وأن يلتمسوا دليل المسألة من الكتاب والسنة.
المسألة السادسة: المجتهدون أيضا ليسوا حاكمين.
الكلام في هذه المسألة يندرج تحت فرعين اثنين:
الفرع الأول: معنى أن المجتهدين ليسوا حاكمين.
- المجتهد إذا استنبط حكما في مسألة اجتهادية، فهذا لا يعني أنه حاكم، وإنما هو مخبر عن أنه يظهر له أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا وكذا مما أخبر به.
الفرع الثاني: الأدلة الدالة على أن المجتهدين ليسوا حاكمين:
أولا: أن كل مجتهد محكوم عليه في اجتهاده ألا يجتهد إلا فيما يحتمل الاجتهاد؛ فإنه لا اجتهاد مع النص.
ثانيا: أن كل مجتهد محكوم عليه في اجتهاده أن يرجع إلى نصوص الوحيين ويُعْمِلَ فيها فكره وعقله.
ثالثا: أن شرع الله حكم على المجتهد أن يعمل في خاصة نفسه بما غلب على ظنه أنه الحق، وحكم عليه أن يفتي به من استفتاه، وألا يلزم به مجتهدا آخر.
المسألة السابعة: أثر فهم قاعدة (إن الحكم إلا لله).
- تحقيق الإيمان بقاعدة: (إن الحكم إلا لله)، وترسيخ فهمها في القلب له ثمرات وفوائد عديدة من أهمها:
1- تحري الحق والرجوع إلى الكتاب والسنة قبل الإقتاء.
- من ثمرات الإيمان بهذة القاعدة أن يكون المتكلم في بيان الأحكام الشرعية متثبتا فيما يقول؛ لأنه حينما يخبر أن شيئا ما حرام أو حلال أو واجب، فإنه يخبر أن الله حكم على هذا الشيء بهذا، فيحمله هذا على الرجوع إلى الكتاب والسنة وطلب الدليل المثبت لما يقول منهما([11] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn11)).
2- لا إلزام إلا بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما وافق ذلك.
- من ثمرات فهم هذه القاعدة أيضا أن نفهم أننا لسنا ملزمين بقول أي قائل وإن نسب هذا القائل كلامه إلى الشرع، ما لم يأت بالدليل الذي يثبت أن هذا القول من الشرع([12] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn12))،
وحقيقة الأمر أن هذه الثمرة صياغة أخرى لقاعدة: (إن الحكم إلا لله)؛ فقوله: (لا إلزام) يقابلها في القاعدة (إن الحكم)، وقوله: (إلا بكلام الله وكلام رسوله) يقابلها في القاعدة: (إلا الله)؛ لأن الرسول ــ كما سبق ــ لا يحكم إلا بحكم الله.
3- رد كل خلاف بين المسلمين إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم([13] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftn13)).
- من ثمرات فهم هذه القاعدة وفوائدها أن يُرَدَّ كل خلاف بين المسلمين إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الحاكم من أدواره الرئيسية أن يحل النزاع بين المتخاصمين، والقاعدة تقرر أن الحاكم هو الله وحده، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﮁﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﮀ[النساء: ٥٩].
- وهذا من ثمرته أن يضيق فجوة الخلاف بين المسلمين، ويقلل تحكيم الرأي والهوى.


تعقيبان على كلام المؤلف رحمه الله في الفقرة الأخيرة

التعقيب الأول:
قال المؤلف رحمه الله تعالى ص[21]: {فإن الشرع لايثبت بأقوال الرجال}
قال أبو أسلم عفا الله عنه: صدق المؤلف رحمه الله؛ فإنه من المعلوم أن أقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها، ولكن ينبغي أن تدرك أمرين في غاية الأهمية:
الأمر الأول: ليس معنى قولنا: (إن أقوال الرجال يحتج لها ولا يحتج بها) أنهم (رجال ونحن رجال) بل (هم رجال ونحن عليهم عيال)؛ لأن هذا الدين إنما حفظ بفضل الله أولا ثم بفضل هؤلاء العلماء ثانيا، ولأن فضل الواحد منهم على الأمة جميعا كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
- وليس معنى أننا نقدرهم ونحفظ جميلهم علينا أن نقدم أقوالهم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فالأمر كما ترى بين تفريط وإفراط، فنسأل الله أن يجعلنا أمة وسطا بين الأمم.
الأمر الثاني: ليس معنى قولنا: (إن أقوال الرجال يحتج لها ولا يحتج بها) أن أقوال العلماء إن خالفت الدليل تكون بلا قيمة أو تصبح بلا أهمية، لا!
- وذلك لأن العلماء المعتبرين لا ينسبون إلى الله حكما إلا وقد انقدح في أنفسهم دليل يدل على هذا الحكم،
فإن كان هذا الدليل ضعيفا أو مردودا رد القول على صاحبه، ولكنك قطعا تستفيد من استدلال العالم بهذا الدليل، وأضرب لك مثلا يوضح هذا:
- فأبو حنيفة عندما قال بعدم اشتراط الولي في صحة النكاح؛ لأنه لم يصل إليه قول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)، فإنه لم يقل هذا القول؛ لأنه لم يصله الدليل فحسب، ولكن دل دليل عنده على صحة الزواج بدون الولي وهو البراءة الأصلية أي أن الأصل في العادات الحل حتى يحرمها الشرع، وهو لم يصله الدليل الذي يثبت التحريم،
- فستفيد أنت من دراسة هذه المسألة أن البراءة الأصلية حجة في الشرع وأن الأصل في العادات الحل حتى يحرمها الشرع، ثم إنك تلتمس العذر لأبي حنيفة؛ لأنه لم يخالف الدليل عن هوى.
- لذلك ينبغي عليك حتى تدرس الفقه دراسة متقنة أن تعرف دليل كل قول، وإن كنت تراه ضعيفا.
التعقيب الثاني:
قال المؤلف رحمه الله تعالى ص [22]: {فإن كان القائل ذا سلطة شرعية تنفيذية كالقاضي والأمير وقائد الجيش ونحوهم، وأخذ برأي معين في مسألة خلافية بالنسبة إلى واقعة معينة، وجبت طاعته في تلك الواقعة ما لم يخالف نصا شرعيا أو أصلا صحيحا، والدليل قوله تعالى: ﮁﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﮀ[النساء: ٥٩] فنطيعه، وإن كنا نرى أنه مخطئ، ويكون ذلك حفظا لنظام الجماعة}.
قال أبو أسلم عفا الله عنه: في هذه الفقرة عدة فوائد:
الفائدة الأولى: قوله: (سلطة شرعية تنفيذية).
- سبق أن السلطة الشرعية تنقسم إلى قسمين: الأولى تشريعية، والثانية: تنفيذية. فالأولى حق خالص لله وحده، والثانية دور من أدوار البشر.
الفائدة الثانية: قوله: (وجبت طاعته في تلك الواقعة ما لم يخالف نصا شرعيا أو أصلا صحيحا) واستدل بقوله تعال: ﮁﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﮀ[النساء: ٥٩].
قلت: وجه الدلالة من الآية أنها ذكرت الطاعة مطلقة مع الله، وذكرت الطاعة مطلقة مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تذكرها مطلقة مع أولي الأمر، بمعنى أنه قال: (ﯸﯹ)، ثم قال: (ﯺﯻ)، ولم يقل: (وأطيعوا أولي الأمر)، وإنما عطفها بدون ذكر الطاعة؛ فقال: (ﯼﯽﯾ)؛ لنعلم أن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم غير مقيدة بشيء، بخلاف طاعة أولي الأمر، فإنها مقيدة بعدم معصية الله ورسوله.
الفائدة الثالثة: قوله: (فنطيعه، وإن كنا نرى أنه مخطئ، ويكون ذلك حفظا لنظام الجماعة).
قلت: طاعتك للقاضي أو الأمير فيما ترى أنه مخطئ فيه في المسائل الاجتهادية، تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: طاعة واجبة، فيما إذا كانت مخالفته تهدم النظام العام الجماعي،
- ومثال ذلك: سجود الإمام للسهو في موضع لا ترى فيه سجود السهو، فإنه يجب عليك متابعة الإمام، وإن كنت ترى أنه مخطئ؛ حفاظا على النظام الجماعي للصلاة.
- وقد يستدل لهذا القسم، بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [4269] من حديث قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته كانوا يصلون بمكة ومنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعا، فبلغ ذلك ابن مسعود فاسترجع، ثم قام فصلى أربعا، فقيل له: استرجعت ثم صليت أربعا؟ فقال: الخلاف شر.رواه أبو داود في سننه [1960] من حديث عبد الرحمن بن يزيد.
القسم الثاني: لا تجب فيه الطاعة، بل الذي يجب والذي ينبغي أن يفعل المرء فيه ما يعتقده ويدين لله به، وهو ما إذا كانت مخالفة القاضي أو الأمير فيه لا تكسر النظام العام الجماعي.
- ومثال ذلك: أن تعقتد أنت وجوب قصر الصلاة في مسافة هي عندك سفر، ويرى قاضي بلدتك أو أميرها أن هذه المسافة لا تعد سفرا، فإنك إن قطعت هذه المسافة، فإنه يجب عليك أن تقصر الصلاة حتى وإن صليت إماما بجماعة فيهم القاضي أو الأمير؛ لأن مخالفة الأمير في هذه الحال لا تَكْسِر النظام العام، وليست خروجا عن الجماعة.


انتهت المحاضرة الثانية والحمد لله الذي بنعمته تمم الصالحات.


([1])انظر العنصر الخامس من عناصر المحاضرة الأولى.

([2]) انظر كتاب الواضح ص: (12، 13).

([3]) انظر متن الورقات للجويني بشرحه للشيخ عبد الله الفوزان ص: (40: 54)؛ فإن الجويني اكتفى بذكر حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه.

([4])انظر اللألئ البهية في شرح العقيدة الواسطية لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ (1/109، 110) طبعة دار العاصمة.

([5]) انظر الشرح الممتع (1/68).

[6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=60#_ftnref6))) هذا الفرع ليس للمذاكرة ولكن للقراءة المتأنية؛ لأنه فرع في غاية الأهمية.

([7])معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (ص: 96) بتصرف وزيادات.

([8]) الواجب على المسلم أن يتأدب مع نصوص الكتاب والسنة الصحيحة ولا يعترض عليها، وإن خالفت العقل في الظاهر، واعتبر في هذا بالصحابة رضي الله عنهم في موقفين: الأول: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، الثاني: (اسق أخاك عسلا).

([9])رواه البخاري (4579)، ومسلم (2172).

([10]) مجموع الفتاوى (19/195).

([11]) انظر كتاب الواضح ص: 21، وكتاب البيان المأمول ص: 38

([12])انظر كتاب الواضح ص: 21، وكتاب البيان المأمول ص: 39

([13])انظر كتاب البيان المأمول ص: 39.