المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (الْإِضْـفَــاء مِنْ سَـابِغَــةِ الوَطْفَــاء



أهــل الحـديث
27-06-2012, 01:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




(الْإِضْـفَــاء مِنْ سَـابِغَــةِ الوَطْفَــاء)




الحَمدُ للهِ الذي جعلَ أرواحَ الأحبة نظائرَ وأجنادا , وأطال ليل المحبينَ شوقاً وتسهادا, وجعل الجنَّةَ للمتحابين فيه ملتقىً وميعادا , وأشهد أن رحمته للعالمين محمداً عبدهُ ورسولهُ أنقى وأطهرُ العالمين إصداراً وإيرادا , صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آل بيته وصحابته والتابعين صلاةً وسلاماً دائبين لا يزيدُهما الدهرُ إلا بقاءً ونماءً وإخلادا , أما بعد:
فقد أكرمَ الله تعالى كاتبَ هذه السُّـطور , بأن كانَ حينَ هُطُول وطفَاء مكَّـةَ أوسَطَ الحُضُور , وأكثَرَهم فخراً وأنساً وتعطُّفاً بالحُبور والسُّرُور , دخَلتُ مسجدَ التَّنعيم وقد قضى النَّاسُ صلاةَ المغربِ فجلسُوا انتظاراً لوقت المحاضَرة المَعلُوم , خفَّاقَةٌ قلوبُهم شوقاً وفرَحاً رغم ارتفاع درجة الحرارة وازدحام الطريق للمسجد وامتلاء مواقف السيارات , لكن لذَّة لقاء محبوبهم طغت على ذلك التكدير فجعلتهُ كالرَّميم, وكأنَّ ابنَ زيدُون عناهم بقوله:


الهَوَى في طُلـُوعِ تِلـْكَ النّجُومِ ** وَالمُنَى في هُبـُوبِ ذاكَ النّسِيمِ
سرّنَا عـيشُنَا الرّقيقُ الحـواشِي ** لَوْ يَـدومُ السّرُورُ للـمُسْتَدِيمِ

جلسَ المحبُّون والمُريدُون في انتظاره سُراةً يؤملُونَ طلُوعِ البدر وبُزُوغَ الفجرِ , ومُجدِبينَ يرتَجون ضحكَ السماء بانهمَال القَطر ؛ فما زالوا كذلك حتى حانَ وقتُ الصَّلاة فدَخَلَ حَادي الوطفَاء وهادِيها , وحامي البلاغة وراعيها , الشَّيخُ/ عليُّ بنُ عبد الخَالقِ القرَنيِّ أو سحبَانُ وَ قُسُّ (مُجتَمعَينِ) على الصَّحيح عند أهل الذَّائقَة والنَّظَر.!
أقيمت الصَّلاةُ وسلَّم النَّاسُ منها , وقدَّم أحدُهم للشيخ والمحاضَرة (الوطفاءِ) , وشفعَ تقديمَه بطلب الشيخِ الدَّائم في تشنيعه وتحريجه على من يلتقطُ له صورةً أو يسجِّلُ المحاضَرةَ , ولا أحسبُ من الجالسينَ أحداً إلا استجابَ إكراماً للشَّيخِ وإجلالاً , ولأنَّ التَّصويرَ لو كانَ من عُرى الدِّين الوثقَى لما جَازَ الإكراهُ عليهِ ؛ فكيفَ وهُو متردِّدٌ بين الإباحة والتَّحريم.؟
وانفضَّ المُصلُّونَ متحلّقينَ حولهُ ومحيطينَ به كإحاطة القلادة بالجِيد , حتى استبانَ لي بوضوح حينئذ معنى قول الشاعر:

تهافَتَتِ الدُّنْيا عَلَينَا فَأَقْبَلِتْ *** حُشودٌ تَوَالتْ في الدّيار زَوَاحِفُ

أخذَ الشَّيخُ مكانهُ , واعتَلى صهوةَ العرَبيَّـة , فمُدَّت إليه أعناقُ البديعِ , وخرَّت بين يديهِ عصيَّاتُ المعاني , وجَوامحُ الكَلمِ وجَوامعُه فأسرجهنَّ فجرينَ بأمره حيثُ أصابَ, وحمدَ اللهَ و أثنى عليه بما هو أهلهُ , وصلى على الرحمةِ المُهداةِ والنعمة المُسداة والديمةِ الساقية الدَّائمةِ صصص , وأطال وأحسَن وأبدعَ في ذلك ثمَّ ثَنَّى بالثَّناء وكيل المديحِ الصَّادقِ الخَالص لخُلفاء الأمَّة الأربعة الراشدينَ الهُداة المهديين, رررم وأرضَاهم ومن أحبَّهم وتولاَّهُم , وكان من حسَن ما قال فيهم بعد صلاته على رسول الله:

وَعَلَى أبي بكرٍ فقَـد سبَقَ الوَرَى *** فَضلاً وتَـسليماً لهُ مُذ أسـلَما
وعَلى الفَـتى عُمرَ الذي بِجِهاده *** في الله حلَّ بـسيفهِ ما استـبهَما
وعَلى شَهيد الدَّار عُثمـان الذي *** من (فضله) استَحيتْ مَلائكَةُ السَّما
وعَلى أبي السِّبطَين حيدَرةَ الذي *** ما زال في الحربِ الهِزَبْـرَ الضَّيغَما

ثمَّ حيَّا الحُضور بين يديه بقوله المتدفِّقِ عُذوبةً وحلاوةً وطَلاوةً , ومنهُ:
يا نفوساً أحسبُها نقيَّة , وذمماً وفيًّة , وهمماً عالية , وقيما غالية , وليوثا عادية , وشموشاً مضيئة , ووجوهاً وضيئة:


لكم مـني التحية والسلامُ *** وحُبِّـي أيها الشُّـمُّ الكِرامُ
سلامٌ يُسـتهلُّ به الكَـلامُ *** ومن أدَب المُحاضَرة السَّلامُ
تُحيِّيكُم بهِ من قبل لفظي *** عواطفُ في الضَّمير لهَا ارتِسَامُ

وكان مما قال فيهم: لا هِيضَ جناحُكُم , ولا رَكَدت ريَاحُكُم , ولا عاشَ من يَشنَاكُم , سدَّد الله خُطَاكُم ورُؤاكُم, وكفاكُم كيدَ من كادَ لكُم ووقَاكُم.
ثمَّ شرَع في بيان حال زمَننا , وذكَّر بعلاج القرآن للغُرور بالقوة والمادة مع خَواء الروح وانقطاع أسباب السماء , وسرَد نماذجَ ما ضيةً وحاضرةً لقُوىً خارت وحارت فكانت عُروشُها وصياصيها أهونَ من بيت العنكَبوت وعشِّ الحَمامة لأنهم حسبُوا المادَّة والقوة المحسوسة تكفي من كل عاصمة وقاصمة , وأومأ تمثيلاً ببعضِ الجبابرَة الذين ضربت عليهم الأيامُ الذلةَ والمسكنة فرأيناهم أذلةً صاغرينَ , لتَصلَ الأمَّـةُ جمعاءَ إلى أنَّ التَّـتَرُّسَ بالقوَّة في معالجَة الحقِّ وأهلِهِ طَريقٌ لا تُفضي لغير الخزيِ والنَّدَامَة ففف فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ققق وتدبَّروا الآيات السَّابقة لهذه الآية.

ثمَّ تناوَل طاغية الشَّام الذي خلعَ عليه وصفَين هو بهما حقيقٌ رقيقٌ فقال عنه (صبيُّ المجوسِ , وحَامي حُدود بني صهيون) واستعجَب من تنادي فُلول ابن سبإٍ وابنِ سَلول , وركوبهم كلَّ صعبٍ وذَلول , من أجل الحيلُولة بين النَّاسِ وبين حُكمهم وسِيَاسَتهم بهُدى الله وهُدَى الرَّسُول:


عَليهم وُجوهٌ أراقَ النِّفَـاقُ ** معالمَها وأضَاع الأنُـوف

ثُمَّ عادَ الشَّيخُ لقَناعَته التي أقسَم عليها ولا يَزالُ وسيَظَلُّ يُقسم عليها يميناً برَّةً لا حنثَ فيها ولا تكفيرَ , ويُعلنُها كما يقول (صادعةً جهيرةً , وساطعةً شهيرة) فيقول: والذي رفعَ السَّبعَ , وفجَر النَّبع , لن تُضمَّد الجِراح , ويتمَّ الإصلاح , ويُنال الفلاحُ, حتى يحكُمنا وحي الله.
وابتدأ الشَّيخُ في غَرض المحاضَرة الأصيل , وهو الحديث عن شمائل وأخلاق الرَّسول صصص التي يقول عنها (أهنأ من الخصب بعد الجدب , والسِّلم بعد الحَرب , وأشهى من الشَّهد , وأندى من الورد) ويعترفُ بعجزه عن فكاك أسرها له فيقول إنه: (لا يزالُ مديناً له , يشتمُّ أزهارَها , ويُداعبُ هزَارَها , ويتعاطَى راحَها , ويُسيغُ قَراحَها) , وقد خصَّص لنا ليلتهُ تلك للحديث عن رحمته صصص بالبشر والبهائم والموالف والمخالف , والمسالم والمحارب , بل ومن عاش في عصره , ومن سبقهُ , ومن يأتي بعدهُ , حتى استَبانت لنا حقيقة العموم في قول الله تعالى ففف وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ققق
ووصف لنا ديمته الهطَّالةَ (الوطفاء) بجميلِ أوصَافٍ أشغَل تتاليها وجَمالُها ببعضِها عن البعضِ الآخَر , ومن جميل غزَله بوطفائه:

فلم أرَ مثلي شَاقَهُ صَوتُ مثلِها ** ولا عَربياً شاقَهُ صَوتُ أعْجَمي


وفسَّر لنا معنى (الوطفاء) وأنها السَّحابةُ المُثقلَة بالماء , واستشهدَ على ذلكَ بقولهم:

وقفنا ببابِ الجُود والكَرَم الذي ** غمامتهُ وطفاءُ عائدهُ وبْـلُ

وأخبرَ أنَّ وطفاءَ ليلتئذٍ فائقَةٌ كل وطفاء , لأنها في خلقِ خير الأنبياء , صصص الذي تقول عنه (الوطفاء):

رَسولُ الله أعلى الخَلقِ قدراً ** وأرحَمُهم وأرحبُهم فناءً

ثم فسَّر مسيس الحاجة للاستهداء بسيرته صصص فقال:

متى كُنا بداجيَةٍ وتاهَت ** قوافلُنا فسيرتُه الدَّليلُ

وأبرقَ الشَّيخَ وأرعَدَ واستهطَل وطفاءَهُ حُروفَ الصَّـاب والخَردَل , والعلقَم والجندَل , والسُّم والحنظَل , ليذمَغَ بها رؤوسَ الضَّلالة ومجاريَ الإلحَاد , من كلِّ مكابرٍ لئيم ومعتدٍ أثيمٍ زنيمٍ يتطاولُ بفيه وقلمه على الله ورسوله صصص وصحابته الكرام , وهَجَاهُم بما لو وعتهُ آذانهم وقلوبُهم لاستطَابوا الموتَ على الحياة , والفناءَ على الوجود , والنَّارَ على العار , ولكنَّهم لا يشعُرونَ.
ومن بديعِ ما خلعَ عليهم مما هُم لهُ أهلٌ , قوله سدَّد الله مقاله وحالَه وفِعَالَه:
الشَّتمُ لمَّا أن شَتمتُكَ قال لي ** يا مَن يُشاتِمُـني بمَن هُـوَ دُونِي.!

وعرَّج بحديثهِ ووطفائهِ على أهلينا في الشَّام فبَكى وأبكى واستعبَر وأعْبَر , وقال فيهم:

تمنّـَيتُ أني أفتديهم بمُجَتي ** وأحمِلُ ما قد حُمِّلوا فَوقَ عاتقي


ثُمَّ تكلَّم عن رحمته صصص واصفاً إياها بقوله البليغ (كعمُود الصُّبح , مبنيةٌ على الفتح , وغنيَّةٌ عن الشَّرح) :

كشمـسٍ لا يـمُرُّ بها أصـيلُ ** يسـيرُ بإثرها جـيلٌ فجيلُ

تجري الأمور على القياسِ وأمرُها ** بيـنَ الأمور جَرَ بغَير قيَاسِ

ثمَّ استرسَل واستهطَل وباتت الوطفَاءُ تسقي قُلوباً هشَّت للسيرة ورَبَت واهتزَّت , ولا يمكنني الزَّعمُ بالقدرة على تقييد ما سَردَ وقَال لأني بقيتُ أطرَبُ وأعجَبُ وأهتزُّ وأحنُّ حتى انتهى من محاضرته , فحسبتُني المقصودَ بقول القائل:

كما اهتَزّ في كَفِّ النَّسائمِ مائلُ

وخَتَم الشَّيخُ المحَاضَرة بالإكثار من التحفيز والإسماع لاستنصار أهل الشَّام المغَاوير حاثاً على أن يقفَ كل سامع من نكبَتهم موقفَ صدقٍ تثبُت به قدَمَاه بين يدي الله , الغنيُّ بمالهِ , والداعي القانتُ بصالح دعائه , كلٌّ حسبَ ما آتاه الله , وكانت خاتمتُهُ ررر رائعةً جداً في الحبك والسَّبك وليتني استطعتُ نسخَها كما هيَ ووضعَها للناظرين.

وسيُعيد الشيخُ محاضرته الليلة في جدة , فلمن شاءَ منكم أن يستقيم أن يبكِّرَ في الحاضرينَ , أو ينتظرَ خُروجَها بحَول الله.


أبو زيدٍ الشنقيطيُّ
جدة – فجر الاثنين 5 /8 /1433هـ