المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحرير مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة إيجاب الشورى على الإمام



أهــل الحـديث
21-06-2012, 02:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم
اقتضت ظروف عدة مرت بها الأمة في القرنين الأخيرين أن تبرز مسألة الشورى وتجعل في صدارة مسائل السياسة الشرعية ، وكانت مسألة حكم مشاورة الإمام للرعية أو لأهل الحل والعقد من المسائل التي بحثها المعاصرون ، هل هي واجبة أو مندوبة ؟ ولما جرت العادة في أن ينظر في كلام الفقهاء السابقين عند البحث في هذه المسائل ، نسب بعض المعاصرين إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقول بوجوب الشورى على ولي الأمر في كل ما لم يرد به نص ، ويستدلون لذلك بقوله في السياسة الشرعية : " ولا غني لولي الأمر عن المشاورة ".
ومقصودي من هذه الورقة تحرير مذهب شيخ الإسلام في هذه المسألة ، فأقول – وبالله التوفيق - : هذه النسبة المذكورة لابن تيمية غير دقيقة ، ومن كلامه الذي يدل على خلاف هذا قوله في منهاج السنة ( 8 / 273 ) : " الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات:
فإن كان الحق فيها بينا أمر به .
وإن كان متبينا للإمام دونهم بينه لهم ، وكان عليهم أن يطيعوه .
وإن كان مشتبها عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم .
وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له .
وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتبع في اجتهاده، إذ لا بد من الترجيح، والعكس ممتنع " .
فلو كانت الشورى واجبة على الإمام في جميع الأحوال ، لما صح هذا التقسيم ، ولما خص شيخ الإسلام الشورى بحالة اشتباه الحكم ، ولكانت الشورى واجبة على الإمام حتى في الحالة التي يتبين له فيها الحق دونهم .
فإن قيل : إن تبيين الإمام رأيه لأهل الحل والعقد من الشورى ؟
قيل : هو ليس كذلك عند شيخ الإسلام ، لأنه يفرق بين مناظرة المشاورة ومناظرة المجادلة ، وهذا القسم من مناظرة المجادلة لا المشاورة ، يقول : " وفرق بين المشاورة والمعاونة التي مقصودها استخراج ما لم يعلم وبين المجادلة التي مقصودها الدعاء إلى ما قد علم " ، وهذه الصورة الثانية مقصودها الدعاء إلى ما علم لا استخراج ما لا يعلم .
ومن كلامه الذي يدل – أيضاً – على عدم وجوب الشورى في جميع الأحوال عنده ، أنه يرى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يول عمراً عن شورى لأنه لم يحتج إليها ، قال رحمه الله في منهاج السنة ( 6 / 142 ) : " فكان ما فعله من الشورى مصلحة ، وكان ما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - من تعيين عمر هو المصلحة أيضا ؛ فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى ، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين ، فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياً أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له " .
فلو كانت الشورى واجبة على الإمام على كل حال ، لما صح لشيخ الإسلام ما ذكره عن أبي بكر من أنه لم يشاور في شأن العهد إلى عمر ، وأنه لم يكن محتاجاً لذلك .
ويستفاد من كلام شيخ الإسلام هنا أن وجوب الشورى عنده – بناء على فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – إنما هو عند الاحتياج لها لتحقيق مصلحة المسلمين ، فلما كانت المصلحة حاصلة بدون الشورى لم يشاور أبو بكر ، ولما كانت لا غير حاصلة إلا بالشورى شاور عمر ، والله تعالى أعلم .
ومما أستأنس به إلى أن هذا هو المناط – أعني تحقيق المصلحة - عند شيخ الإسلام قوله في العقل والنقل ( 7 / 174) في سياق بيان ما يذم وما يمدح من المناظرة : " والمقصود أن السلف نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة ، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.
وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى.
وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها: محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل " .
ولما كانت المشاورة في حقيقتها ضرب من المناظرة ، لأن المناظرة عند شيخ الإسلام - كما تقدم – مناظرة مجادلة ومناظرة مشاورة ، صح إجراء هذه الأحكام على المشاورة .
ولتعرف البون بين كلام شيخ الإسلام وبين تقريرات كثير من المعاصرين في هذه المسألة ، حسبك أن تعلم أن ما قرره من عدم مشاورة أبي بكر رضي الله عنه هو عندهم تعطيل لقوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم " ، وأبو بكر أبر وأتقى من أن يعطل هذه الآية – كما يقولون ( 1 ) - .
أما قول شيخ الإسلام : ولا غنى لولي الأمر عن المشاورة ، فهي عبارة دقيقة أساء المعاصرون فهمها ، وأبين الفرق بين فهمي لكلام شيخ الإسلام – المتناسق مع ما مضى - وفهم المعاصرين بمَثَل فأقول : فرق بين قولي لك : لا غنى لك عن النوم ، فتفهم من ذلك وجوب قدر معين عليك من النوم تزول معه حاجتك وتقوم به حياتك ، وبين قولي لك : لا غني لك عن النوم فتفهم من ذلك أنه يجب عليك أن تنام مطلقاً على جميع الأحوال ، مع الحاجة ودون الحاجة فتمكث نائماً ليلاً ونهاراً لأنه لا غنى لك عن النوم !
والحمد لله رب العالمين

_________________
(1) هذا كلام الأستاذ عبد القادر عودة – رحمه الله تعالى – في كتابه الإسلام وأوضاعنا السياسية ص113 .