المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هـــــــــــــنــــــــــ ـــد ...



aa11
20-09-2005, 11:33 AM
تقاسمنا نصف لغة المدينة، واحتفظ كل منا بنصفٍ آخر.. مختلف..!

وعلى مهل.. تعلمتُ مع هند كيف أكتفي بأنصاف اللغات.. مرتكباً نصف وهم آخر يقنعني أني أمتلكها جميعاً، ترويضٌ ناعم العبور.. تسلَّلَت به امرأةٌ لا تعرف الرجال جيداً.. إلى حيث الزاويا الأخيرة من أحدهم، حيث يُخبِّئ أنانيته الأثيرة.. وبضع تعاويذ سادية يتمتم بها على مسامع النساء العابرات في طريقه..

في البدايات دائماً تُلقِي التجاربُ حكمتها.. وليس في النهاية كما نظن!، منذ الوهلة الأولى وأن أجدها امرأةً عصيّة على المدللين من أمثالي، امرأةً تشبه معلمة الروضة التي التقيتُ بها آخر مرة.. قبل عشرين عاماً، وبعدها.. لا أتذكر أني آمنتُ بتناسخ أرواح المعلمات، حتى مَثَلَتْ هند، كحكايةٍ خفيةٍ لم أرها قط، في المسافة بين يدي التي تمسك الأشياء.. وقلبي الذي يستشعر حنينها عن بعد..

وضعت أمي يدي في يدها، معلمة الروضة، ولسنواتٍ طويلة ظلت أمي تذكر موقفي آنذاك، وتقص على الجارة والخالة قصة انسياقي الهادئ ماشياً بجوار المعلمة، دون أن يعتريني احتجاج الأطفال، ودون أن يأخذني نفورهم المعتاد تجاه ذلك الاستبدال الوهمي للأمومة بين امرأتين، بالطبع.. لا أتذكر تفاصيل مشاعري آنذاك، ولكني كنت، رغم هاجس الخوف القاتم، واثقاً من أن أمي لن تسلمني ليدٍ غير أمينة..

وبعد السنوات العشرين، لم تضع أمي يدي في يد هند.. لأن المسافة المزدوجة كانت أبعد من ذلك، فلا أمي تؤمن بتعالق الجنسين.. ولا هند كانت تنقصها الريبة في ذلك، ولكن شيئاً يشبه الحتم التاريخي الذي يعيد تدوير أفلامه المبطنة.. كان يكرر انسياقي القديم ذاك، ماشياً مع امرأةٍ مجهولة، كنت تماماً، كما هو الحال مع معلمة الروضة، لا أعرف إلا اسمها الأول !

لأن الذاكرة الصغيرة آنذاك.. لم تكن تمنح أكثر من خانة واحدة لتعيين الأشخاص، كانوا يلقون على مداركنا الأسماء الأولى فقط.. ورغم أن الذاكرة كبرت، وابتَنَت في فراغاتها غرفاً كثيرة تأوي الأسماء، والأحداث، والمشاعر الخلفية، ظلّت هند شغوفةً بلعبةٍ يديرها الزمن، بأن تكون معلمة روضة، تتقمص التفاصيل الجادة نفسها تقريباً، وتسعى لارتداء ملامحها بكل دقة، وتتكلم ذات الكلام القديم، وكم تعجبت من أن هند تمارس دوراً.. لا تعرف عنه شيئاً !

وكما أني دخلتُ الروضة وقد علمتني أمي الأبجدية.. ووجدتُ في اضطراري إلى إعادة تلقي ذلك مع معلمتي شأناً باعثاً على النفور، كانت هند تصر منذ أيامنا الأولى أن تعيد ترتيب الأبجديات في داخلي، وأنا.. أعيد اجترار قصة النفور نفسها معها، دون أن أعي أي دورةٍ طويلةٍ أكملتُهَا من عمري، ثم عدتُ لأمرَّ على نفس الأشياء.. دون أن أنتبه إلى أني رأيتها من قبل..

هند استوفت مني زمناً غير كثيف.. لأن تواصلنا كان يعبر من أنبوبٍ يضيق، ولا مبرر لديّ لانطلاقتها الواسعة في داخلي، إلا أنها ليست امرأة جديدة كلياً عليّ.. بل كانت أشبه باستئنافٍ غير متوقع لمشروع خاص من الأنوثة يمرُّ من فوقي، بدأ في الروضة.. وظلّت هذه المدرسة الأنثوية خابيةً حتى جاءت هند لتعيد بعثها، وتنتصب قائمةً.. إلى جوار عدة مدارس متفاوتة أخرى !

هند تشبهها حتماً !، جمالها الجاد الذي يغوي ببطء!، والاعتداد الذاتي بقضية أنوثتها.. واعتبارها الغائب، من حقي، وقد طرقتني كل هذه المترادفات قبل النهاية بأسابيع، أن أعلن عن تخرصاتي أيضاً.. فليس الزمن وحده هو الذي يتحدث، لا بد أن هند تلبس نظارة حتماً كمعلمتي، ولابد أنها نظارة بإطار أسود، ولا بد أن قوام هند متسقٌ مثل سمكةٍ تمشي في الفصل.. ولا يمكن أن تنساها ذاكرة الطفل، وعندها تنورةً داكنة اللون.. بها خللٌ في سحّابها الخلفي..!

لأني لم أر هنداً.. مطلقاً !، ورغم اجتهادها لتمرير الملامح عبر الشبيهات الشهيرات.. إلا أني لم أتمكن من اقتباس ملامحها الحقيقة على ورقٍ أصليّ في الذاكرة، ولم أفلح إلا في تذكر حضورها كلما عبرت تلك الممثلة في ضوء التلفزيون، غريبةٌ تلك الممثلة الشابة.. كانت حتى هي جادة في كل أدوارها، مهما دعاني لهوٌ عابر أن أفتش لها عن دورٍ إيروتيكي ما.. كنتُ أفشل، وكنت أزداد يقيناً آنذاك، أن لهند جسداً قدّ من ثلجٍ مكين، لا تذيبه الأوضاع العادية !

تُرى.. هل لهند شفتين لغير الكلام.. ونهدين يرتعشان مثل بقية الفتيات.. وقلباً يمكن أن يستقبل الرجال ويبتلعهم؟، هل لها نبضةٌ صارخة يمكن أن ينتزعها أحدهم من قلبها ذات حب؟، هل يمكن أن تخلع هند نظارتها، وملابسها الطويلة، وتفلت شعرها الحبيس، ثم تجلس عارية من قيودها.. لتستحم كما تريد الطبيعة.. عند ضفة ذكورية ما !

هل يمكن أن تسافر هند.. مسافة رغبة.. باتجاه رجل !!

لم أتخيلها، منذ انتصاف العلاقة، تحمل مسافة الرغبة هذه !!، كنتُ أعتقد أن جسدها غير قابلٍ لتكوين الشهوات!، إلا أني لم أنف عنها الاشتعال المؤجل الذي يسكن مثل غيمة خصبةٍ تحت جلدها، تنتظر الأرض التي تنتزع عنها مائها.. دون أن تخون الموسم.. ودون أن تؤذي السماء..!

المعلمات.. لا تشترك أجسادهن في تقرير المصير العاطفي أبداً !، لاسيما مع رجلٍ تبدو على وجهه ملامح التلمذة.. مهما حاول تزييفها بالكلام المتقن، هكذا أفكر الآن.. أنا أعلم أن التحايل على الرغبات محض غباء، وأعرف أن هند تخبئ في داخلها الكثير لظامئ ما، ينتظر انصهاره الملائم، ولكن.. لا الظروف، ولا الأشخاص، ولا بقية الأشياء.. تمنحها درجة الحرارة المناسبة !

هند تتدلى قاب قوسٍ من الشفة التي تنتظر قبلتها.. ولكن تتراجع أيضاً قاب قوسٍ آخر من الجرس الداخلي المؤدب، تقترب مني بكلماتها.. حتى أشمُّ رائحة الغيمة الحبلى باكتمال حاجتها، والخبز الناضج الذي يكسو جسماً استطال فيه القمح.. وراح يغوص في الريح.. بحثاً عن ومضة خصب، قمحٌ كثيفٌ يستحق جوعاً طويلاً فعلاً، ولكن هند تقذف كلمة أخرى.. تعيد صياغة المشهد، لألمس بيدي حجارة لم تكن هنا عندما بدأ الكلام، ولا أدري كيف شكّلتها هند في منعطف مفاجئ كهذا!

لا أعرف كيف تخصب المعلمات !، ولكني أعرف الآن أن الحكمة تلقي نفسها منذ البداية كما قلت.. وكأنها تخبرنا أنه لا داعي للانتظار حتى النهايات.. لنتعلم، ما دامت الأسطر الأولى دائماً تحمل كُنه الباقي، والإرهاصات التي لا نشعر بمرورها أحياناً.. تفسر لنا كل الدهشات التي تسكن أطرافنا في البرد الأخير، أيام الروضة لم تكن عتبة في سلم العمر.. تمضي.. ولا تعود، كانت شارة مغروسةً في الذاكرة الغضة آنذاك.. تخبرني منذ البدء أنه كي تتكرر امرأة جميلة في حياتي.. لا بد أن تمر عشرون سنة!

وكما أن الروضة.. محض سنة..

كذلك ظلّت هند..

سنة..

ومضت..



* * * * * * *



غفرتُ لها الشوق الذي لا تبرره الرؤية المفقودة، والحزن الطيب الذي يفرزه رحيلها المحتوم ثقيلاً مثل عسلٍ لم يُلوّثه حبٌ غبي.. كان يمكن أن يكون !

هند.. إذ تروح، لا تذرني ورائها حزيناً.. لأني عندما تركت معلمة الروضة، كان الأطفال الناجحون.. لا يحزنون!، ومعلمتي تركت معي شهادةً مليئةً بكلماتها الرطبة، كتبت عليها لأمي عن سلوكي، وذكائي، وتفوقي.. وكذلك هند، تركت في ذاكرة كمبيوتري الدافئة شهاداتٍ ملونة أيضاً، ورسائل.. لا يمكن أن أريها أمي..

الآن.. في هذه اللوثة من عمر الليل الذي حفل باستدعاءاتٍ متعاقبة لترادفٍ لم يخطر لي ببال بين امرأتين، أقوم إلى أدراجي القديمة.. وأعود بشهادة الروضة، أعيد العبور على كتابة لم أكن لأفك طلاسم خطها الرقعي في طفولتي بسهولة، والآن.. كم تبدو لي ليست سهلة فحسب، بل معرضة لانتقادٍ عابر.. لكلمات معلمة تنسى أن تتوج التاء المربوطة بنقطتيها، وتتجاهل همزات القطع..

هل تكتب هند هكذا أيضاً؟، حتماً.. رسائلها التي استدعيتها من ذاكرة الكمبيوتر النائم، وأعدت تمحيصها، قَطَعَتْ بذلك، وأضافت مكيالاً جديداً في ميزان تناسخهما المريب في حياتي.. لولا أني فوجئت أن الميزان.. لن ينتهي عمله قريباً هذه الليلة!، فما زال هناك بضعة مكاييل أخرى لم أتوقعها..

المعلمة.. لم توقع باسمها في ذيل الشهادة، بل اكتفت بخطوط متقاطعةٍ لتوقيع مبهم.. للأغراض الرسمية فقط، لم يكن الأمر يتطلب مني أكثر من أن أجزع بسرعة إلى رسالتيْ هند في جهازي.. لأجد أنها أيضاً.. لم توقع باسمها أبداً.. في أي من الرسالتين!

قدرٌ أن أجهل بقية العمر اسم أول معلمةٍ في حياتي، والآن.. وهند تستعد للرحيل، لن أساومها مرة أخرى على اسمها الكامل، ولا على ذلك الاسم الذي زيّفته لي في البداية لتملأ فم إلحاحي، حسبي أنها اتفقت مع معلمتي على هوية فردية.. لا تحتوي إلا على اسم وحيد..!، ولا يسعني أن أتجاهل حاجاتٍ يعقوبيةً في أنفسهن كتلك !

هن يعرفن معاً.. أن الأسماء الكاملة لا تعني بالضرورة.. رقعة أوسع في الذاكرة !، بينما الأسماء الأولى، أو المجهولة أحياناً، قد تجعل ليلة رجل مثلي الآن.. ملتهبةً بدهشة لا يمكن أن تسكت قبل أن يكتمل عويلها تماماً !

هل أغادر هذه المتاهة؟، هل أنام؟، عليّ أن أوقن أن بعض التشابهات العنيدة قد تتحول إلى عبثٍ محتوم، وبعضها يتحول إلى لعنةٍ مؤذية !!، ولكن المشكلة التي تثبتني في مكاني، أن المتاهات، ككينوناتٍ محددة، لا نغادرها باختيارنا متى شئنا، وإلا ما كان اسمها متاهة أصلاً!

الآن لم يعد الأمر مجرد مسرحية باسمة تشترك فيها ذاكرتي والأشياء.. في قعر ليلة رتيبة، لقد تجاوز ذلك بكثير.. ثَمَّ ذهولٌ قد يحيق بي قريباً، وليس الذهول من الحالات التي نهملها.. وننام !!

حرفاً حرفاً.. سأقرأ رسالتيْ هند الطويلتين، بعد أن قرأت شهادة الروضة.. وأنا متيقنٌ أن السماء ما زالت مستيقظة، ومستمرةٌ في ممارسة ما لا أعرف اسمه.. معي، هذه الليلة !

في شهادة الروضة وجدت المعلمة كتبت قبل عشرين سنة ((ممتاز في كتابة الحروف والكلمات))، ووجدت في رسالة هند ذيل عبارة يقول ((..أنت بالذات يا سيد الكلمات الجميل!))، تابعت البحث بتوتر يتصاعد تدريجياً مع كل سطر يمر، وجدت هند وقد كتبت في نفس الرسالة تقص موقفاً ما جرى بيننا ((..الرسائل العشر التي تبادلناها ذات فجر وفي إحداها قلت بإنجليزية أسرتني: "I'm surrounded by your soul!" ))، وكنتُ مستحضراً من نظرتي المطولة لشهادة الروضة كلمات المعلمة في خانة اللغة الإنجليزية ((ممتاز في نطق الحروف الإنجليزية والأعداد وكتابتها )) !!

مزيداً من الدهشة المازوشية هذه المرة.. تجعلني أفتش حتى في رسالتي الوحيدة إلى هند، والتي احتفظتُ بنسخةٍ منها في جهازي، لا أدري لماذا.. ولكن ربما كنتُ أخبئها لتكتمل حصيلة الترادف المميتة التي تحاصرني هذه الليلة..!، ثمة عبارة في شهادتي تقول أني ((مطيع ومتجاوب مع زملائه))، وفي رسالتي إلى هند وجدتني أمارس هذه الطاعة التي أبصرتها في معلمتي قبل عشرين سنة، مع هند إذ أقول ((..وكل ما أقدمه لكِ .. هو فرض طاعتي لهذا الجمال الساكن فيكِ ، وولائي له )) !

توقفتُ.. متجاهلاً جفاف فمي الذي ينبهني أنه مفتوح على دهشةٍ صامتة.. منذ دقيقة على الأقل..!، لا مزيد من الترادف مع رسائلنا.. ولكن.. هذا التواطؤ في الكلمات المكتوبة حرّضني أن أستعيد كلمات هواتفنا لترن في أذني كما قالتها أول مرة!، كان أغلبها أيضاً.. يتفق مع ملاحظات كثيرة في الشهادة القديمة !

امرأتان، من جيلين مختلفتين، اتفقتا على شحن نرجسيتي.. جيداً.. في طرفي العمر!

كما اتفقتا أيضاً.. على تحجيم غروري إذا اقتضى الأمر !، وهند.. كثيراً ما قالت لي وهي تضحك: كم أنت مغرور !، وحتماً.. لم تقل معلمتي عني ذات العبارة، لأن طفولتي ستحول دون استيعابي لها، ولكني أجزم الآن، من منتصف ذهولي، أنها ما أجبرتني على تقبيل رأس ذلك الولد الذي تشاتمت معه، إلا لأنها اشتمّت في سلوكي الطفل آنذاك.. رائحة غرور مبكر !!

هند والمعلمة.. بينهما طاولة اتفاق طولها عشرون سنة، رسمتا فيها حدودي جيداً..

أي أعجوبةٍ زمنية هذه !



* * * * * * *


الظروف تتدافع نحو حب.. أجّله توازن متقن أجادته هند كثيراً !

منذ البدء حاصَرَت هند أنانية الرجل الذي تقصده امرأةٌ ما، فَهِمَت أن لطفه الذي يبديه يخفي وراءه تكلفاً صلفاً، ودعوة لمزيدٍ من الطرق الأنثوي الخجول على بابه الموصد، والذي يعرف تماماً.. من بضعة تجاربٍ مضت، متى يفتحه، في اللحظة المواتية، من خَدَر الأنثى..

ولكنها، كمعلمة الروضة، كانت تدق بالمسطرة عمودياً على مكتبها كلما زاد لغط الأطفال، وكلما زاد لغط الرجل الذي ينصب شبكة صغيرة في كل اتجاه قد يقود إليه الكلام، رجلٌ بنصف حضارة.. تعلم كيف يحسن الحديث مع المرأة، ولم يتعلم تماماً كيف لا يتعامل معها دائماً.. كعاشقة محتملة!

الآن أفهم أن هنداً التي أبصَرَت فيَّ خامة مختلفة.. ولكنها ما زالت مشوبة ببضعة عادات رجالية تقليدية، قررت أن تغمسني في محلول مذيب لكل هذه العادات التي لا تناسبها، وكل شيء كان مدبراً بدقة، الوقت المحدود الذي تهاتفني به، اللغة المتفاوتة في نعومتها من حوار لآخر، وحتى هزلها الذي تلقي فيه على بصري أمنية جميلة.. لا تلبث أن تسحبها ببطء..

كانت تحقنني بجرعاتٍ منتظمة من الحيرة، وتخرب عليّ كل المحاولات التي أمارسها كرجل لتصنيفها.. حتى أتخذ معها تكنيكاً يفضي إلى الانتصار المرتقب..!

أخيراً.. بعد أشهر طويلة، رميت أقنعتي وأسلحتي الصغيرة، لا ريب أن هند لاحظت ذلك، ولا ريب أيضاً أنها احتفلت مع نفسها بهذا الفوز دون أن أشعر، إلا أن نبرة الصوت ولغة الكلام بعدها كانت يشوبها تواضع المنتصرين النبلاء.. أو أنها فقط، كانت سعيدة وهي تتعامل مباشرةً مع إنساني الداخلي، بعد أن أسقطت كل أقنعته الرجالية الثقيلة..

الغريب أن هنداً تخوض معركتها عن بعد، وبيني وبينها مسافةٌ هاتفية.. والكترونية، تجعل التخطيط لمثل هذه اللعبة أمراً صعباً، ومرور النساء العابرات من فوقي يزيد الأمر تعقيداً، ويزيدها هي إصراراً على ممارسة دورها التربوي معي، كمعلمة الروضة، قبل أن ترحل إلى قدرها.. وتتركني..

الآن.. وهي تستعد لزواجها بعد أسابيع قليلة، مزمعةً صرماً أكيداً لا يمكن كسره في القريب كما تحكم القوانين السائدة في مجتمع تلتزم هند كثيراً بقوانينه، وتتصالح معها بشكل تام، مر شهر.. ولم يصلني منها أكثر من رسالة قصيرة ليست من تحريرها، تعبر عن افتقادٍ عابر.. ابتسمتُ لها طويلاً..!

هي في أيامها الأخيرة معي.. وتحاول ألا تشوّه صمودها السابق.. بلحظة ضعف في الموقف الأخير، تتنازل فيه لي عما لم يدر في خلدها أن ستتنازل به لرجل يوماً ما، وربما حتى لزوجها القادم، كنتُ أفهم هذا تماماً وأنا أفتقد ردها على رسالتي الهاتفية التي أسألها فيها عن أي كتبٍ تريديني أن أجلبها لها معي من السفر.. كما تعودت مني، تركتها دون ضغوط، كان يهمني أكثر منها أن ترحل بانتصار مكتمل عليّ.. حتى تظل ذاكرتها معي تامة، لا تحتاج للمراجعة..

من السيئ أن تنتقل امرأة إلى رجل ما.. وما يزال لديها حسابٌ مفتوح.. مع رجل آخر!، تسوية الحسابات المتأخرة هذه تفرز كثيراً من الفوضى، وهند.. لا يمكن أن تعيش في فوضى، ولن أسمح أن أكون أنا باعث هذه الفوضى!

قبل أن تبدأ هند في هدنة ما قبل الرحيل.. كانت في أكثر حالاتها العاطفية تجلياً معي!، كنت أستقبل كلمات الحب الشقية من حين لآخر، ولا أحاول الخوض في تفسيرها، فضلاً عن أن أسعى لاستنطاق المزيد.. كنت أعلم أن هند راحلة، ولا جدوى من رجّ حصالة قلبها بحثاً عن قرش آخر.. لقد كانت هند تحبس في صدرها هذا الكلام طيلة علاقتنا ولم تقله، لأني لم أكن مؤهلاً لإدراك فحواه كما هو الحال بيننا الآن، أنا أريد لهند أن تبوح بكل شيء قبل أن ترحل.. حتى لا يظل في صدرها كلاماً حبيساً.. قد يستيقظ في وقتٍ غير مناسب !

ليتها تُفرغ كل شيء.. في حجري، ثم تمضي إلى حيث لا أسألها أين هي، وكيف ستكون، أنا لا أريد أن يبقى معها شيء لي، أريدها أن تخلعني تماماً قبل أن تخوض حياتها الجديدة، أريدها أن تصب عليّ في الوقت الأخير كل حلواها.. ضفائرها.. نقوش يديها.. لغتها الجادة الجميلة، صوتها النجدي المضيء، وضحكتها النادرة.. لذلك أنا أستقبل انهمارها الأخير بهدوء.. حتى لا أخيفها، حتى لا تتراجع هند.. ويعود الكلام للاحتباس في صدرها هناك..

ربما يمنعها من البوح شعورٌ بالذنب تجاهي، إذ ليس من العدل أن تعلق على رقبتي تمائم غزل متأخرة وهي راحلة، وتمنيتُ وأنا يأتيني هذا الخاطر، لو أستطيع أن أقنع هنداً أن حجرة العتب مقفلة تماماً في قلبي، ولا يمكن أن أخزن فيها موقفاً ضدها، لأنها امرأة مختلفة.. امرأةٌ تحكمت بي عن بعد، وغلفتني عن بعد، وحركتني كل هذه الفترة الطويلة.. دون أن أعرف حتى كيف تبدو؟، وما هو اسمها الكامل!

متحفّظة كانت هند، نعم.. تكبح جماح البوح في اللحظة الزلقة من عمر المحادثة الهاتفية، فتنهيها بأي حجة.. قامعةً في داخلها رغبتها كأنثى في الاتكاء على كتف رجل، ربما لأن معلمة الروضة لم تفكر مطلقاً من قبل في اللجوء إلى أي من الأطفال الذين أمامها، وكلما حاولت هند أن تخرج عن الخط الذي رسمته المعلمة قبل عشرين سنة.. شعرت أن ثمة خطأ في الأمر، فتراجعت سريعاً..



* * * * * * *


هل كانت هند تستحضر دائماً عندما تُراجع علاقتها معي.. أنها تكبرني بثلاثة أعوام؟!.

لأن هذه الفاصل الذي لا يؤثر كثيراً في خارطة المشاعر.. يؤثر حتماً في خارطة التبعيات الاجتماعية لحالة حب ما.. قد تأتي دون دعوة !، وبدا واضحاً أن هند كانت تفكر بشكل عملي، حتى لو تغلبت عليه العاطفة أحياناً.. في بعض الميلات الجارفة..

عندما اتصلت بي لأول مرة.. لم تطلب أكثر من كتاب !، ولكن هذا يعني في لغة العلاقات.. أن نقاشاً ما يجب أن يدور حول موضوع الكتاب، ولقد انتظرته.. وجاء، وكان اتصالاً طويلاً هذه المرة، تعرفت فيه على خامة صوتها جيداً، والطريقة التي تنظم بها الكلمات بسرعة كبيرة.. قبل أن تتورط أحياناً عند مدخل جملة، أو تعبير هربت منه الكلمة المناسبة.. ولأني كنتُ منتصراً وقتها، إذ أني توقعت اتصالها.. وحدث، كنت أكثر هدوءاً، ولهذا كنتُ أقيل عثراتها الصوتية كما يفعل الرجال المحترمون..

ولستُ صبوراً.. عندما يتعلق الأمر بامرأة خُيّل لي أنها تسير وفق السيرورة المتكررة للعلاقة التقليدية، تنكَّبتُ الطريق الأقصر منتشياً بحرارة التأثير الأوليّ الذي توهمت أني أحدثته لديها، متوقعاً انهياراً عارماً لجدار مقاومتها الداخلية التي تستعد هي شخصياً لتقويضه عندما تكون الفرص مواتية.. لذلك.. كانت نتيجة الاتصال الأول، حنقاً صغيراً ظلّلنا معاً.. لأنها لم تتداع بالسرعة التي تصورتها، ولأني بدوت لها ربما.. وكأني أسأت تقدير قيمة حضورها..

وعندما تركت لي مظروفها الأول في مكان عام، بعد فترة من الزمن، كان يحوي: روايةً إنجليزية مدسوساً في أوراقها منديلٌ ملئٌ بعطرها الدافئ، وأسطوانة حديثة لإنيركي جلاسيس، ولوحتين مرسومتين باليد.. ما زالتا تحتلان الزاويتين الأبرز في غرفتي..

كلها.. أدوات حب!، كلها بعثت فيّ يقيناً مضاعفاً أنها أكملت مشوار التلميح بالرضا الابتدائي، وراحت تنتظر ركوعي الأول تحت شرفتها معلناً عليها الحب، ولكن لم أكن أعرف أين شرفة هند..!، ولم أعرف لماذا كانت هند ترميني بالمؤشرات الناقصة هكذا، لماذا تُقبل.. وتتراجع، مخلفة وراءها ركاماً من الحيرة المؤجلة.. يسكن جبيني دائماً!

وقتها لم أفكر في حجم المعادلات التي ترتكب هند التفكير فيها بتوتر عال، لم أفكر أنها رازحة تحت وطأة المعادلة الاجتماعية/العاطفية بالذات، وتناسبهما العكسي دائماً في هذه المدينة، هذا الأمر الآن، يفسر غياباتها المتقطعة التي لم تكن إلا مراحل احتدام أعلى لهذا التفكير القاسي..

ما لا يمكنني تدبيره حتى الآن.. هو فهمٌ أجلى لمشاعر هند في تلك الفترة، على ضوء الفارق العمري الصغير، والقلب الذي يتأرجح جهة الرجل المختلف الوحيد كما قالت، والعديد من المبادئ الحياتية المطبّقة جيداً في صدرها، والأدعى من هذا.. روح المعلمة التي تسكنها عندما تتعامل معي..

تشريح المشاعر لم يكن يوماً مهنة بسيطة، لذلك يتجاوزها الذين يؤرخون القصص مثلي، ربما أنقذ الموقف ذلك الرجل الذي خطبها أخيراً، وساعد هند في إعادة صياغة موقفها مني، كرجل مختلف.. ليس إلا، عبر من هنا.. ومضى، هكذا قالت هي.. المرأة التي تمنحني غروري.. وتنتقدني عليه..!

الآن.. رسائلها النائمة في جهازي الذي أعبره يومياً، هديتها التي اختارتها مفكرة الكترونية حتى ترافقني دائماً، اللوحتين المرتكزتين أمامي في الغرفة، الكتاب الذي سيبقى في مكتبتي التي تعرف هند أني لا أفرط في كتبها.. والاسطوانة التي ستدور دائماً في جهاز التشغيل، لماذا أعطتني هند تحديداً.. حصاراتٍ صغيرة كهذه.. وليس مجرد هدايا !

كانت تريد أن تظل هنا.. دائماً !، معلقة مثل بندولٍ من الأنوثة أمام عينيَ.. فلماذا تصر على أن تبقي كل هذه المسافة بيننا إذن !، ولماذا يكون ديدن كلامها الأول عن سعادتها لأني ما زلت أذكرها!، ماذا كانت تريد مني هذه الفتاة !، فتحت عليّ أمطار الحب.. وأغلقت مزاريبه !، أعلنت حضورها الصارخ رغم كل شيء.. وهي التي تفصلني عنها مدينة كاملة، بكل رقبائها.. وأعرافها.. ولعناتها الجاهزة، صرخت بكل شيء.. وهي صامتة، مطبقة الشفتين!، أعلنت عليّ التشابه في اختلافاتنا.. وفي نفس الوقت.. الاختلاف.. في كل ما نتشابه فيه !!

امرأة تتحكم في الزمن.. وتجيد حياكة تناقضاته !

بقدر ما كانت تجتهد لتكون واضحة أمامي كخيط الشمس.. إلا أني في غمرة وضوحها فقدت القدرة على التمييز بين أنوثتها المتحفزة للانقضاض عليّ في أي لحظة، ومواقفها المتراجعة تدريجياً..

يالهند.. كم أجّلت غموضها حتى كالته لي دفعةً واحدة.. هذه الليلة !

الآن.. هي على بعد أسابيع من انتمائها إلى رجل آخر، لا تعرف عنه أكثر من الحيز الضبابي الذي تتيحه الظروف هنا، ولطالما باحت لي بقلقها من الرجل الذي لا تعرفه، وفي غمرة هذه البوح.. لم تنس هند أن تمرر لي أيضاً ومضة طفيفة عندما قالت: ((أنت الرجل العذراء.. أكثر الأبراج اهتماماً بي أنا.. المرأة السرطان..))..

وقتها.. شعرت أن هنداً بثّت في داخلي بضعة آباءٍ بيض القلوب، وددتُ لو أضمها بهم جميعاً، وددتُ لو قبّلتُ جبينها.. وتمنيتُ عدة أمنيات رومانسية أخرى، قبل أن أجد أن الأمنية الواقعية الوحيدة التي يليق بها كلامي معها.. هي أن يرعاها زوجها.. كما تستحق..



* * * * * * *


هذه حكاية بنت اسمها: هند، كتبتها في ذيل ليلة واحدة، طاردت كل الممرات والأزقة التي عبرتها معها على الهامش الافتراضي للحياة، حاولت أن ألمم الشتات الذي ظل يتشرد طيلة الشهور.. قبل أن تناديه الكلمات فجأة، كل ما اجتمع من علاقتنا.. قرر أن ينبثق بلا تراجع في وجه الكتابة، ليبللني بحزن هادئ غير مؤذ، الحزن النادر الذي نمارسه ونحن نبتسم..

هند التي كتبتُ لكم عنها ربما تصادفونها في أي مكان، ربما تعبر من جواركم ذات طريق، دون أن تنتبهوا إليها، ربما كانت من حيّكم، أو شارعكم، أو تنتمي إلى جدٍ ما في أسركم الكبيرة، هي فتاةٌ بديعةٌ من فتيات هذا البلد، نزلت عليّ بدون اختيار.. مثل نبوءة موسمٍ خيّر، وسُنَّة المواسم كلها.. أنها تنتهي..



محمد حسن علوان

إهداء الي هند... اتمنا ان تصل هذا القصه لها ...

ميرال
20-09-2005, 02:22 PM
روايه رائعه
لكنها طويله بعض الشئ..

aa11
20-09-2005, 07:07 PM
اهلين اختي ميرال ... اشكرك علي قراتك.... انا اعرف انها طويله بس تستحق القرأه ....

ميرال
20-09-2005, 07:13 PM
إهداء الي هند... اتمنا ان تصل هذا القصه لها ...

اهااااااااااااااااااا



من قدهاااااا

aa11
20-09-2005, 07:38 PM
اشكرك اختي ميرال ....

دمعة سراب
20-09-2005, 09:48 PM
هـــند

معزوفة قصصية بديعة..!!

يستعصي عليّ التعبير هاهنا..

ولكن يكفيني أن أشكرك لهذا الإختيار

سلمت يمناك

مودتي


همسة: القصة منقولة صح؟؟

aa11
21-09-2005, 09:08 AM
اختي دمعه اشكرك علي قرأتك لهذا القصه ... وانا كاتب في النهايه اسم المبدع الشاب محمد حسن علوان...

دمعة سراب
21-09-2005, 08:52 PM
تسلم أخوي

مودتي

"
"
دمعة

aa11
22-09-2005, 08:45 AM
دمعه سراب لك مودتي .. واحترامي لهذا الدمعه الغاليه ...