أهــل الحـديث
29-05-2012, 03:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
من حديث أبي السمادير
المقال الأدبي
اليوم (تَجَحَّظْتُ) بعد أن كنتُ آيسًا أن أرى في الناس مَن يستأهل (يَتَجَحَّظُ)، ومعنى ذلك أني صرت كالجاحظ الرَّاوية، صاحب "البيان" و"الحيوان"، أروي الأحاديثَ إلى الناس، وأتتبع الشواردَ والفرائدَ أنى كانتْ، وهكذا صار يضرَب لي بسهمٍ بين الرواة والمحدثين، وإذًا لَم يعد ينقصني شيءٌ لألحقَ بهم إلا أن أزينَ اسمي بكنيةٍ أو لقبٍ، كما كان للرواة كنًى وألقابٌ، ولعلي لن أجدَ أفضل من ابن الجاحظ كنيةً ولقبًا.
وحديثي اليومَ أخذتُه عن رجلٍ صاحبٍ لي، وهو ثقةٌ عدْلٌ، ليس به عيبٌ إلا أنه يضع الأخبارَ ويصنعها، أخذ علومَه عن شيخه أبي السمادير، وقيل في سبب تسميته أنه كانت تتراءى له الأوهامُ كما تتراءى للمخمور سَمَادِيرُه.
لذلك خذوا أقلامَكم - رحمكم الله - واكتبوا هذا الحديثَ إجازةً مني:
حدثنا ابن الجاحظ قال: حدثني صاحبي، قال: حدثني أبو السمادير عن نفسه، قال: كنت في يومٍ أمشي في شوارع المدينة، أرمي بقدمَيَّ يمينًا وشمالاً، أبتغي الحكمةَ في وجوه الناس وأحوالِهم، فقد صارتْ هذه عادتي منذ مدة تركتُ فيها طلبَ العلم من الصحائف والكتب، وجعلت أتصيده من مباشرة الناس والنظر في أحوالهم وتصرُّفاتهم، وهكذا صار لي السوق أزهرًا، وأصبح الحمام عندي بمثابة جامع القرويين، وصار لنفسي همةٌ عجاب، وهي أنها صارت كلما رأتْ جَمعًا من الناس هفَت إليه، وإن شئتَ أن تشبِّهَ شيخَك وهو في تلك الحال، فشبِّهه بالأصمعي وهو يتنقل بين البوادي والأحياء يأخذ عن الأعراب العلمَ واللغةَ.
وبينما أنا كذلك إذ اعترض طريقي رجلٌ أصفرُ اللون فَزِعٌ كأنه ميتٌ هرب من القبر، أو بالأحرى هو جثةٌ هاربةٌ من ثلاجة الأموات؛ لأن الرجلَ - على التحقيق - كان يرتدي ثوبًا، ولَم يصدِّق الرجل أنني أنظر إليه حتى تعلق بثوبي من دون خَلق الله، فكنا في السوق كحلقة سركٍ، الكل ينظر إلينا، قلت له:
• ويحك! إليك عني أيها الأحمق، اترك ثوبي، قد آذيتَ أبا السمادير.
قال: ومَن أبو السمادير هذا؟ أوَلستَ أنت صاحبَنا أيامَ الدراسة "فلان بن فلان"؟ ألَم تعرفني؟ أنا صديقك القديم "فلان".
وإذا بالرجل حقًّا ممن كنتُ أعرف أيامَ الدراسة، وأنه ما تعلق بي إلا بعد أن عرفَني، وفي لحظةٍ عدت بذاكرتي إلى تلك الأيام الغابرة، وذكرت أيامَنا في الطفولة كيف كانت حلوةً، ولولا الحديث الذي أنا فيه، لذكرت لك طرَفًا منها، قطَعني عنها ما أنا فيه من حديثي عن صديقي الأصفر.
قلت:
ومَن غيَّرَك إلى هذه الحال؟ ويحَك! ألستَ أنت الذي كنا نضرب به المثلَ في علو الهمة وحسن الإقبال على الدنيا؟
• قال لي: بلى وهو كذلك، ولكن، إليه الأمر مِن قبلُ ومن بعدُ.
ولَما سمعت الرجلَ يسترجع، علمت أن من وراء خمود تلك الهمة أمرًا ذا بالٍ، وأنني أقف اليوم على سرٍّ من أسرار الله في الكون، ولعلني قد لا أقف عليه في الكتب على كثرتها؛ لذلك خاتَلت الرجلَ، فأظهرت له من رقَّةِ القلب وإصغاءِ السمع، ثم تنحيت به زاويةً من السوق أسمع منه حكايتَه العجيبةَ.
قال: نعم، قد كانت لي همةٌ عالية، وكذلك ما زلت أجني من ثمارها الرطبَ واليابسَ: أخذتُ من العلم نصيبًا لا بأس به، حتى إذا جالستُ العلماءَ شاركتُهم علومَهم، وأما الرزق، فإني أجلس على منصبٍ ذي بالٍ، وإني ما زلت أرى تقديرَ كثيرٍ من الناس لي إنما هو بسبب ذلك المنصب، وتلك هي سيرة السفلة الرعاع... وكنت قويَّ البدن، صحيحَ النفس، لا ينقصني إلا أن أقطفَ من النعمة خاتمتَها، ألا وهي المرأة الصالحة التي تحبُّني وأحبها.
وبحثت عنها طويلاً كما السندباد يبحث عن بغدادَ، وفي لحظةِ حظٍّ وجدتُها، وفرحت بها، وعلمتُ أنني استكملت النعمة، وأنه وجب علَيَّ أن أشكر المنعمَ سبحانه، فقلت في نفسي: ما شكرُه إلا أن أحفظَ النعمةَ وأصونَها، وأن أحيطَها بحسن المعاشرة، وأسيجَها بحُسن الخلق، وكذلك - علمَ اللهُ - فعلت منذ أول يومٍ دخلتُ فيه بيتَها.
ولا أكتمك يا "أبا السمادير" أني والله عشت معها أيامي الأولى في سعادةٍ غامرةٍ، ونعمةٍ لا يكدرها شيءٌ إلا الخوفُ من زوالها، وزاد سعادتي أنني وجدتنا على قلبٍ واحدٍ من التوافُق في الطِّباع وفي الهوى، ولو ظل الأمر كما كان، لَمَا كان للقائنا أن يأخذَ هذا الشكلَ.
وأخذَت الرجلَ عبرةٌ كادت أن تهزمَني فتثنيَني عن عزمي من المخاتلة.
قلت له: وما الذي كان، حتى صرتَ إلى هذه الحال؟ وما الذي فعلتَه مع صاحبتك؟
• قال: دخل بيني وبينها يا أبا السمادير، فما خمدَت له عزيمةٌ، حتى أفسدها علَيَّ، وجعل حياتي جحيمًا بعد نعيمٍ... ثم عاد الرجل إلى بكائه.
قلت: ومن هذا الذي دخل بينكما، حتى كان الفراق مصيرَكما؟
• قال: أبدًا، لَم نفترق، وما أستطيع ذلك من قريبٍ أو من بعيدٍ، فوالله لَأن أعيشَ الشقاءَ بالقرب منها خيرٌ لي من أن أعيشَ النعمةَ في البُعد عنها، ما أستطيعه يا صاحبي، وإني والله ما زلت أخشى أن تكونَ نهايتنا إلى تلك الخاتمة السيئة، ومن أجل ذلك فإني ما زلت أداريها طمَعًا في توبتها، فأكشف لها من عِظم جريرتها، وأُريها أنها اقترفتْ في حقي ذنبًا كُبارًا، فما زلت تراني في إقناعها سالكًا كل دروب الإقناع، لا أعجز ولا أتوانى.
فتارةً تراني أسلك دربَ العقل والمنطق، فآخذ الفكرةَ فأشحذها وأمضيها؛ حتى تصيرَ أحدَّ من شفرة جزارٍ، وأقول عندئذٍ: وافرجاه! ولكن ما هي إلا مدةٌ حتى أراها قد عاودَتها صبابتها، وأعلم عندها أن مسلكَ العقل ليس بنافعٍ معها أبدًا.
وحينئذٍ أضطر فأسلك مسلكًا صعبًا، يزل فيه الخب، ويتعثر فيه الذؤيب، وينفضح فيه مَن لا يحسن الإفصاحَ؛ إنه مسلك الحس والشعور، فإذا سلكته فإني ألبَس للموقف لباسَه من الخضوع بالقول، وألتحف له لحافَه من التلاعُب بنغمات الصوت، وأثبت عيني في عينيها أريها أنهما تبرقان من حب، والبسمة خلالها تقسم محياي نصفين اثنين، وإذا ما رأيتُ منها إصغاءً في السمع، فإني أطمع فأعمد إلى قلبي فأزيده دقاتٍ وخفقانًا، وأعمد إلى أهداب عيني فأرقصها من طرَبٍ، فأصير أسمع من نفسي منكَرًا من القول، حتى يخيلَ إليَّ أنني لست بصاحبِ ذاك اللسان، أو أن غانيةً دَلولاً هي من يتكلم بلساني... لكني بمجرد ما أنهي كلامي، فأنظر إليها، فإذا هي كما كانت، فكأني لم أقلْ شيئًا، وكأنها لَم تسمعْ شيئًا، وتبقى الحال على ما كانت عليه، هذا إذا لم تزدَد به تمسُّكًا، وأزداد أنا بذلك يَأسًا وبؤسًا، ويصير حديثُ العاطفة عندي بعدها أتفهَ من خرافةٍ، وأصير أشُكُّ أن المرأةَ أميلُ إلى العاطفة من الرجل.
قلت له: ويحَها! وهل تركتَ مسلكًا للإقناع إلا سلكتَه؟ فماذا فعلتَ بعد ذلك؟
• قال: فعلتُ عجبًا يا صاحبي، فوالله لقد دفعَتني حيرتي في إقناعها، وأني سلكت دروبَ الإقناع كلها وما جنيت شيئًا... اضطرني ذلك كلُّه إلى ابتكار طريقةٍ في الإقناع، ليستْ هي من العقل ولا من العاطفة؛ وإنما هي شيءٌ آخَر، وقد سميتُها بكاءَ الاستعطاف، وصِفَتُها أني دخلت في بكاءٍ شديدٍ، فأعلنت لها عن شقائي وحزني، وأعلمتُها أنني إما أن أحيا بها، أو أهلِكَ دونها، ورجوتها أن تتمهلَ في إشقائي، وأن تجملَ بهذا القلب الذي برَّحه حبُّها، ومع ذلك لم أَرَ منها إلا المعاندةَ وشدةَ الشطط.
قلت: وما الذي فعلتَه بعد ذلك أيها الشقي؟
• قال: لَم أفعَله بعد؛ وإنما عقدت عليه العزمَ، فهو الآن نيةٌ، وغدًا يكون عملاً، ألا وهو أني رضيت أن أكونَ عندها ثانيًا، وأن أتشاطرَ وإياه قلبَها، أو أن أتعلقَ بهوامش حبِّها.
قلت: ما أقبحَ عشقًا كهذا الذي تحكي، وقبَّحك الله من عاشقٍ رضيَ لنفسه أن يكونَ لزوجه محبوبٌ غيره، وأن يكون هو نائبَه الأولَ... قال الرجل: على رسلك يا أبا السمادير، وما هذا الغلط في القول والحكم؟ أكنتَ تظنني أحدثك عن خبيثٍ دخل بيني وبين زوجي، فكان ما كان؟ أبدًا، لَم يكن من ذلك شيءٌ، فما زوجي بالمرأة الطُّلَعَة، التي تَشول رأسَها كعباد الشمس لينظرَ إليها الرجال، فيفتحون عليها أبوابَ الغواية على مصاريعها، وما صاحبُك بالديوث الذي يرضى لأهله المنكَرَ والفواحشَ؛ إنما الذي دخل بيننا وأفسد علينا سعادتَنا - شيءٌ آخَر أدهى من البشر، ألا وهو هذا اللعين الذي يسمونه مسحوقَ التجميل "ماكياج".
فوالله ما زلت أشقى بصحبة زوجي له، أراها تخلص له الود والمحبة، وأرى الخبيثَ يصبح ويمسي وهو يأكل من نضارة وجهها، ويسرق من بين يدي شمَّها وتقبيلها، فإذا ما هممت بتقبيلها، وجدت الخبيثَ قد سبقني إليها فقبَّلها، وترَك لي وجهَها مُزعةَ لحمٍ بلا طعمٍ، والأعجب من ذلك أنني أشاطرها ذنبَها، فتراني أبذل لها من حرِّ مالي في سبيل وصولها إليه.
هذا العدو الذي يغري كلَّ حسناءَ مليحةٍ، حتى إذا اطمأنتْ إليه فوهبَتْه زهرةَ جمالها، أخذها الخبيثُ فسلَبَها منها، فما هي إلا مدةٌ يسيرةٌ حتى يُصيِّرها كما قال الجاهلي:
شَمْطَاءُ جَزَّتْ شَعْرَهَا فَتَنَكَّرَتْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif..... مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
والأدهى من ذلك أنه ما يكتفي بواحدةٍ أو اثنتين، بل هو زِيرُ نساءٍ، يقطع كلَّ أرضٍ، ويعبر كلَّ بحرٍ، يفتن كل فتاةٍ يجد في قلبها رقةً وفُسُولةً، داهيةٌ أصابت الأرضَ في هذا الزمان، له من فنون الإغراء والإغواء ما يشبه السِّحرَ، ومن حبائله التي ينسجها لهن أنه يوسوس إلى إحداهن: إنك تكونين أحلى إذا فعلتِ كذا، وإن الذوقَ يستلزم كذا... والمسكينة تنصت إلى هذا الوحيِ الذي يتنزل عليها كالغيث، وإن سألتَني يا صاحبي عن غرَض الخبيث من كل هذا، أقول: إن غرضَه أن يفسدَ النساءَ، ويهدمَ البيوت، وأن يحاربَ الجمالَ الذي خلَقه البديع.
قال أبو السمادير: وتركت الرجلَ مكانه في السوق، وعجِلت إلى بيتي خوفًا مما سمعت، أن يستغل الخبيث غَيبَتي فيفسدَ علَيَّ زوجي، وبينما أنا في الطريق إلى بيتي، حبرت كلمةً في نفسي أكتبها أحذر الناسَ من هذا الشرِّ المستطير، قلت فيها:
أيها الناس، عليكم نساءَكم وبيوتَكم؛ فقد ظهر في الناس شيءٌ كأنه الدجال، يصيب النساء والبيوت، داهيةٌ دهياء، ما ينفع معها إلا الحياطةُ، والإكثارُ من الحوقلة والاسترجاعِ، يقال: إن اسمَه "ماكياج"، ولعل له أكثرَ من اسمٍ، وأكثرَ من صفةٍ.
قلت: انتهى الحديث.
http://www.alukah.net/Social/0/41432/#ixzz1wG2gagBP
من حديث أبي السمادير
المقال الأدبي
اليوم (تَجَحَّظْتُ) بعد أن كنتُ آيسًا أن أرى في الناس مَن يستأهل (يَتَجَحَّظُ)، ومعنى ذلك أني صرت كالجاحظ الرَّاوية، صاحب "البيان" و"الحيوان"، أروي الأحاديثَ إلى الناس، وأتتبع الشواردَ والفرائدَ أنى كانتْ، وهكذا صار يضرَب لي بسهمٍ بين الرواة والمحدثين، وإذًا لَم يعد ينقصني شيءٌ لألحقَ بهم إلا أن أزينَ اسمي بكنيةٍ أو لقبٍ، كما كان للرواة كنًى وألقابٌ، ولعلي لن أجدَ أفضل من ابن الجاحظ كنيةً ولقبًا.
وحديثي اليومَ أخذتُه عن رجلٍ صاحبٍ لي، وهو ثقةٌ عدْلٌ، ليس به عيبٌ إلا أنه يضع الأخبارَ ويصنعها، أخذ علومَه عن شيخه أبي السمادير، وقيل في سبب تسميته أنه كانت تتراءى له الأوهامُ كما تتراءى للمخمور سَمَادِيرُه.
لذلك خذوا أقلامَكم - رحمكم الله - واكتبوا هذا الحديثَ إجازةً مني:
حدثنا ابن الجاحظ قال: حدثني صاحبي، قال: حدثني أبو السمادير عن نفسه، قال: كنت في يومٍ أمشي في شوارع المدينة، أرمي بقدمَيَّ يمينًا وشمالاً، أبتغي الحكمةَ في وجوه الناس وأحوالِهم، فقد صارتْ هذه عادتي منذ مدة تركتُ فيها طلبَ العلم من الصحائف والكتب، وجعلت أتصيده من مباشرة الناس والنظر في أحوالهم وتصرُّفاتهم، وهكذا صار لي السوق أزهرًا، وأصبح الحمام عندي بمثابة جامع القرويين، وصار لنفسي همةٌ عجاب، وهي أنها صارت كلما رأتْ جَمعًا من الناس هفَت إليه، وإن شئتَ أن تشبِّهَ شيخَك وهو في تلك الحال، فشبِّهه بالأصمعي وهو يتنقل بين البوادي والأحياء يأخذ عن الأعراب العلمَ واللغةَ.
وبينما أنا كذلك إذ اعترض طريقي رجلٌ أصفرُ اللون فَزِعٌ كأنه ميتٌ هرب من القبر، أو بالأحرى هو جثةٌ هاربةٌ من ثلاجة الأموات؛ لأن الرجلَ - على التحقيق - كان يرتدي ثوبًا، ولَم يصدِّق الرجل أنني أنظر إليه حتى تعلق بثوبي من دون خَلق الله، فكنا في السوق كحلقة سركٍ، الكل ينظر إلينا، قلت له:
• ويحك! إليك عني أيها الأحمق، اترك ثوبي، قد آذيتَ أبا السمادير.
قال: ومَن أبو السمادير هذا؟ أوَلستَ أنت صاحبَنا أيامَ الدراسة "فلان بن فلان"؟ ألَم تعرفني؟ أنا صديقك القديم "فلان".
وإذا بالرجل حقًّا ممن كنتُ أعرف أيامَ الدراسة، وأنه ما تعلق بي إلا بعد أن عرفَني، وفي لحظةٍ عدت بذاكرتي إلى تلك الأيام الغابرة، وذكرت أيامَنا في الطفولة كيف كانت حلوةً، ولولا الحديث الذي أنا فيه، لذكرت لك طرَفًا منها، قطَعني عنها ما أنا فيه من حديثي عن صديقي الأصفر.
قلت:
ومَن غيَّرَك إلى هذه الحال؟ ويحَك! ألستَ أنت الذي كنا نضرب به المثلَ في علو الهمة وحسن الإقبال على الدنيا؟
• قال لي: بلى وهو كذلك، ولكن، إليه الأمر مِن قبلُ ومن بعدُ.
ولَما سمعت الرجلَ يسترجع، علمت أن من وراء خمود تلك الهمة أمرًا ذا بالٍ، وأنني أقف اليوم على سرٍّ من أسرار الله في الكون، ولعلني قد لا أقف عليه في الكتب على كثرتها؛ لذلك خاتَلت الرجلَ، فأظهرت له من رقَّةِ القلب وإصغاءِ السمع، ثم تنحيت به زاويةً من السوق أسمع منه حكايتَه العجيبةَ.
قال: نعم، قد كانت لي همةٌ عالية، وكذلك ما زلت أجني من ثمارها الرطبَ واليابسَ: أخذتُ من العلم نصيبًا لا بأس به، حتى إذا جالستُ العلماءَ شاركتُهم علومَهم، وأما الرزق، فإني أجلس على منصبٍ ذي بالٍ، وإني ما زلت أرى تقديرَ كثيرٍ من الناس لي إنما هو بسبب ذلك المنصب، وتلك هي سيرة السفلة الرعاع... وكنت قويَّ البدن، صحيحَ النفس، لا ينقصني إلا أن أقطفَ من النعمة خاتمتَها، ألا وهي المرأة الصالحة التي تحبُّني وأحبها.
وبحثت عنها طويلاً كما السندباد يبحث عن بغدادَ، وفي لحظةِ حظٍّ وجدتُها، وفرحت بها، وعلمتُ أنني استكملت النعمة، وأنه وجب علَيَّ أن أشكر المنعمَ سبحانه، فقلت في نفسي: ما شكرُه إلا أن أحفظَ النعمةَ وأصونَها، وأن أحيطَها بحسن المعاشرة، وأسيجَها بحُسن الخلق، وكذلك - علمَ اللهُ - فعلت منذ أول يومٍ دخلتُ فيه بيتَها.
ولا أكتمك يا "أبا السمادير" أني والله عشت معها أيامي الأولى في سعادةٍ غامرةٍ، ونعمةٍ لا يكدرها شيءٌ إلا الخوفُ من زوالها، وزاد سعادتي أنني وجدتنا على قلبٍ واحدٍ من التوافُق في الطِّباع وفي الهوى، ولو ظل الأمر كما كان، لَمَا كان للقائنا أن يأخذَ هذا الشكلَ.
وأخذَت الرجلَ عبرةٌ كادت أن تهزمَني فتثنيَني عن عزمي من المخاتلة.
قلت له: وما الذي كان، حتى صرتَ إلى هذه الحال؟ وما الذي فعلتَه مع صاحبتك؟
• قال: دخل بيني وبينها يا أبا السمادير، فما خمدَت له عزيمةٌ، حتى أفسدها علَيَّ، وجعل حياتي جحيمًا بعد نعيمٍ... ثم عاد الرجل إلى بكائه.
قلت: ومن هذا الذي دخل بينكما، حتى كان الفراق مصيرَكما؟
• قال: أبدًا، لَم نفترق، وما أستطيع ذلك من قريبٍ أو من بعيدٍ، فوالله لَأن أعيشَ الشقاءَ بالقرب منها خيرٌ لي من أن أعيشَ النعمةَ في البُعد عنها، ما أستطيعه يا صاحبي، وإني والله ما زلت أخشى أن تكونَ نهايتنا إلى تلك الخاتمة السيئة، ومن أجل ذلك فإني ما زلت أداريها طمَعًا في توبتها، فأكشف لها من عِظم جريرتها، وأُريها أنها اقترفتْ في حقي ذنبًا كُبارًا، فما زلت تراني في إقناعها سالكًا كل دروب الإقناع، لا أعجز ولا أتوانى.
فتارةً تراني أسلك دربَ العقل والمنطق، فآخذ الفكرةَ فأشحذها وأمضيها؛ حتى تصيرَ أحدَّ من شفرة جزارٍ، وأقول عندئذٍ: وافرجاه! ولكن ما هي إلا مدةٌ حتى أراها قد عاودَتها صبابتها، وأعلم عندها أن مسلكَ العقل ليس بنافعٍ معها أبدًا.
وحينئذٍ أضطر فأسلك مسلكًا صعبًا، يزل فيه الخب، ويتعثر فيه الذؤيب، وينفضح فيه مَن لا يحسن الإفصاحَ؛ إنه مسلك الحس والشعور، فإذا سلكته فإني ألبَس للموقف لباسَه من الخضوع بالقول، وألتحف له لحافَه من التلاعُب بنغمات الصوت، وأثبت عيني في عينيها أريها أنهما تبرقان من حب، والبسمة خلالها تقسم محياي نصفين اثنين، وإذا ما رأيتُ منها إصغاءً في السمع، فإني أطمع فأعمد إلى قلبي فأزيده دقاتٍ وخفقانًا، وأعمد إلى أهداب عيني فأرقصها من طرَبٍ، فأصير أسمع من نفسي منكَرًا من القول، حتى يخيلَ إليَّ أنني لست بصاحبِ ذاك اللسان، أو أن غانيةً دَلولاً هي من يتكلم بلساني... لكني بمجرد ما أنهي كلامي، فأنظر إليها، فإذا هي كما كانت، فكأني لم أقلْ شيئًا، وكأنها لَم تسمعْ شيئًا، وتبقى الحال على ما كانت عليه، هذا إذا لم تزدَد به تمسُّكًا، وأزداد أنا بذلك يَأسًا وبؤسًا، ويصير حديثُ العاطفة عندي بعدها أتفهَ من خرافةٍ، وأصير أشُكُّ أن المرأةَ أميلُ إلى العاطفة من الرجل.
قلت له: ويحَها! وهل تركتَ مسلكًا للإقناع إلا سلكتَه؟ فماذا فعلتَ بعد ذلك؟
• قال: فعلتُ عجبًا يا صاحبي، فوالله لقد دفعَتني حيرتي في إقناعها، وأني سلكت دروبَ الإقناع كلها وما جنيت شيئًا... اضطرني ذلك كلُّه إلى ابتكار طريقةٍ في الإقناع، ليستْ هي من العقل ولا من العاطفة؛ وإنما هي شيءٌ آخَر، وقد سميتُها بكاءَ الاستعطاف، وصِفَتُها أني دخلت في بكاءٍ شديدٍ، فأعلنت لها عن شقائي وحزني، وأعلمتُها أنني إما أن أحيا بها، أو أهلِكَ دونها، ورجوتها أن تتمهلَ في إشقائي، وأن تجملَ بهذا القلب الذي برَّحه حبُّها، ومع ذلك لم أَرَ منها إلا المعاندةَ وشدةَ الشطط.
قلت: وما الذي فعلتَه بعد ذلك أيها الشقي؟
• قال: لَم أفعَله بعد؛ وإنما عقدت عليه العزمَ، فهو الآن نيةٌ، وغدًا يكون عملاً، ألا وهو أني رضيت أن أكونَ عندها ثانيًا، وأن أتشاطرَ وإياه قلبَها، أو أن أتعلقَ بهوامش حبِّها.
قلت: ما أقبحَ عشقًا كهذا الذي تحكي، وقبَّحك الله من عاشقٍ رضيَ لنفسه أن يكونَ لزوجه محبوبٌ غيره، وأن يكون هو نائبَه الأولَ... قال الرجل: على رسلك يا أبا السمادير، وما هذا الغلط في القول والحكم؟ أكنتَ تظنني أحدثك عن خبيثٍ دخل بيني وبين زوجي، فكان ما كان؟ أبدًا، لَم يكن من ذلك شيءٌ، فما زوجي بالمرأة الطُّلَعَة، التي تَشول رأسَها كعباد الشمس لينظرَ إليها الرجال، فيفتحون عليها أبوابَ الغواية على مصاريعها، وما صاحبُك بالديوث الذي يرضى لأهله المنكَرَ والفواحشَ؛ إنما الذي دخل بيننا وأفسد علينا سعادتَنا - شيءٌ آخَر أدهى من البشر، ألا وهو هذا اللعين الذي يسمونه مسحوقَ التجميل "ماكياج".
فوالله ما زلت أشقى بصحبة زوجي له، أراها تخلص له الود والمحبة، وأرى الخبيثَ يصبح ويمسي وهو يأكل من نضارة وجهها، ويسرق من بين يدي شمَّها وتقبيلها، فإذا ما هممت بتقبيلها، وجدت الخبيثَ قد سبقني إليها فقبَّلها، وترَك لي وجهَها مُزعةَ لحمٍ بلا طعمٍ، والأعجب من ذلك أنني أشاطرها ذنبَها، فتراني أبذل لها من حرِّ مالي في سبيل وصولها إليه.
هذا العدو الذي يغري كلَّ حسناءَ مليحةٍ، حتى إذا اطمأنتْ إليه فوهبَتْه زهرةَ جمالها، أخذها الخبيثُ فسلَبَها منها، فما هي إلا مدةٌ يسيرةٌ حتى يُصيِّرها كما قال الجاهلي:
شَمْطَاءُ جَزَّتْ شَعْرَهَا فَتَنَكَّرَتْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif..... مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
والأدهى من ذلك أنه ما يكتفي بواحدةٍ أو اثنتين، بل هو زِيرُ نساءٍ، يقطع كلَّ أرضٍ، ويعبر كلَّ بحرٍ، يفتن كل فتاةٍ يجد في قلبها رقةً وفُسُولةً، داهيةٌ أصابت الأرضَ في هذا الزمان، له من فنون الإغراء والإغواء ما يشبه السِّحرَ، ومن حبائله التي ينسجها لهن أنه يوسوس إلى إحداهن: إنك تكونين أحلى إذا فعلتِ كذا، وإن الذوقَ يستلزم كذا... والمسكينة تنصت إلى هذا الوحيِ الذي يتنزل عليها كالغيث، وإن سألتَني يا صاحبي عن غرَض الخبيث من كل هذا، أقول: إن غرضَه أن يفسدَ النساءَ، ويهدمَ البيوت، وأن يحاربَ الجمالَ الذي خلَقه البديع.
قال أبو السمادير: وتركت الرجلَ مكانه في السوق، وعجِلت إلى بيتي خوفًا مما سمعت، أن يستغل الخبيث غَيبَتي فيفسدَ علَيَّ زوجي، وبينما أنا في الطريق إلى بيتي، حبرت كلمةً في نفسي أكتبها أحذر الناسَ من هذا الشرِّ المستطير، قلت فيها:
أيها الناس، عليكم نساءَكم وبيوتَكم؛ فقد ظهر في الناس شيءٌ كأنه الدجال، يصيب النساء والبيوت، داهيةٌ دهياء، ما ينفع معها إلا الحياطةُ، والإكثارُ من الحوقلة والاسترجاعِ، يقال: إن اسمَه "ماكياج"، ولعل له أكثرَ من اسمٍ، وأكثرَ من صفةٍ.
قلت: انتهى الحديث.
http://www.alukah.net/Social/0/41432/#ixzz1wG2gagBP