المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترجمة الوالد الشيخ مطر العتيبي رحمه الله تعالى



أهــل الحـديث
27-05-2012, 06:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الوالد رحمه الله في سطور

هو الشيخ أبو سعدٍ مَطَرُ بن دغيس بن طَلَق بن هذال المرشدي الروقي العتيبي ، نسبة إلى عتيبة إحدى قبائل هوازن المعروفة .
ـ ولد عام 1361 هـ في ( غبيشة ) ـ وهو وادٍ ـ مجاورٌ لهجرة ( كبشان ) غرب مدينة الدوادمي بعالية نجد .
ـ نشأ في كنف أبوين صالحين ، فوالده : ( أبو محمد دغيس بن طلق ) واحدٌ من الرجال المعروفين بالشجاعة والحزم ، وكان يتولّى حِمَى الخيل ، وعرف بالدين والشهامة والشجاعة وإجادة الرمي ، توفي رحمه الله عام 1406.
وكانت والدته ذات دين وخلق كريم ، وقد توفيت عام 1389 رحمها الله .
ـ كغيره من أترابِهِ حينذاك فقد نشأ يرعى الغنم يتتبّع بها شعف الجبال ومواضع القَطْر ، إلا أن الله تعالى أراد له شيئا آخر ، فقد وجد في نفسه ميلا شديدا إلى التزوّد بالعلم وشغَفا بالتعلّم ، ولم يكن هنالك مدارس ولا معاهد ـ أعني في تلك الديار ـ ولم يكن بُدٌّ من أن يبحث عن وسيلة لطلب العلم ، فراح يسأل عمن يحسنون الكتابة والقراءة من أقاربه ، وكان أن ظفر بجماعة من أولئك الأفاضل منهم : (متلِع بن جالي )و(سعيّد بن جالي) و خال الوالد (عوض بن غافل) رحمهم الله جميعا ، فأخذ يأتي لهم بالألواح ويكتبون له فيها الحروف ومبادئ القراءة حتى أتقنَها ، ثم شرَع في حفظ القرآن الكريم حتى كان يتلو ما كتِب له في تلك الألواح وهو لمّا يميّز ، وربّما استغرق في القراءة ـ وهو خلف القطيع ـ حتى لم ينتبه إلا وقد غاب القطيع عن عينيه !
ـ لم يتوقّف نهَمُه للعلم عند حدّ معيّن ، بل صار يتطلّع إلى حضور دروس العلماء لكنه لم يستطع تحقيق أمنيته حينَها ؛ فوالداه في حاجته ولا يسرّه أن يجدا في نفسيهما عليه شيئا فهو معروف بالبر والإحسان لوالدَيه ، وقد كان يجد في خطيب الجمعة ـ الذي كان يبعد عن مسكنه قرابة عشرة أكيال ـ مصدراً من مصادر التلقي ووردا ينهل منه كلما شعر بعطشٍ إلى العلم ، وقد أخبرَنا غير مرةٍ أنه كان ينطلق يوم الجمعة والطير في وُكُناتها وهو في تلك السنّ إلى ذلك الجامع البعيد وقد تقلّد بندقيّته وهو يمشي تارة ويسعى تارة حتى يصلَ إلى الجامع وقد ارتفعَت الشمس قليلا .
ـ وجدَ الفرصة فيما بعدُ للتزوّد من العلم حين أذن له والده بالسفر إلى الرياض للدراسة ثم البحث عن وظيفة ، وقد جمع بينهما فكان أن التحق بالشرطة ثم (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وكان إلى ذلك يواصل دراسته التي ابتدأها من الصف الرابع فهو يستحق أكثر من ذلك كونه تعلّم وقرأ وكتَبَ من قبل ، فواصَل دراسته النظامية حتى حصل على الكفاءة ( المتوسطة ) ـ وكانت ذات قِيمة حينذاك ـ ، ثم نال ( دبلوم مركز الدراسات التكميلية ) فيما بعد .
ـ كانت الرياض حين قصَدَها تغصّ بالعلماء والشيوخ الأفاضل الذين شرّق صِيتُهُم في الآفاق وغرّب ، وكان من أبرز شيوخه :
1ـ الشيخ المقرئ المعروف عبد الباري محمد رحمه الله ، أحد القرّاء المصريين ، وصاحب البرنامج الشهير ( كيف تقرأ القرآن الكريم ؟ ) الذي بثّته إذاعة القرآن الكريم السعودية ، وقد صحّح الوالد عنه القراءة وختَمَ القرآن على يديه .
2 ـ الشيخ العلاّمة عبد الله بن محمد بن حميد ( ت 1402) رحمه الله ، وكان رئيس مجلس القضاء الأعلى وأحد مشاهير علماء نجد ، وقد حضر الوالد دروسه في الجامع الكبير بالرياض .
3 ـ الشيخ العلاّمة مفتي المشرقَين عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت1420) رحمه الله ، وقد كان الوالد حريصا على حضور دروسه متتبعا للقاءاته شغوفا بسماع توجيهاته وكان يصطحب بعض أولادِه إلى حيث ذلك المجلس المبارَك .
4 ـ الشيخ العلاّمة فهد بن حميّن الفهد ( ت 1428 ) رحمه الله ، وقد درس عليه متن ( لمعة الاعتقاد ) وغيره ، وكان يصحبه لحضور تلك الدروس الشيخ زبن بن عوض حفظه الله كما أخبرَني بذلك .
5 ـ الشيخ الفقيه صالح بن غانم السدلان حفظه الله , وقد درس عليه الوالد رحمه الله مبكّرا في ( صحيح مسلم ) وفي ( الروض المُرْبِع ) ـ كما أخبرَني بذلك الخال الكريمُ أبو عبد الله بدر بن ضويحي المرشدي حفظه الله ـوالذي كان يرافقه لحضور ذلك الدرس ومعهما جمعٌ من الطلَبَة من بينهم الشيخ زبن وغيره .
هؤلاء كانوا أبرز شيوخ الوالد ، وقد أفاد من غيرهم في مجالس متفرقة كالشيخ الفقيه الجليل صالح العلي الناصر ( ت 1406 ) رحمه الله ، والشيخ العالم الجليل عبد الرحمن الدوسري ( ت 1399) رحمه الله .
ـ صدرَ قرار تعيينه معلّماً في المدارس الحكومية عام 1392 هـ ليلتحق بكوكبة من الأفاضل الذين ترعرعَت على أيديهم ـ بعد توفيق الله ـ مدارس تحفيظ القرآن الكريم وكان على رأسهم : الشيخ محمد بن سنان رحمه الله ، والشيخ محمد بن إبراهيم بن طالب ، وكان من بينهم صديقه ورفيق دربه وابن خاله الشيخ زبن بن عوض العتيبي حفظهما الله .
ـ تلقى العلم والقرآن على يديه أجيال تلوَ أجيال على مدى قرابة ثلث قرن في تلك المدارس ، وكان من بين مَن درسوا عليه أفاضل وأعيانٌ معروفون ، ومنهم : فضيلة الدكتور عبد الله الشثري وكيل جامعة الإمام ، وفضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب إمام المسجد الحرام وخطيبُه ، وجماعة من الأفاضل والأماثل من القضاة والدعاة والوجهاء وغيرهم .
ـ وقد كان للوالد رحمه الله تميّز في بعض الفنون فكان إلى جانب اهتمامه بالقرآن الكريم وعلومه يحفظ ( رياض الصالحين ) كما أخبرَنا بذلك وكما هو ظاهر في استشهاداته في الدروس و المواعظ ، كما كان محبا للفرائض والمواريث ، وكان كثيرا ما يطرح المسائل الفرضية على أصحابه وأبنائه وتلاميذه فيقول : هلك هالِك عن كذا وكذا .. اقسِم المسألة ! ، وكان يفتي في المجالس وعبر الهاتف ، كما أنه كان عاشقا للغة العربية وعلومها لا سيّما ( النحو ) ، ولا نحصي كم كان يلقي إلينا مسائل الإعراب ، وما زلت أتذكّر ورقةً علّقها في مجلسنا قديما وكان كتبَها بخطّ يده وقد تضمّنت قصيدة ( لبيد بن ربيعة ) المشهورة :
ألا كلّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ .... وكل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دُويهيَة تصفرّ منها الأنامِلُ
كما تميّز في ( الحساب ) ومسائله ، وكان يرشدنا إلى بعض الطرق التي تيسّر المسائل الحسابية وما إليها . وإلى ذلك فقد رزِق المعرفة بالأمطار وما يسمّى عند العامّة : ( مخايلة البرق ) ، كما كان ينظم الشعر العامّيّ في شبابه ثم شغِل عنه بالقرآن .
ـ وقد صلّى بالناس صلاة التراويح وهو لم يجاوز العاشرة من عمره ، وكان يصلّي خلفه جماعات ، وصلّى بالناس فيما بعدُ في مساجد متفرقة .
ـ وكان يلقي دروساً في " التفسير " لا سيّما في ( تفسير ابن كثير ) و (تفسير السعدي ) اللذَين قرأهما وعلّق عليهما مِراراً ، وشروح كتاب التوحيد ( فتح المجيد ) و (تيسير العزيز الحميد ) وغيرهما ، و( رياض الصالحين ) و ( مختصر البخاري ) و ( الإحكام ) للشيخ عبد الرحمن بن قاسم وغيرها ، وكان له قراءاته الخاصة في كتب الأئمة لا سيّما مؤلّفات الشيخين الجليلين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى .
ـ وفي خزانته : تعليقات بخط يده واقتباسات ، وجمعٌ لفوائد بعض المصنّفات ، وقد رأيته جمَعَ أوراقاً ضمّنَها فوائد من ( مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية ) وغيرها , ورأيت له تعليقات على ( حاشية الروض المربِع ) للعنقري ، وغيرها .
ـ أما خلقه فكان طويلا، أبيضَ مشرباً بحمرة ، معتدلَ القامة ، سريعَ الخَطو ، ليس بالسمين ولا بالنحيف ، مشرق الجبين ، بهيّ الطَلْعة .
ـ وكان ذا شأنٍ في التعبّد و التنسّك ، لا يكاد يسبَق إلى المسجد ، كثير التنفّل والذكر والصيام والصدقة ، ملازما للتلاوة جالسا وماشيا ، وكم سمعته ينشج وهو يدعو الله تعالى أو تخنقه العَبرة حين يقنت في رمضان ، وربّما أوقظَنا لصلاة الفجر بصوتِهِ مرتّلا القرآن ، وكان كريما في غير سرَف ولا مباهاة بل كان يتعبّد الله تعالى بذلك ، زاهداً في الدنيا ، وكان محبّا للمساكين ساعياً على الأرامل والأيتام ، واصِلا لأرحامِهِ راعيا حق قرابتِه ، أمّارا بالمعروف نهّاءً عن المنكر ، ناصحا لجيرانه ، وقد عرف عنه إيقاظهم لصلاة الفجر كل يوم ، ولم يكن يبخل بالنصيحة لكل أحد ، وأخبرّني كثيرون أنهم لم يرَوا مثلَه في النصح والتوجيه ، وكان يسرّ لهم بالنصيحة حتى كان لها الأثر البالغ في نفوسِهِم .
ـ كما كان يقوم بجولات دعوية داخل المملكة وخارجَها ، وتنقّل هنا وهناك داعيا إلى الله ومرشدا ومعلّما .
ـ عُرِف ـ رحمه الله ـ بقلّة الكلام إلا فيما ينفع ، وكان ذا هَيبةٍ ووقار ، لا يسمَح لقائل أن يغتاب في مجلسِه أو ينمّ ، صاحب رأيٍ وحكمة ، ولم يحفظ عنه منذ صِغرِه ما يَشين ، ولم يعرَف عنه ما لا يليق ، بل كان ـ بفضل الله ـ ناشئا في طاعة الله معلّقا قلبه بالمساجد ، عفيفَ النفس ، مترفّعا عن السفاسِف ، محبا للصالحين مشفقا على سِواهم ، معتنيا بتربية أولاده والعناية بتعليمهم وتوجيههم .
ولم يزَل على حالهِ تلك حتى توفاه الله تعالى بعد أن ابتلي بمرض السرطان الذي عانَى منه أزيَدَ من عام ، وكان صابرا محتسبا ـ عظّم الله أجرَه ورفع قدره ـ، وقد كان يقول حين أبلِغ عن احتمال الاضطرار لإزالة جزء من اللسان : أخشى أن يحرمَني ذلك من ذكر الله ! لكنه بقي ـ بحمد الله ـ يذكر مولاه ويشكره ويصلي ما استطاع ، وكان يقول : لقد جاوزت سنّ الرسول عليه الصلاة والسلام فماذا أنتظر ؟، وكان آخر ما تكلّم به قبيل دخوله فيما يشبه الغيبوبة ـ بعد أن بلغ منه المرض مبلغَه ـ أنه كان يقرأ أذكار النوم وقد سمعناه جميعا وهو يقرأ آية الكرسي ، ثم بقي على تلك الحال من ليلة السبت حتى ضحى الأربعاء 8/5/1426 حين قُبِضَت روحُه وقد كنت حاضِرَه أنا وشقيقي عيسى (أبو فراس ) ، ـ بعد أن أخبرَنا الفريق الطبي أنه في مرحلة الاحتضارـ ومع ما كان فيه من الغيبوبة وغياب الشعور ـ إلا أنه رفع سبّابة يده اليمنى حين كنت ألقّنه الشهادة ، وأخبرَنا بعض الأطباء الأفاضل في ( مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض ) أنهم شاهدوا علامات حسن الخاتمة له ـ فيما نحسِب والله حسيبُه ولا نزكيه على الله ـ ، وأرجو أن يكون الله كتب له الشهادة ؛ فإن تقرير الوفاة يفيد أن السبب المباشر باطني ، وقد صلّي عليه في جامع الراجحي بالرياض وأمّ المصلين عليه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله ، وقد أدّى العزاءَ فيه محبّوه من العلماء والأمراء والوجهاء والمساكين الذين كانوا يدعون له بلغاتهم المختلفة .
وقد رأى محبّوه فيه مناماتِ ورؤى صالحةً ، وتواردَت اتصالات المعزّين وهم يلهجون بالثناء والدعاء . فاللهم ارحمه واغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى وأقرّ أعيننا بلقائه ومرافقته في جنات عدن في زُمرة الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا .

تلك كانت ملامِح من سيرة الوالد رحمه الله ، ولولا ضيق المقام لتركت القلمَ يفيض بما هو أوسَع ، لكن حسبي هُنا تلك الإشارات ، وقد فصّلت في شرح ما مضى في سيرة موسّعةٍ هي في طور الإعداد ، وقد أفدت غالبَها مما أخبرَتني به الوالدة الكريمة حفظها الله ورفعَ قدْرَها ، وأجزل أجرها ، ورزقَنا برّها ، وضمّنتها شيئا مما بثّه شقيقي الشيخ الدكتور أبو معاذ سعد بن مطر ـ أستاذ السياسة الشرعية في المعهد العالي للقضاء ـ حفظه الله في مقالات متناثرة في الشبَكة العنكبوتية وسِواها ، ومواقف شهِدتها وشهِدَها غيري ، وقد أسمَيت تلك السيرة ( قبضة من أثَر أبي ) ،يسّر الله نشرَها ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله وصحبه

وكتَبَ : يعقوب بن مطر بن دغيس المرشدي العتيبي