المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الملم المغيث في علم الحديث [الجزء الرابع]



أهــل الحـديث
26-05-2012, 06:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الملم المغيث في علم الحديث [الجزء الرابع]
بسم الله الرحمن الرحيم




وقبل أن نكمل باقي مصطلحات الحديث، سوف نخصص هذا الجزء لحكم الحديث الضعيف، عند المحدثين والفقهاء والأصوليين، وحتى المتقين مع بيان أسباب الضعف بشكل مختصر، وبيان الشروط العامة للعمل بالحديث الضعيف، وبيان طرق تقويته؛اهـ

حكم الأحاديث الضعيفة:
تعود أسباب الضعف في الحديث، إلى الإسناد أو المتن،أو وفق شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه شرح النخبة "نزهة النظر" [ص: 96]، حيث قسم أسباب ضعف الحديث إلى قسمين وهما:
1.سقط في الإسناد ..
2.طعن بالراوي ..

1. سقط في الإسناد: والسقط هو الانقطاع بالسند، وقد قسم الحافظ رحمه الله تعالى السقط بالإسناد إلى قسمان هما سقط ظاهر، وسقط خفي..

أ.السقط الظاهر: وهو أربعة أنواع:

-المعلق: وهو ما كان في آخر السند، بدا بالمصنف أو المحدث المخرج للحديث، ولو كان السقط أو الانقطاع لأكثر من راوي على التوالي بعد المحدث المخرج لهذا الحديث ..
-المنقطع: وهو ما كان السقط أوسط السند بموضع واحد لراوي واحد، أو لراويين في موضعين مختلفين في أوسط السند دون التوالي أو التتالي، مع مراعاة الاتصال بعد المحدث المخرج للحديث ولو براوي واحد ..
-المعضل: وهو ما كان السقط في أوسط السند بالتوالي لراويين فأكثر، مع مراعاة الاتصال بعد الراوي المصنف المخرج للحديث أيضا ..
-المرسل: وهو ما كان السقط أو الانقطاع، في أول السند قبل التابعي، وصورته أن يقول التابعي كبيرا كان أم صغيرا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دون ذكر الصحابي الراوي الذي صحب النبي وجالسه وسمع منه الحديث ..


ب.السقط الخفي: وهو نوعين اثنين:

-المرسل الخفي: وهو أن يروي الراوي التابعي عن صحابي، عاصره ولم يلتقي به، أو لقيه ولم يسمع منه، أو سمع ممن سمع منه كوسيط ثقة، ولم يذكر سماعه من الوسيط، بل قال من المصدر المسموع عنه..
-المدلس الخفي: وهو ما رواه الراوي عمن لقيه من غير الصحابة، ولم يسمع منه إلا عن طريق وسيط ثقة، فقال أنه سمع من المصدر وهو الصحابي أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم..

للتوسع راجع الجزء الثاني من "الملم المغيث في علم الحديث"، أو انظر في "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر" للحافظ [ص:96 – 102]؛اهـ

2.الطعن في الراوي: وهما قسمان:

أ.طعن بالضبط: وهو خمسة أنواع:

- سوء الحفظ: ويكون ذلك بكثرة النسيان عند الراوي، أو تفويت بجزئيات نقل النصوص التي قد تخل بمعنى المتن، أو بضعف الحفظ إلا بكثرة تكرار النص، مع عدم توفر هذه الميزة، وسوء الحفظ مع تقدم العمر أو تدهور الحال بالمصاب الشديد، وتتابع الهموم، إلى غير ذلك، وميزان سوء الحفظ عند المحدثين، أن يكون غلطه، أكثر من إصابته..
- مخالفة الثقات: وتكون ناتجة عمن هو دون الثقة حتى لو كان حسن الرواية وذلك بمخالفته برواية متن، لمن هو ثقة بروايته للمتون، أو بمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه بنوع الرواية أي أنه ثبت بثقته في كل روايته تسلسلا ولم يتغير حفظه في أخر عمره، دون أدنى اختلال أو علة، أو فاضل ثقة ثبت بكثرة روايته الصحيحة التي لم يشهد بها علة ولا شذوذ، أو خالف من قارنه بدرجة الثقة، وفاقه أقرانه بالعدد أي عدد الرواة بذات الرواية المخالفة، أو انفرد برواية لم يروها أحد غيره من الثقاة أقرانا أو متقدمين عله بالثقة؛ وتكون المخالفة بمنحيين: منحى متني بإنقاص أو زيادة طرف في المتن الأصح المحفوظ أو المعروف، أو في السند، بتغير سياق السند بشكل متفرد مخالف لسياق سند الأوثق الأصح بالسند؛اهـ
- الوهم: وهو أن يتوهم الراوي نصوص منسوبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب السذاجة، أو ضعف التحقق للضعف العلمي، وعموم تصديق أغلب ما يروى، من باب حسن الظن بالمصدر أيا كان، أو من قبل شخص موثوق عنده، ومحبوب، لم يجمع غيره على أنه كذلك، أو سماعه للنص تذاكرا دون بيان الإسناد، وتوهم أنه مسند كونه من شيخ ثقة، أو توهم من النص أو المتن غير واقعه المسموع أي نسجه بنسيج لفظي مخالف لحقيقة اللفظ ومعناه الصحيح، لأنه أخذه بفهم خاطئ دون أن يحفظ لفظه الأصلي، متوهما أن فهمه يوافق فحوى المتن الأصلي، أو كان من عادته أنه يروي كل سمع على أنه حديث شريف، دون التدقيق بالمصدر، ما دام أنه يصب في مصب الصواب بالمعنى، متوهما أن هذا فعل صحيح ..
- الغفلة عن الإتقان: وتكون بالسماع من مصدر واحد دون المقارنة بمصادر أخرى مشهود لها بالعدالة والضبط، أي بإهمال التحقيق والتدقيق بالنقل، والتمحيص بالعقل، وعدم مراعاة نقل المتن بلفظه الأصلي، والاكتفاء بالمعنى فقط ..
- فحش الغلط: أي كثرة الخطأ بشكل يضعف الثقة بصحة نقله للفظ المتن، فيصبح غير موثوق به بما ينقل أو يروي، حتى لو كان يروي الصحيح؛اهـ

ب. طعن بالعدالة: وهو خمسة أنواع أيضا:

- الجهالة: وهو الجهل الناتج عن نقص العالم، وقلة الدراية عند الراوي، ويضم ذلك جهلة لما يحمله من متن الحديث، أو تكون هذه الجهالة بحالة الراوي بحيث لا يعرف حالته من ناحية العدالة والضابطية، فيصنف بين الرواة على أنه "مجهول الحال" أو يكون مجهول الشخصية أو الذاتية، فلا يعرف له أسم كأن يقال روي عن رجل، أو بأحسن الأحوال يقال عن رجل من تميم مثلاً فهذا يصنف على أنه "مجهول العين" أي مجهول بذاته ونسبه..
- البدعة: ويشمل ذلك كل معتقد مبتدع بالدين محدث على خلاف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه معروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء تقبل روايتهم، ما لم يروا شيء فيه ترجيح لمعتقدهم الفاسد، شرط أن تتوفر فيهم أكثر شروط العدالة والضبط ..
- الاتهام بالكذب: وهو من يشتبه به أن وضاع لما أصل له بالحديث، من باب الظن لا القطع فيهمل حديثة من باب ورع التوقي، لأن الظن هو الكذب الثاني، ويسمى متهم بالوضع ويصنف حديثه بالحديث المطروح، فإن شهد أحد النقاد المحدثين أنه صدوق وشهد جمع بغير ذلك صنف على أنه "متروك الحديث" ويصنف حديثه بالمتروك ..
- الكذب بالحديث: وهو من أجمع على كذبه بالحديث محدثين فأكثر دون أن يقول بصدقه أحد المحدثين، ويسمى بالوضاع ويسمى حديثه بالحديث الموضوع ..
-الفسق: وهو الخروج عن حد من حدود الله، أو خرق الاستقامة لأمر من أوامر الله، أو تجاهل نهي من نواهيه، أو ارتكاب كبيرة من الكبائر، دون الوصول إلى حد الكفر المطلق؛اهـ

انظر في "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر" للحافظ العسقلاني [ص:103 – 113]، والجزء الثالث من "الملم المغيث في علم الحديث"؛اهـ

وكما نوهنا من قبل أن صحة الإسناد ترتبط عادتا مع صحة المتن، ولكن ضعف الإسناد لا يلزم بضعف المتن، فقد يصح السند ولا يصح المتن لمخالفته لما وثق نقله، وثبت عقله، ووافق الأصول، أو يضعف السند لشذوذ أو علة فيه، ويصح المتن، فإذا ما اندرج مضمون المتن، تحت أصل مجمع عليه ومعمول به في أصول الدين القطعية الثبوت والدلالة في الكتاب والسنة الصحيحة عند الفقهاء والأصوليين، ومن حذا حذوهم من المحدثين الفقهاء، والفقهاء المحدثين، والمحدثين الأصوليين ..
فالضعف بالإسناد قد يكون في إسناد معين، لذلك يقال هذا حديث ضعيف بهذا الإسناد، وقد يكون في ذات الوقت قوي أو صحيح في إسناد آخر أو عدة أسانيد أخرى، بذلك يصلح ويقبل ويحتج به بشروط تقوية الضعيف المتفق عليها ..

يقول الحافظ السيوطي: ( إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف فلك أن تقول هو ضعيف بهذا الإسناد، ولا تقل ضعيف المتن لمجرد ضعف ذلك الإسناد، إلا أن يقول إمام: إنه لم يرو من وجه صحيح، أو إنه حديث ضعيف مفسرا ضعفه، فإن أطلق ففيه كلام يأتي قريبا، وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل: قال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] كذا، وما أشبه من صيغ الجزم، بل قل: روي كذا، أو بلغنا كذا، أو ورد، أو جاء، أو نقل، وما أشبهه، وكذا ما تشك في صحته )، ورد في "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 348] ..
وقال نحو ذلك كل من ابن الصلاح، والسخاوي، وابن الملقن، والإمام النووي، في كل من "علوم الحديث" لابن الصلاح [ص: 92 – 93]، وفي "فتح المغيث" للسخاوي [ج1/ص: 265 – 266]، وفي "المقنع" لابن الملقن [ج1/ص: 103] ..
وألحنهم بيننا الفقيه المحدث الإمام النووي، حيث يقول: ( إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف، فلك أن تقول: هو ضعيف بهذا الإسناد، ولا تقل ضعيف المتن، ولا تصفه بالضعف المطلق، فقد يكون له إسناد آخر صحيح، وقد ينكشف حال الضعف عند المجتهد بموافقة القياس ،أو أقوال الصحابة والتابعين،أو دلالة النصوص )، ورد في "إرشاد طلاب الحقائق" للنووي [ج1/ص: 268 – 269] ..
ويقول القرطبي ابن عبد البر: ( رب حديث ضعيف الإسناد، صحيح المعنى )، ورد في "التمهيد" [ج1/ص: 58]؛اهـ
ومن شروط التقوية أيضا، وجود العاضد أو السند المقوي، وقد يكون بالمتابعة لسند يصح على أساس قياس شرطي على شرط الشيخين في الصحيح، كما فعل المحدث الحاكم النيسابوري في كتابه"المستدرك على الصحيحين"، أو التقوية بالقياس على شروط أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد في صحة السند الشرطي..
فمثلا شرط أبي داود السجستاني و أبو عبد الرحمن النسائي في تصحيح السند: ( هو اعتماد تخريج السند لرواة لم يجمع المحدثين على تركهم، وخصوصا المحدثين الذي اختصوا بعلم "الاصطلاح" ومراتب صحة الحديث وبعلم "الجرح التعديل" بمعرفتهم أحوال رجال الرواية شرط أن يكون السند متصل من غير انقطاع )؛اهـ. انظر في "مختصر سنن أبي داود" للمنذري [ج1/ص: 8] ..
فالحالة الأولى في شرطية قبول رواية الراوي المجروح، مع شرطية عدم انقطاع السند، هو عدم إجماع جمهور المحدثين والحفاظ، على جرحه ..
أما الحالة الثانية الشرطية في قبول الراوي في حالة اتصال السند، ( هو اعتبار حالة الراوي حالة شيوخه)؛ انظر في "شروط الأئمة الخمسة" للحازمي [ص: 39 – 47] .. [إن القرين بالمقارن يقرن] ..
وسنن أبي داود السجستاني، هي أفضل السنن، ويليه بالفضل المحدث الفقيه أبي عيسى الترمذي تلميذ الإمام المحدث الفقيه أبي عبد الله البخاري شيخ المحدثين ..
فإن شرطيته بالتصحيح بعد اتصال السند دون علة أو شذوذ، هي بصحة المتن وتقديم ذلك على السند، في حالة ثبت له عمل واعتماد لهذا الحديث من قبل عدد من أجلاء الفقهاء ..
وفي ذلك يقول الإمام الترمذي في شرطه الرابع لصحة الحديث: ( ما أخرجت في كتابي إلا حديثا قد عمل به بعض الفقهاء، فعلى هذا الأصلكل حديث احتج به محتج أو عمل به عامل أخرجه سواء صح طريقه أم لم يصح )، ورد في "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر [ص: 21] ..
وقد قال ابن طاهر في الشرط الرابع للترمذي: ( وهذا شرط واسع )، ورد في "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر [ص: 21] ..
وقد سبق أبو داود الترمذي في سعة الشرطية للصحة فقال: ( ذكرت الصحيح وما يشبهه، وما يقاربه )؛اهـ . ورد في "مختصر السنن" للمنذري [ج1/ص: 6 – 7] ..
ويمكن تلخيص شروط العمل بالحديث الضعيف عند المحدثين، بأربعة شروط هي:
1.أن يعمل به في الفضائل والزهد ورقائق الإيمان، والقصص، والمواعظ والترغيب والترهيب ..
2.أن لا يكون الحديث الضعيف المعمول به من فئة الواهي الشديد الضعف، أو شبه الموضوع ..
3. أن يكون في مجال أو أصل معمول به بأحاديث أكثر صحة في السند والمتن، أو متفق على صحة هذا الأصل عند مجمع العلماء..
4.أن يعمل به من باب الاضطرار لا الاختيار، في حالة الحاجة، مع فقدان الدليل البديل في صحيح السنة، وكان البديل في قول العلماء من باب الاجتهاد والقياس ..
5.أن يعمل به من باب الاحتياط لا التوثيق نتيجة عدم توفر حديث صحيح بديل، مع اعتماد متن الحديث دون نسبته لمنتهاه إن لم يكن من النوع المقبول المعتبر به أو المقوى المعمول به ..

----------------------------

وكما أسلفنا ونوهنا أن الحديث الضعيف، بإجماع أكثر المحدثين، يعمل به في مجال الفضائل، والترغيب والترهيب، وقال بعضهم في مجال الزهد والرقائق، شرط أن يكون خفيف الضعف، أي مقبول معتبر به أو مقوى معمول به، أي ما لم يكن شاذا أو منكرا أو متروكا أو مطروحا إلى غير ذلك من أنواع الخبر الشديد الضعف المعروف بالواهي ..
وممن أيد هذا المفهوم عند الإمام النووي:
الحافظ السيوطي: ( ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد [الضعيفة] ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف والعمل به من غير بيان ضعفه ..... وذلك كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلق له بالعقائد ولأحكام )، ورد في "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 98]؛اهـ
وقد ورد في "مواهب الجليل" للحطاب [ج1/ص: 17]، وفي "شرح الخرشي" للشيخ خليل [ج1/ص: 23]: ( إن كان الحديث ضعيفا، فقد اتفق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال )؛اهـ
وقال علي القاري: ( الحديث الضعيف معتبر في فضائل الأعمال، عند جميع العلماء الأرباب الكمال )، ورد في "الأجوبة الفاضلة" للكنوي [ص: 36]؛اهـ
وقال ابن حجر الهيتمي : ( قد اتفق العلماء على العمل بالحديث الضعيف، في فضائل الأعمال )، ورد في "شرح الأربعين" للهيتمي [ص: 32]، حتى أنه تجاوز بذلك المقبول الضعيف المتصل إلى المنقطع، فقال: ( وقد تقرر أن الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والموقوف، يعمل بها في فضائل الأعمال إجماعا )، ورد في "الفتاوى" للهيتمي [ج2/ص: 54]؛اهـ

تعليق هام:
أقول وما توفيقي إلا بالله، الاتفاق المجمع عليه بالضعيف بكل أشكاله مقبول الضعف أو غير مقبول، أن يعمل به بفضائل الأعمال، والترغيب، والموعظة، والرقاق والزهد، هو بدلالة المعنى دون النسبة لمنتهاه تصريحا، إلا من باب الالتماس، فالخير والحق، كله ملتمس من مصدره المرسل من الله، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان متصل دون علة قادحة أو شذوذ، كأن يكون فيه راوي متروك الحديث، أو منكر الحديث، أو متهم بالوضع أو مجهول الحال، والحالة، أو أن لا يكون انقطاع سنده معضل مثلا، أو أن لا يكون له مكافئ أو مقارب بمدلوله لما هو أوثق منه بصحة السند، حينها ينسب إلى أصله المصدر بالتصريح ..
وسبب العمل به بالفضائل ورقائق الإيمان، هو أن سلوك الإيمان أمر ذوقي شهودي، يجهله كثير من الرواة الموثوق، لأنه وإن كان أكثرهم ثقاة ثبوت ولكنها عباد لم يتجاوزا طور الإيمان الظني الاعتقادي، إلى الإيمان القلبي الحقيقي، الذي لا يدرك إلا بالأذواق، لأن الإيمان الحقيقي له مذاق لا يدركه إلا من أراد الله له هذا الذوق الوجداني الرفيع، وكل من لم يذقه جهل هذه الحقيقة، والمرء عدوا لما يجهل، وهو ما جعل كثير من ثقات الرواة العباد يحجمون عن حمله، ومن ثم روايته ..
لذلك نجد أنه حتى المتشددين من أهل الكمال تساهلوا بأحاديث رقائق الإيمان أمثال من حاز مرتبة الحاكم بالحديث، وهو الإمام أبي عبد الله "أحمد بن حنبل" حيث يقول: ( أَحَادِيثُ الرِّقَاقِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُتَسَاهَلَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ شَيْءٌ فِيهِ حُكْمٌ )، ورد في "الكفاية" للخطيب البغدادي [ج1/ص: 399]؛اهـ
ويعني فقيهنا المحدث ابن حنبل بقوله هنا، أنه يعمل به ما لم يكن له مكافئ أو مقارب في الصحيح أو الحسن، أو لم يخالف الأصول أو يناقض المنقول أو ينافي المجمع عليه المعقول؛اهـ
وحتى الإمام البخاري فقد تساهل بشروط الراوي شرط أن يكون صادق أمين لأن هذه الصفات رأس صفات وأكثر من اشتهر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛اهـ
لذا يقول الحافظ السخاوي: ( وسهلوا في غير موضع رووا: حيث اقتصروا على سياق إسناده من غير تبيين الضعف, لكن فيما يكون في الترغيب والترهيب من المواعظ والقصص وفضائل الأعمال ونحو ذلك خاصة )، ورد في "فتح المغيث" [ج1/ص: 287] ..


أما إن خضع لشروط التقوية المتفق عليها عند علماء الحديث، فيرتقي لمرتبة الحديث الحسن، فيكون مقبولا يرجح العمل به اعتبارا، ويحتج به من باب الاضطرار، إن لم يكن له رديف في الصحيح أو الحسن، أو خالف ما هو أصح منه سندا ومتنا، أو كان رديفه هو: القياس والرأي واجتهاد العلماء ..
وذلك معتمد عند الفقهاء المجتهدين، وعلى رأسهم أئمة المذاهب، فهو معمول به أيضا بالحلال والحرام، والفرض والواجب..
شرط أن لا يخالف ما اتفق عليه الفقهاء من ظاهر الشريعة..
يقول ابن القيم: ( وأصحاب أبي حنيفة قالوا مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة، أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعليه بنا مذهبه )، ورد في "أعلام الموقعين" لابن القيم [ج1/ص: 77] ..
وهو مذهب الإمام مالك الذي كان يأخذ بالمراسيل ولو كانت من صغار التابعين، والإمام الشافعي رحمه الله تعالى، كان يستدل بالمرسل إن لم يجد سواه؛ اهـ . انظر في "أعلام الموقعين" لابن القيم [ج1/ص: 31 – 32]ن وفي "فتح الباري" لابن حجر [ج5/ص: 90] ..

ومنه نفهم جانب من قول الإمام الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي الحائط )، ورد في "شرح المهذب" للنووي [ج1/ص: 104]، وفي "تحفة المحتاج" للهيتمي [ج2/ص: 2] ..
والصحة هنا عند الشافعي تشمل صحة المتن ومطابقته للأصول الثابتة الشرعية وما أجمع عليه العلماء ولا ينحسر بصحة السند فحسب ..
فقاعدة الفقيه بالحديث: ( الحديث إن وافق نقل الأصول القطعية والمتفق عليها، وأقر بثوابت المعقول، فهو معمول به مقبول معتبر )؛اهـ
ولا ينافى المعقول إلا الخبر الظني بالثبوت أو الدلالة أو الحالتين معا، مع الاستحالة والشذوذ، ومخالفة الإجماع، مع الثابت بالعرف الديني العام المجمع عليه ..

ويقول الفقيه المحدث أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى: ( الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي )، ورد في "تهذيب التهذيب"لابن حجر [ج5/ص: 337]، وفي "المحلى" لابن حزم [ج1/ص: 68]، وفي "فتح المغيث" للسخاوي [ج1/ص: 80]، وغيره ..
وحذا حذوهم من الفقهاء المحدثين كل من أبي داود والكمال بن همام، والترمذي ..

حكم الأئمة المحدثين بالحديث الضعيف: قبل المضي بمتابعة مصطلحات الحديث المشتركة بين العلماء فقهاء كانوا أم أصوليين ومحدثين، سوف نتطرق لشروط تقوية الحديث الضعيف، وأعني المقبول الضعف، وليس الواهي "الشديد الضعف" والموضوع الذي لا أصل له، وهذا الأخير هو الذي رواه من غير الصحابة والتابعين راوي كذاب، أو شاع بين الناس ولا أصل له في كتب العلماء، ومصنفات المحدثين ..
من أساليب وشروط تقوية الحديث ما بيناه سلفا في السطور العليا وهو المتابعة والشاهد، ولكن يجب أن نعرف من قيل أنه عارض العمل بالضعيف مطلقا ..
يقول الإمام النووي: ( قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام )؛اهـ . ورد في "المجموع" للنووي [ج3/ص: 226] ..
وقيل أن علماء الحديث أكثرهم وافق الإمام النووي على هذا الاتفاق إلا خمسة، هم:
أولا: البخاري:
وقد نسب بعض العلماء للبخاري عدم إقراره بالحديث الضعيف، لأنه حرص على تكون كل أحاديث "صحيح البخاري"، صحيحة با منتخبة من الصحيح، كما بين ذلك القاسمي في "قواعد التحديث" [ص: 113] ..
وقول الكوثري في "المقالات" [ص: 45]: ( والمنعُ من الأخذ بالضعيف على الإطلاق: مذهبُ البخاري، ومسلم، وابن العربي شيخ المالكية في عصره، وأبي شامة المقدسي كبير الشافعية في زمنه، وابن حزم الظاهري، والشوكاني. ولهم بيانٌ قويٌّ في المسألة لا يُهمل )؛اهـ
لكن ثبت أن البخاري صنف الحديث الضعيف في كتابه "الأدب المفرد"، وإن قل عدد هذه الأحاديث، وهو ما يضعف من إمكانية أن مذهب البخاري يرد الضعيف مطلقا ..


ثانيا: مسلم:
فقد قسم رواة الحديث إلى ثلاثة أقسام، يفهم منه أنهم رواة الصحيح والحسن والضعيف، وقد قال في مقدمة صحيحة في رواة الضعيف : ( فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم )، ورد في "صحيح مسلم" لمسلم [ج1/ص: 7]، وفي "شرح مسلم" للنووي [ج1/ص: 55] ..
إلا أن صاحب مسلم وهو ابن سفيان، قال: ( إن مسلما أخرج ثلاثة كتب من المسندات: ....... والثالث: يدخل فيه من الضعفاء )؛اهـ ، ورد في "صيانة صحيح مسلم" لابن سفيان [ص: 91] ..
وهذا الكلام يعني أنه الإمام مسلم بن الحجاج، صنف وخرج الحديث الضعيف؟!! ..

و قيل أن أبو شامة المقدسي رفض العمل بالحديث الضعيف، واستدلوا يقوله: ( وهذا عند المحقِّقين من أهل الحديث وعند علماء الأصول والفقه خطأ )، ورد في "الباعث" للمقدسي [ص: 75] ..
ولكن المفاجأة أن أبو شامة في نفس "الباعث" استدل بالحديث الضعيف؟؟!! ..

وقد ذكر السيوطي في "تدريب الراوي" [ج1/ص: 298]، والسخاوي في "فتح المغيث" [ج1/ص: 287]، أن ابن العربي قال بعدم جواز العمل بالضعيف مطلقا ..
لكنه ناقض قوله بأن استدل بالضعيف في "أحكام القرآن"، وقد ذكر في "عارضة الأحوذي" لابن العربي [ج1/ص: 205]، في تعليق ابن عربي على حديث التشميت للترمذي: ( روى أبو عيسى [الترمذي]، حديثا مجهولا (( إن شئت شمته، وإن شئت فلا ))، ثم قال: وهو وإن كان مجهولا، فإنه يستحب العمل به، لأنه دعاء بخير، وصلة للجليس، وتودد له )؛اهـ

وأكد ذلك ابن حجر في "فتح الباري" [ج1/ص: 606]، وفي "تنزيه الشريعة" للكناني [ج2/ص: 209]، ذكر أن ابن العربي في حديث النهي عن النظر إلى فرج الزوجة، قال : ( وبكراهة أقول، وأن الخبر وإن لم يثبت بالكراهية، فالخبر الضعيف، أولى عند العلماء، من الرأي والقياس )؛اهـ
فوافق بذلك فقهاء المذاهب الأربعة ..
وذكر أن ابن حزم ممن عارض العمل بالضعيف، إلا أننا نجده في كتابه "المحلى" استشهد بالضعيف؟! ..
وقال الزركشي: ( شذ ابن حزم عن الجمهور فقال: " ﻟﻮ ﺑﻠﻐﺖﻃـﺮﻕ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ ﺃﻟﻔﺎﹰ ﻻ ﻳﺘﻘﻮﻯ، ﻭﻻ ﻳﺰﻳﺪﺍﻧﻀﻤﺎﻡ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ إلى الضعيف إلا ضعفا )، ورد في "النكت" للزركشي [ج1/ص: 323] ..
ومع ذلك نجد ابن حزم شذ بعدم قبول تقوية الضعيف، وليس بالعمل به؟!! ..

وذكر في "عيون الأثر" [ج1/ص: 65]، أن يحيى بن معين خلاف من أقر بالعمل بالحديث الضعيف، وذكر الخطيب البغدادي خلاف ذلك في "الكفاية" [ص: 213]، وكذلك في "فتح المغيث"، وفي "الكامل" لابن عدي [ج1/ص: 366]، قال ابن معين رحمه الله تعالى: ( إدريس بن سنان يكتب حديثه بالرقاق )؛اهـ
وقال في البكائي : ( لا بأس فيه بالمغازي [المراسيل]، وأما في غيرها فلا )، ورد في "تاريخ الدارمي" لابن معين [ص: 348]، وفي "ميزان الاعتدال" [ج2/ص: 91] ..
وقال في تاريخه برقم [1331] عن البكائي صاحب ابن إسحاق : ( ليس بشيء، وقد كتبت عنه المغازي )؛اهـ، ورد في "الكامل" لابن عدي [ج3/ص: 1048]، وفي "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي [ج8/ص: 477 – 478] ..
وحتى في "صحيح البخاري" وفي "صحيح مسلم" وجد ضعيف الحديث، وقيل أن الدار قطني، تتبع صحيح البخاري ووجد فيه أكثر من ثلاثمائة حديث ضعيف ..
فما سبب وجه التناقض بين القول والعمل، عند من عارض العمل بالضعيف من المحدثين؟ ..
فقد أخبر البخاري أنه حفظ مائة ألف حديث صحيح، وضعف هذا العدد من غير الصحيح، ولم يستوعب الصحيح في صحيحة، حتى لا يطول؛انتهى اهـ، انظر في "تاريخ بغداد" للخطيب [ج2/ص: 8]، وفي "التهذيب" للنووي [ج1/ص: 74]؛اهـ
وذلك بعد أن استخلصها من ستمائة ألف حديث كانت منتشرة في زمانه؛ واستخلص من ما وثق من صحيحة وكان عددها [9.82] حديث، نحو أربعة ألاف حديث، فإذا ما استثنينا المكرر منها، فيبقى في صحيحة نحو ألف حديث معلل قد يضاف إلى الضعيف: انظر في "مختصر علوم الحديث" لابن كثير [ص: 9]؛اهـ
ومسلم وقع بالحديث المعلل الضعيف أكثر من مرة ومنه ما تداركه له شيخه شيخ المحدثين أبو عبد الله البخاري، مثل حديث "كفارة المجلس" فرغم أن سند مسلم كان كله من الثقات، إلا أن البخاري استخرج فيه علة عدم التلاقي بين راويين من رواته فحواها: أن موسى بن عقبة لم يسمع من سهيل بن أبي صلاح، وإن سمع فتذاكرا، إنما رواه وهب خالد عن سهيل الذي روى عنه أكثر من مرة؛اهـ انظر قول البخاري في "عارضة الأحوذي" لابن العربي [ج7/ص: 34]؛اهـ
ورواه برواية مسلم التلميذ الثاني للبخاري وهو أبو عيسى الترمذي، وقال بحكمه: [هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه]؛اهـ

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ )، رواه الترمذي في "سننه" [ج5/ص: 460/ر:3433]، صححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:3433]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج3/ص: 282/ر:10043]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج2/ص: 354/ر:594]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:3010]، والألباني في "صحيح الجامع" [ر:6192]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

فإمساك مسلم عن رواته كان بسبب ورع المحدث، أما مضي الترمذي والإمام أحمد في هذا السند رغم علته الخفية هو الجانب الفقهي الصحيح، وهي مجتمعة في ملكات البخاري أي الخبرة في علل الرواة، وفقه بالعلل المتنية ..
لذلك نجد أن مسلم بن الحجاج، قال بأن شيخه البخاري هو: ( أستاذ الأساتذة، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله )، ورد في "البداية والنهاية" لابن كثير [ج11/ص: 96]..
وتلميذه الثاني أبو عيسى الترمذي، قال في الإمام البخاري: ( لم أرى في العراق ولا في خراسان، في معنى العلل, والتاريخ، ومعرفة الأسانيد، أعلم من محمد بن إسماعيل [البخاري])، ورد في "تاريخ بغداد" للخطيب [ج2/ص: 27]؛اهـ
ورغم كل حرص مسلم بعدم الوقوع بالضعيف إلا أنه وقع فيه أكثر من مرة تدارك بعضها، ومضى بالباقي، ليتداركه المحققين "نقاد الحديث" ..
نجد حتى من أراد أن يتمثل بالدقة بدقة الإمام مسلم، وهو المحدث "الألباني" رحمه الله نعالى، وقع بخطأ التحقيق بالتضعيف والتصحيح بأكثر من 85% مما حققه كناقد محدث، قبل أن يصل إلى الحكم النهائي به، وعاد في آخر حياته، لإعادة تحقيق 5%، لما ثبت فيه حكمه؛اهـ
والإمام مسلم كان أكثر وقوعه بالخطأ من باب التساهل لإدراك صحة المتن أصولا ومصداق ذلك:
ما قاله الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، حيث قال رحمه الله تعالى: ( كل ما ورد بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق وفيه دلالة موجودة [في كتاب الله]، وعليه إذا كان بعينه حكم، وجب إتباعه )، ورد في "الرسالة" للشافعي [ص: 477]؛اهـ


والجواب على هذا التناقض بين القول والعمل عند أئمة الحديث، هو حرصهم على تقديم الصحيح والحسن على اشتغال الناس بضعيف الحديث، إلا بمعاني الدين السامية إن فقدت بالصحيح وما شابهه وقاربه، أو في حالة الضرورة وهو ما وافق عليه أئمة المذاهب أيضا؛اهـ
أما وجه الاحتجاج أن هذا المذهب منشأه: ما رواه مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ )، رواه الترمذي في "سننه" [ج5/ص: 35/ر:2662]، وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج1/ص: 43/ر:38]، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:36]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج1/ص: 181/ر:905]، وصححه الشيخ شاكر في "مسند أحمد" [ج2/ص: 174]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج1/ص: 212/ر:29]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:8631] ووثق تصحيحه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:6199]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

وما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قال: ( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ... )، رواه الشيخان، البخاري في "صحيحة" [ج5/ص: 2253/ر:5719]، ومسلم في "صحيحة" [ج16/ص: 335/ر:6482]، ورواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 697/ر:4917]، ورواه الترمذي في "سننه" [ج4/ص: 313/ر:1988]، وقال:[حسن صحيح]، ورواه الإمام مالك في "الموطأ" [ج2/ص: 907/ر:731]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج3/ص: 228/ر:9675]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج12/ص: 499/ر:5687]، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:2901]، والألباني في " صحيح الجامع" [ر:2679]، وخلاصة حكمه: [متفق عليه] ..

قال النووي في شرحه للحديث: يُرَى: أي يَظُنُّ. وقال في "شرح مسلم": ( وأما فقه الحديث فظاهر. ففيه تغليظ الكذب والتعرض له، وأن من غلب على ظنه كذب ما يرويه فرواه، كان كاذباً. وكيف لا يكون كاذباً، وهو مخبِرٌ بما لم يكن؟ )، ورد في "شرح مسلم" للنووي [ج1/ص: 65]؛اهـ
ولكن ظن الكذب في هذا الحديث ليس مقيد بالسند بل بالمتن، فالمحدثين الذي عارضوا العمل بالحديث الضعيف، تساهلوا فيما صح متنه بالدلالة والمعنى؛اهـ


حكم الحديث الضعيف عند فقهاء المذاهب الأربعة:
يقول إمام الفقهاء علي كرم الله وجهه: ( إنكم سوف تختلفون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اختلافا كبيرا، فإن أتاكم حديثه صلى الله عليه وآله وسلم، فانظروه في كتاب الله عز وجل، فإن وافقه فهو منه وإن لم يقله )؛اهـ
ويقول كرم الله وجهه: ( القرآن أصل علم الشريعة، نصه ودليله )؛اهـ
فحكم الحديث الضعيف مقبول معمول به عند الفقهاء ما لم يخالف شريعة الكتاب الكريم ..
والفقهاء في حالة الموافقة الحديث الضعيف مع ظاهر الشريعة في الكتاب الكريم، مقبول معتبر عندهم إن لم يكن له بديل في الصحيح والمتواتر، أو كان بديله بالقياس، فإن كان منقطع السند أخذ به على أساس أن يكون أكثر رواته ثقات أو من رواة الحسن، لأنهم يرون أن أكثرهم من رواة القرون الثلاثة الخيرية الأولى، فليس لهم أن يروا ما لا يسمعوا، وأكثر رواة القرون المفضلة، مشهود لهم بالعدالة والحفظ والصدق والأمانة، يقول ابن دقيق العيد: ( الصحيح ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين [مبني]، على صفة عدالة الراوي في الأفعال والأقوال، مع التيقظ )، ورد في "الاقتراح" لابن دقيق [ص: 186]؛اهـ
فعند الفقهاء إن كانت العلة بالراوي المسند للمتن بضبطه إلا أن يكون كاذبا غير مؤتمن، فلا بأس بذلك حتى لو أصابه بعض خرف أو وهم أو غلظة بغلط، شرط أن لا يصل لدرجة متدنية جدا، فهو مقبول ما دام مستقيم صادقا خالي من كثير من خوارم المروءة، ويكفي عند الفقهاء أن يكون بالراوي شروط من تقبل له الشهادة في القضاء أو عند القاضي..
يقول الحازمي: ( أما الفقهاء فأسباب الضعف عندهم محصورة، وجلها منوط بظاهر الشريعة، وعند أئمة النقل أسباب أخرى مرعية عندهم، وهي عند الفقهاء غير معتبرة )، ورد في "شروط الأئمة الخمسة" للحازمي [ص: 173]؛اهـ
فإن كان الراوي غلطه فاحش ونسيانه ووهمه كثير، أو كان حديثه منكرا، ولكن له روايات مقبولة وحسنة، وشهد بعض علماء الحديث ونقد الحديث، بصدقه، وحسن حفظه وقلة خطأه في مقتبل عمره، فإنه يرتقي عندهم من درجة الراوي المهجور إلى درجة الراوي المستور، فتقبل روايته، شرط عدم الاختلال بالجانب الأخلاقي عنده، وأهمها كما أسلفنا الاستقامة وصدق الحديث والأمانة بحمل النقل ولو بالجهد دون السداد أحيانا لضعف بالذاكرة أو سوء بالحافظة إلى غير ذلك من العلل الذهنية؛ انظر في "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 177]؛اهـ
والفقهاء يعتمدون جبر الحديث الضعيف لسقط بالسند أو طعن بالراوي، ويحسنوا مرتبته، بالمتابعات والشواهد، لأنهم يرون بذلك تصحيح لإمكانية خطأ الرواية ومحظورها، ويرون بذلك توثيقا لفحوى المنقول، بغلبة الظن على الصواب بأنه منتهي إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ..
وقد اشتهر هذا عند المحدث الفقيه أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى، حيث كان يحسن الضعيف المنجبر بالشواهد؛اهـ
فالمقدم عند الفقهاء هو صحة معنى المتن، على صحة اتصال السند، ولم ينكر أهمية صحة المتن حتى المتشددين من المحدثين، الذين قيل أنهم لم يقبلوا بالعمل بالحديث الضعيف مطلقا، ومنهم ابن العربي، فقد قال في تعليقه على حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( لا صلاة بعد صلاة الفجر، إلا ركعتي الفجر ): { فهو وإن لم يصح مسندا، فهو صحيح المعنى }؛ ورد في "عارضة الأحوذي" لابن العربي [ج2/ص: 215- 216]؛اهـ
وقال أيضا بحديث السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها، بدعاء دخول المسجد: { حديث فاطمة وإن كان منقطع السند، فإنه متصل المعنى }؛ ورد في "عارضة الأحوذي" لابن العربي [ج2/ص: 112- 113]؛اهـ
وعند الفقهاء حتى ما يرويه الثقة عن مثله دون انقطاع، أو علة أو شذوذ، يرد في حالات معينة، وللفقيه الأصولي أبو اسحاق الشيرازي الشافعي، في ذلك مقال، حيث يقول: ( إذا روى الخبر ثقة، رد بأمور:
أولا: أن يخالف موجبات العقول، فيعلم بطلانه؛ لأن الشرع يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا..
ثانيا: أن يخالف نص كتاب الله، أو سنة متواترة، فيعلم أنه لا أصل له [موضوع]، أو منسوخ..
ثالثا: أن يخالف الإجماع، فيستدل به على أنه منسوخ، أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ، وتجتمع الأمة على خلافه..
رابعا: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم..
خامسا: أن ينفرد برواية ما جرت به العادة أن ينقله أهل التواتر، فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذه الرواية، فأما إذا ورد مخالفا للقياس، أو انفرد الواحد بما يعم به البلوى فلا يرد )، ورد في " شرح اللمع" للشيرازي [ص: 157 – 158]؛اهـ

ويمكن تلخيص ذلك كله بالقاعدة العامة عند الفقهاء والأصوليين والتي تنص: ( كل حديث خالف الأصول، أو ناقض ما أجمع عليه الفحول، أو نافى المعقول، فهو رد على غير اعتبار )؛اهـ
يقول ابن الحصار الأندلسي: ( قد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول، أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث والعمل به، واعتقاد صحته؛ وإذا لم يكن في سنده كذاب، فلا بأس بإطلاق القول بصحته، إذا وافق كتاب الله، وسائر أصول الشرع )، ورد في "النكت" للزركشي [ج1/ص: 107]؛اهـ
ويؤيد ذلك قول ترجمان القرآن وإمام الفقهاء ذو السبطين علي كرم الله وجهه، وقيل من قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ( من روى عن رسول الله حديثا، لا يوافق آية من آيات الكتاب، فاضربوا بحديثه عرض الحائط )؛اهـ
ويؤيد هذه الأثر، قول الله تعالى: ( ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )[النحل : 44]..
وقوله عز من قائل: ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [النحل : 64]؛اهـ
فالسنة بيان القرآن وشرحه، يقول ترجمان القرآن، والسنة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ( السنة شرح الكتاب، فمن ضل عن السنة ضل عن الكتاب )؛اهـ
وسوف نتطرق الآن لرأي فقهاء المذاهب الأربعة وأصحابهم، بالحديث الضعيف:

أولا: فقهاء الأحناف:

يقول الكمال بن همام: ( الضعيف غير الموضوع، يعمل به، في فضائل الأعمال )، ورد في "فتح القدير" لابن همام [ج1/ص: 349]..
وأكد ذلك الخادمي بقوله: ( قيل عن ابن همام رحمه الله: (( يجوز ويستحب العمل، في الفضائل والترغيب والترهيب، بالحديث الضعيف، ما لم يكن موضوعا )) )، في "بريقة محمودية" للخادمي [ج1/ص: 115]..
وقال من الأحناف بمثل قول ابن همام، ابن عابدين في "حاشيته" [ج1/ص: 128]؛اهـ
إلا أن الإمام أبو حنيفة تعدى ذلك إلى اعتماد ذلك بالأحكام الشرعية، إن كان مرادفه القياس، ومن الأمثلة ذلك:
- أن الإمام أبو حنيفة قدم حديث: ( أكثر الحيض عشرة أيام )، على الاستنباط بالقياس، رغم أن هذا الحديث متفق على ضعفه عند علماء الحديث ..
- وقدم حديث: ( لا مهر أقل من عشرة دراهم )، على القياس، رغم إجماع المحدثين على ضعفه، بل أن بعضهم قال ببطلانه ..
- وقدم حديث ( الوضوء بنبيذ التمر )، على القياس، رغم أن أكثر المحدثين ضعفوه ..
- بل وقدم الحديث ( منع قطع يد السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم )، على القياس، رغم أن الحديث ضعيف، وقيل باطل ..
وغير ذلك من الأمثلة التي تبين تقديم الحديث الضعيف والواهي على القياس والرأي عند الأحناف، حتى وان اشتد ضعفه عند الضرورة ..

حتى أن ابن همام قال: ( روى الترمذي مرفوعا: (( من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ))، حسنه الترمذي وضعفه الجمهور، وليس في هذا ولا في شيء من طريق علي [ابن أبي طالب]، حديث صحيح، لكن طرق علي كثيرة، والاستحباب يثبت بالضعيف غير الموضوع )، ورد في "فتح القدير" لابن همام [ج2/ص: 133]؛اهـ
منه نفهم أن فقهاء الأحناف، قوا صحة نقل الحديث بكثرة طرقه ولو كانت ضعيفة بمجملها ولكن تقويه بدلالة شهرة المتن لكثرة رواياته وطرقه..

ثانيا: فقهاء المالكية:

يقول الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: ( وأما فضائل الأعمال، والآداب الحكمية، فلا تتوقف على ذلك [أي صحة الحديث سند]، بل يتأنس لها بالحديث الضعيف، والآثار المروية عن السلف )، ورد في "حاشية الشرح" للصاوي [ج4/ص: 771]؛اهـ
والإمام مالك كان يقدم المرسل، وما يروى بالتبليغ والمذاكرة، وأقوال الصحابة، على القياس،اهـ
ومن الأمثلة على ذلك:

1. موضوع وجوب البسملة والصلاة على النبي عند البدء بأمر ذي بال، واستشهد المالكية بالحديث: (( كل كلام لا يذكر الله تعالى فيه، فيبدأ به، وبالصلاة علي، فهو أقطع ممحوق من كل بركة ))، رواه الديلمي في "مسند الفردوس"، وقال الحافظ السخاوي: سنده ضعيف؛اهـ
قلت: ( وإن كان ضعيفا فقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال )، ورد في "مواهب الجليل" للحطاب [ج1/ص: 17]، وفي "شرح الخرشي" لخليل [ج1/ص: 23]؛اهـ

2. موضوع إحياء ليلتي العيد، قال ابن الفرات رحمه الله: ( استحب إحياء ليلتي بذكر الله تعالى والصلاة وغيرها من الطاعات، للحديث: (( من أحيا ليلة العيد، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب؛ [أو في رواية أخرى: من أحيا ليلتي العيد، أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب] ))، وروى مرفوعا وموقوفا، وكلاهما ضعيف لكن أحاديث الفضائل يتسامح بها )، ورد في "مواهب الجليل" للحطاب [ج2/ص: 193]؛اهـ

ثالثا: فقهاء الشافعية:

كان الإمام الشافعي يقدم المرسل والضعيف على القياس أيضا، ومثال ذلك تقديمه حديث جواز الصلاة بمكة وقت النهي، على القياس، رغم ضعف الحديث ..
وقدم حديث: ( من قاء أو رعف فليتوضأ، وليبن على صلاته )، على القياس، رغم أنه حديث ضعيف مرسل ..
ومن الأمثلة على ذلك أيضا:

1. حديث: قول أقامها الله وأدامها، عند قول المقيم : قد قامت الصلاة، يقول الإمام النووي الشافعي بحكم هذا الحديث: ( رواه أبو داود عن أبي أمامة، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو حديث ضعيف، لأن الرجل مجهول، ومحمد بن ثابت العبدي، ضعيف بالاتفاق و[فيه] شهر مختلف بعدالته ... ثم قال: وكيف كان فهو حديث ضعيف، ولكن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال باتفاق العلماء، وهذا من ذاك )، ورد في "المجموع" للنووي [ج3/ص: 226]؛اهـ
2. حديث: إحياء ليلتي العيد: يقول الإمام النووي: ( قال أصحابنا [الشافعية]، يستحب إحياء ليلتي العيدين بصلاة أو غيرها من الطاعات؛ [واحتج] له أصاحبنا: بحديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أحيا ليلة العيد، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ))، وفي رواية الشافعي وابن ماجه: (( من قام ليلتي العيدين، محتسبا لله تعالى، لم يمت قلبه حين تموت القلوب ))، رواه عن أبي الدرداء موقوفا، وروي من رواية أبي أمامة موقوفا عليهن ومرفوعا كما سبق، وأسانيد الجميع ضعيفة، .... ثم قال النووي رحمه الله تعالى: "واستحب الشافعي والأصحاب الإحياء المذكور، مع أن الحديث ضعيف، لما سبق في أول الكتاب، أن أحاديث الفضائل يتسامح فيها، ويعمل على وقف ضعيفها" )، ورد في "المجموع" للنووي [ج5/صك 49 -50]؛اهـ
3. صوم شهر رجب: منها: يقول الحافظ ابن حجر: ( وقد تقرر أن الحديث الضعيف والمرسل والمنقط والمعضل، والموقوف، يعمل بها في فضائل الأعمال إجماعا، ولا شك أن صوم رجب، من فضائل الأعمال، فيكتفى فيه بالأحاديث الضعيفة ونحوها، ولا ينكر ذلك إلا جاهل مغرور )ن ورد في "الفتاوى" لابن حجر [ج2/ص: 54]؛اهـ


رابعا: فقهاء الحنابلة:

قال الخلال، بموقف الإمام أحمد من الضعيف: ( مذهبه أن الحديث الضعيف إن لم يكن له معارض، قال به )، ورد في "شرح المنير" لابن النجار [ج2/ص: 573]، وفي "النكت" للزركشي [ج2/ص: 313]؛اهـ
إلا أن للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، سبق في تقديم الحديث الضعيف وإن أشتد ضعفه على القياس، فقد أخد بحديث: ( العرب بعضهم لبعض أكفاء، إلا حائكا أو حجاما )، مع أنه واعني الحديث في حكم الاصطلاح "منكر"، بل وحكم القرطبي بوضعه، إلا أنه كان معمول به، مقبول عند الإمام أحمد ..
وقد سأل رحمه الله: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟!، فقال: ( العمل به يعني: أنه ورد موافقا لأهل العرف )، ورد في "المغني" لابن قدامة [ج9/ص: 395]؛اهـ
وأخذ بالحديث الذي رواه حكيم بن جبير: ( فيمن تحل له الصدقة )، رغم أن حكيم كان "منكر الحديث"؛ انظر في "النكت" للزركشي [ج2/ص: 314 -316]؛اهـ

كما أخذ رحمه الله تعالى بحديث: ( لا صلاة لجار المسجد، إلا في المسجد )، رغم شدة ضعفه، وذكره ابن الجوزي في "موضوعاته الكبرى" مع الموضات؛اهـ
إلى غير ذلك من الأمثلة؛اهـ

أسباب جواز العمل بالضعيف ورفض الموضوع:
يمكن تلخيص ذلك بعدة فروقات، هي:

1. الحديث الضعيف بأكثر أحواله منسوب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بشكل أو بآخر تصريحا أو التماسا، أما الموضوع فهو مكذوب ملفق مصطنع لا أصل له في مسند السنة، لأن واضعه كذاب ..
2. الحديث الضعيف سبب ضعفه سقط بالسند أو علة بضبط الرواة أو جهالة بحال الراوي وحالته، أما الموضوع وهو المكذوب، فصاحبه إما كذاب مغرض عدو للدين، أو مبتدع زنديق، أو صاحب ميل وهوى وخرافة، إلى غير ذلك ..
3. الضعيف تباح روايته في مصنفات أصحاب الحديث، لذلك نجده في كتب أكثر المحدثين، بما فيهم الجهابذة، باستثناء الشيخين البخاري ومسلم في صححيهما، إلا ما كان من غير عمد لعلة خفية فيه، وهو ما لا ينطبق على الموضوع الذي صنف له نقاد الحديث مصنفات خاصة، جمعوه بها..
4. الحديث الضعيف عمل به شريحة كبيرة من العلماء وأجمع أكثرهم على العمل به، بل جميعهم على التحقيق، إن لم يكن في متنه رديف صحيح، أو لم يخالف الصحيح، بعكس الموضوع ..
5. الحديث الضعيف يكون بين الراجح المقبول، والمرجح المقوى، فإن ثبت صدقه فإن خير صدق من خير البرية، وإن لم يصدق نسبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو ليس فيه ضرر إن كان فحواه الحق وصح بالمعنى ..
وبذلك يقول الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى، بمراتب الحديث: ( إذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام، وإن احتمل الأمرين [أي كان ظني الثبوت، وهو الضعيف]، روي لاحتمال صدقه، ولعدم المضرة من كذبه، .......... إلى أن قال: بخلاف الموضوع، فيحرم العمل به )، ورد في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية [ج18/ص: 65 – 68]؛اهـ
كما أن الحديث الضعيف كان معمول به بالقرون الخيرية الأولى وعلى وجه الخصوص قرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، حيث كانوا يرسلون ولا يسندون، حتى عام ثمانين هجرية، وهو ما لا ينطبق على الموضوع؛اهـ
6. الحديث الضعيف يعمل به بغلبة الظن بنسبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما لم يجزم بعكس هذه الغلبة، أما الموضوع، فهو مجزوم بكذبه أبدا، ومسبقا ..
7. الحديث الضعيف قد يرتقي لمرتبة الحسن بتعدد الطرق إن وجدت له متابعات، أو كان له شواهد في الصحيح، بعكس الضعيف فهو لا يُقوّى بغيره ولا يُقوّي به غيره، ولا يحتج به ..
8. عدم الأخذ بالضعيف مطلقا فيه مخالفة وشذوذ مع أكثر علماء الأمة، أما العمل بالموضوع، فهو مخالف لم أجمعت عليه الأمة ..
9. العمل بالحديث الضعيف مقدم على الاستنباط بالقياس، والاجتهاد بالرأي، بخلاف الموضوع، فإنه خلي من الاعتبار ..

مخاطر ترك الضعيف مطلقا:
لترك الحديث الضعيف مخاطر أهمها: تقوية مساحة العمل بالرأي والاجتهاد والقياس عند العلماء وتقديمها على السنة الشارحة لمكنون الكتاب بالشكل الأكمل والأمثل، لذلك نجد الفقهاء الأصوليين من أئمة المذاهب أدرجوا في مذاهبهم نحو ألف وخمسمائة حديث ضعيف من باب الاستدلال، حتى لا يقدموا الرأي والاجتهاد، والقياس على الأخبار المحمدية، من ناحية أخرى فإن كمية الأحاديث الضعيفة كبير جدا، مقارنة مع الصحيح والحسن منها، وإهمالها دون أن يكون لها مرادفات في الصحيح مقدم عليه، مخاطرة كبيرة، بفتح المجال لمن يسمون أنفسهم بالقرآنيين والعلمانيين، الذين يمهدون إلى هدم العمل بالسنة ومن ثم بمذاهب الفقهاء، والذين يمثلون امتداد للخوارج والجهمية، وغيرهم من المبتدعة، والغلاة والملحدين ..
إضافة لمخاطر عقائد التشييع والتبشير المسيحي، في حالة التوقف بالعمل بأحاديث العقيدة والسلوك، بسبب ضعف سند أحاديثها بسبب علة أوإنقطاع، لذلك في حالة الضعف الغير مقبول، مع صحة المعنى نأخذ بالمعنى دون نسبته تصريحا لصاحب الخلق العظيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..


طرق تقوية الحديث الضعيف:

1.تقوية الحديث الضعيف بالمتابعة:وهي أن يوافق راوي، راوي آخر في روايته عن الصحابي، بطريق آخر للرواية توصل مواضع الانقطاع، وتقوي ضعف سند الرواية بتعويضه بالراوي الثقة، إن كان الأصل متهم بالوضع، أو متروك الحديث، أو مجهول الحال، إلى غير ذلك من رتب الراوي الضعيف التي تضعف السند رغم اتصاله، ويشترط بذلك عدم الشذوذ بمخالفة الثقة "المنكر" ..

وفي حالة كانت موافقة طريق رواية الراوي القوي للضعيف عن نفس الشيخ، سميت متابعة تامة، أما إن كانت عن شيخ آخر سميت متابعة قاصرة..
إذا فالمتابعات هي تعدد طرق الرواية، التي تعاضد الرواية الضعيفة فتحسنها إن كان فيها وهن، وتوصلها إن كان فيها انقطاع؛اهـ
يقول الحافظ ابن حجر: ( المقبول ما اتصل سنده وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة )، ورد في "قوة الحجاج" لابن حجر [ص: 12] ..

يقول الإمام أحمد: ( وَإِنِّي لأَكْتُبُ كَثِيرًا مِمَّا أَكْتُبُ أَعْتَبِرُ بِهِ وَيُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضًا )، ورد في "الجامع" للخطيب البغدادي [ج2/ص: 193/ر:1583] ..


2. تقوية الحديث الضعيف بالشواهد: وهو تقوية الحديث الضعيف، بحديث صحيح أو حسن، برواية صحابي آخر لمتن يوافق الحديث الضعيف بمعنى اللفظ لا نصه ..
ويكون معتبر معمول به بمعناه عند الفقهاء أكثر منه عند المحدثين، لأن صحة المتن لا تقوي رفع سنده إلى منتهاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معتبر معمول به أيضا عند الأصوليين ..
أما إذا طابق الشاهد الحديث الضعيف مطابقة نصية للفظ المتن، بشكل تام أو شبه تام، كأن تستبدل بعض الكلمات بأخرى مرادفة لها اشتهرت في متون الحديث لا تغيير شيء في تمام مدلول اللفظ النصي المباشر، فإنه يقوي الحديث الواهي "الشديد الضعف" إلى مرتبة الحديث الضعيف المعتبر به، فإن كان خفيف الضعف، أرقاه إلى مرتبته أي إن كان الشاهد حسن جعل الحديث المعاضد به حسن لغيره، وإن كان صحيح، جعله صحيح لغيره، وهكذا هلم جر ..
ويمكن تمييز هذا النوع من الشواهد بمصطلح الشاهد القرين، فالقرائن تقوي الضعف كالمتابعات، وهي نوع من أنواع التقوية بطرق الرواية ..
يقول ابن القيم: ( وَالْمُرْسَلُ إذَا اتّصَلَ بِهِ عَمل، وَعَضّدَهُ قِيَاسٌ، أَوْ قَوْلُ صَحَابِيّ، أَوْ كَانَ مُرْسِلُهُ مَعْرُوفًا بِاخْتِيَارِ الشّيُوخِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ الرّوَايَةِ عَنْ الضّعَفَاءِ وَالْمَتْرُوكِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَقْتَضِي قُوّتَهُ؛ عُمِلَ بِهِ )، ورد في "زاد المعاد" لابن القيم [ج1/ص: 379]؛اهـ

وفي حالة كان الحديث الضعيف له شاهد مقارب لمضمون الدلالة والمعنى، استدل به بالدلالة المعنى، موقوفا على الصحابي الراوي وليس مرفوعا ..
يقول القرطبي ابن عبد البر: ( الحديث الضعيف لا يدفع، وإن لم يحتج به، ورب حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى )، ورد في "التمهيد" للقرطبي [ج1/ص: 62] ..
وهناك شواهد أخرى تقوي الحديث، من غير الحديث هي:

3.تقوية الحديث بموافقة مضمون القرآن والإجماع:
وتكون الموافقة مع كتاب الله بالنص والدلالة، وهو ما يقوي صحة معناه، عند الفقهاء والأصوليين، والمحدثين، لأن المحدثين لديهم اتصال السند، ومطابقة المتن يقويان يقين نسبه الخبر إلى منتهاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهم محقين بذلك وفق قواعدهم بتوثيق الحديث؛اهـ
يقول الاشبيلي الشافعي في "الأحكام الوسطى": ( أو يكون حديث تعضده آية ظاهرة البيان من كتاب الله، فإنه وإن كان معتلا أكتبه، لأن معه ما يقويه ويذهب علته )، ورد في "الأحكام الوسطى" للاشبيلي [ج1/ص: 70] ..
ومنشأ ذلك فقهي أصولي لأن الفقهاء يقدمون صحة المتن، على نسبه لمنتهاه، لقول الإمام علي كرم الله وجهه: ( من روى عن رسول الله، حديثا لا يطابق آية من آيات الكتاب، فاضربوا بحديثه، عرض الحائط )، وقد تداول الإمام الشافعي هذا الأثر، وقال: ( إن صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط )، فمذهب الإمام الشافعي كان فقه التشريع، وهو ما طابق الخبر الصادق ومتواتر هدي السنة، وإجماع العلماء ..
يقول ابن الحصار: ( قد يعلم الفقيه صحة الحديث، بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله، والعمل به )، ورد في "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 67] ..


لأن الفقهاء المعتبر عندهم مطابقة مدلول الحديث لمضمون الخبر الصادق "القرآن" ولظاهر الشريعة، وتوثيق النقل عندهم ثانوي؛اهـ، انظر في "شروط الأئمة الخمس" للحازمي [ص: 173] ..
كما أن الحديث عند الفقهاء والأصوليين يتقوي بالتداول والقبول بالاتفاق على صحته من حيث مضمون الدلالة الصحيحة ..
ويقول الحافظ ابن حجر: ( من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا [الحافظ العراقي]، أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنه يقبل حتى يجب العمل به. وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول )، ورد في "النكت" لابن حجر [ج1/ص: 30]؛اهـ
فإن خلاف نص الحديث ومدلوله ما أجمع عليه الفقهاء من الأصول الشرعية، والأصوليين من الثوابت العقدية، فإن ذلك يعل الحديث، فيترك ولا يعمل به، حتى لو كان ظاهر إسناده الصحة، مما يجعل تركهم للعمل به دلالة على هجره أو بطلانه ، وفق القاعدة المشتركة عندهم: ( كل حديث خلاف الأصول، أو نافى المعقول، فهو رد )، انظر في "الموضوعات الكبرى" لابن الجوزي [ج1/ص: 106]؛اهـ / انظر في "شرح العلل" لابن رجب [ج1/ص: 324 – 332]..
وثبات المعقول عن الفقهاء، مبني أولا على العلم بصدق الخبر "الحديث"، وهو مبني على ما تلقته الأمة بالقبول وعقلت عليه بمألوف المعقول؛اهـ

أما الأصوليين فالعقل عندهم هو ما وافق الفطرة الإيمانية السليمة، وميزان التحقيق العلمي الأصولي..

ومثال على تطبيق هذا التقعيد عند الفقهاء ما ثبت عن الإمام الشافعي بقوله: ( وَمَا قُلْتُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ وَرِيحُهُ وَلَوْنُهُ كَانَ نَجِسًا، يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ لا يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِثْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ، لا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلافًا )، ورد في "الأم" للشافعي [ج1/ص: 13]، وفي "النكت" للعسقلاني ابن حجر [ج1/ص: 494 – 495] ..
وقد أكد ذلك الأمام النووي الشافعي، بقوله: ( اتفق المحدثون على تضعيف حديث أبي أمامة الباهلي: (( الْمَاءُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ، [وفي رواية] الماء طهور إلا أن يتغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه ))، قال الرباعي عنه في "فتح الغفار" [ج1/ص: 15]: { اتفق الحفاظ على ضعفه }؛اهـ
فالإمام الشافعي وافق العرف العام الذي اشتهر بين العامة، على ما أجمع عليه حفاظ الحديث، لأن المقدم عند الشافعي ما وافق ظاهر علم الشريعة ..
وأكد أن هذا هو موقف الفقهاء مجتمعين فيما ورد عن ابن المنذر، أنه قال: ( قد أجمع العلماء، على أن الماء القليل والكثير، إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت له طعما، أو لونا أو ريحا، فهو نجس )، ورد في "سبل السلام" للصنعاني [ج1/ص: 44]؛اهـ

فقدم الإمام الشافعي العمل بالإجماع فيما شاع عند العامة واتفق عليه الفقهاء والأصوليين على صحة سند الحديث، المقدم عند المحدثين، بعد بيان وتقوية مدلولات الحديث فقهيا ..
لذلك نجد أن الصنعاني عبد الرزاق، تابع في "سبل السلام"، قائلا: ( فالإجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة )؛اهـ

ومثال آخر على تقديم موافقة الأصول وثبات المعقول عند العلماء الفقهاء، والعلماء الأصوليين، على صحة السند المعتمد الأول عند العلماء المحدثين:
قول القرطبي: ( روي عن جابر بن عبد الله بإسناد لا يصح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( الدنيا أربعة وعشرين قيراطا ))؛اهـ
ثم تابع القرطبي ابن عبد البر، قائلا: ( وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده، ففي قول جماعة العلماء به، وإجماع الناس على معناه، ما يغني عن الإسناد فيه )؛اهـ، ورد في "التمهيد" للقرطبي [ج20/ص: 145]، وفي "فتح المالك" للقرطبي ابن عبد البر أيضا [ج5/ص: 12]..
ولا ننسى القول الشهير لابن القيم: بقوله: شهرة حديث معاذ بالاجتهاد تغني عن سنده ..
فقد قال ابن القيم في حديث معاذ: ( حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك ; لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟ ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم )، ورد في "إعلام الموقعين" لابن القيم [ج1/ص: 155] ..
فهنا نجد ابن القيم قدم شهرة الرواية وهي قاعدة توثيق عن الأئمة الأصوليين، على معرفة الرواة، بالمسمى والحال من ناحية العدالة والضبط بالشروط الرواية ..

مثال ثالث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ( من حفظ على أمتي أربعين حديثا،ً فيما ينفعهم من أمر دينهم، بعثه الله يوم القيامة من العلماء، و فضل العالم على العابد سبعين درجة الله أعلم بما بين كل درجتين )، رواه البيهقي في "شعب الإيمان" [ج2/ص: 270/ر:1725]، وقال في حكمه: [هذا متن مشهور بين الناس وليس له إسناد صحيح]؛اهـ
في هذا المثال، تجد تقوية الحديث يعتمد على شهرته عند العامة، ومطابقته وقبوله الضمني عند جمهور العلماء، وموافقته شاهد قرآنيا وهو قوله تعالى في كتابه العزيز: ( .... وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة : 11]، انشزوا: هنا أي هبوا إلى فعل الخيرات وأهمها نشر العلم ..
وله شاهد في الصحيح التام في المتن والسند فيما صح عند أبي داود والترمذي وابن ماجه من الكتب الستة الصحاح، وصحح عند الدارمي والإمام أحمد من باقي أئمة الحديث التسعة: ( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ )؛اهـ
وما ثبتت صحته عند الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد : ( نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه )؛اهـ
فهذا الحديث جمع بين شاهد الخبر الصادق والصحيح وإجماع العلماء واشتهار تداوله بين الناس، ووافق المعروف في ميزان الشريعة السمحة والعقيدة السليمة.؛اهـ

4.تقوية الحديث الضعيف بقول كبار الصحابة:
وأقصد هنا على وجه الخصوص الخلفاء الأربعة الراشدين، ثم باقي المبشرين العشرة ..
فقد ورد بالصحيح المتفق عليه المرفوع عند العلماء أن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، و وسنن خلفاءه واحدة ..
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )، رواه الترمذي في "سننه" برقم : 2676 ، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" برقم : 6096، وصححه الألباني في"صحيح الترغيب" [37] وفي "السلسلة الصحيحة" [937] وفي " صحيح ابن ماجه" [40] وفي "مشكاة الفقر" [92] وفي "شرح الطحاوية" [485] وفي "إصلاح المساجد" [83] وفي "تخريج كتاب السنة" [59] وفي "صحيح الجامع" [4369] وفي "صحيح الترمذي" [2676] وفي "صلاة التراويح" [86] وفي "صحيح أبي داود" [4607]، وقال الحاكم في مستدركه [329] : هذا حديث صحيح، وقال الجوزقاني في"الأباطيل والمناكير" [ج1/ص: 472] : صحيح ثابت مشهور، وخلاصة حكمه [ متفق عليه بإجماع العلماء] ..
ثم العبادلة الأربعة: وهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأخيرا عبد الله بن مسعود، ورغم أن ابن مسعود ليس منهم عند المحدثين، وبدلا عنه ابن الزبير، إلا أن عدالة ابن مسعود وإتقانه للعلم وفهم الرواية وحفظها أكبر وتخلفه عن العبادلة كان بسبب موته المبكر عن شهرة العبادلة ..
قال ابن الصلاح في "مقدمته": ( قال الحافظ البيهقي: وهذا لأن ابن مسعود تقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة )؛اهـ
وهو ليس من العبادلة عند الحنابلة:
قال الإمام أحمد: (العبادلة عند المحدثين أربعة من الصحابة الذين اشتهرت فتاواتهم، وكثرت آثارهم وهم:
عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير )، فقيل له: فابن مسعود؟ قال: ( لا، ليس من العبادلة )؛اهـ
وابن مسعود أساسي عند الفقهاء وخصوصا الأحناف كبديل عن ابن عمرو بن العاص ..
يقول العيني في "البناية" : ( والعبادلة هم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن الزبير)؛اهـ

انظر: في "شرح الألفية" للعراقي [ج3/ص: 16]، وفي مقدمة ابن الصلاح [ص: 296]، و تهذيب الأسماء واللغات للنووي [ج1/ص: 267]، و "البناية" للعيني [ج2/ص: 345]..

يقول الإمام الشافعي في منقطعات أو مراسيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: (أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه ..
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذي قبل عنهم، فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله، وهي أضعف من الأولى ..
وإن لم يوجد ذلك ‘نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كانت في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل‘ إن شاء الله )؛اهـ؛ ورد في "شرح علل الترمذي" لابن رجب [ج1/ص: 199] ..

ويشترط في آثار الصحابة المقوية للحديث الضعيف، أن تكون قطعية الدلالة بشكل لا يقبل الاجتهاد أو التأويل، أن لا يرد في آثار السلف قول يخالفه، ويشمل ذلك كبار الصحابة وصغارهم، عندها فإن هذا الأثر يقوي الخبر المحمدي الضعيف بالمعنى، ولا يصحح نسبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا بالالتماس، إن كان منقطع السند عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند المحدثين إلا أنهم والفقهاء والأصوليين متفقين على صحة المتن بهذه الحالة ..
يقول البيهقي: ( المنقطع إذا انضم إليه غيره، أو إذا انضم إليه قول الصحابة، أو تتأكد به المراسيل، ولم يعارضه ما هو أقوى منه، فإنا نقول به )، ورد في "معرفة السنن" للبيهقي [ج1/ص: 229] ..
وقال أيضا: ( هذا وإن كان مرسلا، فإذا انضم إلى ما روينا فيه عن الصحابة، وإلى ظاهر الآية، صار قويا )، ورد في "معرفة السنن" للبيهقي [ج3/ص: 406] ..

5.تقوية الحديث الضعيف بالقياس:
يقول ابن القيم: ( المرسل إذا اتصل به عمل، أو عاضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفا باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء، المتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عمل به )، ورد في "زاد المعاد" لابن القيم [ج1/ص: 379]؛اهـ
والمرسل هو أحد أنواع الضعيف المنقطع، فما إذا كان من النوع المتصل، فإنه يخضع للتقوية بموافقة القياس، طبعا شرط أن لا يكون من فئة الواهي شبه الموضوع ..
لذلك يصح عند عدد من العلماء الضعيف إذا ما حسن بالتقوية بموافقة القياس الجلي، أن ينسب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك للقرطبي قول: ( ما وفق القياس الجلي، جاز أن يعزى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، ورد في "فتح المغيث" للسخاوي [ج1/ص: 308]ن وفي "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 384]؛اهـ
فالمحدثين والفقهاء إذا ما وجدوا الحديث الضعيف موافق للقياس المجمع عليه طبعا، صححوا معنى متنه، وأجازوا نسبته إلى منتهاه إن كان من فئة المقبول بذاته، وهي طريقة في تقوية الحديث المقبول الضعف، عند الفقهاء لا المحدثين، لأن المهم عند الفقهاء صحة المعنى؛اهـ

6.تقوية الحديث الضعيف بمطابقة الواقع:
وهذا النوع من التقوية يكون بصحة المتن ونسبة إلى رسول الله صلى الله علية وآله وسلم، وهو يختص بالنبوءات أو الأخبار الغيبية؛اهـ
ولم يتكلم أحد من العلماء في هذا النوع من الخبر، إلا قول للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يدون في المجمع السني، لكنه محض حق صحيح الدلالة والمعنى، وهو قوله كرم الله وجهه بما معناها: ( إن في كتاب الله وحديث رسول الله، ما لا يؤوله إلا زمانه )؛اهـ
والمقصود من التأويل هنا مطابقة الواقع، يقاس على ذلك تأويل رؤيا نبي الله يوسف عليه السلام، عندما طابقت الواقع فسجد له أخوته وأبويه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ..... )[يوسف : 100] ..
وحقا هنا: أي مطابق للواقع..
ومن ذلك الأحاديث التي ذكرت بالرافضة، فمنها ما كان أميل للتحسين أكثر منه للتضعيف، ورواية أخرى كانت أميل بالسند للتضعيف أكثر منه للتحسين، لكن الصيغة التي تأخذ صفة الوضع في السند، هي الأكثر مطابقة للواقع؟!، وهي:
حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ التَّوَزِيُّ [مجهول الحال]، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ [مجهول]، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَخْرَمٍ الْبَصْرِيُّ [منكر الحديث]، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ [ثقة ثبت]، ثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ [ثقة]، عَنْ عِكْرِمَةَ [مجهول]، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال : ( يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نَفَرٌ، يُقَالُ لَهُمُ: الرَّافِضَةُ يَنْتَحِلُونَ حُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَهُمْ كَاذِبُونَ، عَلامَةُ كِذْبِهِمْ شَتْمُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، مَنْ أَدْرَكَهُمْ مِنْكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ )، رواه ابن القيسراني مرفوعا في "ذخيرة الحفاظ" [ج5/ر:2799]، والجرجاني في "الكامل" [ج6/ص: 261/ر:5827]، وقال الجرجاني في حكمه: [باطل] ..

ولكن هو صحيح بمتنه وبنسبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتمام مطابقته للواقع المعاصر بعد انجلاء الحقائق، فهو صحيح عدى طرفه الأخير الذي به الأمر بالقتل، لأنه تشريع لا يدخل بواقع النبوءة المحمدية إلا من الناحية المعقولة وفق ما ثبت عنها وأعني فرقة الرافضة من خباثة وباطنية وتسعير لنار الفتنة والفرقة بين المسلمين، ولمطابقة مع الواقع التاريخي من خلال قمع الخلافة الأموية والعباسية لهم، وقياسا على حكم نبي الله بما صح سنده بالاتفاق عن النبي صلى عليه وآله وسلم بحكمه بالخوارج الذي طبقه الإمام علي كرم الله وجهة، فقاتلهم وقتل أكثرهم ..
فالحديث الذي أخذ صفة الباطل، يصبح حسن مع طرفه أو متنه الأخير، وصحيحا دون هذا الطرف ..
وذلك لثلاثة أسباب:
1. تخصص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمعرفة الغيب وانحسار ذلك به، لقوله تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً [26] إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً )[الجن : 27] ..
2. لا يقبل هذا الأمر وهو معرفة الغيب على أساس تكهني إرهاصي لغير النبي، إلا أن يكون القائل قد وصله الخبر النبوي، فصاغه بقوله، ولكن يبقى نسبه للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم..
3. مطابقته للواقع بمجمل حيثياته الغيبية ولا يقبل بذلك صدف التكهن والإرهاص بذلك، بل تقبل نبوءة من نبي، ولا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كذب المنجمون ولوصدفوا ..

ومن الأمثلة أيضا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، للإمام علي كرم الله وجهه: ( يا علي يهلك فيك فئتان، محب غال، ومبغض قال )، وفي رواية : ( يهلك فيك رجلان: رجل بالغ بحبه لك، ورجل بالغ ببغضه لك )، وهاتان الروايتان موضوعتان، أي لم يتحرى العلماء سند نسبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالنسب..
ولكن يصحان مرفوعان بالنسبة، لمطابقة الواقع فالمحب المغالي بحبه هم الرافضة، وهم هالكون، والمبالغ بالبغض له هم الخوارج فقد وقد هلكوا ..
ومن الأمثلة أيضا ما نشهده اليوم مع اشتعال الفتن اليوم هذا الحديث بروايتيه:
حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ [صدوق حسن الحديث]، قَالَ : حَدَّثَنِي صَالِحٌ الْمُرِّيُّ [منكر الحديث]، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ حَسَّانَ [ضعيف الحديث]، عَنِ الْحَسَنِ البصري [ثقة يرسل كثيرا ويدلس]، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : ( لا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَمَا لَمْ يُزَكِّ [يزكي] صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَمَا لَمْ يُمَنِّ [يمني] خِيَارُهَا شِرَارَهَا، فَإِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ ضَرَبَهُمْ بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ )، رواه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" [ج1/ص: 20/ر:4]، وقال في حكمه: [إسناد شديد الضعف فيه صالح بن بشير المري وهو منكر الحديث]، ورواه العراقي في "تخريج الإحياء" [ج2/ص: 187]، وقال في حكمه: [مرسل] ..

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ [ضعيف الحديث]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ [ثقة]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ [ثقة ثبت حافظ فقيه واسع الرحلة]، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ [صدوق حسن الحديث]، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن المبارك [ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير]، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ [منكر الحديث]، قَالَ: حَدَّثَنَا خُلَيْدُ بْنُ حَسَّانَ [ضعيف الحديث]، عَنِ الْحَسَنِ البصري [ثقة يرسل كثيرا ويدلس]، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي كَنَفِهِ، مَا لَمْ يُمَالِ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا, وَلَمْ يُزَكِّ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا, وَمَا لَمْ يَشْتِمْ خِيَارُهَا أَشْرَارَهَا, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللَّهُ الْكَرِيمُ عَنْهُمْ يَدَهُ, ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ, وَضَرَبَهُمْ بِالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ, وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا )، رواه ابن المبارك في "الزهد والرقاق" [ر: 807]، ورواه الداني في "سنن الفتن" [ر:333]، وقالا في حكمه: [إسناد شديد الضعف فيه صالح بن بشير المري وهو منكر الحديث]، وخلاصة حكمه: [منكر] ..
فعدا أن أكثر متون هذا الحديث لها شواهد في الصحيح المسند، واللين الصحة الشبيه بالصحيح، وهو الحسن، والمقبول المقارب للصحة..
ولكن تأويل الواقع الذي نعيشه أكبر دليل على نسبة هذا الخبر إلى منتهاه صلى الله عليه وآله وسلم؛اهـ
ولكن يشترط هنا نسب المتن لمنتاه بمعنى المتن التماسا، لا بصريح لفظه..
وكما نجد المطابقات الغيبية للواقع هناك المطابقات العلمية أو الإعجاز العلمي، إن صحت مع الكشف العلمي مثال ذلك:
عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ نَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَأخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )، رواه أبو يعلى في "مسنده" [ج8/ص: 316/ر:4918]، ورواه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" [ج2/ص: 279/ر:2106]، ورواه الكناني في "تنزيه الشريعة" [ج2/ص: 290/ر:1754] ..
فقد تبين بالكشف العلمي أن النوم بعد العصر يضعف إفراز الجسم لهرمون الأدريانين المسئول عن تنشيط عضلة القلب، والجملة العصبية، وتبين أن نقصها يضعف القلب والدماغ وباقي الجملة العصبية، فيزيد الخمول الدماغي، ويضعف التركيز، وقد يسبب الخرف المبكر الزهايمر، أو الانحلال العصبي، أو نقص تروية الدماغ الذي عادتا ما يفضي للموت ..
ومما شاع واشتهر عند الناس، وربما بعض العلماء من غير المحدثين، أنه من أحاديث أو أخبار النبوة الأثر القائل: ( إياكم والأبيضان، قيل وما الأبيضان؟، قال: السكر والملح ):اهـ
وهذا الأثر قد يصح موقوفا على الإمام علي كرم الله وجهه، كما يزعم البعض، ولكنه لا يصح مرفوعا للنبي صلى الله وآله وسلم بالسند، ولكنه يصح نسبته للنبي من باب مطابقته للواقع العلمي الذي أصبح جلي في عصرنا، وما يسببه السكر والملح من أمراض شائعة خطيرة وهما مرض السكري، ومرض الضغط؛اهـ
هذه المطابقة العلمية لا تصدر إلا عن نبي أمي موحى إليه من الله عز وجل، ولا تعزى هذه الحقائق المخفية إلا له صلى الله عليه وآله وسلم ..
لقوله تعالى: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )[العنكبوت : 48]..
وقوله عز من قائل: ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [3] إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [النجم : 4] ..
ولا ينبغي ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ..

وقد قال ابن محرز رحمه الله تعالى: سمعت علي بن المديني، يقول: ( ليس ينبغي لأحد أن يكذب بالحديث، إذا جاءه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان مرسلا، فإن جماعة كانوا يدفعون حديث الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من احتجم يوم السبت أو الأربعاء، فأصابه وضح [برص]، فلا يلومن إلا نفسه ))، فكانوا يفعلونه، فبلوا، منهم عثمان البتي، فأصابه الوضح، ومنه عبد الوارث [ابن سعيد التنوري]، فأصابه الوضح، ومنهم أبو داود، فأصابه الوضح، ومنهم عبد الرحمن، فأصابه الوضح )، ورد في "معرفة الرجال" لابن محرز [ج2/ص: 190]؛اهـ


7.تقوية الحديث الضعيف بالتوثيق التاريخي:

وهذه الطريقة بالتقوية يقوى الحديث الخفيف الضعف وليس الواهي والموضوع، لأن أحداث التاريخ لا توثق كما يوثق الواقع المشهود الغيبي والعلمي، ولا يعنى بدقة نقلها كما هو الحديث ..
إلا ما نقل منها تواترا وفق التوثيق التاريخ، ومنها الحديث:
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، يقول: ( تَكُونُ مَدِينَةٌ بَيْنَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ يَكُونُ فِيهَا مُلْكُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهِيَ الزَّوْرَاءُ، يَكُونُ فِيهَا حَرْبٌ مُقَطِّعَةٌ يُسْبَى فِيهَا النِّسَاءُ وَيُذْبَحُ فِيهَا الرِّجَالُ كَمَا تُذْبَحُ الْغَنَمِ )، قَالَ أَبُو قَيْسٍ : فَقِيلَ لِعَلِيٍّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّوْرَاءَ؟ قَالَ: ( لأَنَّ الْحَرْبَ تَدُورُ فِي جَوَانِبِهَا حَتَّى تَطْبِقَهَا )، رواه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" [ج1/ص: 477]، ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات الكبرى" [ج2/ص: 61/ر:795]، ورواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" [ج1/ص: 339/ر:43]، وقال الخطيب في حكمه: [واهي الإسناد لا يثبت به حجة، متنه غير محفوظ]؛اهـ
ولكن جاء السيوطي رحمه الله فشهد جزء من تلك الحروب المشار إليها بالحديث، فقال: ( وقعت هذه الحروب والذبح بعد موت الخطيب بأكثر من مائتي سنة، وذلك مما يقوي الحديث )، انظر في "كنز العمال" للمتقي الهندي [ج11/ص: 162/ر:31041]؛اهـ
فتوالت الحروب والثورات التي هددت بغداد "الزوراء"، حتى جاء المغول والتتار بقيادة "هولاكو" حفيد "جنكيز خان"، وأهلك أهلها وقضي على ملك بني عباس، فطابق ما نبئ به الحديث واقع المنبأ عنه؛اهـ

8.تقوية الحديث بالحقيقة العلمية:
وفقا لما اشتهر بالبحث العلمي فإن أحاديث بمرتبة الضعيف وافق متنها هذا الواقع العلمي ومثال ذلك:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: ( لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا )، رواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 8/ر:2489]، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" [ر:2489]، ورواه ابن منصور في "سننه" [ج2/ص: 152]، والبيهقي في "سننه الكبرى" [ج8/ص: 328/ر:11251]، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" [ر:6343]، وخلاصة حكمه: [ضعيف] ..
وهذا الحديث أوله واقع الكشف العلمي المعاصر، فيصح نسبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن خصوصية معرفة مغيب الحدث، ومغيب العلم محصورة بالأنبياء المرسلين فكيف بخاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛اهـ

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تكلم عن ما هو أشد من الكشف العلمي المكنون في الطبيعة كما في الحديث السابق من خلال حديث فيه إشارة لاختراعات، تكنولوجية متطورة تكلم عنها بالإشارة المجازية حتى تقبل في زمانه ومنها ما ورد في الصحيح:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَتُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنْ بَعْدِهِ )، رواه الترمذي في "سننه" [ج4/ص: 413/ر:2181]، وقال: [وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ]، صححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:2181]، وصححه في "صحيح الجامع" [ر:7083]، وصححه الوادعي في "الصحيح المسند" [ر:412]، وقال: [رجاله رجال الصحيح]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

وصدق من قال: إن في كتاب الله وسنة رسول الله ما لا يؤوله إلا زمانه؛اهـ
فكلام السباع هو الزئير وهو صوت مرتفع يملأ الآفاق، ورديفها، بالاختراعات التقنية المعاصرة هي مكبرات الصوت، التي تنشر الصوت بمساحات كبيرة وبضجة كبيرة أيضا، ومما يرجح أكثر أن مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي مكبرات الصوت، أن السباع بزئيرها لا تكلم الإنس، ومن باب آخر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن السباع هي التي سوف تكلم الإنس لا الإنس، وهو ما يقوي قطعية المقصد أن هي مكبرات الصوت ..
وعذبة سوطه إشارة إلى الميكروفون، وأجهزة اللاسلكي، وشراك نعله إشارة إلى الهاتف الأرضي السلكي واللاسلكي لأن قبضة الهاتف تشبه النعال لحد ما، وتخبر فخذه بما أحدث أهله، إشارة إلى ما كان يعرف أولا بالبيجر، ثم جاء الهاتف النقال، أو الجوال "الموبايل"،و الذي ثبت من الناحية الصحية أن الأفضل أن يكون في موضع بعيد عن الرأس والقلب في الصدر؛اهـ

وقد يأتي قائل فيقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخفق في أمور علمية كانت معاصرة له، ومنها حادثة تأبير [تلقيح] النخل اليدوي فتعالوا ننظر في روايات هذه الحادثة ثم نبين بما يلهمنا به الرحمن:

الرواية الأولى:
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قَالَ: ( مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاء؟، فَقَالُوا يُلَقِّحُونَه، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى، فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (( مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ))، قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (( إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ )) )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج15/ص: 115/ر:6079]، ورواه أبي يعلى في "مسنده" [ج2/ص: 12/ر:639]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:1432]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

الرواية الثانية:
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قَالَ: ( مَرَرْتُ مَعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نَخْلِ الْمَدِينَةِ فَرَأَى أَقْوَامًا في رُءُوسِ النَّخْلِ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ: (( مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ ))، قَالَ: يَأْخُذُونَ مِنَ الذَّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ في الأُنْثَى يُلَقِّحُونَ بِهِ فَقَالَ: (( مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِى شَيْئًا ))، فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ وَنَزَلُوا عَنْهَا فَلَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ السَّنَةَ شَيْئًا فَبَلَغَ ذَلِكَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ (( إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ إِنْ كَانَ يُغْنِى شَيْئًا فَاصْنَعُوا فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ )) )، رواه ابن ماجه في "سننه" [ج2/ص: 380/ر:2470]، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:2018]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج1/ص: 262/ر:1398]، وصححه أحمد شاكر في "مسند أحمد" [ج2/ص: 366]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

الرواية الثالثة:
عن رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: ( قَدِمَ نبي اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ: (( مَا تَصْنَعُونَ ))، قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ: (( لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ))، فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ )) قَالَ عِكْرِمَةُ: أَوْ نَحْوَ هَذَا، قَالَ الْمَعْقِرِىُّ: فَنَفَضَتْ وَلَمْ يَشُكَّ )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج15/ص: 116/ر:6080]، وحكمه: [صحيح] ..

الرواية الرابعة:
عَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه، ( أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ (( لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ))، قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: (( مَا لِنَخْلِكُمْ ))، قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: (( أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ )) )، رواه مسلم في "صحيحة" [ج15/ص: 117/ر:6081]، وحكمه: [صحيح] ..

هذه الحادثة فيها اختبار لإيمان الصحابة بحسن الامتثال والتبعية للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، بكل شيء لقوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً )[الأحزاب : 36]؛اهـ
وبحسن امتثالهم لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان كما في الروايات السابقة فيه تخيري لهم وليس أمرا جازما، كما هو واضح، فقد كسبوا آخرتهم على حساب بعض دنياهم ..
ومع ذلك فقد نقصت ثمار النخل ولم تهلك بكاملها، وهو يعني أن عوامل تلقيح أخرى مثل الريح والحشرات قاموا بفعلهم بتصريف إلهي، ولو كان عند أصحاب النخل مع حسن الامتثال وحسن الظن، يقين إيماني مع حسن تفويض وتوكل على الله، بتصديق قطعي لا ظن فيه، لما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كاليقين النتاج التأئبير المجرب عندهم، لكان الناتج كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!..
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِى شَيْئًا )، أي أن هذا الفعل لا يؤدي إلى إثمار، ما لم يرد الله ذلك،كأن يسلط على الثمار آفة مهلكة، تنهي الإثمار المنشود عند أصحاب النخل؛اهـ

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: ( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا )، رواه الترمذي في "سننه" [ج4/ص: 495/ر:2344]، وقال: [حسن صحيح]، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" [ر:2344]، ورواه ابن ماجه في "سننه" [ج3/ص: 489/ر:4164]، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" [ر:3377]، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" [ج1/ص: 51/ر:205]، وصححه أحمد شاكر في "مسند أحمد" [ج1/ص: 111]، وصححه ابن حبان في "صحيحة" [ج2/ص: 509/ر:730]، وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج4/ص: 354/ر:7894]، على شرط الشيخين؛ وصححه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:7420]، والألباني في "صحيح الجامع" [ر:5254]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

وما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن عرضيا، إنما وحيا، لقوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [3] إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى )[النجم : 4]؛اهـ
فهو بالنتيجة اختبار في مجال علم التوحيد وأصول العقيدة؛اهـ

الحديث الضعيف عند الأصوليين: يسمى الحديث الضعيف عند الأئمة الأصوليين، بخبر الآحاد، وخبر الآحاد هو اصطلاح أصولي للحديث الضعيف، يطلقه الأصوليين على كل حديث أو خبر نبوي، رواته كما ونوعا، لا يستوجب بهم العقل اليقيني، أو العلم الحق، أو قطعية الثبوت للمتن المنقول على أنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون ظني في ثبوته، وليس قطعي متواتر ..
يقول الباجي في تعريف "خبر الآحاد": ( هو ما لم يقع العلم بمخبَره ضرورة من جهة الإخبار به، إن كان الناقـلون لـه جمـاعة )، ورد في "أحكام الفصول" [ص: 235]؛اهـ

ومفهوم العلم عند الأصوليين: ( هو اليقين العقلي الذي يوجب حصول القطعية بصدق مضمون النقل، وإن تخلف عنه بذلك الحصول بالفعل، فوقع التكذيب مكابرة أو جحودا)، انظر في "الشرح" للعبادي [ص: 179]، وفي "المستصفى" للغزالي [ج1/ص: 24 – 27]، وفي "الإحكام" للآمدي [ج1/ص: 12] ..
وقد اعتمد الأصوليين العمل في "خبر الآحاد"، ضمن ثمانية شروط، نصفها شروط تقعيدية، والباقي في فقه الأصول ..

الشروط التقعيدية [قواعد]:
1. أن يكون سند روايته متصل، ولو كان في اتصاله الضعيف بحالة الراوي..
2. أن تثبت شهرة خبر الآحاد عند العلماء بالتناقل والتوثيق، تلقينا وتدوينا ..
3. أن يشيع تناقله بين الناس لفظا ومعنى ضمن شريحة كبيرة أكثرها ملتزم بشيخ معلم ..
4. أن يكون موافق لعقل التحقيق، وواقع التطبيق، في عرف المجتمع المسلم ..

والعقل عند الأصوليين هو مايرد به المستقبح الخارج عن المألوف في عرف الدين، كمخالفة قواعد العقائد المجمع عليها، أو كذم الصحابة والانقاص من قدرهم، ونسب عيب أو نقص بالأخلاق والسلوك فيما يخص قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وباقي الأنبياء وكبار الصحابة الكرام وعلى رأسهم المبشرين بالجنة، إضافة للمحال الذي يستحيل على العقل تصديقه، أي الخارق للعادة والخارج عن مألوف الطبيعة ..
ويكون ميزان حدوث ذلك قوة سدادة الفهم، والتقدير الصحيح المبني على التمكن العلمي بالتحقيق والتدقيق، والذي ينشأ عن ثقل الخبرة العلمية،وإرتباطها بواقع التجربة العملية، فمن عمل بما علم أورثة الله علم ما لم يعلم ..
ويتم إعمال العقل بعلم المقارنة والاستنتاج والذي يكون بتطور ملكة التفكر الإيماني الذي يعني : انتاج معرفة بالمقارنة بين معرفتين إحداهما مغايير لآخر خلافا وعكسا وسلبا ..

فالعقل عند الأصوليين باختصار: ( هو كل ما اسقبح الشذوذ، بمخالفة عرف العقائد والشرائع الثابتة، وأحال العمل بالخارق المنبوذ )؛اهـ

وهناك قاعدة للأصوليين ثابتة في قبول الحديث أو عدم قبوله في هذا المنحى فحواها: ( كل حديث خالف المعقول، فهو رد) ..
يقول ابن الجوزي : ما أحسن قول القائل : ( إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع )، ورد في "تدريب الراوي" للسيوطي [ج1/ص: 274]؛اهـ

ويقول ابن الجوزي أيضا: ( كل حديث رأيته يخالفالمعقول، أو يناقض الأصول، فأعلم أنه موضوع فلا تتكلف اعتباره )، ورد في "الموضوعات الكبرى" لابن الجوزي[ج1/ص: 106] ..

وأول من أقر بهذه القاعدة الإمام الأصولي "الباقلاني" كما ورد في "الكفاية" للخطيب البغدادي [ص: 17] ..
وأيد هذه القاعدة من المحدثين : كل من الصنعاني عبد الرزاق، في كتابه "توضيح الأفكار" [ج2/ص: 96]، وابن الملقن في كتابه "المقنع" [ج1/ص: 235]، والحافظ السخاوي في كتابه "فتح المغيث" [ج1/ص: 268]، والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "النكت" [ج2/ص: 267]، وجلال الدين السيوطي في كتابه "تدريب الراوي" [ج1/ص: 276]، والإمام أحمد بن حنبل كما ورد في "التمهيد" [ج3/ص: 44] لأبو الخطاب ..
ومن الأعلام العارفين الزهاد الحسن البصري، في كتابه "المعتمد" [ج2/ص: 570] ..
ومن الأصوليين: الإمام الرازي في كتابه "المحصول" [ج2/ص: 570]، والإمام الغزالي في "المستصفى" [ج1/ص: 164]، والفقيه الأصولي الزركشي في كتابه "البحر المحيط" [ج4/ص: 260]، والبزدوي في كتابه "المسلم" [ج2/ص: 132]، والشيرازي في " شرح اللمع" [ج2/ص: 600 – 601]، وغيرهم ..

إضافة لجمع غفير من عموم علماء الدين وافق هؤلاء العلماء، دون تصريح مماثل مدون، وجمع لم يخالفهم، واجتماع هذا الكم من المحدثين والأصوليين على هذه القاعدة، يرجح صحتها أصولا، لوجود شبه إجماع ضمني بها؛اهـ

أما الشروط الأربعة الأصولية في قبول "خبر الآحاد"، فهي:
1. موافقة مضمون متن "خبر الآحاد" للنص القرآني القطعي الصريح أو المضمن في ثنايا الآيات ..
2. موافقة ما اتفق على صحته، أو تواتر من الأخبار النبوية، بالقرينة النصية والضمنية بالدلالة والإشارة ..
3. ما أجمعت عليه الأمة بالقياس والاجتهاد الأصولي المتعارف والمتفق عليه ..
4. إذا ثبت أن راوي الآحاد عدل لا شذوذ في اعتقاده وسلوكه أي لم يثبت أنه فاسق أو منافق أو مرجئ أو ناصبي، أو مبتدع في العقائد، أخذ برواته وقبلت مع إمكانية التغاضي عن الشروط الأولى، شرط عدم المخالفة لهذه الشروط، بسبب أهمية سلامة المعتقد عند الأصوليين، لأنه عرف الضبط عندهم لحمل الخبر بالاعتقاد ..
ويصنف "خبر الآحاد" في اصطلاح المحدثين مع تصانيف اصطلاح الحديث الضعيف تحت اسم "حديث الفرد"، و"الحديث الغريب" وهما سوف تناولهم بالتفصيل لاحقا؛اهـ

شروط قبول المحدثين لخبر الآحاد مع شرط اتصال السند:
عند البخاري اشترط قبول خبر الآحاد، في حالة اتصال السند، العدالة والصدق، متغاضيا عن باقي الضوابط الذهنية.. انظر في "فتح الباري" لابن حجر [ج13/287] ..
أما تلميذ الإمام البخاري، مسلم بن الحجاج، فخرج خبر الآحاد التي لها ما يوافقها بالنص والمعنى عند شيخه البخاري، وحذا هذا الحذو باقي أصحاب السنن الأربعة في الكتب الستة، وكل من صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان، في قبول حديث "خبر الآحاد"، في مجال الاعتقاد ..
يقول في ذلك الدكتور الأشقر: :( ومن نظر في كتب المحدثين الأعلام علم يقيناً أن مذهبهم الاحتجاج بأحاديث الآحاد، فالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم يوردون أحاديث الآحاد في كتبهم محتجين بها، فابن خزيمة مثلاً ألف كتاب التوحيد واحتج فيه بعشراتٍ وعشراتٍ من أحاديث الآحاد في باب العقائد )، ورد في "أصل الاعتقاد" للأشقر [ص: 61] ..

شروط قبول الفقهاء لخبر الآحاد: ويمثلهم بذلك الإمام الشافعي حيث يعرف خبر الآحاد قائلا: ( خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي [صلى الله عليه وآله وسلم]، أو من انتهى به إليه دونه )، ورد في "الرسالة" للشافعي" [ص: 369 – 370] ..

ولم يكن خبر الآحاد، مقبول عند الإمام الشافعي فحسب، كان يقول بقبوله ضمنيا عند إجماع فقهاء الأمة في الأحكام والعقيدة ..
حيث يقول رحمه الله تعالى: ( ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي، ولكن أقول لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودا على كلهم )، ورد في "الرسالة" للشافعي [ص: 457] ..

ولكن وضع الإمام الشافعي لقبول خبر الآحاد، شروط لقبوله هي:


(1) أن يكون الراوي ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه [وهذا يوافق شرط البخاري]..
(2) أن يكون عاقلاً لما يحدِّثُ به..
(3) أن يحدث الحديث بلفظه وحروفه دون معناه؛ إلا إذا كان عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ..
(4) أن يكون حافظاً إذا حدَّث من حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدَّث من كتابه..
(5) أن لا يكون حديثه شاذاً..
(6) أن لا يكون مدلّساً..
(7) اتصال السند..
انظر في "الرسالة" للشافعي [ص: 370 – 371] ..؛اهـ

الحديث الضعيف عند الزهاد المتقين:
وهم السادة المتقين أولياء الله أهل الذكر ..

عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( العلماء قادة، والمتقين سادة، ومجالستهم زيادة )، رواه السيوطي في "الجامع الصغير" [ر:5704]، والعجلوني في "كشف الخفاء" [ج2/ص: 83]، وقال: رجاله ثقات ..

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أولياء الله تعالى، الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى )، رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" [ج7/ص: 271]، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:2587]، وخلاصة حكمه: [حسن] ..

كما أسلفنا فإن قبول الحديث عند أهل الحديث وأعني المحدثين هو كل ما اتصال سنده، برواية عدل ضابط عن مثله إلى منتهاه، دون علة أو شذوذ؛اهـ
أما الفقهاء فعندهم كل ما وافق ظاهر الشريعة، وعرفها المجمع عليه فهو صحيح بمعناه لا بنسبه، إن لم يثبت اتصال سنده حتى منتهاه؛اهـ
أما الأصوليين فعندهم قبول الحديث منوط بموافقة النقول المتواترة، وثابت الأصول، وتباين المعقول ..
أما المتقين فعندهم كل ما كان من الحق المبين، فهو صادر عن الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، تصريحا إن ثبت اتصال سنده بتقرير المحدثين أصحاب الاختصاص أو التماسا إن لم يثبت اتصال سنده ..

أي كل ما كان حق وصدق فهو بالأصل من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بشكل أو بآخر، ومعرفتهم بصحته، يكون بالمكاشفة والإلهام، وهو ميزان لا اعتبار له عند أسياد الحديث والفقهاء وبعض الأصوليين..
ولكن لا ينكر مجمع العلماء بكافة فئاتهم أن كل ما هو حق مبين ملتمس عن النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، دون تصريح، لقوله تعالى: ( بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ )[الصافات : 37]..
ويعتمدون بذلك ما صح بالمعنى لا بالسند عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: ( إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث به)، ورد في "كنز العمال" للمتقي الهندي [ر:2910]؛اهـ

ويصدق صحة هذا الخبر بكتاب، قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )[الشورى : 24]

وقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن كل ما يصدر عنه، من قول ما هو إلا الحق فيما صح عنه بالسند والمتن..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه[فمه]، فقال: ( اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق )، رواه أبو داود في "سننه" [ج2/ص: 342/ر:3646]، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" [ر:3646]، ورواه الدارمي في "سننه" [ج1/ص: 132/ر:490]، وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج1/ص: 187/ر:359]، على شرط مسلم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" [ر:1196]، وخلاصة حكمه: [صحيح] ..

فالحق أن ما أنزل على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حق مبين وصدق مطلق، فإن بيان هذا الحق على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو حق وصدق ..
لقوله تعالى: ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً )[الإسراء : 105]..


وقد ورد عن ابن رجب أن قال في كتابه "جامع العلوم والحكم": ( وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدي بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء، وحك في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف بإتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون )، ورد في "جامع العلوم" لابن رجب [ج2/ص: 103]؛اهـ
عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال : ( يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ، [وفي رواية]: (( وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ )) )، رواه الدارمي في "سننه" [ج2/ص: 696/ر:2438]، ورواه أحمد في "مسنده" [ج5/ص: 269/ر:17545]، حسنه النووي في مواضع عدة وقال: في "المجموع" [ج9/ص: 150]: [إسناده إسناد البخاري]، وحسنه المنذري في "الترغيب" [ج3/ص: 23]، والشوكاني في الشوكاني في "إرشاد الفحول" [ج2/ص: 284]، والألباني في "صحيح الترغيب" [ج2/ص:151/ر:1734]، وخلاصة حكمه : [حسن]؛اهـ


وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا، أيضا قال المروزي في " كتاب الورع ": ( قلت: لأبي عبد الله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء، فقال: أمرها أمر قذر متلوث، قلت: فتكره العمل فيها؟، قال: دع ذا عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، فقال: قال: ابن مسعود: (( الإثم حواز القلوب )) . قلت: إنما هذا على المشاورة؟، قال: أي شيء يقع في قلبك؟، قلت: قد اضطرب علي قلبي، قال: الإثم هو حواز القلوب )، ورد في "الجامع" لابن رجب [ج2/ص: 103]؛اهـ

ويتابع ابن رجب كلامه حول الإلهام في "كتابه" فيقول: ( وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير: (( الحلال بين والحرام بين ))، وفي شرح حديث الحسن بن علي: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) ، وشرح حديث: (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))، شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا ..
وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام: هل هو حجة أم لا؟، وذكروا فيه اختلافا بينهم، وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب ، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي ، بل إلى مجرد رأي وذوق ، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي ..

فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب، فقد دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؟، لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم . وقد سبق حديث : (( إن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة ))، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيع بن خثيم: (( إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره ))؛اهـ

وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه )) . وإسناده قد قيل: إنه على شرط مسلم، لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثا، لكن هذا الحديث معلول، فإنه رواه بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل ، عن أبي بن كعب من قوله ، قال البخاري : وهو أصح .

وروى يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : (( إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه، ولا تنكرونه، فصدقوا به، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ))، وهذا الحديث معلول أيضا، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلا، والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ، منهم ابن معين والبخاري، وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة، وقال : ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله ..

وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث [على تقدير صحتها] على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكلام غيره، ولحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلا لغيره، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة .

وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم ، فوجد الأمر على ذلك، فقال السائل: أشهد أن هذا العلم إلهام . قال الأعمش : كان إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث ، كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدراهم ، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذا الحديث ..

وقال الأوزاعي: (( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا ))..

وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء: هذا صحيح وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك؟ فقال: (( أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا بهرج أكنت تسأله عمن ذلك، أو تسلم الأمر إليه؟ )) قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، قال : (( فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبر به )) ؛اهـ

وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضا، وأنه قيل له: يا أبا عبد الله تقول: هذا الحديث منكر ، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟ قال: (( مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد، أو أنه رديء ))؛اهـ

وقال ابن مهدي : (( معرفة الحديث إلهام )). وقال : (( إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة ))؛اهـ

وقال أبو حاتم الرازي: (( مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ))، قال: (( وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه، قال: وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في المائية والصلابة، علم أنه زجاج، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون كلام النبوة، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم ))؛اهـ

وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا، وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين، ثم خلفه أيوب السختياني، وأخذ ذلك عنه شعبة، وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي، وأخذ عنهما أحمد [ابن حنبل]، وعلي بن المديني، وابن معين، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم ..

وكان أبو زرعة في زمانه يقول : (( قل من يفهم هذا؟ ))، وما أعزه إذا دفعت هذا عن واحد واثنين، فما أقل من تجد من يحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : (( ذهب الذي كان يحسن هذا [يعني أبا زرعة] ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا )) . وقيل له بعد موت أبي زرعة : تعرف اليوم واحدا يعرف هذا؟ قال : لا ..

وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " : قد قل من يفهم هذا بل عدم . والله أعلم )، ورد في "الجامع" لابن رجب [ج2/ص: 104 – 108]؛اهـ

ونفهم مما أورد ابن رجب في "كتابه جامع العلوم والحكم" أن الكشف عن الحقائق بالاستنتاج والإلهام كان معمول به عند جهابذة المحدثين، وخصوصا في كشف العلل، فهم يقولون أن الكلام في علل الحديث إلهام ..
وهنا الإلهام عند جهابذة المحدثين وفي مقدمتهم الإمام البخاري، طبيب علة الحديث، وهذا ناتج من وحي الخبرة بتتبع الرواة وأحوالهم، وسلوكهم وأفعالهم، إلى غير ذلك، إضافة لفقههم بالمتون الحديث الشريف ..
أما عند الأولياء المتقين فخبرتهم بمعرفتهم بالله عز وجل، لقوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً )[الفرقان : 59]؛اهـ

ومن أمثله ما صح بالكشف والإلهام الحديث: ( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ )، رواه ابن ماجه في "سننه" [ج1/ص: 478/ر:1262]، ورواه الإمام احمد في "مسنده" [ج5/ص: 335/ر:17901]، وصححه ابن خزيمة في "صحيحة" [ج2/ص: 330/ر:1403]، وصححه الحاكم في "المستدرك" [ج1/ص: 481/ر:1235]، على شرط الشيخين؛ ورواه الدار قطني في "سننه" [ج2/ص: 64/ر:9]، وخلاصة حكمه: [حسن] ..
وقد صحح هذا الحديث بالكشف الإلهامي، وفق ما ورد في "فيض القدير" للمناوي [ج5/ص: 137]، وهو ما صححه ابن خزيمة في "التوحيد" [ج2/ص:889]، وقال: [أنه صح وثبت في الإسناد الثابت الصحيح]؛اهـ
وكشف هذا الحديث يعتمد على الذوق الوجداني الإيماني المجرب، فقد روى عن أحد العارفين أن جلس يذكر الله باسطا أحد قدميه، فخشع لذكر الله، فقبض ساقه إليه، بعد أن وقع في قلبه أثناء الذكر، خاطر رحماني وجداني فحواه: أن من يجالس الملوك يجب أن يتأدب ..
وهو ما يثبت صحة معنى الأثر القدسي: ( أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي )، رغم ضعف طرق روايته، فقد رواه الديلمي في "الفردوس" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلا سند مرفوعا، ورواه الكلاباذي بسند مرفوع عن الإمام علي كرم الله وجهه، في "بحر الفوائد" برقم: [219]، ورواه البيهقي في "الشعب" [ج1/ص: 451/ر:680]، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" [ج8/ص: 121/ر:6]؛اهـ

نهاية الجزء الرابع ..

--------------------------------