المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدين والعمل - للشيخ محمد عبد الرحيم رحمه الله



أهــل الحـديث
26-05-2012, 04:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هذا مقال كتبه فضيلة الشيخ محمد بن علي عبد الرحيم، المتوفى سنة 1412هـ رحمه الله تعالى، الرئيس العام لتعليم البنات في مدينة الرياض، وهو بعنوان (الدين والعمل)، قاله فيه:

عن ابن عُمرَ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (إنَّ الله يُحبُّ العبد المُحتَرف)؛ رواه البيهقيُّ والطبرانيُّ.
هذا شأن المؤمن المُحتَرف عند الله تعالى؛ يُحبُّه جزاء ما قدَّم مِن عمل نافِع، فيَبني لدِينه صرْحاً مِن المجْد، ويَنفعُ نفْسَه، ويُفيد أمَّته.
ومِن المَعلوم أنَّ مَن أحبَّه الله تعالى، هَداه واجْتباه، وحَفِظه ووقاه، وجعَله في وَلايته، وأدخَله في رَحمتِه، فيَسعَد في الدُّنيا والآخِرة.
وإذا أحبَّ الله عَبداً، فليس مِن المعقول أن يُعذِّب المُحِبُّ مَحبوبَه، ولكنْ ما بال أقوام يَحقِرون الصناعة و يَنظُرون إلى الصنَّاع وأرباب الحِرَف بغير تَقدير، مع أنَّ الإسلام دعا إلى الاحتِراف، والاشتِغال بالصِّناعات؛ لتَكتفي الأمَّة اكتفاءً ذاتيّاً بصناعات أبنائها، بل جعَل الإسلام أطيبَ مالٍ، وأحلَّ كسْبٍ، ما كان مِن عمل يد الإنسان؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أكَل أحدٌ طعاماً قطُّ خيراً مِن أنْ يأكل مِن عمَل يده، وإنَّ نبيَّ الله داودَ عليه السلام كان يأكل مِن عمَل يده).
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الأمَّة التي فَطنتْ إلى جلال الغاية مِن وراء الصناعة، وأدركَتْ سُموَّ الهدف الذي تَرمي إليه، فبذلَتْ كلَّ جهدٍ في هذا السَّبيل، واستسْهلَتْ كل صعْب، وأنشأت معاهد للصناعات قد نهضَتْ مِن كبوتها، وهبتْ مِن رقادها، وتبوَّأت مَقعَدها بين الأمم.
أمَّا الأمَّة التي لا تزال تأكُل مِن حرْث غيرها، وتَلبس مِن نتاج أخرى، وتَستورد مُعظم احتياجاتها، فلم تَشقَّ طريقها إلى المجد، وستظلُّ عالَةً على غيرها مِن الأمم.
وإنَّ الذي نَلمسه الآن في الأمم الإسلامية؛ مِن قعود عن المجد، وتخلُّف عن ركْب التقدُّم، لم يكن سببه نقْصاً في شريعتهم؛ وإنما أساسه التَّفريط والإهمال.
فالإسلام لا يرضى بالدنيَّة لأهلِه، ويأبى أن يَكونوا أذلَّة، أو أن يوصَفوا بالعجْز والمهانة: {وَلِله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
كما نظَّم الإسلام حياتهم؛ فجعل العمل للدِّين مَقروناً بالعمل للدنيا في غير ضرَّاء مُضرَّة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}.
ومِن أجل ذلك كان الدِّين عمَلاً ونظاماً، وعِلماً وصِناعةً، وحياةً عريضةً تتميَّز بالنُّهوض والاعتِلاء، والعزِّ والإباء؛ ليوفِّر لأهلِه الرئاسة والتَّمكين في الأرْض، مع رغَد العَيش، وهناءة الحال.
وإنْ أردتَ مَزيداً مِن البيان عن مسلَكِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في تربية الأمَّة؛ لِتمتَلئ نفْسُك إعجاباً بقوة الإسلام، فإليك ما رواه النَّسائيُّ وأبو داودَ والتِّرمذي، عن أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أنَّ رَجُلاً مِن الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عطاءً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمَا في بيتِك شيءٌ؟)، قال: بَلى، حِلسٌ نَلبَس بعضه، ونَبسُط بعضَه [والحِلسُ في اللغة يُستعمَل كساءً وفراشاً]، وقَعْبٌ نَشرب فيه [والقَعبُ وعاء يُشبِه الماجور بريف مصر]، فقال صلى الله عليه وسلم: (ائتني بهما)، فأخذهما رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيده، وقال: (مَن يَشتري منِّي هذَين؟)، قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن يَزيد عن درهم؟) مرَّتَين أو ثلاثاً، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما الأنصاريَّ وقال له: (اشتَرِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتَرِ بالآخَر قدوماً فائتني به)، فأتاه به، فشدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عُوداً بيده، ثمَّ قال: (اذهبْ فاحتَطبْ وبِعْ، ولا أرينَّك خمسة عشر يومًا)، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها طعاماً وببعضها ثوباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خيرٌ لك مِن أن تَجيء المسألةُ نُكتةً سوداء في وجْهِك يومَ القيامة).
فهذا الأسلوب النبويُّ، يَهدي للتي هي أقوم، ويُطهِّر المجتمع مِن البَطالة، ويُعزُّ أفراد الأمة بقوة الاحتِراف؛ لنعلم أنَّ الدِّين يدعو إلى العمل، ويحضُّ على الصِّناعة، وفي الحديث الشريف: (المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله مِن المؤمن الضعيف).
فالمؤمن القوي في دِينه ودنياه، والذي يؤدِّي ما افترضه الله عليه، ولا يَعتمِد على غيره في إطعامه، بل يَحترف مِهنةً يأكُل منها، ويَستفيد بها المجتمع هو مؤمِن قويٌّ حقاً؛ لأنَّه أخذ بمبدأ الإسلام، فكان عاملاً في بناء المجتمع الصالح، وهو بذلك خير مِن المؤمن الذي انصرف إلى العبادة، وعاش عالَةً على غيره، فاستمرَأ البَطالة، وأصبَح كَلاًّ على الناس.
ومِن هذا يتَّضح أنَّ عزَّة المسلمين ونَجاحهم في دنياهم يتوقَّف على الأخذ بمبدأ الإسلام الصَّحيح، وحُسنِ الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في سياستِه الدينيَّة والدُّنيويَّة.
ومما يَجدُر ذكْرُه أنَّ آدم أبا البشَر كان فلاحاً يأكل مِن زراعته بعد الهُبوط مِن الجنَّة، كما أنَّ هذه الحِرفة انتقلَتْ إلى أبنائه مِن بعد.
ثمَّ إنَّ الأنبياء والمُرسَلين والذين اتَّبعوهم بإحسان كالخُلفاء الرَّاشِدين كانوا جميعاً مُحترفين؛ فمنهم مَن رعى الغنَم كموسى عليه السلام حينما استعمَله شُعيب في رعاية غنَمه، ومنهم مَن اشتغَل بالتِّجارة كمُحمَّد صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن احترَف الحِدادة كداودَ عليه السلام، ومنهم مَن احترَف الحيَاكة كإدريسَ عليه السَّلام.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنَم)، قيل: يا رسول الله، وأنتَ؟ قال: (نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهل مكَّة)، والقَراريطُ هي الأجور التي يأخُذها مِن صاحِب الغنَم.
وقد احترَف النبيُّ رعاية الغنَم بمكَّة صغيراً قبل أن يعمل بالتِّجارة، واستفاد مِن هذه الحِرفة كثيراً مِن الفوائد؛ منها التواضُع، وحُسن سياسَة الرعيَّة، والأمانة، والصبر، وغير ذلك مِن الفضائل.
ولما قَويَ ظهرُه، واشتدَّ ساعِده، وصار رجلاً يافعاً، عَملَ بالتِّجارة، فاكتسبَ منها الصدْقَ والأمانة وحُسن المُعامَلة، وسُمِّي الصادِق الأمين، ولما عرَفتْ خَديجة رضي اللهُ عنها هذه الصِّفاتِ فيه عرضَتْ عليه أن يُتاجر في مالها، فعرفَتْ فيه الإخلاص، وكَمال الصدْق، ومُنتهى الأمانة، فخطبتْه لنفسِها، وحقَّق اللهُ لها ما أرادَتْ وكانتْ أوَّلَ أمَّهات المؤمنين.
ولما انشغَل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزوات، وتأسيس الدولة الإسلامية، لم يتَّسعْ وقتُه للتِّجارة، فأحلَّ الله له الغنائم، وفي الحَديث: (أُعطيت خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ مِن قَبلي) ومِن بَينها: (وأُحلِّتْ لي الغَنائم، ولم تَحلَّ لأحدٍ قبلي)؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (جُعل رِزقي تحتَ ظلِّ رُمحي)، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم كان يأكُل مِن سعْيِه ومِن عمَل يده.
فأين هذا ممَّن يَدَّعون الولاية أو المشْيَخة، ويَعيشون على الهَدايا التي تَنهال عليهم مِن صِغار الأحلام، والجُهَّال والسُّذَّج مِن الناس، يوهِمونهم بأنَّهم -أي المشايخ- على صِلَة بربِّهم، ويَخترعُون لهم عُهوداً ما أنزل الله بها مِن سلطان، وكلُّ طريقة لها شيخٌ خاصٌّ، وعهد خاص، وعبادات وأذكار وأوراد تخالف غيرها من الطرق، ومن أجل هذه الرئاسات الدينية؛ حرص أولئك المشايخ عليها؛ للمنافع والمغانم التي تجلب عليهم من دراويش يحبون مشايخهم كحب الله، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ}.
فهل يُبيح الإسلام أنْ يَحترف المسلم رئاسة مَشيخةٍ أو طريقة؛ ليأكُل منها؟ الأمر واضح لا يَختلف فيه اثنان، إنَّه أكْل سُحتٍ، ولا يَربو لحْمٌ نبَت مِن سُحتٍ إلا كانت النار أولى به يوم القيامة، كما ورَد عن المعصوم عليه الصَّلاة والسلام.
انظر إلى أجلِّ الصحابة قَدراً؛ أبي بكر وعُمر وعُثمان وغيرهم، هل كنَزوا الأموال وشيَّدوا الدُّور مِن وظائفهم، أو استغلُّوا مراكِزَهم ليَكون لهم مال عَريض وجاهٌ كبير؟ كلاَّ؛ فهذا الخليفة الأول أبو بكر رضي اللَّه عنه كان تاجِراً، ومِن تجارَته جهَّز بعض الجُيوشِ الإسلاميَّة، فلما آلتْ إليه الخِلافة، بادر إلى السُّوق صبيحَة الخِلافة؛ سعياً وراء الكسْب، وطلباً للرِّزق الحَلال.
وهذا عُمر بن الخطاب لم يَكن أقلَّ شأناً مِن أخيه أبي بكر رضي الله عنهما فكان يَقف في السُّوق يَبيع ويَشتري وهو أمير المؤمنين، ومما يُؤثَر عنه أنه قال: "لأنْ يَأتيني الموت وأنا أبيع وأشتري خيرٌ لي مِن أنْ يأتي الموت وأنا ساجد لربي".
وكان في أيام خِلافته يُطارِد المتعطِّلين والكُسالى، ويقول لهم: "إن الله يَكره الرجل الفارغ مِن العمل؛ لا في عمَل الدُّنيا، ولا في عمَلِ الآخِرة".
وقد سجَّل التاريخ لعُمر حِكمتَه الذهبيَّة؛ حيث قال: "لا يَقعدْ أحدكم عن طلَب الرِّزق ويقول: اللهمَّ ارزقني، وقد عَلِم أنَّ السَّماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فِضَّةً".
وهذا عُثمان وما عُرف عنه مِن ثراء عظيم؛ إذ كانت قوافله تغدو وتروح حامِلةً أنواعَ الطَّعام بين الحجاز والشام، أنَّى له هذا المال الكثير والجاه العريض؟
ولما آخَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن بن عوف المُهاجِريِّ وبين سعد بن الرَّبيع الأنصاريِّ، خيَّره سعدٌ في ماله وأهله، فقال عبدالرحمن: "لا حاجة لي في مالك، ولكنْ دُلَّني على السوق أبيع وأشتري"، فعمل عبدالرحمن بن عوف في التِّجارة؛ حتى أثرى ثَراء كبيراً، وكانت قوافله تربو على سبعمائة بعير.
هذا صراط الإسلام المستقيم؛ فاتَّبعوه، ولا تتبعوا السُّبَل؛ فتفرَّق بكم عن سبيله، والله وليُّ التوفيق.

المصدر: مجلة (التوحيد)، المجلد الأول، العدد 8، شعبان 1393هـ، الصفحة 32.