المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفريغ محاضرة مكفرات الذنوب للشيخ الحويني شفاه الله وعافاه



أهــل الحـديث
22-05-2012, 11:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرة مكفرات الذنوب
للشيخ الحويني
حفظه الله

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال العلماء: لكل شيء آفة تجتثه، ومن أعظم الآفات التي تصيب الإنسان آفة الذنب، كما صح في الحديث: «إن الشيطان ذئب الإنسان» ذئب الإنسان ينتظر منه أي غفلة ليفترسه.
نظرت في الكتاب والسنة فوجدت أن مكفرات الذنوب عشراً، لا تكاد الأدلة تخرج عنها، أربع من الله، وثلاث من العبد، وثلاث من الناس.
أما الأربع التي يبتدئها الله U: فالمصائب في الدنيا والبرزخ والقيامة، ثم عفو الله U برحمته بغير كسب من العبد، يعفو عنه هكذا بلا مقابل.
وثلاث من العبد -المكلف-: التوبة، الاستغفار، الحسنات الماحية.
وثلاث من الناس: شفاعة النبي r، وإهداء العمل الصالح من الناس له -على قول للعلماء-، ثم دعاء المؤمنين له.
وكل الأدلة تقريباً أو غالباً جزماً لا تخرج عن هذه العشر المكفرات.
هذا إنما ابتدأت به لأقول: إن باب الذنب بمقابله عشرات من أبواب التوبة، لاسيما إذا رجعت إلى ربك تبارك وتعالى فإنه يعاملك بمعاملة الأكرمين، لا يعنفك، إنما يعفو، كما في الحديث الصحيح: «قال الله U: أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله U: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله U: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي.
فقال الله U: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فليعمل عبدي ما شاء» ليعمل ما شاء ليس إذناً أن يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29] مع أنه لم يرخص في الكفر لأحد، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر:7] لكن هذه صيغة زجر.
كما لو قلت لولدك: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر.هل قوله: «أنت حر» يعد إذناً منه ألا يذاكر؟ هذا تهديد، لكنه خرج مخرج التخيير، وهذا يكون أبلغ في الزجر كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق:24] وهل العذاب يبشر به! لا تكون البشرى إلا لشيء حسن، فلما توضع كلمة البشرى في العذاب؛ فيكون هذا تقريعاً أقوى مما لو قرعه بألفاظ التقريع نفسها.
مداخل الذنوب لا حصر لها، لذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:58] «بذنوب» ما قال: «بحسنات»، إنما قال: «بذنوب»، إنما خص الذنب هنا بالذكر للدلالة على الإحاطة؛ لأن أغلب الذنوب تكون سراً، هل المؤمن بلا ذنب؟ التقي بلا ذنب؟ لكن لا يستطيع أن يجهر به هكذا أمام الناس، فأغلب الذنوب تكون سراً، كما قال r: «والإثم: ما حاك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس» كم من الأشياء التي يفعلها الإنسان وهو يخشى أن يعلمها الناس، هي كثيرة لا حصر لها عند الفرد الواحد، انظر كم فرداً من لدن آدم u إلى أن تقوم الساعة، كل واحد لديه صندوق أسرار، يستحي أن يبرز جزئية منه للناس.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ﴾ [الفرقان:58] كفى بهذا دلالة على الإحاطة، وهذه الآية تشعرك بأن أغلب الذنوب تكون في الخفاء؛ لأن الله U ذكر الآية للدلالة على إحاطته بفعل العبد، فهذه الآية آية مدح لإحاطته U، فلا يمكن أن تكون الذنوب صغيرة أو حقيرة؛ لأن الإحاطة حينئذ تكون ضعيفة.
ثم هناك عدوك الذي لا يغفل عنك، والذي أعلن عداوته لك منذ نزلت من رحم أمك، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند الإمام مسلم: «كل بني آدم يمسه الشيطان يوم يولد؛ لذلك يستهل صارخاً» يبكي الولد الذي نزل من رحم الأم؛ لأن الشيطان نخسه «إلا مريم وابنها»، ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ [آل عمران:36 - 37] لذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان، وهذا الحديث من الأحاديث القوية؛ لأن فيها لفظة «كل» التي تفيد العموم، ثم ذكر اسم الجنس، الذي يقوي أكثر هذا العموم، ينخسه؛ هو يقول له: من أجلك أنت خلقت أنا ألا ينبهك مثل هذا؟! ما قصر النبي صلى الله عليه سلم في البلاغ أبداً، لقد أوتينا من جهلنا وإهمالنا، قال عليه الصلاة والسلام: «أنا آخذ بحججكم، وأنتم تتهافتون على النار تتفلتون مني» كأن إنساناً يريد بكل قوته أن يدخل جهنم، وأنت ممسك به بكل قوتك، ومع ذلك غلبك ودخل جهنم.
فإذا كان الشيطان ذئب الإنسان، ونحن نعلم أنه لا يموت إلى يوم القيامة حتى تستريح من شره، ونحن نعلم أنه لا يغفل عنك طرفة عين، وأنه في كل يوم يرسل سراياه تترا إلى بني آدم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، قال r: «إن الشيطان يضع عرشه على الماء كل صبح، ثم يرسل سراياه تترا -أي: بعضها يتبع بعضاً- كموج البحر إلى بني آدم» ليسوا ذاهبين لشرب الشاي بل لإضلال الناس، فنحن لو نعمل كعمل الشياطين في منتهى الجد لكنا من الأبرار، الشيطان بنفسه يتابع أعوانه الصغار، يجلس على الكرسي كل واحد يعرض تقريره ماذا فعلت؟ ما تركته حتى فعل كذا وكذا، أي: يمثل له بأي معصية.
ما تركته حتى زنى لم تصنع شيئاً، وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى سرق لم تصنع شيئاً.
وأنت؟ ما تركته حتى قتل أخاه وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى ضرب أباه.
وأنت؟ ما تركته كل المعاصي.
حتى يأتي أحدهم، ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله حينئذ يقوم إبليس من على الكرسي، ويأخذ الشيطان هذا بالأحضان، يلتزمه ويعتنقه، ويقول له: نعم أنت، أنت أنت! هذا هو الشغل.
قلنا قبل ذلك: الطلاق مباح، لو أن رجلاً طلق امرأته الصوامة القوامة المخبتة الخاشعة -إلى آخرها من الصفات الحسنة- لا يكون آثماً، لكنه لو زنى؛ لكان آثماً، وإذا كان غير محصن؛ يجلد محصن؛ يرجم قتل؛ يقتل، يقاد منه أو يدفع الدية سرق؛ تقطع يده، هذه كلها ذنوب، ومع ذلك هذه الذنوب لا يكترث بها إبليس، وعند الشيء المباح ينبسط لماذا؟ لأن إبليس يعلم أن العبد لو ظل في المعصية مائة عام وتاب، تاب الله عليه، فذهب كل عمل إبليس أدراج الرياح؛ لأن الذي يسقط الذنب يريد لك المغفرة والنجاة، ولا يعجل كعجلة أحدنا، لذلك كتب ربنا في كتابه الذي عنده: «إن رحمتي تغلب غضبي»، أين تجد هذا الرب؟ لا يسخط، ولا يبادر كمبادرة أحدنا، ولا حتى يجزي السيئة بعشر أمثالها، بينما الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والسيئة مثلها ويمحو، وهذا الرب الجليل لا يستحق أن يعصى، ولو لم يتفضل عليك بكل شيء ما استحق أن يعصى، هو الذي لا يحب إلا لذاته، هو الله U.
فإبليس -الذي هو ذئب الإنسان- يعلم أن العبد إذا رجع من المعصية رجع إلى رب غفور، فما الذي يجعلك تتوانى؟ ومكفرات الذنب كثيرة، ولو لم يكن من فائدة تعود عليك إلا أن الله يفرح برجوعك لكان الواجب عليك أن ترجع.
أتستقل بفرح الله برجوعك؟! قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:15] قال: أشد عليهم من عذاب النار: أن يحرموا رؤية الله.
وإنما أخذ مثل هذا الفهم من بعض الأحاديث التي فيها أن أهل الجنة لم يرزقوا شيئاً في الجنة أجل من رؤية الله U.
كذلك إذا حُجب العبد عن ربه كان أشد من عذاب النار، وفي صحيح مسلم -والحديث أيضاً في صحيح البخاري لكن سياق مسلم أوسع- قال r: «لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة، معه راحلة عليها طعامه وشرابه» وجد شجرة، وأراد أن يستريح، فنام وترك الراحلة، وعليها أكله وشربه، فلما استيقظ لم يجد الراحلة، والصحراء سيموت إذا لم يتجاوزها، وهذا الطعام الذي أعده يبلغه المنزل، بحث عنها، يئس من وجودها، أيقن بالهلاك، فقال لنفسه: أرجع إلى مكاني وأموت -يموت في الظل- فلما رجع إذا به يجد الراحلة، فقال ممتناً ذاكراً: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال r: أخطأ من شدة الفرح».
الله U إذا رجعت يكون فرحه برجوعك أشد من فرح هذا الرجل بوجود الراحلة، تضن على نفسك أن يفرح الله برجوعك وهو مستغن عنك، فرح المفاجأة جعله يقسم، بعد أن أيقن بالهلاك، فلما وجد الراحلة لم يتماسك، وكذلك المفاجآت دائماً تفتت عزم القلب أو تشده، ولذلك
العبودية بين الطاعة والذل:
تنازع العلماء في مسألة قد تبدو عجيبة، قالوا: أيهما أفضل: العبد التائب، أم العبد الذي لم يعص الله قط؟ الذي لم يعص الله أفضل بلا شك، وهذا هو البدهي، لا ننازع ولا نناقش في هذه الجزئية.
لكن نقول: مما يفضل به العبد التائب على العبد الطائع أبداً: أن العبد الذي عصى الله تبارك وتعالى ثم تاب إليه زاد عبودية في نفسه على عبودية الطائع أبداً، وهي عبودية الذل والانكسار، والرجل الذي لم يعص الله قط -على افتراض وجوده- قد يدركه العجب بعمله يوماً ما، يقول: أنا رجل لي سنين أقوم الليل، وما مر علي خميس ولا إثنين أبداً إلا وأنا صائم، وكذلك ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق والحمد لله، فهذا قد يدركه العجب من هنا.
إنما العبد العاصي إذا تاب توبة نصوحاً يجعل الذنب دائماً أمامه، يخشى ألا يقبل الله عمله لهذا الذنب، كيف لا وأنبياء الله U أدركهم مثل هذا الشعور، فلفظوا به في عرصات القيامة، كما في حديث الشفاعة المشهور، الناس يبحثون عن أي شفيع، يذهبون إلى آدم u: أنت أبونا، صورك الله ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربك.
يقول: نفسي نفسي، أمرني ألا آكل من الشجرة فأكلت.
مع أن آدم u تاب الله عليه، بل اجتباه الله بعد الذنب، لكنه تذكر ذنبه وخشي أن يؤخذ به.
إبراهيم u نوح u موسى u، كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي! هذا حال الأنبياء المغفور لهم، يدخلون الجنة قبل أممهم، ولا يدخلون الجنة إلا بعد شهادتهم لهم أنهم آمنوا، ومع ذلك يقولون مثل هذا الكلام.
العبد إذا تاب، ووضع الذنب أمامه، وخشي هذا الذنب كان سبيله إلى الجنة.
ولذلك قال من قال من السلف: رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً.
وقال الآخر: إن العبد ليفعل الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لا يزال ينظر إلى الذنب، ويجّود عمله ويحسنه حتى يلقى الله محسناً.
هذه عبودية الذل والانكسار، العبد التائب من العصيان شارك العبد الطائع دائماً عبودية المحبة، وعبودية التسليم، وعبودية الرضا، وزاد عليه على الأقل عبودية الذل والانكسار وبهذا الأصل ينحل الإشكال.
رأى جماعة رجلاً من الصالحين يوم مات ولده يضحك، فاستشكلوا هذا الأمر لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مات إبراهيم بكى، وهذا يضحك! فهل هذا راض أكثر من الرسول عليه الصلاة والسلام! إذا راعينا هذا الأصل انحل الإشكال، إذا مات الولد؛ العبد مطالب بأكثر من عبودية: مطالب بعبودية التسليم والرضا، وهو مطالب أيضاً بالرحمة والرأفة، فقلب ذلك العابد لم يتسع إلا لعبودية الرضا، إنما النبي r قلبه اتسع، أعطى الرحمة حقها فبكى على الولد، وأعطى التسليم حقه: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب، ولما رأوه يبكي قالوا: تبكي! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده»، هذه عبودية التسليم والرضا، اتسع قلبه فأعطى هذا وذاك، وضاق قلب هذا العابد، فلما تزاحمت عليه أكثر من عبودية لم يستطع إلا أن يقدم عبودية الرضا.
عبودية الذل والانكسار من أجلِّ ما يحصله الإنسان، كل شر في الأرض أحد أسبابه ضياع هذه العبودية، هذه العبودية هي المدخل الحقيقي الواضح لصفة العبادة المقبولة؛ لأن العبادة المقبولة هي أن تعبد الله U بالخوف والرجاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء بالنسبة للعبادة كجناحي طائر، لا يبلغ الطائر المنزل بجناح واحد، كذلك لا يبلغ العبد الجنة -التي هي المنزل- إلا إذا حقق هذين النوعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أغلب المفرطين في زماننا الآن يعبدون الله بالرجاء، والعجيب أنه يوجد من ينسب إلى هذا الدين من يغذي هذا الشعور، على صفحات الجرائد والمجلات فيقول: الله! انتم تخوفون الناس من النار، ألا يوجد جنة، كله «وبئس المصير».
فهم لا يريدون أن نتكلم عن النار إطلاقاً! هل هذا مجتمع رباني كل أفراده أبرار أخيار، أو هو مجتمع ملآن بالمخالفات، بلا شك أنت محتاج أن تقول له: ستدخل النار.
إذا كان هناك ولد منحل، يخرج مع البنات، ويشرب الحشيش، ويشرب الكوكايين والسجائر، لو أن أباه جاء له بسيارة لخطّأه كل الناس حتى أهله، يقولون: هذا دلع، يجب أن تشد عليه.
كذلك الواعظون عندما يرون هذا الانحلال كله؟ هل تريدهم أن يقولوا له: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:62] وما الذي عمله؟! أن لكل مقام مقال.
فهناك من يغذي في الناس هذا الشعور، يعبد الله بالرجاء، والطمع في رحمته، ولذلك ستجد إنساناً لا يصلي، ولا يعمل أي شيء، تقول له: يا أخي صل.
يقول لك: يا أخي! إن الله غفور رحيم.
لماذا غفور رحيم فقط والله قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ [الحجر:49 - 50] لما لم تكملها؟ وقد قدم تبارك وتعالى الرحمة على العذاب؛ لأن هذه كما قال في الحديث القدسي: «إن رحمتي تغلب غضبي» لكي يكون باب العذر واسعاً بالنسبة للعبد، فعبادته لله بالرجاء، يجعله يقصر أكثر، ولو عبد الله بالخوف فقط يكفر؛ لأن مهما فعلت من حسنات لا تكون ثمناً للجنة أبداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام لو لم يقل لنا: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» لظننا أن أعمالنا تبلغنا المنزل؛ لأننا نقرأ في كتاب الله U ذلك ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل:32] «الباء» هنا «باء» السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، إذاً السبب أدخلك الجنة، إذاً عملك بلغك المنزل، الآية هكذا، والرسول عليه الصلاة والسلام المبين لكلام الله U صحح لنا هذا المفهوم المغلوط، فقال: «لن يدخل أحد الجنة بعمله، ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا» هذا منتهى اليأس، رسول الله r أعظم من مشى على الأرض بقدميه، ولا يوجد رجل في الدنيا عبد الله مثل عبادته، ولا جوّدها تجويده، يقول: أنا لا أدخل الجنة بعملي! إذاً: أنت مهما فعلت لن تدخل الجنة، وماذا تكون النتيجة؟ لماذا أعمل، لماذا أترك الفراش الوثير وأقوم الليل، لماذا أجوع نفسي وأصوم، لماذا أخرج من مالي الذي هو من كدي وعرقي لفلان، أنا أولى، إذا علم أن كل طاعة مردودة يئس.
هذه القاعدة موجودة في أماكن كثيرة، ومن أبرزها في الجيش: السيئة تعم والحسنة تخص، طيب أنا رجل مستقيم ومنضبط، وأنت تعلم هذا، فلماذا تعاقبني؟ أنا أسأل نفسي: لماذا أنا واقف انتباه وشادد عظمي؟ حتى لا أنام، أي خلاص لا جزاء، فهذا العمل يفقد الانتماء، والمحبة، والولاء، وهذه حقيقة، ولذلك في السابق عندما كان الناس يدخلون الجيش ولا يخرجون منه، فكان الكثير منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب حتى يعفوا من الجيش، وكان الذي يدخل الجيش مفقود، والذي يخرج منه مولود، عندما يكون الواحد هذا شعوره هل يمكن أن تنتصر به؟ تنتصر بواحد يرى أن وجوده في الجهاد أو في هذا الرباط مغرم؟ طبعاً لا يمكن أن تنتصر بهم، شيء طبيعي جداً أن يهزم.
لذلك من يعبد الله بالخوف فقط، فيرى أن كل طاعة لا قيمة لها، لن يضل هكذا على طول، بل سيسأل نفسه: ولماذا أعمل وأنا غير مستفيد من عملي، ثم ستجده يكف عن العمل.
كذلك الذي يقول: إن الله غفور رحيم، يا أخي! مهما تركت؛ ربنا رحمته واسعة، هو غفر لأكثر مني وأشد عتواً وعدواناً على حرماته ويضل هكذا؛ فيضيع.
لكن العبادة الحقة صفتها: أن تعبد الله U بالخوف والرجاء معاً، فتلقى الله محسناً.
طيب: أنا أريد أن أبلغ المنزل ماذا أفعل؟ المرة القادمة لن أتصدق علانية، أتصدق في السر، لعل هذا الشعور يزول، هو تصدق أول مرة، حمله هذا الخوف مع مداومته للطلب على أن يتصدق مرة ثانية، فتأتيه نفسه: مالك هذا حلال، لا تنس أنه كان فيه شبهة يوماً ما اقترفتها.
طيب: إذاً ما الحل؟ اتق الشبهات، اجعل مالك حلالاً، فيذهب إذا كان هناك أي مبايعات فيها حرام أو شبهة يتجنبها.
إذاً: كلما قدم طاعة؛ لامته نفسه وشككته فيها، فيقوم يحسن الطاعة أكثر لعلها تقبل، فما إن يفعل حتى يرجع إلى نفسه فيشك أنها قبلت أو حيزت بالقبول، فيجود عمله أكثر لعله يقبل وهكذا يلقى الله تبارك وتعالى دائماً محسناً.
وأريد أن أنبه إلى جزئية مهمة، في قوله تبارك وتعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل:32] إذا كان «الباء» هنا «باء» السببية، فكيف نوفق بين الآية وبين الحديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»؟
الجواب:أن هذا من تمام تفضل الله عليك، يعطيك الكثير بما تبذله من القليل الذي أمرك به.
نضرب مثالاً: أصعب شيء في الدنيا أنك تجمع ما بين قلبين لماذا؟ لأن القلب ليس في ملكك ولا في ملك أحد، فلما يكون أحدهم رأس ماله العصافير التي في الدنيا؛ إذاً هو فقير؛ لأنها ليست في يمينه، والقلب معروف أنه ملك الرب تبارك وتعالى، كما قال r: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء» وقال r: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» وكان أكثر يمينه «لا ومقلب القلوب» إعلاناً عن عجز الإنسان التام إزاء هذا القلب، وهذه حقيقة لا يمكن دفعها، لأنك أنت أحياناً تُغلب على حب إنسان وددت أنك أنت تكرهه، كم من العشاق الذين تلفوا فعلاً أو كاد بعضهم أن يتلف بعدما ذهبت نفسه وراء حبيبه! قيل له: انس.
قال: لا أستطيع.
لو كان قلبه بيده ما عذب إنسان نفسه طرفة عين.
إذاً: أصعب شيء أن تجمع بين قلبين، وقد قال الله تبارك وتعالى ذلك للنبي r: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال:63].
لنفرض إن إنساناً لديه ما في الأرض جميعاً، ولكي يحصل ما في الأرض جميعاً ويصبح ملكه، هو يحتاج جهداً جباراً، ولو أنه تاجر في التراب لربح، وبعد ذلك أتحداه أن يوفق ما بين قلبين، قام وأتى بكل تعبه وقسمه نصفين، وقال: أنت تأخذ النصف والآخر يأخذ النصف الآخر، بشرط أن تحبوا بعضاً هو لا يستطيع أن يفعل هذا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال:63] إذاً هذه تحتاج معجزة، ليست بملك أحد.
إذاً: ما قولك في أن هناك شيئاً يسيراً جداً يمكنك به أن تجمع بين القلبين وأنت واضع رجلاً على رجل، وأمرت به! قال r: «لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية- بين قلوبكم» هل تسوية الصفوف أسهل أو أجمع بين قلبين؟ انظر إلى هذا اليسر! أن تسوي البدن بالبدن فقط.
إذاً: هل بمجرد أننا نسوي الصف تتساوى جميع القلوب؟ لا تتساوى، لكن انظر إلى ما أمرت به وهو في ملكك ويمينك ما أيسره! وانظر إلى ما أعطاك في مقابله لا تستطيعه أبداً مهما فعلت، فقصر في ما في يمينه، وأراد أن يفعل الذي يعجز عنه، كل الذين يوفقون الآن بين القلوب، يقول لك: توفيق بين الجماعات، ونقعد مع بعض، ونعمل اجتماعات، ونعمل أي شيء.
يا أخي! افعل ما أمرت به، نحن نعلم أن ما أمرت به في ملكك ويمينك، فهو ميسور؛ لأنه على قدر قوتك ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28] لكن الثمرة التي يعطيكها الله U في مقابل هذا الذي تبذله أعظم بكثير جداً من بذلك وعطائك.
أنت مطلوب منك سبب لابد أن تفعله؛ حتى يعطيك الثمرة، وإذا لم تفعله لا يمكن يعطيك.
أشياء يسيرة يجب الالتفات لها، بعض المسلمين الآن يقولون عن مثل هذه الجزئيات أنها قشور، تصور: تسوية الصف عند بعض المسلمين قشور! يقول: يا أخي! أي تسوية صف الذي أنت مهتم بها ربع ساعة والمسلمون يذبحون في لبنان، إذاً: نم على ظهرك، حلت مشكلة لبنان، حررت البوسنة والهرسك انظر التهريج! ترك ما أمر به، ولو فعل ما يوعظ به لكان خيراً له ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:15].
أحياناً قد يعمل الإنسان عملاً تراه في منتهى الجمال، مع أنه يسير ولم يقصده، والله تبارك وتعالى، لا يستصغر معصية ولا يستقل بطاعة، وفي الحديث: «إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة» نحن قصرنا فيما أمرنا به فحرمنا الثمرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
انتهت المحاضرة نسألكم الدعاء