المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بيان من الشيخ إبراهيم بن يوسف ابن الشيخ سيدي حول إحراق بعض كتب المالكية في موريتانيا



أهــل الحـديث
09-05-2012, 10:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




بسم الله الرحمن الرحيم


والصلاة والسلام على أشرف المرسلي سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

بيان بشأن ما أقدم عليه برامةُ بنُ الداه بنِ عبيْد ومن وافقه من إحراق كتب فقهية فى موريتانيا يوم الجمعة 6/6/1433هـ إن ما أقدم عليه المدعوّ برامة ابن عبيد ومَن شايعه من إحراق المدوّنة الكبرى، ومختصر خليل بن إسحق، وشرح الحطاب عليه الموسومِ بمواهب الجليل، وحاشية الدسوقىّ على الشرح الكبير، وشرح ميارة الكبير على ابن عاشر، ومتن الأخضرىّ، فَعلة همَجيّة رعناءُ، ونزغة شيطانية، لايحلّ السكوت عليها بحال. وهى تنمّ عن زيْغ وضلالة، وحمْق وجهالة. ولن تضرّ الدينَ الإسلامىّ ولا المذهبَ المالكىّ شيئا. إن هذه الكتب الفقهية مستقاةٌ ـ فى الجملة ـ من مصادر التشريع الإسلامىّ كتابا وسنة وإجماعا، ومن مصادرَ شرعية أخرى، منها ما هو مذهب جماهير علماء الأمة، ومنها ما اختصت به المالكية من أصول الاستدلال، أو وافقهم فى بعضه بعض العلماء. وهذه طريقة مذاهب أهل السنة قاطبة فى الفقه الإسلامىّ، حيث تنبنى على الأصول المتفق عليها، ويمتاز بعضها عن بعض فى اعتماد بعض الأدلة والمصادر الفرعية حسب ما يؤدى إليه الاجتهاد والنظر . فالطعن فى محتواها ـ فى الجملة ـ طعن فى الشريعة.

بيدَ أنه يسُوغ لمن عرف الراجح فى الخلافيّات ممن له معرفة بالكتاب والسنة وأقوالِ السلف وطرائقِ الترجيح أن يردّ من فروع الرأى ما لا دليل عليه، أو ما ضعُف مُدْرَكُه فى أىّ مذهب من المذاهب، لا أن يحرق الكتاب الذى تضمّن ذلك القولَ المردود! وإذا كان هذا هو قصارى جهد العالم المتبصّر، وطالبِ العلم المؤهَّل للنظر، فما حالُ الأُمِّىّ والعامِّىّ الصِّرف؟ إن من جهالة من أقدموا على هذه الفَعلة النكراء أنهم يعتقدون أن مصنِّفى هذه الكتب وجامعيها نظَّروا للعُبودية فى موريتانيا!!! أو أنها تقوم على ما كتبوه ودوّنوه فى تلك العصور الخالية والأصقاع النائية!!! ثم إذا كان كل كتاب يشتمل على أحكام مِلك اليمين كلِّها أوجُلِّها يستحقّ الإحراق فلْيُؤجّج هذا المُوقِدُ نيرانَ الدنيا ويُسَجِّرْ بحار الأرض لإحراق جميع المصاحف الشريفة، ودواوين السنة من صحاح وسنن ومسانيدَ ومعاجمَ وغيرها...فضلا عن التفاسير، وشروح السنة على اختلافها، وكتب المذاهب الفقهية سُنّيّها وبدْعيّها، ومدوّنات الأحكام والأقضية والفتاوى، والسّيَرِ والتواريخ والأخبار, والآداب...وبكلمة واحدة فليقض هذا ـ إن استطاع ـ على دين الإسلام ومصادره وموروثه جملة وتفصيلا. وليس معنى هذا الكلام أن الإسلام دينُ استعباد واسترقاق، بل هو دين حرية وانعتاق، وسبيلُ كرامة وزُلفى، ومحجَّةُ سعادةٍ وحسنى. ولكنِ المقصودُ منه أن اشتمال كتاب من كتب الإسلام على أحكام مِلك اليمين ـ كالمكاتَب والمدَبَّـر، وأمهات الأولاد والسبايا، والعتق والولاء، وما يتصل بهذه الأبواب من أحكام الحدود والنكاح والعِدَد والكفارات والجنايات والفرائض... ـ لا يُسَوِّغُ إحراقَ ذلك الكتاب بحال من الأحوال. وإلا كانت البَداءةُ بالقرآن والسنة الثابتة، كما أسلفنا! فأصول هذه الأحكام مبثوثة فيهما، ومنهما أخذ فقهاء الملة، وفيهما التفريق بين الحرّ والعبد فى كثير من الأحكام، بكل وضوح وجلاء. ثم ليُعلمْ أن هذه الأحكام لا تتجسد فى واقع الحياة إلا إذا كان للرقّ وجودٌ فعلىٌّ فى الواقع، وكان لوجوده ما يُسَوِّغُه شرعا، من ناحية أخرى. وإذا كان فى بعض كتب الفقه ، ما هو مخالف لمقاصد التشريع ـ أحيانا ـ، مما قاله بعض المتأخرين تخريجا أو رأيا محضا، فهذا النوع من المسائل قد كفانا أهلُ التحقيق من الراسخين فى العلم كشفَه ومؤنةَ الردّ عليه، ولسنا ملزَمين به أصلا. مع أنه لا يختصّ بهذه الأبواب وحدها. ولم يقل أحد من أهل العلم المحققين ـ فيما أعلم ـ بوجوب إتلاف كتاب فقهىّ لمجرد اشتماله على أقوال شاذّة أو آراء غريبة. وقد جئت هنا بقيد التحقيق احترازا من تصرفات بعض المقلّدة فى حق من خالفهم، إذ هم بمعزل عن التحقيق. ولا شك أن أىّ قول يخالف الكتاب والسنة فهو مُطَّرَح مردود على قائله. لكنْ هذه مهمةُ العلماء بالكتاب والسنة والإجماع والخلاف من كل الأعصار والأمصار، ومن كل الفئات والأعراق. إن إحراق الكتب الشرعية لا يجوز. ويذكّرنى ما فعله هؤلاء بصنيع الطاغية هولاكو بنفائس بغداد، وبما فعلتْه زعانفُ الفِرَنْجَةِ بذخائر الفردوس المفقود، ولم يضرّ ذلك تراثَ الملة شيئا. فهذه نوادر المخطوطات تملأ الدنيا، وتلك أَعْلاقُ المطبوعات تُغرِق المواقع والأسواق، فضلا عن الأشرطة والأقراص والأجهزة الحديثة المختلفة التى تحمل عشرات الآلاف من كتب الإسلام. وهاتيك الروائعُ والعيون بيّنات فى صدور الذين أوتوا العلم شرقا وغربا.

لقد عاب قومٌ جماعةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غَزَاة تبوكَ فقالوا: ما رأينا أرْغبَ بطونا ولا أجْبَن عند اللقاء من قرَّائنا هؤلاء، فأنزل الله عز وجل قولَه (ولئن سألتهم ليقولُنّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، فأخذ العلماء من ذلك أن الاستهزاء بالدين وأحكامه وشعائره وحُرُمَاتِه كفرٌ ناقل عن الملة. قال القاضى أبو بكر بنُ العربىّ فى أحكام القرآن: "لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جِدّا أو هزْلا، وهو ـ كيفما كان ـ كفرٌ، فإن الهزْل بالكفر كفرٌ، لا خلاف فيه بين الأمة."(2/964) ، فعُلم بذلك أن الاستخفاف بالدين فعل مكَفِّر بالنص والإجماع.

إلا أن هذه الشُّنْعة التى ارتُكبت اليوم بإحراق الكتب، إن كانت عن استهزاء واستخفاف بالدين وأحكامه القطعية فهى ردة، وإن كانت اعتراضا على بعض الأحكام الاجتهادية فقط فهى فسق ورعونة يستحق مَن اقترَفوها الأدبَ البليغ كغيرهم من العصاة المجاهرين، ولا تخرجهم من الإسلام، ما لم يكونوا مستهزئين، كما أسلفت. على أن المعنىَّ قد يُعذَر بالجهل، وبالتأوّل، فقد اتخذ بعضَ الشبُهات والتأويلات ذريعةً لما اجترحه من جُرْم. فهو معذور بالجهل والتأويل.

ولكن من علم الحكم الشرعىّ بعد هذه الواقعة، وأقيمت عليه الحجة، ثم تجاسر على ارتكاب مثل هذه الأفعال، فسيحكم عليه قضاة الملة ـ كائنا من كان ـ بما يستحق. وندعو مرتكبى هذه المُوبِقة فعلا أو قولا أو قَبولا وموافقةً إلى التوبة النَّصوح علانيَة عبر الوسائل الإعلامية كلها، من قنوات وإذاعات ومواقعَ، كما عصَوُا الله علانية، وندعو إلى معاقبة كل من يتطاول على الشرع بما يردَعه وأمثالَه من السفهاء، ومنعِ إطلاق العبارات المسيئة إلى الدين وحمَلتِه، وتجريم كل من يرتكب شيئا من ذلك، كاستخفاف بعضهم بالتراث الفقهىّ الذى يسمونه ـ جهلا ـ بالفقه الاستعبادىّ، وكطعن العلمانيين فى الحدود الشرعية، وأحكام المرأة، وقولهم بفصل الدين عن السلطة، والسخرية من اللحية والحجاب، والدعاة والمساجد، وغير ذلك مما هو معلوم. ولْيُعلم أن الخطاب الشرعىّ متوجه إلى الجميع، لا يُقصر على أحد بعينه. فهنالك من استهزأ فعلا بمحكم التنزيل وصحيح السنة قديما وحديثا، عن علم ووعى، أو قابلهما بالجحود و الإعراض، أو التحريف والتبديل، أوالتعطيل والإهمال. نعم لا يسوغ ما فعله هؤلاء بحال, كما لا يُقبل أىّ شكل من أشكال النيْل من الدين، ولا التنكر للثوابت والقطعيات من أىٍّ كان. ولا يكون الاعتراض على الاجتهاد والرأى إلا بأدب واحترام، وببيان الأدلة الخاصة أو القواعد الكلّية.

إن بعضا من هؤلاء الذين يرفعون الشعاراتِ ممن شحنهم الغربيون ضد الإسلام، وأغرَوْهم بالأوسمة والمال، وغرُّوهم بالألقاب النضالية والدعوات والمؤتمرات، ظنوا أنهم سيقضون على وحدة أهلنا، ويملأون أرضنا فتنة وشرورا، تنفيذا لمخططات الأعداء الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر. قال تعلى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). ولكن ليعلم هؤلاء وغيرهم أن الشعب بكل مكوِّناته وفئاته لن يقبل العبث بدينه وقِيَمه وتراثه، ووحدته وهُويَّته وكيانه.

إن المنظمات والهيئات المشبوهةَ التى تُظهر العطف والحَنان، والرأفة والمحبة والسلام، والدفاعَ عن المستضعَفين، ما هى إلا أداة فعالة للتنصير والتبشير، ويدٌ خفية من أيادى الصهيونية والماسونية تستغل فقر الشعوب المسلمة وبؤسَها وغفلتَها، فتقدم لها بعض الفُتات، لا محبة لها ولا رحمة بها، ولكن لتجد منفذا إلى استلاب فكرها وعقيدتها، وطمس هُوِّيَّـتِها وخُصوصيتها، وتصديع كيانها، وإحداث الفتنة وإشعال الحروب بين أبنائها. وقد اغتر ببهرجها كثير ممن لم يسْبُر أغوارها ويبْلُ أخبارَها. وأعود فأقول لكل من يجترئ على شىء من أحكام الملة , وشعائرها ورموزها: إن مجرد احترام نص القرآن وحده لا يشفع لهم، إذ لو كان ذلك بمجرده كافيا لشفع لليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين، فإنهم يعتقدون أنه نصّ مقدس، لأن الشأُن إنما هو فى التصديق به واتباعِه والعملِ بما فيه، لا فى مجرد اعتقاد قدْسيته وبركته. وأما من ينتسب للإسلام فلا يتحقق فيه الوصف إلا بما ذكرنا، ومِن مقتضيات ذلك الإيمانُ بالسنّة والعملُ بها وتعظيمُها واتباعُها، واحترامُ علمائها، وتقديرُ جهودهم والدعاءُ لهم، واتباعُهم فى الحق، لا إتلافُ موروثهم والسخريةُ منه. فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المبلّغون عن الله بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام. والأخطر فى هذه القاصمة أنه إذا لم يُردّ عليها بعاصمةٍ يُوشِك أن تمتدّ الأيدى الآثمةُ إلى الصحيحيْن فالقرآن. وعندها تحِقّ النقمة وتحيق اللعنة. والعياذ بالله. وأخيرا فإن علاج ظاهرة الرق وغيرها من الظواهر الاجتماعية ينبغى أن تُسلَك له السبلُ الناجعة المعروفةُ عند العقلاء، لا أن تُستفَزَّ مشاعرُ المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها بإحراق كتب الدين وإتلاف مدوَّنات الشرع، وسبِّ العلماء الذين أفْضَوا إلى ما قدّموا.

فمن سلك سبيل الرشْد والإصلاحِ كان الله معه.ومن سلك سبيل الغىّ والإفساد خسِر دنياه وآخرتَه، وكان ممن اتخذ إلهَه هواه، واستحقّ الوعيد الوارد فى قوله عز وجل: (سأصرف عن ءاياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغىّ يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون). وأنصح جميع الأطراف بسلوك سبيل الرشد والعقل والحكمة، والكفّ عن لغة التصعيد والسّباب، والابتعاد عن طرائق العنف والإثارة. فإن الجميع متفقون على القضاء على هذه الظاهرة، لكن بالحكمة والحسنى.

هذا وأعرف من الشريحة التى ينتمى إليها المذكورُ جماعاتٍ من أهل الدعوة الصحيحة والمنهج القويم دأَبوا على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونشْر التوحيد، وتعلُّم العلم، وحفظ القرآن والحديث الصحيح، والدعوة إلى الله عز وجل، فعرفَتْهم المنابر والمساجدُ والجوامع وحِلَقُ العلم والذكْرِ أئمةً ودعاةً وخطباءَ ومعلمين ومصلحين، يجمَعون ولا يفرّقون، وينفعون ولا يضرون.

فأسأل الله سبحانه وتعلى أن يرزقنا وإياهم الثباتَ على الصراط الموصِل إلى جناته، وأن يستعملنا وإياهم فى مرضاته، وأن يهدىَ سائرالمسلمين إلى الحق المبين، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والهادى إلى سواء السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم، ولا عدوان إلا على الظالمين.


كتبه إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدىَ يوم الاثنين 9 جمادى الآخرة1433هـ بمكة المكرمة، زادها الله تكريما