تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شيء من شجن الكتاب وشأن القراءة .. ( ش.سليمان العبودي )



أهــل الحـديث
05-03-2012, 12:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




(1)

السيرة الذاتية حفل اعتزال ورقي؛ والاعتزال لا يكون قبل البدء..! ذاك بمثابة الدفن قبل الولادة! لا..لم آت هنا لأحضر مراسم عزائي، وأكون "حجرا لقبر نفسي" كما يقول كافكا، أنا هنا لأشد ثوبي قليلا من لهب الصراع الأزلي الدائر بين الحق والباطل، لأستروح وأحكي بحروف هادئة، ولستُ من الغفلةِ أن أُخدعَ عن نفسي، وأُراني صاحبَ تجربةٍ تُروى ، لكن لما جاء الطلبُ الملحُّ الكريم أجبتُ بذكرِ شيءٍ أزعم أنه غيرُ مفيد، وأنا (أعتبر نفسي قارئا في الأساس وقد تجرأت كما تعرفون للكتابة؛ ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما مايستطيعه) بورخيس.

كانت جولةً قصيرةً جدا حول الكتبِ والثقافة ، فما كان منها صوابٌ فمن الله ، وعلي تَبِعَةُ الخطأ ، قال توفيق الحكيم : (بعضُ الكلماتِ تَندسُّ كالغوغاءِ في مواكبِ المَعَاني) ، فأعتذرُ عن ورودِ كثيرٍ..كثيرٍ.. من الغوغاء .

****

(2)

في المرحلة الابتدائية وجدتُّ مكانةً في نفسي للحجرة التي جعلها والدي مكتبةً له، وكان _حفظه الله وأبقاني رَهْنَ إشارَته_ محبا للكتب بشتَّى فنونها ، مطوِّفا في الآفاق جريا وراءَ جمعِها ، باذلا وقتَه ومالَه في سبيلِ أجودِ الطبعاتِ منها ؛ وهذه الأخيرة لم أرثها منه ، فأنا لا أعرف الطبعات كما يعرفها غيري..، وجودُ المكتبةِ في البيت أفادني تلك المرحلة ؛ فقد قرأتُ فيها بعض الكتيبات كـ (الزمن القادم) لعبدالملكِ القاسم وأبكتني منه قصةُ نورة ، وكان كتابا عبدالحميد السحيباني (صور من سير الصحابة وصور من سير الصحابيات) _إلى فترةٍ لاحقةٍ_ قربَ وسادتي ، فكنتُ لا أنام إلا بعد قراءة ترجمةٍ واحدةٍ على الأقل ، وأذكر أَنَّي حينها أقفزُ الأبياتَ الشعرية التي تَرِدُ في ثنايا القصص (العادةُ التي انقلبت بعد سنين)؛ بعد ذلك خَفَتَ ذلك الحنينُ لتلك الزاوية من زوايا بيتنا ، فقد دخلت الحلقة ، وانهمكت في نشاطها الدؤوب، وإن كنت تلك الأيام وجدت بيد أحدهم روايةً فاستعرتُها منه، ولم أعدْها له بعدُ، هذه الرواية تركت في نفسي أثرا عميقا لم تمحه عجلاتُ الزمن ، وما زلت أتحفظ عباراتٍ منها ، أحبَبتُ بطلها (يسار)!

أخي القارئ/ هل تعلم صورةً خلابة أروع من فتى نشأ في طاعة الله؟ أما أنا والله فلا!

كان "يسار" بطل القصة كذلك! فتى نقيا صارع الشهوة في صباه ليظلَّ منحنيا في محرابِ التقوى والتعبد. ولكنَّ عدوَّه اللدود -في الرواية- بيده المفتاح السحري لأبواب التقى السبعة: إنها المرأة! ؛ لكم كرَّرتُ قراءة تلك الرواية، وكم كان أثرها علي بالغا ، كانت :(حديث الشيخ) لداود بن سليمان العبيدي ؛ وكم أتمنى أن أظفر بها الآن لأستعيد شيئا من جلال ذاك الشعور...

****

(3)

بعد ذلك وفي لقاء عائلي كبير تعرفت فيه على شاب يكبرني بعامين توسم فيَّ ما يؤهلني بأن أحظى منه بالتوجيه التثقيفي والإعارة من مكتبته الخاصة ، كانت تصلني كتبه تباعا مع ابن عمتي الذي كان بريدا بيننا ، ويغلب على هذه الكتب الجانب القصصي والروايات، أذكر منها رواية (فتاة الجزيرة) بأجزائها الثلاثة للعبيدي أيضا ، كان يطعم إعاراته بكتبٍ جادَّة، وأصدقكم القولَ: كنتُ أعيدُها له دون قراءة . دامت علاقتي البريدية معه ما يقارب السنتين ، كانت نواةً لعلاقة إيجابيةٍ تدفعني في عالم الثقافة ، لكن لم يُكتب لنا الاستمرار فقد ابتلع السِّجنُ صاحبي زمن الفتن التي شَبَّ أوارُها قبلَ سنين ، ولم يفرج عنه حتى هذه اللحظة.

****

بدأت لأول مرة أتفاعلُ مع الشعر ، فقد كنت أعودُ من المدرسة مع فتى متيَّم بالشاعر اللامع تلك المرحلة محمد المقرن فكان أن أطلعني عليه ، وفي السنة الثانية درسني مادة الأدب شاعر مميز (س) كان له أثر بالغ في الانشداد لتراكيب اللغة وتصاوير البيان؛

ما زلتُ أذكر نَغمَتَه العَذْبة وهو يترنَّم ببائيَّةِ أبي تمام ويُخليها من عقدِ النَّظم ، ثم ينثرها نثرا يقارب روعةَ الشعر، كان إلقاؤه جاذبا ، لم أنس افتتانه بوصف أبي تمام لحريق عمورية ليلا ، حتى كأن الدجى رغب في تغيير لونه القاتم :

لقد تركت أمير المؤمنين بها *** للنار يوما يوما ذليل الصخر والخشب

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى *** يشله وسطها صبح من اللهب

حتى كأن جلابيب الدجى رغبت *** عن لونها أو كأن الشمس لم تغب

فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت *** والشمس واجبة من ذا ولم تجب

****

وظلَّتْ حتى اليوم تتردد في مسمعي بعض الأبيات بنغمته الندية؛ وقد ألقى علينا مرّةً في الفصل:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين *** ألم تكوني زمانا قرة العين

أستودع الله قوما ما ذكرتهمُ *** إلا تحدَّرَ ماءُ العين من عيني!

****

فقاطعته من بين الطلاب ، واستعدتها منه دون شعور ، كان أسمر نحيلا جميلا يتوقد حيوية ونشاطا ، كم رأيته يخطُبُ ويبكي ، كان يحترقُ لأمَّته! لذلك كلِّه؛ كان انقلابُ مظهَرِه بعد تلك الأيام الجميلةِ موجعا لي ، وخِنجَرا مركوزا في خاصِرَتي ، وصرت فيما بعد كلما دخلت مدونته على الشبكة ورأيتُ من أشعل المصباح ينطفئ! وجدتُني أدخل في نفق مظلم من الحزن! لا أودُّ إطالة الحديث حوله، فالحديث عنه يشنقني بحبل طويل من الذكريات!

فرحتُ بعدُ إذ رأيت لأستاذي هذا الراحلِ عن مرابعنا قصيدة إنابةٍ مؤثرة، أوردُ شيئا منها هنا:

إذا أسلمتني دروب الهوى *** لنفسي وقد أوحشتني الذنوب

فيا رحمة الله هل راحة *** تصافحني من وراء الغيوب

وتغمر قلبي بفيض الرضا *** وتمسح عنه بقايا الشحوب

وكنت انتأيت حطيم الرجاء *** قليل الهناء كثير اللغوب

وها قد أتيت ففيضي رضا *** فحسبي وحسبك أني أتوب!

اللهم آمين !

****

(4)

أسفي عليَّ لم أكن مقتنعا بي فحاولت أن أُغَيِّرَني مرارا ، لكنِّي لم أجدْ من يأخذُ بيدي، ولم تكنْ تلك الجرعات الخفيفة كافيةً بأن تُظهر فيَّ ما يميِّزُني عن أقراني في هذا الجانب؛

بعد ذلك انتقلتُ لمدرسةٍ أخرى ، ولقيتُ فيها أقربَ الناس مِنِّي إلى حين، كان مُثَقَّفا فَذَّا لكنَّه لم يقترحْ عليَّ مسارا دونَ غيرِه ، أو فنا دون سواه ، كان أستاذا موسوعيا يجيبني ويدعني منطلقا على سجيتي وهواي ، وكما أن (كلَّ مرحلة سابقة تحمل في جذورها بذور المرحلة اللاحقة) فقد وجدتني حينها غارقا في بحار الشعر العميقة وسابحا بين أمواجه الدافئة، بدأتُ في التحفُّظِ منه لاسيما من العصور الثلاثة: الجاهلي ، والعباسي، والمعاصر ، ظلَّ محفوظُ تلك الأيام رصيدا أسرِقُ منه الصورَ والأخيلة، والحقُّ أنِّي بقدر ندمي على عدم شغل نفسي تلك الفترة بالتأصيل الحقيقي العلمي حمدت ربي على ما منَّ علي من دأبٍ في هذا الجانب، أذكر في تلك المرحلة نَبَّهَني أحد الإخوان على الروائي الإسلامي نجيبِ الكيلاني ، فولجتُ عالمه اللطيف ورواياتِهِ الخفيفة من (أميرة الجبل) و(الذين يحترقون) و(البلعوطي) و(موعدنا غدا) و(دم لفطير صهيون) ، كنتُ مولعا به لكن خبتْ شُعلَتُه في نفسي بعدَ حين، كما علمتُ أنَّ كثيرا من سياقاتِه في بعض الروايات أخذها عليه بعضُ النقادِ الإسلاميين كما في الأخيرة.

قرأت أيضا نجيب محفوظ برغم الصورة الذهنية غير المشجعة عنه ومن ذلك (اللص والكلاب) و(خان الخليلي) و(الحرافيش) و(ابن فطومة) و(ثرثرة فوق النيل) وغير ذلك، كانت بساطته في لغته أشبه ما تكون بسطح ماء البحر التي يدرك البحارون ما تنطوي عليه من أعماق قاتلة لمن يجهلها؛ وأيضا ربما تعبر هذه الأعماق دون مجرد الشعور بخطورتها!

اكتشفت تلك الأيام الروائي الموهوب توفيق الحكيم فقرأت كثيرا من أعماله من (عصفور من الشرق) إلى (الصفقة) إلى (الملك أوديب) إلى (عودة الوعي) إلى (السلطان الحائر) إلى (الأحاديث الأربعة) وغيرها، وآخر ما قرأت له سيرته الذاتية الباهتة:(سجن العمر).

كان كاتبا محلقا، لكنه ظل يكتب حتى بداية القرن الخامس عشر الهجري رغم وفاة موهبته قبل ذلك بعشر سنين أو أكثر! وعجبي من جيلٍ اكتنفه مع العقاد وطه حسين وزكي مبارك والرافعي وأحمد أمين و بعدهم محمد مندور ومحمود شاكر ، أولئك بحق أكابر العربية وأساطين البيان ، وإن كنت أحببت الفَرَسَين المُجلِّـيَـيْن : (العقاد وطه) ولم أقضِ لُبَانتي منهما ، فعبقريات العقاد ليست بحاجة لشهادتي، وأعماله (أنا) و(مطالعات في الكتب والحياة) ، و(حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، و(التفكير فريضة إسلامية) ، بل حتى (أبو نواس) و(ابن الرومي) و(أعلام الشعر) و(عرائس وشياطين) و(جحا الضاحك المضحك) تُنبئ عن عقل وقاد وثقافة مُذهِلة ، وتَذَرُ قارئها شخصا آخر بعد حين ؛ لا يخدعنَّكم (سفُّودُ) الرافعي عن عبقرية العقاد ، والقضايا التي يعالجها العقاد هي التي تفرض عليه اللغة التي يكتبها ، فهو في ألفاظه ينحت من صخر ، وفي أفكاره يغرف من بحر ؛ العقاد مدرسة كبرى في عالم الفكر والثقافة درج فيها كثير من الكبار، وكان سيد قطب في بعض مراحله دائرا في فلكه، أما الأعمى(طه حسين) فهو الأبصر في معرفة الشعر ومذاهب الشعراء، وكتابه (حديث الأربعاء) بأجزائه الثلاثة وجبة لذيذة دسمة في الشعر العربي، وهو من أجود الناثرين في تاريخنا ، لكم استمتعت بكتابه (الأيام) ، ودع عنك هرطقته التي سلخها من (مرجيلوث) حول الشعر الجاهلي ثم عاد عنها، وعلَّق عليها أبو فهر بقوله : (هكذا الكبار يخطئون في العلَن ويتوبون في السِّر) .

****

(5)

(فإذا ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض، وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها)لم تكن هذه العبارة في وصف آلة، كانت مجتزأة من ترجمة الفيلسوف الألماني الأشهر عما نويل كانت، وذكر انضباطه التام في برنامجه اليومي، الذي لا يطرأ عليه أي تحريك!

في مقابل هذه الانضباطية المذهلة التي تتحرك مثل عقارب الساعة تستطيع أن تسأل كثيرا من طلاب العلم: كم جدولا رسمت؟ وكم خطةً وضعت؟ وهذه الكتب التي تشتريها كل يوم ، وتسابق المؤلفَ في اقتنائها قبل نشرها، متى ستقرؤها؟ وهاهي السنوات لاهثةً تسابق ظلها من السرعة..وما تزال بك حتى ترتطم بجدار الشيخوخة دون شعور، هل نستطيع -جميعا- أن نجيب على هذا السؤال المحرج: متى سيقف قطار الأماني الذي نركبه عند محطة تنفيذ الخطط؟!

****

على القارئ -إن أراد أن يكون شيئا مذكورا- أن يتمتع بعصامية صاعدي الجبال وحماسة قافزي الحواجز ، لا تصنع شيئا ذا بال تلك الإلمامات العجلى قبيل النوم ، ولا يؤتي الأُكُلُ ثمارَهُ ما لم يُتَعَاهَدْ كلَّ حين، سل ربك إن أردت أن تتقدم في أي مجالٍ : أن يحبِّبَهُ إليك ، أن يكونَ هواك ، أن تكون كذاك المحدِّثَ الذي أنشدَ وهو يكتبُ الحديث :

أُعَلِّلُ نَفْسي بِكَتْبِ الحديث *** وأَحْمَدُ فيه لها الموعدا

وأَشْغَلُ نفسي بتصنيفِهِ *** وتخريجِهِ دائما سَرْمَدا

ومالي فيه سوى أنني *** أراه هوى وافقَ المقصدا

***

القراءات الجانبية تستنزف طالب العلم عن المقاصد..ويظل في صراع معها..إن لم يرشِّدها احتلت وجه النهار وآخره، ربما أعطتك سعة الأفق، لكنها تحول بينك وبين العمق..لا تتكئ كثيرا على قراءاتك الجانبية فهي كمنسأة سليمان عليه السلام، وما رأيت أنفع ولا أقطع منها! تمنحك سعة الأفق و(كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) كما يقول النفزاوي، وتقطعك عن العمق!فــ(ما ناظرت ذا فنٍ إلا غلبني، وما ناظرت ذا فنونٍ إلا غلبته) كما يقول الشعبي، هذا في صاحب الفنون، فكيف بصاحب الاطلاع المشتت والمقالات المبعثرة!

****

(6)

أذكر مرّةً في السنة الأولى من الجامعة كنت أقرأ جريدة الجزيرة فوقفت صدفةً على مقالٍ عنوانُه (الظلاميون في زمن الادعاء التنويري) لم أسمع بكاتبه من قبل ، لكني أذكر منه هذه الفقرة : (...ومتى أطلقوا (الماضوية) ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب) ، أعجبتني ، فقصصت المقال ، ووضعته في جيبي ، ثم سافرت مع الأصدقاء إلى الشرقية ، وهناك رماه أحدُهم -ممازحا لي- في البحر!

هل كانت تلك الحادثة رؤيا منامٍ رأيتُها وأنا مستيقظ وتعبيرها : أني سأغرق في بحر الهويمل كما غرق ذلك المقال في مياه الخليج ؟!

****

أشهدُ بعد سنين من قراءة لم تنقطع -إلا لماما- لكاتب المقال د.حسن الهويمل: هو من بقايا الكبار ، ومن أولئك النفر الذين لم ينالوا قدرهم، ربَّما لأنه لم يُعَبِّـرْ عن نفسِهِ بطريقةٍ تَشُدُّ إليه الأبصارَ، ولم يؤلفْ كتبا إلا اليسيرَ ؛ اقتربتُ من عالمه ، والتهمتُ مقالاتِه -كل ثلاثاء- التهاما ، كانت نافذةً لي أُطلُّ منها على كثيرٍ من المعارفِ والأعلامِ، أسلوبُ الهويمل جزلٌ فخم ، وثقافَتُهُ بعيدةُ المدى ، عميقةُ الغور ، قال مرَّةً : (أبقى في مكتبتي لا أغادرها إلا للأكل أو النوم) ، لكن يؤخذ على الدكتور الجنوح نحو التعميم ، والإعادة لكثيرٍ من الأفكار ، وهو ممن حمله اعتداده بنفسه إلى سياقات لربما استنكرها الآخرون ، جلست معه في الرياض وفي القصيم ، كان مثالا للشيخ الحاني على أبنائه من الجيل الآتي ، وبسيطا شهما في تعامله ،

أخيرا يحسن بي أن أنقل سطرا له قرأته قبل سنين ولا يزال محفورا على رصاص في ذهني ،

قال راهب الفكر بتواضع الكبار (وتجربتي الثقافية لما تزلْ تلحُّ عليَّ بأنَّني مبتدئٌ يتلقى أبجدياتِ المعارفِ في الصفوفِ الخلفية) ،

أطلنا السباحة على ضِفافِه ؛ أهذا موضع الاستشهاد ببيت المتنبي :

لقد أطالَ ثنائي طول لابسه *** إن الثناء على التنبال تنبال!

****

(7)

(لكل كتاب فهرس جامع فاقرأ الفهرس قبل الكتاب) كما يقول محمود شاكر، أود أن أضيف إلى قوله السالف: (لكل كتاب مقدمة طموحة، فاقرأها لتعرف الفرق بين ما كان يود أن يقوله الباحث في كتابه، وما قاله فعلا!)

مما شُغِفت به قراءة السير الذاتية ، لم أقرأ منها بعد ما يملأ قبة الصخرة كما فعل الهدلق ، لكني أولعت بكثير مما قرأت ، ففي (رحلتي الطويلة من أجل الحرية) لمانديلا وجدتني في برزخٍ بين السماء والأرض ، كانتْ وقتها أجملَ سيرةٍ ذاتيةٍ قرأتُها ، تعلَّمتُ فيها كيف يكون الإنسانُ -هذا الذي يقولون عنه وهم يحقِّرونه : من لحم ودم وعواطف...- كيف يكون قوةً مزمجرةً ، وكيف يتركُ في مسامع الدنيا دَويَّا:

وتزعمُ أنَّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر !

مانديلا سجنوه 27 سنة ثم عفا عن جلاديه، فسألوه هل سيرتك شبيهة بسيرة المسيح؟ فقال:لا، أنا رجل عادي نشأ في ظروف غير عادية!.

كم أتمنى أن يمنَّ الله عليه بالإسلام العظيم!

****

أرسيتُ مركبي في شاطئ السِّيَر فَمِن (ابن القرية والكتاب) للقرضاوي بأجزائها الثلاثة ، إلى (طفل من القرية) لسيد قطب ، إلى (عصر العلم) لزويل ، إلى (حياتي) لأحمد أمين ، إلى (الأيام) لطه حسين ، إلى (أنا) للعقاد ، إلى (سجن العمر) للحكيم ، إلى (حياة في الإدارة) للقصيبي، إلى (حكاية الحداثة) للغذامي ، إلى (ماذا علمتني الحياة) لجلال أمين ، إلى (في صالون العقاد كانت لنا أيام) لأنيس منصور ، وقد حَطَّمَني الأستاذ الهدلقُ إذ أخبرني أنَّ هذا الكتاب الضخم -الذي مكثتُ معه زمنا طويلا- منفوخٌ بالأكاذيب !

****

لا أزال متعطشا لمزيد من السير! ففي أشباه هذه الكتب يقف القارئ على نفائس لا يجدها في عداها ، واطلعت مؤخرا على سيرةِ شيخِ الإسلامِ الذاتيَّةِ التي استلَّها الدكتور يوسف البدوي من كتبه ، كانت جهدا مُثمَّنا في جمعِ حديث الشيخ عن ذاته ، وعلى مرِّ التاريخ ترجم كثير من العلماء لأنفسهم سواء في كتبٍ مستقلة ، أو ضمنا كالسيوطي في كتابه (حسن المحاضرة) ، وابن حجر العسقلاني في كتابِهِ (رفع الإصر عن قضاة مصر) ، ولسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة) ، وممن أفردوا تراجمهم في كتب مستقلة: ابن خلدون في كتاب سماه (التعريف) ، وقد استقصاهم الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتابه (التراجم الذاتية) .

وفي مكتبتي عدد من السير لم أقض لبانتي منها كـ(رحلتي الفكرية)للمسيري ، و(سيرة ذاتية)لمالكوم إكس ، و(سيرة حياتي) لعبد الرحمن بدوي ، و(السنهوري من خلال أوراقه الشخصية) ، و(قصة تجاربي مع الحقيقة) لغاندي ، و(خطاب الهوية) لعلي حرب ، و(سبعون لميخائيل نعيمة) ، و(حصاد السنين) لزكي نجيب محمود .



(8)

الشعر قنطرة الثقافة بشتى أجناسها ، أي بلادة حِسِّ تلك التي تكتنفُ هؤلاءِ الذين لا يُحِبوُّنَ الشِّعْر ولا يتفاعلون معه، والعربيُّ بطبعه يَهَزُّهُ المعنى الخلاب واللفظ الساحر؛ كما يطرب لمرأى الربيع وجمال الطبيعة ، هذا الذي يسمع بيت المتنبي وهو يصور شيئا عميقا من دقائق النفس الإنسانية:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم!

أو بيت أبي تمام وهو يرسم بانسيابية طريق الإنجاز:

بصرتَ بالراحةِ الكبرى فلم ترها *** تُنالُ إلا على جسر من التعب!

أو بيت شوقي متغزلا :

لا أمسِ من عُمُرِ الزمانِ ولا غدٌ *** جُمِعَ الزمانُ فكان يومَ رضاكِ!

أو بيت أمل دنقل حاكيا جهود الإصلاح:

ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة

ليمر النور للأجيال

مره !

أو بيت أبي ريشة النابض بالحياة :

تقضي البطولة أن نمد جسومنا *** جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا!

من يسمع هذه الأبيات ثم لا يطرب ولا يهتز : هو ميت في إهاب حي ؛ الشعر جوهر اللغات ، وملهب الضمائر ، ولسان الأمم ، ومهذب النفوس ؛

شأني شأن لِداتي ، فأول شاعر بدأت به هو من وجدته شاخصا كالطَّودِ في دَرْبي : الدكتور عبدالرحمن العشماوي؛ نعم ليس الدكتور من عمالقةِ الشعر ، لكني لم أستمرئْ أبدا أن يكون فنُّه الصادق وتاريخه الوضيئ نافذةً مشرعةً يرميها -هذه الأيام- كلُّ مُتَأَدِّبٍ مبتدئٍ بالحجارة ، فتاريخه مع الكلمة الصادقة خليقٌ بأن يُشعرَ غضيضي الإهاب بالخجلِ ، وله أبيات جميلة،

ومنها واصفا فتاةً مُغتصبة :

ويَئِنُّ في صدري العفاف ويشتكي *** طُهري وتُغمِضُ جفنها الأخلاق!

كم هي معبرةٌ هذه الأخلاق التي تغمض جفنيها يا دكتور!

و منها -واصفا ندى الفجر- :

إنما الطلُّ الذي يهمي صباحا *** عرقٌ من جبهةِ الليلِ تَصَبَّبْ!

الندى عرقٌ على جبهة الليل؟ هذه الصورة الخلابة هربت خلسةً من ديوان البحتري إلى ديوان شاعر الصحوة!

و منها -متغزلا-:

هذي العُيُونُ وذلكَ الخَدُّ *** والشيحُ والريحانُ والندُّ

هذي المفاتنُ في تَنَاسِقِهَا *** ذكرى تلوحُ وعبرةٌ تبدو

عينانِ ما رنَتَا إلى رَجُلٍ *** إلا رأيتَ قُوَاهُ تَنْهَدُّ !

وأنا معجب بسلاسة هذه الأبيات وتدفق العاطفة فيها :

مالكم أوقدتم النار وقلتم***الأصوليون زادوها اشتعالا

إنما أشعلها الظلم ولكن***ما تزالون تثيرون الجدالا

كلما قام على المنبر داع***يرشد الناس إلى الله تعالى

صاح منكم صائحٌ : هذا خطيرٌ*** أوثقوا الشيخ وزيدوه نكالا

مالكم صيرتم الدين تكايا***وزوايا وادعاءً وانتحالا

كيف ترجو ، حينما تلطم وجهاً***أن ترى من صاحب الوجه امتثالا

عندما تقتل حرية جيلٍ ***فستلقى منه في الأمر اختلالا

أعطني حباً وخذ مني وفاءً***أعطني عدلاً وخذ مني اعتدالا

ما عهدنا أن نرى في الليل شمسا***أو نرى في وهج القيظ هلالا

ما عهدنا أن نرى في الشرق غرباً***أو نرى في راحة اليمنى شمالا

حضرت له بضع أمسياتٍ في آخر الثانوي وأول الجامعة ، كان مثالا لصاحب الكلمة الصادقة النابعة من الضمير الحي والحس الخلاق ، بهر الجماهير بجودة إلقائه الذي فاق شعره بمراحل ، كثيرون حاولوا محاكاته ، وشأنه هو أيضا شأن غيره من الشعراء ، يراه محبوه متنبي العصر، وآخرون يرونه خطيبا ضل طريقه إلى المسجد ... قال مرةً :

الفن عندي خادم لمبادئي *** لا خير في فن بلا أهداف

****

****

(9)

(المترجم الخائن) هي رواية للروائي السوري فواز حدّاد، تحكي قصة (حامد سليم) المترجم الشاب الذي يقع ضحيةً لخطأ دفعه لتغيير النهاية الدرامية للرواية الأصل، ثم يتسلَّطُ عليه أحد كبار المثقفين ليمارس معه المزايدة..إلخ..ألخ)

مسألة الترجمة فيها كلامٌ كثير ودراسات واسعة، كلها تصب في مجرى المقولة الشهيرة:(كل ترجمة خيانة للأصل) هذه المقولة صادقةٌ في كافة حقول المعرفة المترجمة، لكنها أصدق ما تكون في الشعر المترجم، فهذا الفن بالغ الرهافة؛ لا يقوى على الحياة خارج أرضه، ولا تكاد روحه تتنفس في لغتين، فيكون المترجِم كما قال ابن حزم في مناسبة مختلفة (كغارس النارجيل بالأندلس، وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب) لذا لدي يقين أن ما قرأته من أشعار يسيرة مترجمة لشعراء خالدين في لغاتهم كـ(طاغور) و(بوشكين) وكأشعار (هايكو) اليابانية هو أقل بكثير مما كتب بروحه الأصلية، وكذا ما تُرجم من شعرنا العربي لأي لغة! هو كذلك، ألم يقل أحمد النجفي متغزلا:

أنكرتُ نفسي بعدما فارقته *** فكأنني ديوان شعرٍ تُرجما!

أما الترجمات العالية الطبقة في حقول مختلفة كترجمات صالح علماني ومنير البعلبكي وعادل زعيتر وسامي الدروبي ومحمد عناني وجورج طرابيشي وسواهم، فهي عملية تقارب المجهود المبذول في الأصل المترجم.

****

(10)

أعظم كتب الأدب والشعر في تراثنا هو (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني ، كل من أحب أن يعرف الأسلوب على أصوله ، والجمال على حقيقته فليقترب من بحر أبي الفرج ، وكل الصيد في جوفه ، فاقصد البحر وخل القنوات ، قال عنه ابن خلدون: (لعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن..، ولا يعدل به كتاب في ذلك) وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يأخذ سواه، استغناء به عنها. لكن املأ خزانتك منه ، وكن على حذرٍ من حديثٍ له قبيح عن العلماء والأئمة ، وكل أخباره مسرطنة الأسانيد، فهو كما قيل (أعذب كتاب وأكذب كتاب) ، ومن الطريف أني رأيت مرّةً أحد الباحثين يرى عدم الاحتجاج بحديث الآحاد لكنه في المقابل يبني شواهق الأحكام على روايات أبي الفرج في الأغاني! ولبعض الباحثين أقاصيص ونوادر ليس هذا مكانها.

****

من أروع الناثرين الذين ظللت مشدودا إليهما بحبل غليظ ، لا أظنه سيرتخي عما قريب ، وهما محل اتفاق بين الأدباء في جودة الأسلوب وسعة الاطلاع ودقة الملاحظة؛ الحاذِقَين السَّاخِرَين : الجاحظ والتوحيدي ، فمع الأول من كتابه (البخلاء) إلى (البيان والتبيين) إلى (الحيوان) تلك التي يصح عليها أبيات ابن الرومي :

وحديثها السحر الحلال لو انه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت *** ود المحدث أنها لم توجز!

والثاني في كتبه اللذيذة (الصداقة والصديق) و(الإمتاع والمؤانسة) و(الهوامل والشوامل) وأمتعها (أخلاق الوزيرين) ولي ميل إلى أبي حيان ، لربما لأني حديث عهد به ، بينما الجاحظ عرفته قبلُ ، والدكاترة زكي مبارك عقد عن التوحيدي حديث شائقا في كتابه الرائع (النثر الفني في القرن الرابع) .

****

(11)

حين نؤيد أن يكون للإنسان رأيا مستقلا وذوقا ذاتيا وعقلا متحررا من ربقة التقليد في النواحي الذوقية ، فإننا هذه المرة نشير عليه بأن يلغي ذوقه ويندس مع الجماهير العربية الصاخبة المعجبة بشاعرها الأعظم ، أن يصفق مع الآخرين ببلاهة للمتنبي ، وذلك لأن التمنع وعدم الإعجاب (بمعجز أحمد) كما سماه المعري لا يعد نضجا وارتفاعا ، أن يسمع العربي هذا التحليق :

نحن أدرى وقد سألنا بنجد ** أقصير طريقنا أم يطول

وكثير من السؤال اشتياقٌ ** وكثير من رده تعليل!

أو :

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ** أن لا تفارقهم فالراحلون هم !

ثم لا يُقَدِّمَ هذا الشاعرَ الذي امتلك ناصية اللغة ، فصار يعبث بها (أو بِنا.. لا فرق!)، ففي عربيته شيء من الريب .. كان المَعَرِّي من أذكياء العالم وأكبر شعراء الفصحى، ومن علماء اللغة المعدودين ، ومع ذا كان إذا سمع بيت المتنبي :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صمم !

قال : أنا هو الأعمى الذي نظر إلى أدبه..!

أما أنا فتحفظت ابتداءً لشيخي الجليل بدر العواد ، وما زلت أراه شاعرا كبيرا سرق نفسه من بين الشعراء ورماها -غير آبه- في حِلق العِلم ، وشعره صادف قلبي خاليا فتمكنا ، ولأنه لم يتوافر على نشر ما يكتب ظل -كما أراد- منزويا في الظلِّ، فكثيرون لا يعرفون سُموقَه الأدبي وشموخَه العلمي ، ووددت لو جُرَّ للساحة التي تنتظره ، والتي امتلأ فضاؤها بمن قال عنهم في مقطع شعريٍ ظريف :

كلُّ حقٍ خلفَهُ اثنان

حَريٌ بالضياع

عاقل غير شجاع

وشجاع جاهلٌ حتى النخاع!

ثم قفزت لنزار قباني فرأيت (كلماتٍ ليست كالكلمات!) ، هذا الشاعر طوع اللغة وأعاد تراكيبها ، لن تقرأ في شعر نزار إلا نزار وحده ، بسهولته وليونته ، برشاقته ورقته ، بقذارته وجرأته ، وقد اتسخت اللغة من سوء استعماله لها، وقام بتلويثها تماما كما يفعل الأطفال على حوائط دورات المياه! المذهل في هذا الدمشقي المتمرد أن شعره يكتبه وحده ويقرأه العرب من المحيط إلى الخليج ، لم أر من صح عليه وصف (السهل الممتنع) مثله . رأيتُه صادقا حين قال :

وأنا جعلت الشعر خبزا ساخنا ** وجعلته ثمرا على الأشجار !

****

مررت عابرا على شطِّ محمود درويش وتحفظت (سجل أنا عربي) و(وطني يعلمني حديد سلاسلي) وغير ذلك، لكني وبكل اعتراف لا أفهم كثيرا من هلوساته التي كتبها بعد، ولا أدري ما هذيانه في (جداريته)، ولم يشدَّني أنه يأتي إلى بيروت كي يأتي إلى بيروت! ودواوينه (كزهر اللوز أو أبعد، وأحد عشر كوكبا..) في مكتبتي أتجاوزها كما يتجاوز الطيارون مثلث برمودا الغامض، قال عن شعره (ولعل هذا النوع من الغموض هو الفضاء المفتوح لدور القارئ في منح القصيدة حياةً ثانية) أما أنا فلم أرغب يا درويش أن أمنح قصائدك المغلقة -إلى درجة الوفاة- حياةً! لا أنت ولا هؤلاء الشعراء الخارجين من عباءتك! الذين قال عنهم نزار: (إنهم ثلاثون عاما أو أكثر يحرثون البحر دون أن تطلع لهم الحنطة، ودون أن يغيروا سنتيمتر واحدا في الحساسية الشعرية العربية)

ومن شعراء العصر الكبار (أبوريشة) ، وما زال متقلبا حتى انتهى شاعرا إسلاميا في كنف الملك فيصل رحمهما الله ، وقصائده الرائعة (في طائرة) و(عروس المجد) و(أمتي) و(عودي) و(صلاة) جديرة بأن تُحفظَ وتُعادَ، وكان لقصائده قصصا يرويها على جلسائه أشبه ما تكون بمغامرات البطل الكرتوني ماوكلي!

****

(12)

قبل سنين كنت أقرأ حوارا مع الدكتور الحضيف في جريدة المحايد ، فإذا به يشير لشاعر اسمه السياب لأول مرةٍ أسمع به ، والحضيفُ الذي كنت مغرما بقلمه تلك الأيام يتحدث عن السياب بلغةِ المعجب الهائم ، أذكر أنه قال : [اللغة التي يهذي بها السياب بطقوسية غير مسبوقة في قصيدة (أنشودة المطر) و(المومس العمياء)] ، بحثت مباشرة عن ديوان للسياب فلم ألق إلا دراسة عنه لم تشف عليلا ولم ترو غليلا ، بعد حين استعرت ديوانه من أحدهم ، فتحطمت قوائم خيلي على سفح قصائده ، لم أدر ما يقوله هذا العراقي الهاذي ،

كنت آتٍ من مدرسة أخرى ، من ذائقة مختلفة ، لم تألف أذني غير هذا الإيقاع :

لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالكأس مر الحنظل!

أو :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مذهب

أو:

وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لايتضعضع!

فإذا بي أجد من يقول متغزلا :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

ويقول :

عيناك ياللكوكبين الحالمين بلا انتهاء

لولاهما ما كنت أعلم أن أضواء الرجاء

زرقاء ساجية ، وأن النور من صنع النساء

ويقول منيبا لربه -وقد كان شيوعيا قبلُ!- وهو يكابد المرض :

شهور طوال وهذي الجراح

تمزق جنبي مثل المدى

ولا يهدأ الداء عند الصباح

ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى

ولكن أيوب إن صاح صاح

لك الحمد إن الرزايا ندى!

بعد حين ألِفْتُ هذا الصوتَ ، وصارَ هذا الديوانُ أثيرا على روحي ، وباعثا فيَّ المتعةَ والمشاعرَ المختلفة .

****

(13)

لا يُدرِكُ الذين يَشْغَلُهُم هَمُّ تصدرِ المجلسِ القادمِ بهذه المعلومةِ أو تلك ، مَنْ يَقرأونَ في الصَّباحِ وفي ذِهنِهِم أن يُفْرِغوا شُحْنَتَهُم في المساء ، لا يدرِكون أنَّ المعرفةَ روحٌ تَتَمَشَّى في مَفَاصلِ القارئ قبلَ غيرِهِ ، اقرأْ لأجلِكَ هذه السِّنين ، وكن دوما نزاعا نحو التأصيلِ في كلِّ فن ، ما قيمة كاتبٍ أو أديبٍ لا يعرف ما يقيم صُلْبَه من قواعدِ النحوِ والإملاء، أو متحدثٍ في الشَّأنِ الفِكري والمذاهبِ لا يَعرف كلامَ أهلِ السنَّة في المسألةِ التي يطرقها ، أو ناطقٍ في مسألةٍ فقهية لا يعرفُ دليلَها ... أليس العلم نقطة كثرها الجهلاء!

****

لم أحزنْ كثيرا لأني رأيتُ صحفيا يؤَلِّفُ في موضوعٍ شائكٍ كـ(الديمقراطية والسلفية) ، أو موضوعٍ باطلٍ كـ(حريةِ المنافقين) ، أو لأنَّ أولئك : لمعتْ في عُيُونِهِم الحضارةَ الغربيةَ بِـجَنبَيها الفاتِنَينِ (الحريةِ والحقوقِ) : فألبسوها -بكلِّ تفاصيلها- جُبَّةً شرقيةً وعِمَامَةً دينية، لم أحزنْ لأنَّهم أَلَّفوا وكَتَبوا ، لكنِّي أتألَّم من نفوقِ أفكارِهِم الـمُدَجَّنَةِ..!

****

لـمَّا أَجَلتُ نظرةً في شبكات التواصل خَطَر بِبالي أنه لا داعي لثني الرَّكَب عند العلماء ، وتضييعِ العُمُرِ بِحِفْظِ النُّصوصِ وَفَهْمِهَا ، ومِنْ ثَمَّ جَرْدُ الـمُطَوَّلات ، المسألةُ أسهلُ بكثير : فقط افتح حسابا هناك..، بعد ذلك تَمَتَّعْ بِقَدرٍ من الجُرْأة ، وفيضٍ من الوقاحَةِ ، واجعلْ لحومَ الأكابرِ مضغةً في فَمِك ، ولا تنسَ بأن تُرَدِّدَ أن شطرا طويلا من عُمُرِكَ -الذي لم يتجاوزْ الثلاثين بعدُ-: خُدِعْتَ بالسَّلَفية ، وأنَّ الدعوةَ الوهابيةَ سلبياتُها أكبرُ من إيجابياتِها ، وفي خِضَمِّ ذلك الانتِشاء بالتنظير ؛ اكتبْ مَقَالا بِعُنوان : (رحلتي من السَّلَفيةِ الضَّيقةِ إلى الإسلامِ الأرحب) ، حاولْ أن تكرِّرَ فيه اسمَي مارتن لوثر وكالفِنْ مِرارا ، بعد هذا ستلقى من يُبَجِّلُك ويراك مُثَقَّفا موهوبا ، ولديك من الأفكارِ ما يَسْتَحِقُّ الإشادَةَ والقِرَاءَةَ ، سَتَلقى مَن يَظُنَّك أبو حامدِ الغزالي الذي غَرِقَ في بحر متلاطمٍ من الفَلسَفَة، لن يَعْلَموا أنَّ قُصَارى قِراءاتك لم تتجاوزْ رواياتِ علاء الأسواني ، وإحدى روايات دان براون ، ثم وَجَدتَّ الطريق قصيرا نحو التَّصَدُّرِ والتَّنظيرِ ...!

بصراحة من الأشياء التي تقلقني جدا كلما جالست بعض إخواني أني أرى ضعفَ المناعةِ الفكرية مرضا مستشريا في الأوردةِ..، وهناك خضوع داخلي لسلطة القراءات الجديدة، فالبناء الفكري السامق في سنوات قابلة للتصدع والانهيار في لحظات، أستطيع أن أفهم أن يغرق الإنسان في أمواج ضاربة من القراءات، لكن لا أتفهم كيف يغرق هذا في قاع كأس؟!، إلا أن يكون السبب: قابلية المحل للانحراف! وقد كانت النظرية الطبية عند الأطباء القدامى -اليونان والعرب- تقوم على مبدأ أبقراطي قديم وهو الاعتماد على الطبيعة الشافية، وما الدواء إلا مثير للقوة الشافية، فكانوا يسمونها (المدبر)، فإذا عجزت هذه القوة عن مقاومة المرض لم يعد للعلاج قيمة، وكذا الشبه الخاطفة في النفوس الضعيفة؛ إذا ضعفت القوة الشافية صار القلب مستودع الأوبئة العقلية والعلل الفكرية!

**** ****

للحديث بقية