تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الإمام أبو محمد بن أبي زيد القيرواني



أهــل الحـديث
08-02-2012, 01:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
موضوع الخطبة
د
روس وعبر
من حياة الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني
30 ذي القعدة 1432ه 28/10/2011م
الحمد لله الذي أنزل علينا كتابا كالشمس وضحاها، وأرسل إلينا رسولا كالقمر إذا تلاها، فمن اقتدى بهما عاش في ضوء النهار إذا جلاها، ومن أعرض عنهما تخبط في ظلمة الليل إذا يغشاها، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق النَفْس فسَوَّاهَا، فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قد أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وقد خَابَ مَن دَسَّاهَا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أخبره ربه أنه أهلك ثمودا بطغواها، وأنه سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من أمته أولاها وأخراها.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قدمنا لكم سلسلة من تراجم علماء المذهب المالكي والهدف منها أن نتعرف على سند المغاربة في المذهب المالكي، وأن نزيل من عقول شبابنا أسماء المطربين والمطربات، والمغنيين والمغنيات، والفنانين والفنانات، واللاعبين واللاعبات، الأحياء منهم والأموات.
وهذا لا يعني -كما اتهمني البعض- أنني ضد الفنانين والفنانات، واللاعبين واللاعبات، فالفن واللهو واللعب لترويح النفس أمر مشروع، سواء كان بكرة القدم أو غيرها، والرسول يقول: «ساعة وساعة»، أي: روحوا قلوبكم باللعب الحلال ساعة وساعة، ولكن حينما يتحول الفن إلى عري وتحرش، واستفزاز للنزوات والشهوات، وحينما تتحول الكرة إلى صنم معبود ومحبوب، وحينما نعرف من اللاعبين أكثر مما نعرف عن أمهاتنا وآبائنا، بله أجدادنا وعلمائنا، حينئذ يكون هذا الفن فسادا واللهو فتنة وبلاء؛ وهل تنكرون أن من الشباب من يعرف كل شيء عن لاعبه المفضل أو مطربه المفضل في الوقت الذي لا يعرف جده الذي أنجب أباه؛ فهذا هو الذي يجب إنكاره.
واليوم سأقدم لكم حياة عالم آخر من علماء المالكية هو أبو محمد بن أبي زيد القيرواني فهو فقيه عالم فنان شاعر كما سنرى في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى:
أصله ومنشأه؛ فهو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ولد سنة 310هـ، وتفقه بفقهاء بلده بتونس، ثم رحل إلى الحج فتعلم من علماء الشرق، وبذلك جمع علوم المشرق والمغرب، فكان مالكي المذهب؛ بل كان -رحمه الله- إمام المالكية في وقته وقدوتَـهم فقد جمع المذهب وشرحه، ودافع عنه بالحجة الدامغة، حتى عرف بمالك الصغير، كل ذلك في الوقت الذي حكم فيه الفاطميون الشيعة على تونس، فكانت السلطةُ آنذاك ترفض مذهب أهل السنة بصفة عامة، ومذهب مالك بصفة خاصة، ورغم ذلك ظل الإمام ابن أبي زيد متمسكا ونافعا به ومدافعا ونافحا عنه، بشراسة وشجاعة منقطعة النظير، بحيث لا يتنازل عن قناعاته التي يراها صوابا إرضاء للحكام، ومن يفعل ذلك لا بد أن يلقى من الحكام ما يكره من المضايقات، وهذا يدل على أنه من العلماء المستقلين الأحرار، الذين لا يخافون في لومة لائم، وليس من الدواجن؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ.
ولم يكن مالكي المذهب بالكلام فقط كما هو حالنا اليوم، فإن من الثوابت الوطنية عندنا مذهب مالك، ولكن إنما ندعي التمسك به في الوقت الذي لا نعلم منه شيئا، والمذهب ليس في الصلاة والطهارة فقط؛ بل هو يغطي جميع العبادات والمعاملات، فأين مذهب مالك في معاملاتنا؛ في الشركات والأسواق والمصاريف والبنوك والمدارس؟
الوقفة الثانية: مؤلفاته؛ لقد حاز ابن أبي زيد رئاسة الدين والدنيا، فارتحل الناس من الأقطار ليتعلموا منه، وكثر طلبته الآخذون عنه، وعرف الأكابر قدره، وطبقت الآفاق شهرتُه ، وملأت البلادَ تواليفُه، وحاول كثير من العلماء أن يؤلف مثله، ولكنهم لم يبلغوا مداه وشأوه، مع فضل السبق، وصعوبة المبتدأ، ومن كتبه في المذهب: كتاب النوادر والزيادات جمع فيه أقوال الإمام مالك التي لا توجد في المدونة الكبرى، وهو مطبوع اليوم في 15 مجلدا. وكتاب مختصر المدونة، وعلى كتابيه هذين المعوَّل بالمغرب في التفقه. وله أيضا كتاب الرسالة المشهور، الذي ألفه للمبتدئين والأطفال، فهو أول من ألف ما يسمى اليوم بالكتاب المدرسي، ولا زالت الرسالة عندنا من المقررات الدراسية في المدارس العتيقة وبيننا وبينه 1100 سنة، أي: أحد عشر قرنا، وهي تشتمل على العقيدة السليمة، والعبادات الصحيحة، والمعاملات الواضحة، قال العلماء: في الرسالة أربعة آلاف مسألة، مأخوذة من أربعة آلاف حديث، ما من مسألة فيها إلا وهي مأخوذة من حديث.
الوقفة الثالثة: كان -رحمه الله- يحارب الفرق الضالة في العقيدة؛ فقد رد على طائفة القدرية الذين ينفون القدر، كما رد على المعتزلة وغيرهم، وكانت عقيدته في كتبه على طريقة السلف الصالح، لا يؤول صفات الله تعالى ولا يحددها بعدد، والأصعب في الدين حينما تتشوه العقيدة، وتشوبها شوائب الخرافات من حيث لا يدري صاحبها، فيحسب الناس أنهم يحسنون صنعا، وإنما أعمالهم مع فساد العقيدة، كسراب بقيعة أو كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف.
الوقفة الرابعة: كان -رحمه الله- يحارب أهل البدع والأهواء، يحارب الزنادقة الذين يستغلون الدين من أجل الدنيا، الذين يجعلون من الدين شبكة لاصطياد الدنيا واقتناص الأموال، الذين يدعون كرامات وخوارق لم تقع حتى للرسول.
وهنا يجب أن نعلم أن كل أمر لم يقع في عهد الرسول فهو بدعة؛ إلا أن البدعة هي على نوعين:
1) البدعة الحسنة، وهي كل فعل لم يرو عن الرسول، ولكنه لا يخالف الشرع، مثل جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد بالشكل الذي نراه اليوم، لم يكن في عهد الرسول، وإنما ابتدعه سيدنا عمر فقال حينما رأى ألناس يقتدون بإمام واحد في التراويح: «نعمت البدعة هذه». وكذلك جمعُ الناس في القرآن الكريم على مصحف واحد، وقد كان القرآن في عهده مفرقا في الألواح والجلود، ثم جمعه عثمان في مصحف واحد، فهذه بدعة حسنة.
2) البدعة السيئة وهي التي تخالف الشريعة؛ سواء كانت في العبادات أو في المعاملات، مثل أن نصلي مثلا صلاة الظهر خمس ركعات، أو نصوم الليل موصولا بالنهار، أو نحج في غير ذي الحجة، أو نتعامل بالربا، أو نقتدي بغير المسلمين في الألبسة كما نرى عند شبابنا اليوم من ألبسة العري والفضيحة التي تخضع لآخر صيحات الموضة، مثل هذه البدع هي التي شن ابن أبي زيد ضدها حربا معلنة، داعيا إلى السنة، مستنكرا البدع المنتشرة، والمناكر السافرة، ومن كتبه في ذلك رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن، يستنكر عليهم القراءة بدون القواعد، يستنكر القراءة التي تخلط بين الحروف، ولا تعطي لكل حرف حقه، والرسول يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، ويقول: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» أي كل بدعة تخالف الشرع فهي ضلالة، والإمام مالك كان يقول: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
الوقفة الخامسة: كان ابن أبي زيد -رحمه الله تعالى- سريع الانقياد إلى الحق، والانقياد للحق فضيلة لا يتقنها إلا الصلحاء الأتقياء الأنقياء الأصفياء، المخلصون العمل لله، الهادفون إلى الوصول إلى الحقيقة مهما كانت، بينما الاستمرار على الباطل رذيلة لا يتقنه إلا المنتهزون المتسلقون المتعنتون، الذين لا يتنازلون للحق مهما كان واضحا، وعدم الرجوع للحق هو العناد من أخلاق اليهود المغضوب عليهم كما في سورة الفاتحة.
الوقفة السادسة: كان -رحمه الله- فنانا شاعرا؛ لكنه يجمع إلى ذلك صلاحاً وعفة، على سبيل المثال قصيدة الرثاء التي ذكر فيها محاسن شيخه بعد وفاته، أبي بكر بن اللباد الذي لازمه وعلمه ورباه، اعترافا بالخير لأصحابه يقول فيها:
يا عينُ فابكِ لمن بفقده فُقِدَتْ
لهفي على ميّت ماتت به سبل الـ
ونحن بعدك أيتام بغير أب
الفقـــــــــــه خُلّتـــــــــــــــــه والعلـــــــــم حُلتـــــــــــه
أب لأصغرنا كفل لأكبرنا
يا مــــــن هــــــــو العلَمُ المشهود منظرُه
ــــــــ جوامعُ العلم والخيرات إذ دُفنا
ـخيرات قد كان أحيا الدين والسننا
إذ غَيَّبَ التربُ عنا وجهَك الحسنا
والدِّيـــــــــن زينتــــــــــه واللــــــــــه شاهـــــــدنــــــا
وفي النوازل ملجانا ومفزعنا
ومــــــــن تـــــــــأدب بالتقــــــــــــــــوى وأدّبنـــــــــــــا
ومن هذه القصيدة نتعلم كيف ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الأستاذ وتلميذه؛ فالأستاذ هو الأب الروحي للتلاميذ، يتعلمون من أخلاقه قبل أن يتعلموا من علمه، يحترمونه ويحبونه ويبجلونه، فيكون بمثابة الأب الحنون لأصغرهم، وبمثابة الكفل المنفق المربي لأكبرهم؛ وفي النوازل والمصائب يكون ملجأهم ومفزعهم، بحيث يشعرون إذا فقدوه كأنهم أيتام؛ فأين هذه المعاني الجميلةُ اليوم في مدارسنا؟ فأثقل شيء على التلميذ هو وجه أستاذه ودرس أستاذه، همه التخلص منه في أقرب وقت ممكن، يفرح لغيابه ويتألم لحضوره، يلمزه إذا حضر، ويشتمه إذا نظر، ويغتابه إذا غبر، وليس هذا في المدارس العصرية فقط؛ بل قد تسرب أيضا حتى إلى المدارس القرآنية العلمية العتيقة، لا يوجد في أغلب الطلبة والتلاميذ إلا كما قيل:

أعلمهُ الرماية كل يومٍ
وكم علَّمته نظـــــم القوافي فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال قافيـــــــــــــه هجاني
أو كما قال المتنبي بأسلوب آخر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فما سبب هذه الوضعية المزرية؟ وما سبب فساد العلاقة الروحية بين الأستاذ وتلميذه وبين الطال وشيخه؟
سببه أولا: سوء التربية من الآباء، فماذا يربي الأستاذ في تلميذ جاء من منزله وشعره مشوك، أو حلق نصف رأسه وبقي النصف الآخر، أو علق بعنقه أو معصمه سلاسل الذهب والفضة أو النحاس في غالب الأحيان؟ أو جاءت التلميذة متبرجةً عارية مستفزة لنزوات الشيب والشباب؟
وسببه ثانيا: تصرفات بعض الأساتذة غير اللائقة؛ على سبيل المثال الأستاذ الذي يدخن أمام التلاميذ، أو الشيخ الذي يسب بالفحش والبذاءة، التلاميذ أو يأكل أموال الطلبة، أو الأستاذة المتبرجة التي تأتي إلى المدرسة لتعلم وحالها كعارضة الأزياء؛ أي أخلاق يتعلمها التلاميذ من أمثال هؤلاء؟ أي تربية؟ وأي علم؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.
الوقفة السابعة: وفاته؛ توفي -رحمه الله- سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وقبل أن يموت بأيام رأى في منامه علامة موته: فقد وجده أحد تلامذته قبيل وفاته حزينا كئيبا، فسأله عن السبب؟ فقال: رأيت في منامي أن باب داري قد سقط، وسقوط باب الدار في المنام يدل على الموت، فلم يبق بعدها إلا يسيراً ثم مات رحمه الله.
والرؤيا المنامية نوع من الوحي؛ إذا تم تفسيرها حسب قواعدها وضوابطها، يقول النبي فيما روى مالك في الموطأ: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات... الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له». وبعد وفاته رثاه الشعراء فقال أحدهم:
عجباً أيدري الحاملون لنعشه
علماً وحكماً كاملاً وبراعة
وسعَتْ فجاج الأرض سعياً حوله
يبكونـــــه ولكـــــــــــــــــل بــــــــــــــــــاك منهــــــــــــم كيف استطاعوا حمل بحر مترع
وتُقى وحسنَ سكينة وتورع
من راغب في سعيه متبرع
ذلّ الأسيـــــــــــــر وحرقـــــــــة المتوجــــــع
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين...