المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح مختصر التحرير -الحازمي-



أهــل الحـديث
04-02-2012, 12:10 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الدرس الأول

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَنِ ٱلرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْــدُ:
نشرع بإذن الله تعالى في هذا اليوم يوم السبت الحادي والعشرين من شهر رجب المحرم لعام واحد وثلاثين وأربعمائة وألف، في شرح مختصر التحرير أو الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير في فن أصول الفقه.
وكما هو معلوم أن أصول الفقه علم جليل القدر، بالغ الأهمية، عظيم النفع، متعدد الفوائد، ولا بد لطالب العلم أن يقف على فوائد هذا الفن من أجل أن يسعى في تحصيله، ومن فوائده:
الوقوف على مناهج المجتهدين، واستنباطهم للأحكام الشرعية، لأن الناظر في الفقه الشرعي إما أن يكون مجتهداً أو يريد أن يبلغ درجة الاجتهاد، وإما أن يكون مقلداً وحينئذٍ لا يمكن أن يصل إلى المرتبتين إلا بمعرفة أصول الفقه من أجل أن يقف على كيفية استنباط الأحكام الشرعية، وهي التي سلكها أهل العلم قديماً وحديثاً، وحينئذ إذا وقف على الطريقة المعتمدة عند العلماء في كيفية استنباط الأحكام الشرعية حصل اطمئنان في النفس من حيث ما وقف عليه أهل العلم، لأن الناظر إما أن ينظر -كما ذكرنا- من جهة التقليد، يأخذ هذا الحكم أنه واجب أو أنه محرم، ثم قد يزيد على ذلك بأن يعرف كيف وصل هذا المجتهد إلى استنباط هذا الحكم الشرعي من الدليل الشرعي، وهذا إنما يكون بأصول الفقه.
ثانياً: هو العلم الذي يبين للمجتهد الطريق الصحيح الموصلة إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ويزوده بالأدوات اللازمة لتحقيق ذلك، وهذا يُيسر للعلماء معرفة الحكم الشرعي في كل زمان ومكان، لأن الشريعة كما هو معلوم من القاعدة القطعية: أنها دائمة، يعني: صالحة في كل زمان ومكان، وحينئذ ثَمَّ مسائل قد تكون نازلة لعصر دون عصر، أو في مكان دون مكان، وقد لا يكون أهل العلم القدماء قد بحثوا هذه المسألة، كيف يستنبط لهذه النازلة الحكم الشرعي من الكتاب والسنة؟ إنما يكون بواسطة هذا الفن.
ثالثاً: هو الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، لأنه يبين لك المصادر التي يعتمدها أهل العلم في الاستنباط. وهذا بحثه إنما يكون في فن أصول الفقه.
ثم كيفية الاستنباط منضبطة وليس للرأي، وليس للهوى فيها مدخل، فإذا كان كذلك فحينئذٍ نقول: صارت الشريعة منضبطة في أحكامها بناءً على انضباط هذا الفن، كما سيأتي موضحاً في مسائله.
قال القرافي رحمه الله تعالى مبيناً أهمية هذا الفن بكلام جميل، يقول رحمه الله تعالى: لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده بمجرد الهوى خلاف الإجماع. وهذا واضح بين.
ولعلهم لا يعبؤون بالإجماع، يعني: الذي يُشرع من قبل نفسه، يعني بهواه، فإنه من جملة أصول الفقه، أوما علموا أنه أول مراتب المجتهدين؟ فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهداً قطعاً.
إذاً: لولا أصول الفقه -وهذا محل الشاهد- لم يبق للشريعة لا قليل ولا كثير.
رابعاً: هو علم يُكون لدى دارسه ملكة عقلية وفقهية تمكنه من معرفة المنهج السليم الذي يتوقف عليه الاجتهاد واستنباط الأحكام. وهذا محل وفاق بين أهل العلم، ولذلك ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى في الإرشاد أو قبله الغزالي: أن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث واللغة وأصول الفقه، وهي مترابطة كما هو معلوم.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: الشرط الرابع: أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه لاشتماله على ما تمس الحاجة إليه، وعليه أن يطول الباع فيه، ويطلع على مختصراته ومطولاته لما تبلغ به طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، يعني: يقوم الاجتهاد على فن أصول الفقه.
وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أن ينظر في كل مسألة نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذلك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل.. إلى أن قال: وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد، وخبط فيه وخلط، يعني: اعتماده يكون على هذا الفن، وهذا محل وفاق بين أهل العلم، وإنما ننبه على هذا لأن ثَمَّ من يُزَهِّد في هذا الفن في هذا العصر الذي تلاطمت فيه الفتاوى وخلط فيه المفتون قبل العوام، ولذلك يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى في مختصره الأصول من علم الأصول: فائدته -أي أصول الفقه-: التمكن من حصول قدرة يستطيع بها أي: الفقيه استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة، وأول من جمعه كفن مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله تعالى، ثم تابعه العلماء في ذلك، فألفوا فيه التآليف المتنوعة ما بين منثور ومنظوم ومختصر ومبسوط، حتى صار فناً مستقلاً له كيانه ومميزاته.
إذاً: من أول العصور إلى عصرنا هذا أجمع أهل العلم على أن أصول الفقه يعتبر أساساً للفقيه، ولا يمكن أن يتفقه في دين الله على جهة الاستقلال وعدم التقليد إلا إذا عرف هذا الفن.
يقول القرافي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه العظيم الفروق: فإن الشريعة المحمدية -زاد الله تعالى منارها شرفاً- اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان؛ أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم... إلى أن قال: وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.
إذاً: أطبق أهل العلم على هذا القول، وثَمَّ إجماع عمليٌ وكذلك منصوص عليه فيما يتعلق بشرط الاجتهاد: أنه لا بد من العلم بهذا الفن على جهة أصوله.
وهذا العلم -كما هو معلوم- إنما يقوم على علم آخر، وهو ركن له يعتمد عليه كما مر في كلام الغزالي رحمه الله تعالى، وهو لسان العرب.. اللغة العربية. اللغة العربية -كما هو معلوم- إما فرض عين، وإما فرض كفاية، ومن لم يكن له شأن في هذا الفن فسيضعف في فن أصول الفقه، وإذا لم يكن له شأن في أصول الفقه فسيضعف كذلك في فهم الشريعة، العلوم متلازمة مترابطة كما هو معلوم، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فإن نفس اللغة العربية من الدين، تعلُّم العربية نحواً وصرفاً وبياناً وفقهاً يعتبر من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأطبق الأصوليون على هذا الدليل بأن لسان العرب تعلمه يعتبر واجباً، يعني: قد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية، لأن فهم الشريعة واجب، وإذا كان كذلك فحينئذ ما هو العلم الذي يقوم عليه فهم الشريعة؟ هو لسان العرب، وإذا كان كذلك ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم قال رحمه الله تعالى: ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، وطلب فهمه إنما يكون في هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[يوسف:2]، وقال سبحانه: ((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) [الشعراء:195]، وقال تعالى: ((لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)) [النحل:103] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن القرآن إنما نزل بلسان العرب، وهذا فيه إشارة إلى ماذا؟ فيه إشارة إلى أنه لا يمكن فهم هذا الكتاب إلا بلسان العرب. وهذا واضح بين.
قال رحمه الله تعالى: مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد فهمه فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة.
لا سبيل، يعني: لا طريق إلى فهم القرآن الذي نزل بلسان العرب إلا من هذا الطريق، وهو فهم لسان العرب.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدَّعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك.
وهذا فيه ملحظ آخر: وهو أن سبب ضلال كثير من أهل البدع إنما هو لجهلهم بلسان العرب، وهذا يزيد طالب العلم اهتماماً بهذا العلم الجليل الذي يقوم عليه فهم الكتاب والسنة، ثم يقوم عليه علم أصول الفقه الذي لا يمكن أن يصل إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية إلا بواسطة هذا العلم.
هذه مقدمة يسيرة نبين بها لماذا تم اختيار مختصر التحرير في فن أصول الفقه، إذ هو علم جليل، وقد أطبق العلماء على مدحه والثناء عليه، وهو أساس لفهم الشريعة كما مر معنا في كلام أهل العلم، ولا يوجد في كلام المتقدمين والعلماء المعتبرين ما يخالف هذا الأصل العظيم، وإنما وجد في شأن المعاصرين ممن يدْعون إلى تجديد هذا العلم بالتزهيد فيه والنظر في أصوله، وكله كلام فيه تخبيط وتخليط، وإنما النظر إلى ما اعتمده الأئمة السابقون.
إذاً: هذا السبب في اختيار هذا الفن. لماذا مختصر التحرير على جهة التحديد؟ نقول: مختصر التحرير -كما هو معلوم- يتعلق بمذهب الحنابلة، ومذهب الحنابلة هو المعتمد في هذا البلد، وكثُر الطلب من جهة الطلاب هنا وفي الخارج كذلك على التعليق على هذا الكتاب، وكان اختياره لهذا السبب.
ثم هو مختصر لكتاب عظيم وهو التحرير للمرداوي رحمه الله تعالى كما نص المصنف على ذلك فيما سيأتي.
الطريقة المتبعة.. ونحن نحاول نختصر في المقدمات، الطريقة المتبعة: أن الكتاب هذا يعتبر كتاباً متوسطاً، يعني ثَمَّ ما يتعلق بالمبتدئين، ثم درجة المتوسطين، ثم درجة المنتهين. المبتدئون كما هو معلوم مقرر في دراستهم وتدريسهم هو الورقات وما يتعلق بها وما يكون في حجمها، إذا أخذها طالب العلم وأتقنها فحينئذ ينظر في ما هو أوسع من ذلك، والمناسب له إن لم يأخذ قواعد الأصول المناسب له هو مختصر التحرير، هو وشرحه يعتبر للمتوسطين كما نص على ذلك ابن بدران كما سيأتي في موضعه.
وإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يخاطب بهذا الشرح من هو مبتدئ في الفن، بمعنى أن الذي لم يقرأ الورقات يستحسن به ألا يحضر هذا الدرس، لماذا؟ لأننا سنشرح بما يوافق هذه الدرجة، وهذا الذي سبب الخلل الآن عند طلاب العلم، ثَمَّ ما يكون مبتدئاً ويحضر في كتب قد تكون أكبر منه حجماً أو علماً، وحينئذٍ يحصل له النظر من جهة صعوبة الفن ومن جهة صعوبة الشرح، وقد يكون سبباً في تركه للعلم، وهذا ليس بجيد، لماذا؟ لأن كل طالب يختار ما يناسب عقله وحجمه، فالمبتدئ يختار من الكتب ما يفيده، والمتوسط كذلك يختار ما يفيده، والمنتهي معلوم أمره، وحينئذٍ إذا كان الأمر كذلك فشرح المصنف رحمه الله تعالى الفتوحي المسمى بالمختبر المبتكر، يكون هو العمدة في التعليق على هذا الشرح، أطال في بعض المواضع واختصر في بعض المواضع، ونحن نختصر ما أطال فيه ونكتفي بما نص عليه أنه هو المقدم في المذهب أو كان عليه أكثر الأصحاب، وما كان من قول لا بد من ذكره فحينئذٍ يذكر، وأما القول الراجح فلا بد من بسطه من جهة الدليل وما يتعلق به.
المؤلف رحمه الله تعالى هو: أبو البقاء محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المصري الحنبلي الشهير بابن النجار، ولد بمصر سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، وتوفي سنة اثنين وسبعين وتسعمائة، وهو صاحب كتاب منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات.
والمختصر هذا اشتهر أنه مختصر التحرير، لأن اسمه: الكوكب المنير، وشرحه في المختبر المبتكر شرح المختصر، وكما سينص عليه ويأتي في محله أنه اختصره من التحرير للمرداوي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَنِ ٱلرَّحِيمِ، ٱلحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هُو كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَالْعَبْدُ لا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ).
(بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَنِ ٱلرَّحِيمِ) ابتدأ المصنف كعادة أهل العلم في ابتداء الكتب التي يؤلفونها {بِالْبَسْمَلَةِ تَبَرُّكًا بِهَا, وَتَأَسِّيًا بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ, وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السنة الفعلية- حَيْثُ ابْتَدَأَ بِهَا فِي كُتُبِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ}، والكلام على البسملة شهير لا حاجة إلى الإطالة به.
(ٱلحَمْدُ لِلَّهِ) الْحَمْدُ لِلَّهِ: مبتدأ وخبر، (ٱلحَمْدُ) الألف واللام للاستغراق، و(ٱلحَمْدُ) الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ أَنوَاعِ الْمَحَامِدِ كلها لله سبحانه وتعالى ملكاً واستحقاقاً.
وثنى بالحمد بعد البسملة كذلك اتباعاً لكتاب الله تعالى، وفيه كذلك اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حيث نص -كما قال أهل العلم- نص في موضع على الابتداء بالبسملة، وفي موضع آخر على الابتداء بالحمدلة، فجمع بينهما أهل العلم، وأما الجمع بينهما في سنة منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظ والله أعلم.
(ٱلحَمْدُ) له عبارتان عند أهل العلم في اللغة: {إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ, عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ.
وَالأُخْرَى: أَنَّهُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الاِخْتِيَارِيِّ, عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ. سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ أَوْ بِالْفَوَاضِلِ} وهذا هو الذي شاع عند أهل العلم، وقلنا: فيه شيء من النظر كما مر معنا مراراً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهو أحسن ما عُرِّف به الحمد، (الْحَمْدُ): هو ذكر صفات المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، فإن تجرد عن ذلك فهو مدح، إن تجرد عن المحبة والتعظيم والإجلال وإنما هو ذكر للصفات يسمى مدحاً لا حمداً. والفرق بينهما.. بين المدح والحمد: أن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرداً من حب وإرادة، أو مقروناً بحبه وإرادته، فإذا كان الأول فهو مدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. إذاً: بينهما قدر مشترك؛ وهو أن كلاً منهما ذكر محاسن المحمود، فإن كان مع المحبة والتعظيم والإجلال فهو الحمد، وإلا فهو المدح.
{وَفِي قَرْنِ الْحَمْدِ بِلفظِ الْجَلاَلَةِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَائِدَتَانِ:
الأُولَى : أَنَّ اسْمَ " اللَّهِ " عَلَمٌ لِلذَّاتِ, وَمُخْتَصٌّ بِهِ, فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ}. يعني لماذا قال: الحمد لله ولم يقل: الحمد للرحمن، أو الحمد للرحيم؟ إنما جاء التنصيص على لفظ الجلالة؟ على المشهور وهو الصحيح أن لفظ الجلالة (الله) مشتق، وإذا كان كذلك فحينئذٍ يدل على وصف الألوهية، ولا يكون كذلك إلا من كان جامعاً لجميع صفات الكمال، وإذا كان كذلك فحينئذٍ كل صفة تكون داخلة تحت هذا الاسم فهو أعم الأسماء، فلذلك اقترن بالحمد دون ما سواه.
كذلك يقال: بأنه وقد اشتهر عند كثير من أهل العلم أن اسم الله تعالى الأعظم هو الله، إذاً: (ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ) أي: الثناء بصفات الكمال على الوجه اللائق بالله تعالى ملكاً واستحقاقاً للرب جل وعلا. وعبر بالجملة الاسمية ولم يقل: إن الحمد لله، أو نحمدك يا الله؛ لأن هذه الصيغة هي المشهورة، ولذلك هي المبدوء بها في القرآن: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الفاتحة:2] في غير ما موضع، ولا صيغة تعدل ما بدئ به القرآن.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي) "ٱلَّذِي" هذا نعت للفظ الجلالة.
(هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ) هو أي: الله عز وجل.
(كَمَا): الكاف للتشبيه، وما: موصولة، أي: كالذي.
(أَثْنَى) يقال: أثنى عليه خيراً، والاسم الثناء، وهذا الذي اشتهر عند جمهور أهل العلم أن الثناء يختص بالخير، ولا يقال: أثنى عليه شراً، وإنما يقال: أثنى عليه خيراً، وإن كان جاء في النص في شأن الجنازة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: {فأثنوا عليها خيراً، وقال في الأخرى: فأثنوا عليها شراً} دل ذلك على أن الثناء قد يتعلق بالشر كما أنه يتعلق بالخير.
(ٱلَّذِي هُو كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ) يعني: كما وصف نفسه بصفات الكمال مكرِّراً ذلك.
(عَلَى نَفْسِهِ) على ذاته جل وعلا المتصفة بصفات الكمال، والنفس هذه صفة من صفات الباري جل وعلا، أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذا اللفظ دالاً على معناه, وإنما اختلفوا في تفسيره، هل المراد به شيء زائد على الذات أم أنه بمعنى الذات المتصفة بصفات الكمال؟ قولان لأهل السنة والجماعة.
(ٱلَّذِي هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ) أي: كثنائه على نفسه، لأن (ما) الموصولة مع صلتها في قوة المشتق.
{كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ}
{وَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ الْوَصْفِ مُتَوَقِّفَةً عَلَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْصُوفِ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ))[طه:110] صَحَّ قَوْلُنَا: (فَالْعَبْدُ لاَ يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ)}. هكذا قال الفتوحي رحمه الله تعالى في شرحه؛ ليبين لم قال: فالعبد، جعل له ماذا؟ جعل له شرطاً محذوفاً، فتكون الفاء حينئذٍ فصيحة، ولذلك قال: {وَلَمَّا}، هذه مضمنة معنى الشرط أو شرطية.
{وَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ الْوَصْفِ .. فَالْعَبْدُ} الضعيف، المراد بالعبد هنا أي: الإنسان حراً كان أو رقيقاً، لأنه مربوب للباري جل وعلا.
(لاَ يُحْصِي) أحصى الشيء عده.
(لاَ يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ) لأنه سبحانه وتعالى له صفات وله أحكام وله أفعال، وصفاته لا منتهى لها، وأحكامه لا منتهى لها، وأفعاله لا منتهى لها، وحينئذٍ (الحمد) متعلق بصفاته وأحكامه وأفعاله، فكما أن صفاته وأفعاله وأحكامه لا منتهى لها كذلك الحمد لا منتهى له، ولذلك قال: (فَالْعَبْدُ لاَ يُحْصِي) يعني: لا يعد ثناءً (عَلَى رَبِّهِ)؛ {لأَنَّ وَصْفَ الْوَاصِفِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهُ مِنْ الْمَوْصُوفِ} والله جل وعلا لا يدرك، وإذا كان كذلك كما قررناه أن الحمد هنا متعلق بالصفات ومتعلق بالأحكام وبالأفعال.
لما أثنى على الخالق جل وعلا ثنَّى بالثناء على أفضل الخلق، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (وَالصَّلَاةُ) هذا مبتدأ.
(عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ) هذا هو الخبر.
(ٱلصَّلَاةُ) صلاة الله تعالى على عبده كما هو الصحيح الذي قرره ابن القيم رحمه الله تعالى: هو ثناؤه في الملأ الأعلى، يعني: على عبده، كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية. وقيل: الرحمة، وقيل غير ذلك، والصواب الأول، وقد بين ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع وفي جلاء الأفهام بترجيح هذا القول من عدة أوجه.
ومن الملائكة الاستغفار والدعاء، ومن الآدمي التضرع والدعاء.
(وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) جمع بينهما طلباً أو امتثالاً للنص، الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[الأحزاب:56]، وبناءً على ما ذهب إليه كثير من المتأخرين: أن إفراد الصلاة عن السلام مكروه، والعكس، يعني: لا يقال صلى الله على محمد دون أن يسلم، ولا أن يسلم دون أن يصلي، بناءً على هذه الآية، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن الدلالة هنا مأخوذة من دلالة الاقتران، وهي ضعيفة كما سيأتي في موضعه، فالصواب أنه يجوز الاقتصار على الصلاة دون السلام بلا كراهة، والعكس كذلك بلا كراهة، ولكن كمال الامتثال إنما يكون بالجمع بين الأمرين امتثالاً للآية.
(وَالسَّلَامُ) السلام بمعنى التحية، أو السلامة من النقائص والرذائل، ومن أسمائه سبحانه: السلام، لسلامته من النقائص والعيوب، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وَهُو السَّلاَمُ عَلَى ٱلحَقِيقَةِ سَالِمٌ
مِنْ كُلِّ تَمثِيلٍ وَمِنْ نُقْصَانِ

وجمع المصنف بين الصلاة والسلام امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: ((صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[الأحزاب:56] أمر بهما وقرن بينهما، حينئذٍ كمال الامتثال الاقتران، لكن الكراهة والنهي عن إفراد أحدهما دون الشيء الآخر هذا يحتاج إلى دليل خاص منفصل.
(عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ) يعني: والصلاة والسلام على أفضل خلقه.. الصلاة على أفضل خلقه، والسلام على أفضل خلقه، يعني: تنازع فيه المصدران، يحتاج إلى تقدير.. أن يُعلق بالأول ويقدر للثاني أو بالعكس، يعني: إما أن نجعل (عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ) متعلقاً بمحذوف خبر للمبتدأ الصلاة ونقدر للسلام، أو نجعل الخبر محذوفاً دل عليه المذكور ونجعل (عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ) متعلق بقوله: (السَّلَامُ).
(عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ) "أَفْضَلِ": هذا فيه أفعل التفضيل، وهي على بابها؛ لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أن فيه فضلاً، ولكنه لم يبلغ درجة الأنبياء. الفضل والفضيلة ضد النقص، والنقيصة كذلك، والإفضال هو الإحسان، وأفضل عليه وتفضل بمعنىً، وفضله على غيره تفضيلاً أي: حكم له بذلك أو صيره كذلك.
(خَلْقِهِ) هذا مصدر بمعنى اسم المفعول، يعني: على أفضل مخلوقه، وإذا كان كذلك صار مصدراً، أو نكرة مضافاً إلى معرفة، فيعم عند الأصوليين كما يأتي في موضعه، يعني: على أفضل مخلوقاته، فالإضافة للعموم، وهذا بلا تردد لأحاديث دالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: {"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ"، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ , فَفِي الدُّنْيَا : كَوْنُهُ بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً , بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "فُضِّلْت عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ وَلاَ فَخْرَ" وَفِي الآخِرَةِ : اخْتِصَاصُهُ بِالشَّفَاعَةِ , وَالأَنْبِيَاءُ تَحْتَ لِوَائِهِ , - سَيِّدُنَا وَمَوْلاَنَا وَخَاتَمُ رُسُلِهِ (مُحَمَّدٌ)}.
(عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ) بالجر على أنه عطف بيان من قوله: (عَلَى أَفْضَلِ) يكون ماذا؟ عطف بيان، أو بدل، كل ما جاز إعرابه عطف بيان جاز إعرابه بدلاً.
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) محمد{عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَمْدِ, مَنْقُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ} أو من اسم مفعول حُمِّد مضعَّف الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْحَمْدِ، {أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ , لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ}، يعني: لما فيه ما يحمد عليه، أو لكثرة حمده لخالقه جل وعلا، إما هذا أو ذاك.
(مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ) يعني: والصلاة والسلام على آله، هنا أضافه إلى الضمير بناءً على الصحيح من جوازه، والآل فيه خلاف بين أهل العلم في تفسيره، والصحيح الذي عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأكثر الأصحاب أنهم أتباعه على دينه، يعني: من قرابته وغيرهم، ولا يختص بقرابة أو خاصة في هذا الموضع، وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين، والصحيح أنه تجوز إضافته للضمير، {وَالآلُ: اسْمُ جَمْعٍ لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ}.
(وَآلِهِ وَصَحْبِهِ) يعني: وعلى صحبه، جاء النص بالصلاة على الآل والسلام كذلك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، جاء النص به، وأما الصحابة فلم يرد ولكن ألحقوهم أهل العلم بناءً على فضلهم ومكانتهم في الدين.
(عَلَى صَحْبِهِ) الصحب: اسم جامع لصاحب، بمعنى الصحابي، ويأتي تفسير الصحابي: وهم الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين وماتوا مؤمنين. وعطف الصحب على الآل من باب عطف الخاص على العام، يعني: إذا فسرنا الآل بأتباعه على دينه قلنا: هذا يشمل القرابة وغيرهم، حينئذٍ إذا قيل: وصحبه؛ صار من عطف الخاص على العام.
{وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الآلِ وَالصَّحْبِ مُخَالَفَةٌ لِلْمُبْتَدِعَةِ؛ لأَنَّهُمْ يُوَالُونَ الآلَ دُونَ الصَّحْبِ}.
(أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مُحْتَوٍ عَلَى مَسَائِلِ).
(أَمَّا بَعْدُ) هذه كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر على المشهور عند أهل العلم. ومرادهم هنا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب يعني: الانتقال من المقدمة إلى الشروع في الموضوع، وهذا الذي يعنيه أهل العلم.
(أَمَّا) هذه حرف يفيد معنى الشرط، وإن كان في الأصل أنه ليس حرف شرط، لكنه ضمن معنى (مهما)، لذلك تفسر بـ: {مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ}.
(بَعْدُ) {هُوَ مِنْ الظُّرُوفِ الْمَبْنِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنِ الإِضَافَةِ، أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ على من ذكر، وَالْعَامِلُ فِي " بَعْدُ ": " أَمَّا " لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ . وَالْمَشْهُورُ ضَمُّ دَالِ بَعْدُ .. وَحِينَ تَضَمَّنَتْ " أَمَّا " مَعْنَى الاِبْتِدَاءِ لَزِمَهَا لُصُوقُ الاِسْمِ وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ , فَلأَجْلِ ذَلِكَ قُلْت: (فَهَذَا)} فالفاء واقعة في جواب الشرط. أين الشرط؟ هو محذوف في الأصل لأنه مهما، لكن نابت (أما) منابها.
(فَهَذَا) المشروح (مُخْتَصَرٌ) فهذا مختصر، قدر الشارح المشروح، لكن فيه نظر؛ لأنه أراد أن يشير إلى ماذا؟ إلى المكتوب على أنه مختصر، وليس المختصر هو عين الشرح، وإنما الشرح هو كتاب آخر، والمختصر كتاب آخر.
(هَذَا) الإشارة بهذا إلى ما في الذهن سواء كان وضعُ الخطبة سابقاً على الكتاب، أو متأخراً؛ لأن المشار إليه هو المعاني المقصودة بالذات، والأصل في وضع اسم الإشارة أن يكون لشيء محسوس مشاهد مدرك بحاسة البصر، والكتاب معاني، فكيف يشير بما وضع لشيء محسوس لشيء معنوي؟ قالوا: نُزِّل الشيء المعنوي منزَّلة الشيء المحسوس، يعني: لقربه، وهذا الذي شاع عند أهل العلم.
(فَهَذَا) هذا مبتدأ.
(مُخْتَصَرٌ) هذا خبره.. اسم مفعول من اختُصر، أي: متن أو كتاب مختصر اللفظ تام المعنى، المختصر: ما قل لفظه وكثر معناه، واختصار الكلام إيجازه، وكذلك اختصار الطريق: سلوك أقربه. وهذا المختصر أخذ أهل العلم من هذه الكلمة مع ما بعدها فسمي: مختصر التحرير، وإلا المشهور أنه يسمى بــ: الكوكب المنير باختصار التحرير، واشتهر عند كثير من المتأخرين بهذه التسمية، وعليه شروح، وشرحه صاحبه المؤلف الفتوحي رحمه الله تعالى في المختبر المبتكر شرح المختصر، الفتوحي نفسه، وذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى في المدخل بأن الحجاوي رحمه الله تعالى له شرح الكوكب المنير، والله أعلم بوجوده.
كذلك الذخر الحرير في شرح مختصر التحرير للفتوحي في الأصول لمحمد بن عبد الرحمن بن عفالق الأحسائي، توفي سنة ثلاث وستين ومائة بعد الألف، والذخر الحرير في شرح مختصر التحرير للفتوحي في الأصول لأحمد بن عبد الله البعلي، توفي سنة تسع وثمانين ومائة بعد الألف، ومشكاة التنوير حاشية على شرح الكوكب المنير للفتوحي، لعبد الرحمن بن محمد الدوسري، توفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة بعد الألف.
هذا الذي ذكره أهل العلم فيما خُدم به هذا المختصر.
قال: (مُحْتَوٍ) هذا نعت للمختصر، وهذا الأصل في المختصر؛ لأنه ما قل لفظه وكثر معناه، فلا بد أن يكون جامعاً؛ لأن الاحتواء بمعنى الجمع والاشتمال، يقال حواه يعني: جمعه وأحرزه.
(مُحْتَوٍ) أَيْ: مُشْتَمِلٌ -كما قال الشارح- وَمُحِيطٌ.
(عَلَى مَسَائِلِ تَحْرِيرَ الْمَنْقُولِ، وَتَهْذِيبَ عِلْمِ الْأُصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، جَمْعُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عَلَاءِ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيِّ الْحَنْبَلِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ).
(عَلَى مَسَائِلِ) جمع مسألة، وهي ما يبرهن عليه في العلم، والمسائل تطلق ويراد بها النسب التامة، وهي تطلق ويراد به مجموع القضية، وعلى الثاني يقدر على مسائل أي: على أحكام مسائل.
الكتاب المسمى: (تَحْرِيرَ الْمَنْقُولِ وَتَهْذِيبَ عِلْمِ الْأُصُولِ) على خلافه في تسمية هذا الكتاب.
(تَحْرِيرَ) أي: تخليص. (ٱلمَنْقُولِ) عما يخل به، والتحرير الذي هو تخليص الرقبة من الرق، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، يقال: تحرير ويقال: تحقيق، هذا المشهور عند أهل العلم.
التحرير هو التخليص، والتحقيق يفسر تارة بإثبات المسألة بدليلها، إثبات المسألة بدليلها يسمى تحقيقاً، وحينئذٍ كل أهل العلم محققون، كل من ذكر مسألة بدليلها فهو محقق في المسألة، فتخصيص بعض أهل العلم وخاصة عند ذكر الترجيح ونحو ذلك بكونه قول المحققين هذا من الغلط البين الذي شاع في هذا الزمان.
ويذكر كذلك أو يطلق بذكر الشيء على الوجه الحق وإن لم يذكر له دليل. إذاً: يطلق على هذا المعنى وهذا المعنى.
(وَتَهْذِيبَ عِلْمِ الْأُصُولِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ جَمْعُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عَلَاءِ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيِّ) وهو علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، إذاً: صاحب الأصل حنبلي، والمختصِر كذلك حنبلي.
كنيته: أبو الحسن، ولقبه: علاء الدين، وقد ذكره المصنف هنا.
ولد سنة سبعة عشر بعد المائة الثامنة، توفي سنة خمس وثمانين بعد المائة الثامنة. قيل في وصفه: الإمام الفقيه الأصولي النحوي الفرضي المحدث المقرئ، وبأنه كان عالماً باللغة والتصريف والمنطق والمعاني وغير ذلك، وبأنه كان فقيهاً حافظاً لفروع المذهب على جادة أهل العلم في ما سبق.
هذا الكتاب تحرير المنقول وتهذيب المنقول قال في مقدمته: (فَهَذَا مُخْتَصَرٌ) إذاً: المختصر الذي معنا مختصر، والتحرير يعتبر ماذا؟ يعتبر مختصراً.
فهذا مختصر في أصول الفقه جامع لمعظم أحكامه، حاوٍ لقواعده وضوابطه وأقسامه، مشتمل على مذاهب الأئمة الأربعة الأعلام وأتباعهم وغيرهم، ثم قال: وأقدم الصحيح. هذه ميزته، هو كغيره من الكتب، لكن بالنسبة للحنبلي الميزة الآتية هي التي تجعله في المقدمة.
(قال: وأقدم الصحيح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأقوال الصحابة) حينئذٍ ما قدمه، يعني: جعله في أول كلامه.. في أول الأقوال يعتبر ماذا؟ يعتبر مذهب الإمام أحمد.
أو ما عليه الأكثر من أصحابه، هذه المقدمة هي التي أخذها الفتوحي وجعلها مختصر التحرير، الأقوال التي قدمها في التحرير أو ما كان عليه أكثر الأصحاب.
شرحه المصنف نفسه رحمه الله تعالى في: التحبير في شرح التحرير، وبلغ عدد مصادر الكتاب أربعمائة كتاب، وهذه الأربعمائة ينقل عنها مباشرة أو بواسطة.
قال في مقدمة التحبير: ولما رأيت الطلبة قد أقبلوا عليه واعتنوا به -يعني التحرير- وتوجهوا إليه أحببت أن أعلق عليه شرحاً واضحاً، وهناك شرح التحرير ملخص كتاب التحرير لأبي الفضل أحمد بن علي بن زهرة الحنبلي من علماء القرن التاسع ذكره في المدخل المفصل.
قال: (تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ) تَغَمَّدَهُ أي: غطاه بها، مأخوذ من غمد السيف، وهو جرابه الذي دخل فيه.
(وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ) الجنات الفسيحة، أي: واسع جنته، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الجنة الفسيحة.
(مِمَّا قَدَّمَهُ) من؟ المرداوي؛ لأنه قال: (مُحْتَوٍ عَلَى مَسَائِلِ تَحْرِيرَ الْمَنْقُولِ مِمَّا قَدَّمَهُ)، يعني: منتقى هذا المختصر الكوكب المنير (مِمَّا قَدَّمَهُ) -يعني المرداوي- من الأقوال التي في المسألة، يعني: القول المقدم ما بدأ به، (أَوْ) النوع الثاني (أَوْ) للتنويع (كَانَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا) ولو كان مؤخراً، يعني: جمع هذا المختصر الكوكب المنير أو مختصر التحرير جمع ما قدمه المصنف المرداوي وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أو ما كان عليه أكثر الأصحاب، وحينئذٍ يكون هذا الكتاب كتاباً مذهبياً، لأنه يتعلق بماذا؟ بمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أو ما عليه أكثر أصحابه، وحينئذٍ يضم إلى زاد المستقنع ونحوه من الكتب.
(مِمَّا قَدَّمَهُ أَوْ) للتنويع.
(كَانَ) يعني: القول.
(عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا) وجرى عادة أهل العلم أن يجعلوا بينهم صحبة وملازمة تجمعهم بعد الإسلام والمحبة في الدين هو المذهب، فيطلق هذا اللفظ مراداً به الأصحاب. وإذا كان الأمر كذلك وقد اعتاده أهل العلم فإطلاقه إن لم ينبني عليه محذور شرعي من حيث الانتصار أو التعصب حينئذٍ لا بأس به، وقد قال أصحاب ؟؟؟ ابن تيمية رحمه الله تعالى، يعتبر من أنصار اتباع الدليل، كذلك يقول: قال أصحابنا بل يخرج على المذهب، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
(أَوْ كَانَ عَلَيْهِ) أي القول.
(الْأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا) ولو كان مؤخراً.
(دُونَ الْأَقْوَالِ) يعني: دون ذكر بقية الأقوال، حذف الأقوال، فلا أذكرها.
(خَالٍ مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ) هذه ميزة ثانية، (خَالٍ) هذا المختصر (مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ إلَّا لِفَائِدَةٍ تَزِيدُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ) يعني: لا ليعلم أن في المسألة خلافاً فقط، وإنما لفائدة قد يأتي ذكرها في محلها.
إذاً: الصفة الثانية التي تميز بها مختصر التحرير هو: خلوه من الأقوال التي لا تمس مذهب الحنابلة لا من قريب ولا من بعيد، بمعنى: أن ما لم يكن مقدماً في التحرير أو عليه الأكثر من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى فلا يذكره، فإن ذكر قولاً فلا تعترض عليه، حينئذٍ ذكره لماذا؟ لفائدة زائدة على مجرد معرفة الخلاف في المسألة.
(خَالٍ مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ) أذكره فيه إلا، يعني: من قول أذكره لفائدة تزيد، أي: زائدة.
(عَلَى مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ، وَمِنْ عَزْوِ مَقَالٍ إلَى مَنْ إيَّاهُ قَالَ) يعني: وخال كذلك هذا المختصر، هذه ميزة ثالثة.
(مِنْ عَزْوِ) أي: إضافة ونسبة، (مَقَالٍ) أي: قول منسوب (إلَى مَنْ) يعني: إلى شخص عالم مجتهد.
(إيَّاهُ قَالَ) أي: إيا هذا القول قاله، بمعنى: أنه لا يذكر من؟ الأسماء.. لا تذكر الأسماء، لا يقل: قال أبو الخطاب، قال ابن عقيل.. إلى آخره، وإنما يأتي بالقول فقط، وهذا لشدة الاختصار، وإلا الأصل ذكر أصحاب الأقوال مما يزيد في الطمأنينة إلى هذا القول، فمعرفة أصحاب القول هذا الأصل لا بد من ذكره، لكن لشدة الاختصار حذف ماذا؟ صاحب القول.
(وَمِنْ عَزْوِ مَقَالٍ إلَى مَنْ إيَّاهُ) أي: إيا المقال، الضمير يعود إلى المقال، (قَالَ) أي: قاله.
ثم قال رحمه الله تعالى مبيناً منهجاً يختص به في هذا المتن، قال: (وَمَتَى قُلْتُ: فِي وَجْهٍ ، فَالْمُقَدَّمُ غَيْرُهُ) (وَمَتَى قُلْتُ .. فَالْمُقَدَّمُ)، (مَتَى): شرطية، (فَالْمُقَدَّمُ): الفاء واقعة في جواب الشرط.
(وَمَتَى قُلْتُ) في هذا المختصر بعد أن يذكر مسألة من المسائل أو قبل المسألة يقول: (فِي وَجْهٍ)، وحينئذٍ يكون القول المذكور هو القول الضعيف، الذي نص عليه هو الضعيف، وما يقابله يعتبر هو المعتمد، ولذلك قال: (فِي وَجْهٍ فَالْمُقَدَّمُ) أي: فالقول المقدم والمعتبر والمعتمد (غَيْرُهُ) أي: غير ما قلت إنه كذا في وجه فيكون قد ذكر الضعيف لا القوي، وهذا اصطلاح خاص ولا مشاحة في الاصطلاح، وإلا الأصل أنه إذا كان القول المقدم هو المعتبر فالأصل هو الذي يذكر، لا يذكر الضعيف، لكن قد يكون ثَمَّ فائدة في ذكر هذا القول، ولذلك نص عليه. هذا المصطلح الأول أنه إذا قال: في وجه؛ فالقول المذكور ضعيف، وما يقابله هو المعتمد القوي.
(وَفِي قَولٍ أَوْ عَلَى قَوْلٍ) يعني: ومتى قلت هو كذا وليس بكذا، يعني إثباتاً أو نفياً (فِي قَولٍ أَوْ عَلَى قَوْلٍ) متى يقول هذه العبارة أو هذه الجملة؟ قال: في ثلاثة مواضع.
(فَإِذَا قَوِيَ ٱلْخِلَافُ أَوْ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ أَوْ مَعَ إِطْلَاقِ ٱلْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ) ولا مصحح، يعني: إذا قال: (فِي قَولٍ أَوْ عَلَى قَوْلٍ) حينئذٍ المصنف لم يرجح، ذكر لك الخلاف. متى يذكر هذا الاصطلاح؟ قال: (فَإِذَا قَوِيَ ٱلْخِلَافُ) في المسألة، لأن الخلاف ليس على درجة واحدة، وهذا من تواضع المؤلف رحمه الله تعالى، بمعنى: أنه يبين لك أن ثَمَّ خلافاً بين أهل العلم قد لا يتضح الراجح، وحينئذٍ تقول: والله أعلم وتذكر الخلاف كما هو.
فإذا قوي الخلاف في المسألة فلم يذكر المؤلف لا راجحاً ولا مرجوحاً لقوة الخلاف، أَوْ -للتنويع- اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ ، والترجيح: هو تقديم المجتهد أحد الدليلين على الآخر كما يأتي في موضعه، يعني: اختلف ترجيح أصحاب المذهب.
أو يكون ذلك مع إطلاق القولين إن كان في المسألة قولين فحسب، أو الأقوال إذا تعددت الأقوال.
(إِذْ لَمْ أَطَّلِعْ) هو بنفسه، (عَلَى مُصَرِّحٍ بِالتَّصْحِيْحِ) كأنه يقول: أنا لا أصحح وإنما أتبع من سبق.
(إِذْ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مُصَرِّحٍ بِالتَّصْحِيْحِ) {لأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ, أَوْ الأَقْوَالِ}. وهذا ما يتعلق باصطلاح المصنف رحمه الله تعالى، بين لنا أنه اختصر التحرير أولاً، ثم التحرير اشتمل على جميع أو أكثر أقوال أهل العلم في المسألة.. المذاهب الأربعة وغيرهم، فقدم القول الذي قدمه المصنف المرداوي رحمه الله تعالى وهو مذهب الإمام أحمد وما عليه الأكثر.
ثم بين لنا طريقته في ضبط هذا المختصر، فقال: ما ذكرته (فِي وَجْهٍ فَالْمُقَدَّمُ غَيْرُهُ، وَإن قلت فِي قَولٍ أَوْ عَلَى قَوْلٍ، فَإِذَا قَوِيَ الْخِلَافُ أَوْ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ أَوْ مَعَ إطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ).
قال في الشرح: {وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَى اخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ دُونَ بَقِيَّةِ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ؛ لأِنَّهُ جَامِعٌ لأكْثَرِ أَحْكَامِهِ, حَاوٍ لِقَوَاعِدِهِ وَضَوَابِطِهِ وَأَقْسَامِهِ، قَدْ اجْتَهَدَ مُؤَلِّفُهُ فِي تَحْرِيرِ نُقُولِهِ وَتَهْذِيبِ أُصُولِهِ} هذا بيان لسبب اختيار المصنف رحمه الله تعالى لهذا المتن.
ثم قال رحمه الله تعالى خاتماً هذه المقدمة: (وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُغْنِيًا لِحُفَّاظِهِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ).
(وَأَرْجُو) هذا مخبر لمحذوف، يعني: وأنا أرجو، والرجاء من الأمل ممدود، يعني: آمل من فضل الله سبحانه وتعالى أن يكون مغنياً، ما هو؟ أن يكون هذا المختصر بعد ذكر ما سبق (مُغْنِيًا) أي: مجزياً.
(لِحُفَّاظِهِ) جمع حافظ، يقال: حفظ الشيء استظهره، وتحفظ الكتاب استظهره شيئاً بعد شيء، (مُغْنِيًا لِحُفَّاظِهِ) كأن المصنف يقول لك: هذا الكتاب مما يحفظ عند أهل العلم، والذي يحفظ عند أهل العلم على مرتبتين: إما أن يكون منثوراً، وإما أن يكون منظوماً، واشتهر عند أهل العلم من المنثورات ما اشتهر، واشتهر عند أهل العلم من المنظومات ما اشتهر.
من كان له همة في حفظ متن يكون نظماً فلا يشتغل بحفظ هذا المتن، وإنما ينظر فيه ويطالعه مرة بعد مرة إذا كان دارساً لمذهب الحنابلة في الفقه، ليجمع بين الأمرين، ومن لم يكن له همة في حفظ نظم وتعلقت نفسه بالمنثور فلا بأس أن يكون هذا المتن من محفوظاته.
(وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُغْنِيًا لِحُفَّاظِهِ عَنْ غَيْرِهِ) يعني: من كتب هذا الفن، لأنه جامع للمهم في مذهب الإمام أحمد وما عليه الأكثر (عَلَى {مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ} وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ)، {أَيْ: تَقْلِيلِهَا، وَإِيجَازُ اللَّفْظِ: اخْتِصَارُهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى}، وإيجاز اللفظ اختصاره مع استيفاء المعنى، هذا الذي يسمى مختصراً، {اخْتِصَارُهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى}، ما قل لفظه وكثر معناه، {وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى ٱللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلاَمُ اخْتِصَارًا} يعني: يعتبر من المبالغة.
قال في الشرح: {وَإِنَّمَا اخْتَصَرْته لِمَعَانٍ، مِنْهَا: أَنْ لاَ يَحْصُلَ الْمَلَلُ بِإِطَالَتِهِ} لأن التحرير صار عمدة قبل زمن أو قبل تأليف هذا المختصر، كان هو الذي يعتبر محفوظاً عند طلاب العلم آنذاك، ثم حصل شيء من الملل بإطالته، واختصره رحمه الله تعالى فيما ذكر.
{وَمِنْهَا: أَنْ يَسْهُلَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُهُ مِنْ قِلَّةِ حَجْمِهِ} وهذا هو ديدن أهل العلم الحفظ في كل فن.
ثم قال رحمه الله تعالى: (وَأَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنِي) يعني: يقيني، العصمة: المنع، يقال: عصمه الطعام أي: منعه من الجوع، والعصمة أيضاً الحفظ.
(أَنْ يَعْصِمَنِي وَيَعْصِمَ مَنْ قَرَأَهُ مِنْ الزَّلَلِ) يعني: دعا لنفسه ولمن قرأه من الزلل، وهو الخطأ و{السَّقْطَةِ فِي الْمَنْطِقِ وَالْخَطِيئَةِ}.
(وَأَنْ يُوَفِّقَنَا) يعني: أسأله توفيقه، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، أسأل الله سبحانه العصمة لي ولمن قرأه، والتوفيق يعني: لي ولمن قرأه.
(وَالْمُسْلِمِينَ لِمَا يُرْضِيهِ) {أَيْ يُرْضِي اللَّهَ عَنَّا} (مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ) {إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ, وَبِالإجَابَةِ جَدِيرٌ{. وَرَتَّبَه المصنف رحمه الله تعالى {كَأَصْلِهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَابًا} ثمانية عشر باباً استوفاها كما استوفاها صاحب الأصل.
{لاَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَدَدِ الْفُصُولِ} وعدد الفصول في المختصر سبعة وستون فصلاً.
{وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالتَّنَابِيه} التنبيه وهذه عددها ثلاثة، {وَالتَّذَانِيبِ}.
{أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَتَشْتَمِلُ عَلَى تَعْرِيفِ هَذَا الْعِلْمِ وَفَائِدَتِهِ, وَاسْتِمْدَادِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَلَوَاحِقَ} وهذا ما يسمى بالمبادئ العشرة، لأن المقدمة على نوعين: مقدمة الكتاب ومقدمة علم، مقدمة الكتاب هو الذي ذكرها في ما مضى، اختصر هذا الكتاب من التحرير واصطلاحه كذا.. إلى آخره، يسمى ماذا؟ مقدمة كتاب، لا يمكن أن تفهم الكتاب إلا إذا عرفت صنيعه بقوله في وجه وعلى قول وفي قول، لو لم تقف على هذا لما فهمت الكتاب على وجهه.
وأما مقدمة العلم فهو ما يتعلق بمعرفة حده وموضوعه ومسائله، وهذه مهمة في كل فن، يعرف الموضوع الذي يبحث عنه أصحاب الفن في هذا الفن، ويعرف كذلك الحد.
{وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَلَوَاحِقَ} يعني: في شأن أصول الفقه، لأنهم يذكرون المقدمة.. مقدمة العلم ويزيدون عليها ما يتعلق بالدليل.. تعريف الدليل {وَالنَّظَرِ وَالإدْرَاكِ وَالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْحَدِّ وَاللُّغَةِ وَمَسَائِلِهَا وَأَحْكَامِهَا, وَأَحْكَامِ خِطَابِ الشَّرْعِ, وَخِطَابِ الْوَضْعِ, وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا, وَغَيْرِ ذَلِكَ} وهذا كله يعتبر من المقدمات، إلى أن يقول: (ٱلْكِتَابُ)، يعني: مباحث الكتاب يعتبر مقدمة، وإذا كان كذلك فهذا يعتبر أساس في فهم أصول الفقه.
ثم قال: (مُقَدِّمَةٌ) وهذه يأتي بحثها.
ونقف على هذا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...!!!