المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المختصر المستفاد للحج والعمرة من زاد المعاد



أهــل الحـديث
30-01-2012, 03:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ان القاريء لزاد المعاد يجد مشقة في فصل الحج والعمرة
وذلك يرجع الى استطراد الامام ابن القيم في المسائل والردود
حتى انه كتب عبارة ( عود إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم) اكثر من سبعة مرات
ورأت ان اختصر هذا الفصل على النحو التالي
ذكر اختيارات ابن القيم وحده واحيانا ذكر بعض اختيارات الفقهاء ان لم يتبين اختياره او اقر بان المسالة خلافية
عدم ذكر مناقشته للادله الا اذا دعت الحاجة
البكم الاختصار من المرجع هو
زاد المعاد في هدي خير العباد
مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت
الطبعة: السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م


[في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره]
اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة.
الأولى: عمرة الحديبية، وهي أولاهن سنة ست، فصده المشركون عن البيت، فنحر البدن حيث صد بالحديبية وحلق هو وأصحابه رءوسهم، وحلوا من إحرامهم، ورجع من عامه إلى المدينة.
الثانية: عمرة القضية في العام المقبل، دخل مكة فأقام بها ثلاثا، ثم خرج بعد إكمال عمرته
والذين صدوا عن البيت، كانوا ألفا وأربعمائة، وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية، ولو كانت قضاء لم يتخلف منهم أحد، وهذا القول أصح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء.
الثالثة: عمرته التي قرنها مع حجته، فإنه كان قارنا لبضعة عشر دليلا
الرابعة: عمرته من الجعرانة، لما خرج إلى حنين، ثم رجع إلى مكة، فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها[1].
ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا، إلا أن يقال: بعضهن في رجب، وبعضهن في رمضان، وبعضهن في ذي القعدة، وهذا لم يقع، وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة
ولم يكن في عمره عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا.
فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، هي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها بين سائر من كان معه؛ لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت،فأمرها، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها[2]
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد الهجرة خمس مرات سوى المرة الأولى، فإنه وصل إلى الحديبية، وصد عن الدخول إليها، أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله، فأحرم عام الحديبية من ذي الحليفة، ثم دخلها المرة الثانية، فقضى عمرته وأقام بها ثلاثا، ثم خرج، ثم دخلها في المرة الثالثة عام الفتح في رمضان بغير إحرام، ثم خرج منها إلى حنين، ثم دخلها بعمرة من الجعرانة ودخلها في هذه العمرة ليلا، وخرج ليلا، فلم يخرج من مكة إلى الجعرانة ليعتمر كما يفعل أهل مكة اليوم وإنما أحرم منها في حال دخوله إلى مكة، ولما قضى عمرته ليلا، رجع من فوره إلى الجعرانة، فبات بها، فلما أصبح وزالت الشمس خرج من بطن سرف حتى جامع الطريق [طريق جمع ببطن سرف] ، ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس.
والمقصود أن عمره كلها كانت في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك.
وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان، فموضع نظر[3]
فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان، وأفضل البقاع، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج وذو القعدة أوسطها، وهذا مما نستخير الله فيه فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه.
وقد يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة[4]
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة، ولم يعتمر في سنة مرتين[5]
لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر[6].
إن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر وأما قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فرضية الحج وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء فإن قيل: فمن أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية. ونزول هذه الآيات، والمناداة بها، إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف. والله أعلم[7].
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا للخروج معه وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعا، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه[8].
وقال ابن حزم: وكان خروجه يوم الخميس، قلت: والظاهر أن خروجه كان يوم السبت
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت. والله أعلم[9].
ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر[10].
وإنما قلنا: إنه أحرم قارنا لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة في ذلك.[11]
غلط في عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمس طوائف.
إحداها: من قال: إنه اعتمر في رجب، وهذا غلط، فإن عمره مضبوطة محفوظة، لم يخرج في رجب إلى شيء منها البتة.
الثانية: من قال: إنه اعتمر في شوال وهذا أيضا وهم، والظاهر - والله أعلم - أن بعض الرواة غلط في هذا، وأنه اعتكف في شوال فقال: اعتمر في شوال
الثالثة: من قال: إنه اعتمر من التنعيم بعد حجه، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم، وإنما يظنه العوام، ومن لا خبرة له بالسنة.
الخامسة: من قال: إنه اعتمر عمرة حل منها، ثم أحرم بعدها بالحج من مكة، والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده[12].
ووهم في حجه خمس طوائف.
الطائفة الأولى: التي قالت: حج حجا مفردا لم يعتمر معه.
الثانية: من قال: حج متمتعا تمتعا حل منه، ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره.
الثالثة: من قال: حج متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنا، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب " المغني " وغيره.
الرابعة: من قال: حج قارنا قرانا طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
الخامسة: من قال: حج حجا مفردا، واعتمر بعده من التنعيم[13].
وغلط في إحرامه خمس طوائف.
إحداها: من قال: لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.
الثانية: من قال: لبى بالحج وحده، واستمر عليه.
الثالثة من قال لبى بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة وزعم أن ذلك خاص به.
الرابعة: من قال: لبى بالعمرة وحدها، ثم أدخل عليها الحج في ثاني الحال.
الخامسة: من قال: أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.
والصواب: أنه أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، ولم يحل حتى حل منهما جميعا، فطاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا. وساق الهدي، كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترا يعلمه أهل الحديث. والله أعلم[14].
وكان يهل بالحج والعمرة تارة، وبالحج تارة؛ لأن العمرة جزء منه، فمن ثم قيل: قرن، وقيل: تمتع، وقيل: أفرد. قال ابن حزم: كان ذلك قبل الظهر بيسير، وهذا وهم منه، والمحفوظ أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر، ولم يقل أحد قط: إن إحرامه كان قبل الظهر، ولا أدري من أين له هذا[15].
وكان حجه على رحل، لا في محمل، ولا هودج ولا عمارية، وزاملته تحته. وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل، والهودج والعمارية ونحوها على قولين، هما روايتان عن أحمد، أحدهما: الجواز وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. والثاني: المنع وهو مذهب مالك[16].
أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر - رضي الله عنهما - بذي الحليفة محمد بن أبي بكر، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل، وتستثفر بثوب وتحرم وتهل» . وكان في قصتها ثلاث سنن، إحداها: غسل المحرم، والثانية: أن الحائض تغتسل لإحرامها، والثالثة: أن الإحرام يصح من الحائض[17].
جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله
أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ: وهبت لك، بل تصح بما يدل عليها
حل أكل لحم الحمار الوحشي[18]
واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولا على قولين.
أحدهما: أنه عمرة مفردة، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث[19].
أنها كانت زيادة تطييبا لقلبها وجبرا لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها، وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، وهذا أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره، وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما[20].
والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر، لم يمنع من تسريح رأسه، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد، والدليل يفصل بين المتنازعين، فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه فهو جائز[21].
فوائد من قصة عائشة رضى الله عنها:
أحدها: اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد.
الثاني: سقوط طواف القدوم عن الحائض، كما أن حديث صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل في سقوط طواف الوداع عنها.
الثالث: أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر، وأولى؛ لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك.
الرابع: أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها، إلا أنها لا تطوف بالبيت.
الخامس: أن التنعيم من الحل.
السادس: جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد.
السابع: أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة، وحديث عائشة أصل فيه.
الثامن: أنه أصل في العمرة المكية، وليس مع من يستحبها غيره، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجا منها إلا عائشة وحدها، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلا لقولهم، ولا دلالة لهم فيها، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول: إنها رفضتها، فهي واجبة قضاء لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييبا لقلبها عند من يقول: إنها كانت قارنة، وإن طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها. والله أعلم[22].
وأما موضع حيضها، فهو بسرف بلا ريب، وموضع طهرها قد اختلف فيه
وموضع طهرها قد اختلف فيه، فقيل: بعرفة هكذا روى مجاهد عنها، وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان[23]
الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه، وأحاديثهم كلها صحاح[24]
فلما دخل المسجد عمد إلى البيت، ولم يركع تحية المسجد، فإن تحية المسجد الحرام الطواف، فلما حاذى الحجر الأسود، استلمه ولم يزاحم عليه، ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولم يرفع يديه، ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده، بل هو من البدع المنكرات، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجعله على شقه بل استقبله، واستلمه، ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره، ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وقت للطواف ذكرا معينا، لا بفعله ولا بتعليمه بل حفظ عنه بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]
ورمل في طوافه هذا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع في مشيه، ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبل المحجن، والمحجن: عصا محنية الرأس وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني. ولم يثبت عنه أنه قبله، ولا قبل يده عند استلامه[25]
ثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود، وثبت عنه أنه استلمه بيده فوضع يده عليه ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروي عنه أيضا، أنه وضع شفتيه عليه طويلا يبكي[26].
ولم يستلم - صلى الله عليه وسلم - ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط، قال الشافعي - رحمه الله -: ولم يدع أحد استلامهما هجرة لبيت الله، ولكن استلم ما استلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمسك عما أمسك عنه[27].
فلما فرغ من طوافه، جاء إلى خلف المقام فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] ، فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيان منه لتفسير القرآن، ومراد الله منه بفعله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله، فلما قرب منه. قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]
أبدأ بما بدأ الله به، ثم رقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ". ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل إلى المروة يمشي، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد، مشى، هذا الذي صح عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره[28].
ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكبا في طواف القدوم. والله أعلم[29].
وقال ابن حزم: وطاف - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة أيضا سبعا، راكبا على بعيره يخب ثلاثا، ويمشي أربعا، وهذا من أوهامه وغلطه - رحمه الله -، فإن أحدا لم يقل هذا قط غيره، ولا رواه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة. وهذا إنما هو في الطواف بالبيت، فغلط أبو محمد ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة[30].
قلت: المتفق عليه: السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها. وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة، فلم يقله، ولا نقله فيما نعلم غيره. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا من أغلاطه، وهو لم يحج - رحمه الله - تعالى.
ويشبه هذا الغلط غلط من قال إنه سعى أربع عشرة مرة، وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة، وهذا غلط عليه - صلى الله عليه وسلم -، لم ينقله عند أحد، ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقوالهم، وإن ذهب إليه بعض المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة، ومما يبين بطلان هذا القول، أنه - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف عنه أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة، لكان ختمه إنما يقع على الصفا[31].
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا وصل إلى المروة، رقي عليها، واستقبل البيت، وكبر الله، ووحده، وفعل كما فعل على الصفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما، ولا بد قارنا كان أو مفردا، وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء النساء، والطيب، ولبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية، ولم يحل هو من أجل هديه[32]
وأما نساؤه - صلى الله عليه وسلم - فأحللن، وكن قارنات، إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلت؛ لأنها لم يكن معها هدي، وعلي - رضي الله عنه - لم يحل من أجل هديه، وأمر - صلى الله عليه وسلم - من أهل بإهلال كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي، وأن يحل إن لم يكن معه هدي[33].
وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضحى، توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم، ولم يدخلوا إلى المسجد فأحرموا منه، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم، فلما وصل إلى منى نزل بها، وصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وكان ليلة الجمعة فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم، وكان من أصحابه الملبي، ومنهم المكبر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره، وهي قرية شرقي عرفات، وهي خراب اليوم، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس، أمر بناقته القصواء فرحلت، ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة، قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء، والأموال، والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله، وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر الحق، الذي لهن، والذي عليهن، وأن الواجب لهن الرزق، والكسوة بالمعروف، ولم يقدر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن، وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت فرفع أصبعه إلى السماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم[34].
قال ابن حزم: وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس، بقدح لبن فشربه أمام الناس، وهو على بعيره، فلما أتم الخطبة أمر بلالا فأقام الصلاة، وهذا من وهمه - رحمه الله -، فإن قصة شربه اللبن إنما كانت بعد هذا، حين سار إلى عرفة[35]
وموضع خطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بعرنة، وليست من الموقف، وهو - صلى الله عليه وسلم -، نزل بنمرة، وخطب بعرنة، ووقف بعرفة، وخطب خطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها أمر بلالا فأذن، ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين، أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضا، ومعه أهل مكة، وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومن قال: إنه قال لهم: " «أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» " فقد غلط فيه غلطا بينا، ووهم وهما قبيحا، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين[36].
ولهذا كان أصح أقوال العلماء: إن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة، وإنما التأثير لما جعله الله سببا وهو السفر، هذا مقتضى السنة، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون[37].
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات، واستقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، وكان على بعيره فأخذ في الدعاء، والتضرع، والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: " وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف "[38].
وذكر من دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الموقف: «اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربي تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح» " ذكره الترمذي.
ومما ذكر من دعائه هناك: " «اللهم تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، والوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رءوفا رحيما، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين» "[39].
وهناك أنزلت عليه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3][40].
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته، وهو محرم، فمات، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفن في ثوبيه، ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء، وسدر، ولا يغطى رأسه، ولا وجهه، وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي.
وفي هذه القصة اثنا عشر حكما.
الأول: وجوب غسل الميت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به.
الحكم الثاني: أنه لا ينجس بالموت؛ لأنه لو نجس بالموت لم يزده غسله إلا نجاسة؛ لأن نجاسة الموت للحيوان عينية، فإن ساعد المنجسون على أنه يطهر بالغسل، بطل أن يكون نجسا بالموت، وإن قالوا: لا يطهر، لم يزد الغسل أكفانه وثيابه وغاسله إلا نجاسة.
الحكم الثالث: أن المشروع في حق الميت، أن يغسل بماء وسدر، لا يقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسدر في ثلاثة مواضع هذا أحدها، والثاني: في غسل ابنته بالماء والسدر، والثالث: في غسل الحائض.
الحكم الرابع: أن تغير الماء بالطاهرات لا يسلبه طهوريته، كما هو مذهب الجمهور

الحكم الخامس: إباحة الغسل للمحرم، وقد تناظر في هذا عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة، ففصل بينهما أبو أيوب الأنصاري، بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغتسل وهو محرم، واتفقوا على أنه يغتسل من الجنابة ولكن كره مالك - رحمه الله - أن يغيب رأسه في الماء؛ لأنه نوع ستر له، والصحيح أنه لا بأس به فقد فعله عمر بن الخطاب وابن عباس.
الحكم السادس: أن المحرم غير ممنوع من الماء والسدر، وقد اختلف في ذلك، فأباحه الشافعي، وأحمد في أظهر الروايتين عنه ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل أهدى، وقال صاحبا أبي حنيفة: إن فعل فعليه صدقة.
وللمانعين ثلاث علل.
إحداها: أنه يقتل الهوام من رأسه، وهو ممنوع من التفلي.
الثانية: أنه ترفه، وإزالة شعث ينافي الإحرام.
الثالثة: أنه يستلذ رائحته، فأشبه الطيب ولا سيما الخطمي. والعلل الثلاث واهية جدا، والصواب جوازه للنص، ولم يحرم الله ورسوله على المحرم إزالة الشعث بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السدر من الطيب في شيء.
الحكم السابع: أن الكفن مقدم على الميراث، وعلى الدين؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكفن في ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن دين عليه. ولو اختلف الحال، لسأل.
وكما أن كسوته في الحياة مقدمة على قضاء دينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلام الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يعول عليه.
الحكم الثامن: جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين، وهما إزار ورداء، وهذا قول الجمهور. وقال القاضي أبو يعلى: لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب عند القدرة؛ لأنه لو جاز الاقتصار على ثوبين لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام والصحيح: خلاف قوله، وما ذكره ينقض بالخشن مع الرفيع.
الحكم التاسع: أن المحرم ممنوع من الطيب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمس طيبا، مع شهادته له أنه يبعث ملبيا، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب.
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يقرب طيبا، أو يمس به تناول ذلك الرأس والبدن والثياب وأما شمه من غير مس فإنما حرمه من حرمه بالقياس، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه، يجب المصير إليه، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل، فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية؛ لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة، والمخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يطبها.
وعلى هذا، فإنما يمنع المحرم من قصد شم الطيب للترفه، واللذة، فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه، أو شمه قصدا لاستعلامه عند شرائه، لم يمنع منه، ولم يجب عليه سد أنفه، فالأول بمنزلة نظر الفجأة، والثاني: بمنزلة نظر المستام والخاطب، ومما يوضح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامة الطيب قبل الإحرام منهم من صرح بإباحة تعمد شمه بعد الإحرام، صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة فقالوا: في"جوامع الفقه" لأبي يوسف: لا بأس بأن يشم طيبا تطيب به قبل إحرامه
الحكم العاشر: أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه، والمراتب فيه ثلاث: ممنوع منه بالاتفاق، وجائز بالاتفاق، ومختلف فيه، فالأول: كل متصل ملامس يراد لستر الرأس، كالعمامة، والقبعة، والطاقية، والخوذة وغيرها.
والثاني: كالخيمة، والبيت والشجرة، ونحوها، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضربت له قبة بنمرة وهو محرم، إلا أن مالكا منع المحرم أن يضع ثوبه على شجرة؛ ليستظل به، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابه المحرم أن يمشي في ظل المحمل.
والثالث: كالمحمل، والمحارة، والهودج، فيه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة - رحمهما الله -، والثاني: المنع. فإن فعل افتدى، وهو مذهب مالك - رحمه الله -. والثالث: المنع فإن فعل فلا فدية عليه، والثلاثة روايات عن أحمد - رحمه الله -.
الحكم الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختلف في هذه المسألة، فمذهب الشافعي، وأحمد في رواية إباحته ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية المنع، منه وبإباحته قال ستة من الصحابة عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وجابر - رضي الله عنهم -. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حيا، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتا، لم يجز تغطية وجهه، قاله ابن حزم، وهو اللائق بظاهريته.
الحكم الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت، وأنه لا ينقطع به فإن العبد يبعث على ما مات عليه، ومن مات على حالة بعث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكانت أصول الشرع شاهدة به. والله أعلم[41].
فلما غربت الشمس، واستحكم غروبها، بحيث ذهبت الصفرة، أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضم إليه زمام ناقته، حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله وهو يقول: " «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» " أي: ليس بالإسراع[42].
وأفاض من طريق المأزمين، ودخل عرفة من طريق ضب، وهكذا كانت عادته - صلوات الله عليه وسلامه -في الأعياد، أن يخالف الطريق
ثم جعل يسير العنق، وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء. فإذا وجد فجوة وهو المتسع، نص سيره، أي: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوة من تلك الربى، أرخى للناقة زمامها قليلا حتى تصعد.
وكان يلبي في مسيره ذلك، لم يقطع التلبية. فلما كان في أثناء الطريق نزل - صلوات الله وسلامه عليه - فبال، وتوضأ، وضوءا خفيفا
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان، فأذن المؤذن، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئا، وقد روي: أنه صلاهما بأذانين وإقامتين، وروي بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة.
ثم نام حتى أصبح، ولم يحي تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء[43].
وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس[44].
فلما طلع الفجر، صلاها في أول الوقت لا قبله قطعا بأذان وإقامة يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله، من كل مشرك.
ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع، والتكبير، والتهليل، والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس[45].
وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها، ركن كعرفة، وهو مذهب اثنين من الصحابة: ابن عباس، وابن الزبير - رضي الله عنهما -فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنا، وتكون تلك الليلة وقتا لهما كوقت المجموعتين من الصلوات، وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتا لهما حال القدرة[46].
وقف - صلى الله عليه وسلم - في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف، ثم سار من مزدلفة مردفا للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش.
وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار، سبع حصيات، ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده، ولا التقطها بالليل، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: " «بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ".
وفي طريقه تلك، عرضت له امرأة من خثعم جميلة، فسألته عن الحج عن أبيها، وكان شيخا كبيرا، لا يستمسك على الراحلة، فأمرها أن تحج عنه، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فوضع يده على وجهه وصرفه إلى الشق الآخر، وكان الفضل وسيما، فقيل: صرف وجهه عن نظرها إليه. وقيل: صرفه عن نظره إليها، والصواب: إنه فعله للأمرين، فإنه في القصة جعل ينظر إليها وتنظر إليه.
فلما أتى بطن محسر، حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا، ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه، أي أعيي وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل في سلوكه الحجر ديار ثمود، فإنه تقنع بثوبه، وأسرع السير. ومحسر: برزخ بين منى وبين مزدلفة، لا من هذه ولا من هذه. وعرنة: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما[47].
ومحسر: من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة: حرم ومشعر، وعرنة ليست مشعرا، وهي من الحل. وعرفة: حل ومشعر.
وسلك - صلى الله عليه وسلم - الطريق الوسطى بين الطريقين، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة، وحينئذ قطع التلبية.
وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي، ورمى بلال وأسامة معه أحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر يظلله بثوب من الحر. وفي هذا: دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، إن كانت قصة هذا الإظلال يوم النحر ثابتة، وإن كانت بعده في أيام منى فلا حجة فيها، وليس في الحديث بيان في أي زمن كانت[48]
ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمرهم بالسمع، والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وقال: " «لعلي لا أحج بعد عامي هذا» "[49].
وعلمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه. وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع. وقال في خطبته: " «لا يجني جان إلا على نفسه» ". وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة، والأنصار عن يسارها، والناس حولهم، وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم[50].
وودع حينئذ الناس، فقالوا: حجة الوداع.
وهناك سئل عمن حلق قبل أن يرمي وعمن ذبح قبل أن يرمي، فقال: " لا حرج " قال عبد الله بن عمرو: «ما رأيته - صلى الله عليه وسلم - سئل يومئذ عن شيء إلا قال: " افعلوا ولا حرج» "[51].
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره، ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما غبر من المائة، ثم أمر عليا - رضي الله عنه - أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها، وقال نحن نعطيه من عندنا[52]
وقد قال أبو محمد: إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي وضحى عنهن ببقرة وضحى عن نفسه بكبشين ونحر عن نفسه ثلاثا وستين هديا، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي، بل هي هي، وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي[53].
ونحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنحره بمنى، وأعلمهم " أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة طريق ومنحر "، وفي هذا دليل على أن النحر لا يختص بمنى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لما وقف بعرفة، قال: " «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» " ووقف بمزدلفة، وقال: " «وقفت هاهنا، ومزدلفة كلها موقف» «وسئل - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى له بمنى بناء يظله من الحر فقال: لا، منى مناخ لمن سبق إليه» " وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن من سبق إلى مكان منها، فهو أحق به حتى يرتحل عنه ولا يملكه بذلك[54].
فلما أكمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحره استدعى بالحلاق فحلق رأسه، فقال للحلاق - وهو معمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونظر في وجهه - وقال: «يا معمر أمكنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شحمة أذنه وفي يدك الموسى " فقال معمر: أما والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنه[55].
ثم (أتى زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون فقال: " «لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم» "، ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم) فقيل: هذا نسخ لنهيه عن الشرب قائما، وقيل: بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر[56].

فطافت عائشة في ذلك اليوم طوافا واحدا، وسعت سعيا واحدا أجزأها عن حجها وعمرتها، وطافت صفية ذلك اليوم ثم حاضت فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع ولم تودع، فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم في المرأة الطاهرة إذا حاضت قبل الطواف - أو قبل الوقوف - أن تقرن وتكتفي بطواف واحد وسعي واحد، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع[57].
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يقول مع كل حصاة: " الله أكبر "، ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل، فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلك، ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول، ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك[58].
ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال، ولا جعلها عن يمينه، واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء. فلما أكمل الرمي رجع من فوره، ولم يقف عندها، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل - وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة، فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو في صلبها، فأما بعد الفراغ منها، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء، ومن روى عنه ذلك فقد غلط عليه، وإن روي في غير الصحيح أنه كان أحيانا يدعو بدعاء عارض بعد السلام، وفي صحته نظر[59].
وبالجملة فلا ريب أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها، وعلمها الصديق إنما هي في صلب الصلاة، وأما حديث معاذ بن جبل: ( «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك» ) فدبر الصلاة يراد به آخرها قبل السلام منها، كدبر الحيوان ويراد به ما بعد السلام كقوله: ( «تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة» ) الحديث. والله أعلم[60].
ولم يزل في نفسي، هل كان يرمي قبل صلاة الظهر أو بعدها؟ والذي يغلب على الظن أنه كان يرمي قبل الصلاة، ثم يرجع فيصلي؛ لأن جابرا وغيره قالوا: كان يرمي إذا زالت الشمس، فعقبوا زوال الشمس برميه. وأيضا فإن وقت الزوال للرمي أيام منى، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر، والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر لما دخل وقت الرمي لم يقدم عليه شيئا من عبادات ذلك اليوم[61]
فقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء.
الموقف الأول: على الصفا، والثاني: على المروة، والثالث بعرفة، والرابع بمزدلفة، والخامس عند الجمرة الأولى، والسادس عند الجمرة الثانية[62].
وخطب صلى الله عليه وسلم الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النحر وقد تقدمت، والخطبة الثانية في أوسط أيام التشريق، فقيل: هو ثاني يوم النحر وهو أوسطها، أي خيارها، واحتج من قال ذلك بحديث سراء بنت نبهان، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( «أتدرون أي يوم هذا؟ قالت: وهو اليوم الذي تدعون يوم الرءوس. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال هذا أوسط أيام التشريق. هل تدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا المشعر الحرام. ثم قال: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ألا هل بلغت، فلما قدمنا المدينة، لم يلبث إلا قليلا حتى مات صلى الله عليه وسلم» )[63]
واستأذنه العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل، فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما[64].
قد رخص لأهل السقاية وللرعاء في البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضا لا تمكنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، والله أعلم[65].
ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب، وهو الأبطح، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قبة هناك، وكان على ثقله توفيقا من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف، ( «وأخبرته صفية أنها حائض فقال: " أحابستنا هي؟ " فقالوا له إنها قد أفاضت قال: " فلتنفر إذا» ) ورغبت إليه عائشة تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة، قد أجزأ عن حجها وعمرتها، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، ففرغت من عمرتها ليلا، ثم وافت المحصب مع أخيها، فأتيا في جوف الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «فرغتما "؟ قالت: نعم، فنادى بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس، ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح»[66] .
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» ) . يعني بذلك المحصب؛ وذلك أن قريشا وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى[67].
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما أتى ذا الحليفة، بات بها، «فلما رأى المدينة، كبر ثلاث مرات وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصرل عبده وهزم الأحزاب وحده» ) .
ثم دخلها نهارا من طريق المعرس، وخرج من طريق الشجرة، والله أعلم[68].
أوهام
فمنها: وهم لأبي محمد بن حزم في حجة الوداع حيث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وقت خروجه ( «أن عمرة في رمضان تعدل حجة» ) وهذا وهم ظاهر؛ فإنه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حجته
ومنها وهم آخر له، وهو أن خروجه كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة، وقد تقدم أنه خرج لخمس، وأن خروجه كان يوم السبت.
ومنها وهم آخر لبعضهم، ذكر الطبري في " حجة الوداع " أنه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة. والذي حمله على هذا الوهم القبيح قوله في الحديث: خرج لست بقين، فظن أن هذا لا يمكن إلا أن يكون الخروج يوم الجمعة؛ إذ تمام الست يوم الأربعاء، وأول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا ريب، وهذا خطأ فاحش؛ فإنه من المعلوم الذي لا ريب فيه أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين ثبت ذلك في " الصحيحين "[69].
وحكى الطبري في حجته قولا ثالثا: أن خروجه كان يوم السبت وهو اختيار الواقدي، وهو القول الذي رجحناه أولا، لكن الواقدي وهم في ذلك ثلاثة أوهام، أحدها: أنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم خروجه الظهر بذي الحليفة ركعتين، الوهم الثاني: أنه أحرم ذلك اليوم عقيب صلاة الظهر، وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذي الحليفة، الوهم الثالث: أن الوقفة كانت يوم السبت، وهذا لم يقله غيره، وهو وهم بين.
ومنها وهم للقاضي عياض رحمه الله وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تطيب هناك قبل غسله، ثم غسل الطيب عنه لما اغتسل.ومنشأ هذا الوهم من سياق ما وقع في " صحيح مسلم " في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف على نسائه بعد ذلك، ثم أصبح محرما» ) .
والذي يرد هذا الوهم قولها: ( «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه» ) وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب أي: بريقه في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وفي لفظ: وهو يلبي بعد ثلاث من إحرامه، وفي لفظ: ( «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك» ) ، وكل هذه الألفاظ ألفاظ الصحيح.
وأما الحديث الذي احتج به فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه عنها: ( «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما» ) ، وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثاني عند إحرامه[70].
ومنها: وهم آخر لأبي محمد بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر، وهو وهم ظاهر لم ينقل في شيء من الأحاديث، وإنما أهل عقيب صلاة الظهر في موضع مصلاه، ثم ركب ناقته، واستوت به على البيداء، وهو يهل، وهذا يقينا كان بعد صلاة الظهر، والله أعلم.
ومنها وهم آخر له، وهو قوله: وساق الهدي مع نفسه، وكان هدي تطوع، وهذا بناء منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمة أن القارن لا يلزمه هدي وإنما يلزم المتمتع، وقد تقدم بطلان هذا القول[71].

ومنها: وهم آخر لمن قال: إنه لم يعين في إحرامه نسكا، بل أطلقه، ووهم من قال: إنه عين عمرة مفردة كان متمتعا بها، كما قاله القاضي أبو يعلى، وصاحب " المغني " وغيرهما، ووهم من قال: إنه عين حجا مفردا مجردا لم يعتمر معه، ووهم من قال: إنه عين عمرة، ثم أدخل عليها الحج، ووهم من قال: إنه عين حجا مفردا، ثم أدخل عليه العمرة بعد ذلك، وكان من خصائصه، وقد تقدم بيان مستند ذلك، ووجه الصواب فيه. والله أعلم.
ومنها: وهم لأحمد بن عبد الله الطبري في " حجة الوداع " له أنهم لما كانوا ببعض الطريق صاد أبو قتادة حمارا وحشيا ولم يكن محرما، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إنما كان في عمرة الحديبية، كما رواه البخاري.
ومنها: وهم آخر لبعضهم، حكاه الطبري عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة يوم الثلاثاء، وهو غلط فإنما دخلها يوم الأحد صبح رابعة من ذي الحجة.
ومنها: وهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حل بعد طوافه وسعيه، كما قاله القاضي أبو يعلى وأصحابه، وقد بينا أن مستند هذا الوهم وهم معاوية، أو من روى عنه أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حجته.
ومنها: وهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني في طوافه وإنما
ذلك الحجر الأسود، وسماه اليماني؛ لأنه يطلق عليه وعلى الآخر اليمانيين. فعبر بعض الرواة عنه باليماني منفردا.
ومنها: وهم فاحش لأبي محمد بن حزم أنه رمل في السعي ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، وأعجب من هذا الوهم وهمه في حكاية الاتفاق على هذا القول الذي لم يقله أحد سواه.
ومنها: وهم من زعم أنه طاف بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطا، وكان ذهابه وإيابه مرة واحدة، وقد تقدم بيان بطلانه.
ومنها: وهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر قبل الوقت، ومستند هذا الوهم حديث ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( «صلى الفجر يوم النحر قبل ميقاتها» ) ، وهذا إنما أراد به قبل ميقاتها الذي كانت عادته أن يصليها فيه، فعجلها عليه يومئذ، ولا بد من هذا التأويل، وحديث ابن مسعود إنما يدل على هذا، فإنه في " صحيح البخاري " عنه أنه قال: ( «هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر» ) ، وقال في حديث جابر في حجة الوداع: ( «فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة» ) [72].
فصل: ومنها وهم من وهم في أنه صلى الظهر والعصر يوم عرفة، والمغرب والعشاء تلك الليلة بأذانين وإقامتين، ووهم من قال: صلاهما بإقامتين بلا أذان أصلا، ووهم من قال: جمع بينهما بإقامة واحدة، والصحيح أنه صلاهما بأذان واحد وإقامة لكل صلاة.
ومنها: وهم من زعم أنه خطب بعرفة خطبتين جلس بينهما، ثم أذن المؤذن، فلما فرغ أخذ في الخطبة الثانية، فلما فرغ منها أقام الصلاة، وهذا لم يجئ في شيء من الأحاديث ألبتة، وحديث جابر صريح في أنه لما أكمل خطبته أذن بلال، وأقام الصلاة فصلى الظهر بعد الخطبة.
ومنها: وهم لأبي ثور أنه لما صعد أذن المؤذن، فلما فرغ قام فخطب، وهذا وهم ظاهر؛ فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة.
ومنها: وهم من روى أنه قدم أم سلمة ليلة النحر، وأمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكة، وقد تقدم بيانه.
ومنها: وهم من زعم أنه أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل وقد تقدم بيان ذلك، وأن الذي أخره إلى الليل إنما هو طواف الوداع ومستند هذا الوهم - والله أعلم - أن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه، كذلك قال عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، فحمل عنها على المعنى، وقيل: أخر طواف الزيارة إلى الليل.
ومنها: وهم من وهم وقال: أنه أفاض مرتين: مرة بالنهار، ومرة مع نسائه بالليل، ومستند هذا الوهم ما رواه عمر بن قيس، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( «أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا» ) وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا أنه أفاض نهارا إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جدا، سلكها ضعاف أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد، والله أعلم.
ومنها: وهم من زعم أنه طاف للقدوم يوم النحر، ثم طاف بعده للزيارة، وقد تقدم مستند ذلك وبطلانه.
ومنها وهم من زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف، واحتج بذلك على أن القارن يحتاج إلى سعيين، وقد تقدم بطلان ذلك عنه، وأنه لم يسع إلا سعيا واحدا، كما قالت عائشة وجابر رضي الله عنهما[73].
ومنها: على القول الراجح وهم من قال أنه صلى الظهر يوم النحر بمكة، والصحيح أنه صلاها بمنى كما تقدم.
ومنها: وهم من زعم أنه لم يسرع في وادي محسر حين أفاض من جمع إلى منى، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب، ومستند هذا الوهم قول ابن عباس: إنما كان بدء الإيضاع من قبل أهل البادية كانوا يقفون حافتي الناس حتى قد علقوا القعاب والعصي والجعاب، فإذا أفاضوا تقعقعت تلك، فنفروا بالناس، ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن ذفري ناقته ليمس حاركها، وهو يقول: ( «يأيها الناس عليكم السكينة» ) ، وفي رواية: ( «إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسكينة، فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى» ) رواه أبو داود ". ولذلك أنكره طاووس والشعبي، قال الشعبي: «حدثني أسامة بن زيد أنه أفاض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى بلغ جمعا» . قال: «وحدثني الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى رمى الجمرة» . وقال عطاء: إنما أحدث هؤلاء الإسراع، يريدون أن يفوتوا الغبار[74].
ومنشأ هذا الوهم اشتباه الإيضاع وقت الدفع من عرفة الذي يفعله الأعراب، وجفاة الناس بالإيضاع في وادي محسر، فإن الإيضاع هناك بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نهى عنه، والإيضاع في وادي محسر سنة نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ابن الزبير يوضع أشد الإيضاع، وفعلته عائشة وغيرهم من الصحابة، والقول في هذا قول من أثبت لا قول من نفى. والله أعلم.
ومنها وهم طاووس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة من ليالي منى إلى البيت، وقال البخاري في " صحيحه " ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ( «كان يزور البيت أيام منى» ) ، ورواه ابن عرعرة، قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتابا، قال: سمعته من أبي، ولم يقرأه، قال: وكان فيه عن أبي حسان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( «كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى» ) ، قال: وما رأيت أحدا واطأه عليه. انتهى. ورواه الثوري في " جامعه " عن ابن طاووس عن أبيه مرسلا، وهو وهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة وبقي في منى إلى حين الوداع والله أعلم.
ومنها وهم من قال: إنه ودع مرتين، ووهم من قال: إنه جعل مكة دائرة في دخوله وخروجه، فبات بذي طوى، ثم دخل من أعلاها، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصب عن يمين مكة، فكملت الدائرة.
ومنها وهم من زعم أنه انتقل من المحصب إلى ظهر العقبة، فهذه كلها من الأوهام نبهنا عليها مفصلا ومجملا، وبالله التوفيق[75].

[1] (2/ 86)
[2] (2/ 89)
[3] (2/ 90)
[4] (2/ 91)
[5] (2/ 92)
[6] (2/ 96)
[7] (2/ 96)
[8] (2/ 97)
[9] (2/ 98)
[10] (2/ 101)
[11] (2/ 102)
[12] (2/ 116)
[13] (2/ 117)
[14] (2/ 117)
[15] (2/ 148)
[16] (2/ 148)
[17] (2/ 150)
[18] (2/ 151)
[19] (2/ 159)
[20] (2/ 162)
[21] (2/ 162)
[22] (2/ 163)
[23] (2/ 164)
[24] (2/ 165)
[25] (2/ 208)
[26] (2/ 209)
[27] (2/ 210)
[28] (2/ 210)
[29] (2/ 213)
[30] (2/ 213)
[31] (2/ 213)
[32] (2/ 213)
[33] (2/ 213)
[34] (2/ 213)
[35] (2/ 213)
[36] (2/ 213)
[37] (2/ 213)
[38] (2/ 213)
[39] (2/ 218)
[40] (2/ 218)
[41] (2/ 224)
[42] (2/ 227)
[43] (2/ 228)
[44] (2/ 229)
[45] (2/ 233)
[46] (2/ 234)
[47] (2/ 235)
[48] (2/ 237)
[49] (2/ 237)
[50] (2/ 238)
[51] (2/ 238)
[52] (2/ 239)
[53] (2/ 246)
[54] (2/ 247)
[55] (2/ 247)
[56] (2/ 257)
[57] (2/ 262)
[58] (2/ 263)
[59] (2/ 263)
[60] (2/ 264)
[61] (2/ 264)
[62] (2/ 265)
[63] (2/ 265)
[64] (2/ 266)
[65] (2/ 267)
[66] (2/ 267)
[67] (2/ 270)
[68] (2/ 275)
[69] (2/ 277)
[70] (2/ 277)
[71] (2/ 278)
[72] (2/ 281)
[73] (2/ 282)
[74] (2/ 284)
[75] (2/ 285)