المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جلسات علمية استمرّت لسنوات، وكانت روضة من رياض المعرفة، لكن فاتتنا !!!



أهــل الحـديث
29-01-2012, 09:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




جلسات علمية استمرّت لسنوات
وكانت روضة من رياض المعرفة
لكن فاتتنا !!!

الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وأصابه ومن والاه .

أما بعد، قال عاصم ابن الشيخ محمد بهجة البيطار :
... ما دام هذا الحديث يستمدّ مادته من الذكريات، فإن هذه الذكريات تعود بي إلى أيام الصبا، ووصف مجالس كثيرة جداً كانت تُعقَد في بيت سيدي الوالد رحمه الله (ت 1976م) من بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع حتى صلاة العصر، وكان أركان هذه الجلسات الفتية الدائمون الأساتذة الأجلاء: عز الدين علم الدين التنوخي (ت: 1966م) والشيخ علي الطنطاوي (ت: 1999م) وشاعر الشام أنور العطار (ت: 1972م) وأستاذنا الأفغاني (ت: 1997م) رحمهم الله جميعاً.

كانوا يؤدون صلاة الجمعة في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق، وكان والدي مدرّساً فيه وخطيب الجمعة على منبره مدةً تزيد على ستين عاماً، فإذا قُضِيت الصلاة شرّفوا دارنا، وتناولوا طعام الغداء، ثم تبدأ الجلسة العملية التي كانت روضة من رياض المعرفة. ومن الطريف أنهم كانوا يشترطون أن يكون الطعام لوناً واحداً لا يتغير، وهو (الكوسا المحشوّ) ولطالما سمعت الأستاذ الطنطاوي يردد: لا صلاة إلا في الدقاق، ولا طعام إلا الكوسا... وكان الطنطاوي بحقٍّ هو المحرك لهذه الجلسات التي استمرت أعواماً؛ وكم يحزّ في النفس الآن أن وسائل التسجيل لم تكن متوافرة عندنا في تلك الأيام. ولو سُجّل ما كان يدور في هذه الاجتماعات لوقفنا على كنوزٍ من العلوم والمعارف. وقد تجاوزت أخبار هذه الجلسات الأسبوعية الحدود، ووصلت إلى أسماع الكثير من أصدقاء الوالد في العالمين العربي والإسلامي، ولذا كان يحضرها علماء كبار ممن يُلمُّون بدمشق، وإنني لأذكر ممن حضر عدداً من هذه الجلسات أميرَ البيان شكيب أرسلان (ت: 1946م)، وعيّن أعيان جدة الشيخ محمد نصيف (ت: 1971م)، والعلامة الجليل أبا الحسن الندوي (ت: 1999م) ونائب رئيس جمعية العلماء الجزائريين ثم رئيسها بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت: 1940م) الشيخ البشير الإبراهيمي (ت: 1965م) الذي أقام في دمشق فترة بعد أن نفاه الفرنسيون.

وكان الأستاذ الطنطاوي غالباً هو الذي يقترح موضوع المناقشة والحوار، ومن الطرائف التي ما زلت أذكرها أن الشيخ اقترح يوماً أن يتحدث الحضور في موضوعات شتى تبدأ من التعليق على خطبة الجمعة على أن يكون الحديث كله شعراً... كما اقترح في يومٍ آخر أن يؤلف الحضور جمعية دَعوها: جمعية الحمير، وأن يصدروا في كل ما يقولون عن تصوّرهم لطرائق الحمير في التفكير، وقد توصلوا في حوارهم إلى أن عالم الحمير قد يكون أقرب إلى الخير، وأبعد عن الشر من المجتمع الإنساني الذي تقوده الأطماع، ويستعبده المال والجاه والسلطان. وكان أستاذنا الأفغاني أقلّ الحاضرين كلاماً. على أنه لم يكن يفوته النقد اللاذع، أو الملاحظة الموجعة، وكثيراً ما كان يتبادل مع الأستاذ الطنطاوي الحديث الساخن والنقاش الحاد.

وقد عُرِف عن شيخنا الأفغاني أنه كان لا يعود عن رأيٍ رآه، أو موقفٍ اتخذه، ولو عاد عليه إصراره بأضرار كان يمكن دفعها، وقد عبّر هو نفسه عن ذلك بقوله: "وفي طبعي هيام بالحرية والصراحة، وكثيراً ما أُنِكّبُ الطريقَ الأسلم في سبيل الجهر بما أرى أنه الحق في العقائد والأشخاص، متحمّلاً بصبرٍ وطمأنينة ما أجرّ على نفسي من عناءٍ وعداء... وهذا بلاء حتمٌ لا مفرَّ منه لمن خُلِق حُرّاً صريحاً، ولو حاول غير ذلك ما استطاع" .

وقد جرت لي مع الأستاذ سعيد الأفغاني حادثة طريفة تفصح عن أسلوبه في النظر إلى الأمور والحكم عليها، فقد أنهينا امتحانات السنة الأولى في النحو والصرف، وأُعلنت أسماء الناجحين، وكانت الدرجة العليا (13/20)، وقد استحقها ثلاثة من الطلاب كنت واحداً منهم، وقد عجبت لهذه الدرجة، وأعدت النظر في إجاباتي فلم أَرَ فيها من الأخطاء ما يمكن أن يهوي بدرجتي إلى هذا الحد... ثم دعانا أستاذنا الأفغاني إلى اجتماع نطّلع فيه على أوراقنا، ونتأكد من صحة جمع الدرجات الموزعة على الأسئلة، وتناولت ورقتي وجمعت درجاتها، فإذا هي (16/20)، وكنت أعرف في أستاذنا الدقّة المتناهية، فاستعنت برفاقي. وطلبت إليهم جمع الدرجات، فأجمعوا على أنها (16/20). فذهبت إلى الأستاذ وأنا مطمئن إلى أن الخطأ واضح، وذكرت له الأمر فكان جوابه صريحاً سريعاً: (ما بصير) ثم أخذ الورقة، وقلب صفحاتها، وأطال النظر فيها، ونظر إليّ بعد ذلك وهو يقول: ألم أقل لك؟!.. الجمع صحيح... فقلت له: لقد قام الطلاب جميعاً بجمع مفردات الدرجات فكانت (16/20)، فأشار إلى أحد الأسئلة وقال: إنك أخطأت في الإجابة عن هذا السؤال، فقلت: نعم، وقد وضعتَ لهذا السؤال ثلاث درجات، وحرمتني من درجة أخرى لإهمالي كتابة همزة قطع.. فقال بسخرية مُرَّة: الحساب لا يجري هكذا... لو أخطأ خَطَأَك فلان (طالب ضعيف في النحو) لحرمته درجة السؤال، أما أنت فطالب مجدّ، وأنت ابن الشيخ محمد بهجة البيطار، ولذا ينبغي أن تعامَلَ معاملةً تليق بأمثالك، فتحرم درجة السؤال، وتعاقب بحذف ثلاث درجات أخرى، لأنك أخطأت خطأً لا يقبل منك.... وأدركت أن الاحتجاج غير مفيد، وأن النقاش عقيم... فعدت إلى مقعدي وأنا أقول: هل هذا معقول؟!!
على أن هذه الحادثة كان لها أثر بعيد في دراستي بعد ذلك، فقد غدوت أكثر أناةً في القراءة والفهم، وأشدَّ حرصاً على التأمّل العميق، والانتباه الشديد لكل سؤال يطرح، وقديماً قالوا: ربّ ضارّة نافعة.

==============

مقالة " الأستاذ المعلم المربي سعيد الأفغاني (1327 - 1417ه)****(1909 - 1997م) وحديث الذاكرة "

مجلة التراث العربي / دمشق العدد 92 - السنة الثالثة والعشرون - كانون الأول "ديسمبر" 2003 - ذو القعدة 1424