المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأَوْبَة إلى الحق



أهــل الحـديث
26-01-2012, 06:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الأَوْبَة إلى الحق



ليس من الطَّبَع (1) والشَّيْن أن تخطيءَ ما لم تك متعمدًا ، ولكن العيب كل العيب أن لا ترجعَ ، وماذا عليكَ لو فعلتَ ؟
عساك تظن أن الإصرار يجدي ، كلا كلا ، بل هو وَصْم(2) يا صاحبي ، يولد عارًا ، وينتج شنارًا ... وهَلُمَّ جرًّا ، من شُبَّ إلى دُبَّ(3) ...
إني أبثك من حديثي أيُّهذا القارئُ الفاضلُ ! :
في ليلة لَيْلاء حضرت مجلسًا لشُيَيْخ (*) من أولئك الذين يدعون العلم وهو منهم بَرَاء ، فرهب من الكبر ، ورغب في التواضع ، بكلام سمج ممجوج ، ملحون مرذول ، ملؤه الترهات البَسابِس ، تكذب المقالَ منه الفِعالُ ، فهو متلبس بعُِبِّيَّة(4) الجاهلية الجهلاء ... إذ جمعني به وبجماعة من أَضْرابه ممن لَفَّ لِفَّه مجلسٌ، فأَبَّشَ كلامًا(5) ، وجمع أوهامًا يسقط بها من حالق لو كان يدري ، وايم الله ما وجدت منه هَلَّةً ولا بَلَّة من علم سديد ...
ولما انتهى الرجل من تخليطه سأله أحدهم ، فما كان جوابه إلا كجواب مروان الكاتب البغدادي الذي وصفه الشاعر بقوله:


لو قيل: كم خمسٌ وخمس ؟ لاغتدى ... يومًا وليلتَه يَعُدُّ ويَحْسُبُ



يـرمي بمقلته السماء مفكرًا ... ويظل يرسم في التراب ويكتبُ



ويقول: معضلة عجيب أمرها ... ولئن فهمتُ لها لأمري أعجبُ



حـتـى إذا خَـدِرَت أنامل كفه... تعبًا وكادت عينه تـتصوبُ
أوفى على نَشزٍ وقال: ألااسمعوا...قد كدت من طرب أجنُّ وأسلبُ



خمـس وخمس ستة أو سبعة ... قـولان قالهمـا الخليل وثعلبُ !
فيـه خلاف ظاهر ومذاهب ... لكن مذهبنا أصحُّ وأصوبُ !!

فما كان مني إلا أن تنحيت به جانبًا بعد أن انفض الناس عنه وأوقفته على ما صدر منه من خطإٍ ، فشمخ بأنفه وأصر ، ثم نظر إلي نظرة شزراء ، وقام وقعد ، وأرغى وأزبد ، ثم أخفس (6)وقال كلمة زَوْراء أستحي والله ! أن أكتبها ، فما ظنك بالنطق بها ؟!
ثم زاد ضِغْثًا على إِبَّالَة وكافأني مشكورًا بأن نفر بعض طلابه مني ...
فأخطرني هذا الموقفُ بما رواه الإمام العسكري في كتابه "التصحيف" قال: حدثني شيخ من شيوخ بغداد ، قال:
كان حيان بن بِشْر قد وَلِيَ قضاء بغداد ، وكان من جملة أصحاب الحديث ، فروى يومًا أن عَرْفَجَةَ قُطِعَ أنفُهُ يوم الكِلاب (بكسر الكاف) ! ، فقال له مستمليه : أيها القاضي! إنما هو يوم الكُلاب (7) (بضم الكاف) ، فأمر بحبسه !
فدخل إليه الناس ، فقالوا: ما دهاك ؟
قال: قُطِعَ أنفُ عَرْفَجَةَ في الجاهلية ، وابتُليتُ به أنا في الإسلام !! )) انتهى .
ولا والله ! ما هكذا أخلاق أهل العلم النبلاء ، المخلصين الأتقياء .
وهاك موقفًا لمنصف جليل لله دَرُّه ما أحسن رِعَته وهَِدْيَتَه ! فاحذ حَذْوه تحمدك الحكماء في المجالس وعلى الأوراق ، ويفح شذا عَرْفك بأوبتك للحق في الآفاق ، وإلا لحقك الذم حيثما حل ذكرك عمدًا وبالاتفاق .
قال الإمام أبو بكر بن العربي (قدس الله روحه ونور ضريحه) في كتابه النفيس "أحكام القرآن" (1/182-183):
أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة قال :
وصلت إلى الفسطاط مرة ، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري ، وحضرت كلامه على الناس ، فكان مما قال في أول مجلسجلست إليه : (( إن النبي (صصص) طَلَّقَ ، وظاهر (8)! ، وآلى (9))) .
فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة ، فجلس معنا في الدِّهْليز ، وعرَّفهم أمري ؛ فإنه رأى إشارةَ الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه ، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي : أراك غريبًا ، هل لك مِن كلام؟
قلت: نعم .
فقال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه . فقاموا وبقيت وحدي معه . فقلت له: حضرت مجلسك اليوم مُتَبرِّكًا بك ، وسمعتك تقول: آلى رسول الله (صصص) وصدقت ، وطلق رسول الله (صصص) وصدقت ، وقلتَ: وظاهر رسول الله (صصص) ، وهذا لم يكن ، ولا يصح أن يكون ؛ لأن الظهار منكر من القول وزور ؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي (صصص) .
فضمني إلى نفسه ،وَقَبَّل رأسي ، وقال لي: أنا تائب من ذلك ، جزاك الله عني مِن مُعَلِّمٍ خيرًا .
ثم انقلبت عنه ، وبَكَّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني ، فألفيتُهُ قد سبقني إلى الجامع ، وجلس على المنبر ، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي . أفسحوا لمعلمي ...
فتطاولت الأعناق إليَّ ، وحدَّقت الأبصار نحوي ، وتعرفني يا أبا بكر – يشير إلى عظيم حيائه ، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خَجِلَ لعظيم حيائه ، واحمر حتى كأن وجهه طُلِيَ بجلنار .
قال: وتبادر الناسُ إليَّ يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغتُ المنبرَ ، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض ، والجامع غاصٌّ بأهله ، وأَسَالَ الحياءُ بدني عَرَقًا ، وأقبل الشيخ على الخَلْق ، فقال لهم: أنا معلمكم ، وهذا معلمي (الله أكبر) .
لمَّا كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله (صصص) ، وطلق ، وظاهر ، فما كان أحد منكم فَقُِهَ عني ، ولا ردَّ عليَّ ، فاتبعني إلى منزلي ، وقال لي كذا وكذا ... وأعاد ما جرى بيني وبينه . وأنا تائب عن قولي بالأمس ، وراجع عنه إلى الحق ، فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه ، ومن غاب فليبلغه مَن حضر ، فجزاه الله خيرًا ... وجعل يَحْفِلُ في الدعاء ، والخلق يُؤَمّنون .
قال القاضي أبو بكر ابن العربي (رحمه الله):
(( فانظروا - رحمكم الله – إلى هذا الدِّين المتين ، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ مِن رجل ظهرت رياسته ، واشتهرت نفاسته ، لغريب مجهول العين لا يُعرف مَن ولا مِن أين ، فاقتدوا به ترشدوا )) انتهى .
أخرج الإمام مسلم بن الحجاج (رحمه الله) في "صحيحه" (ج2/88-89/نووي) عن عبد الله بن مسعود (ررر) عن النبي (صصص) قال : (( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )) .
قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُحَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً.
قَال: (( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )) .
"بطر الحق" : دفعه ورده وإنكاره ترفعًا وتجبرًا. و "غمط الناس" : احتقارهم وازدراؤهم .

( تنبيه . نشر هذا المقال في مجلة المجتمع الكويتية ، بقلم وائل حافظ خلف) .


الحواشي

(1) الطبَع - بالتحريك : العيب والشين .
(2) الوَصْم : العيب .
(3) أي: مِن الشباب إلى أن يدب على العصا .
(*) شُِييخ : بضم الشين وكسرها : تصغير شيخ ، ويخطئ من يقول في تصغيره : (شُويخ)! . هذا ، وقد كان المومى إليه يطعن على الرافعي وشاكر ، ولا غرو ؛ فهو من أتباع (طه) وممن ألقى عليه أرَوْاَقهَ وشَرَاشِرَه . وقد توسع كاتب المقال في الرد عليه في كتابه "هدم الدساكر على مَن بغى على الرافعي وشاكر" .
(4) العبية - بضم العين وكسرها : الكِبْر والتجبر .
(5) أَبَّش كلامًا : جمعه أخلاطًا من هاهنا وهاهنا .
(6) يقال: أَخْفَسَ الرجل : إذا قال أقبح ما قدر عليه .
(7) الكُلاب : بضم الكاف – اسم ماء كانت فيه وقعتان مشهورتان للعرب في الجاهلية . وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/342، 5/23) ، وأبو داود في "سننه" [كتاب الخاتم – باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب](4232، 4233) ، والترمذي في "جامعه" [كتاب اللباس – باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب] حديث رَقْم (1770) وقال: (( حديث حسن غريب )) ، والنسائي في "المجتبى" [كتاب الزينة – باب مَن أُصيب أنفه هل يتخذ أنفًا مِن ذهب ؟](5161، 5162) ، وأبو عمرو السمرقندي في جزء له فيه "من الفوائد المنتقاة الحسان العوالي من حديثه" (37) ، وحسنه محققه شيخنا العلامة أبو إسحاقَ الحويني الأثري (حفظه الله وأمتع المسلمين بطول حياته) .
(8) الظِّهار:‏ قول الرجل لامرأتِه‏:‏ أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي، وقد ظَاهَرَ من امرأته وتَظَاهَرَ ، وظَهَّرَ وتَظَهَّرَ ‏. وهو حرام .
(9) الإيلاء في اللغة : هو: الحلف ، وفي الشرع : الحَلِف الواقع من الزوج أن لا يطأ زوجته . "نيل الأوطار" .