المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فعدة من أيام أخر بين الظاهرية والجمهور



أهــل الحـديث
14-01-2012, 05:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

قال الله جل وعلا : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
اختلف الجمهور والظاهرية في المريض والمسافر هل يجوز صيامهما رمضان عن رمضان إن أطاقاه أم لا بل يجب عليهما فطر أيام المرض والسفر وصيام أيامٍ أخرى مكانها. فالجمهور على الأول والظاهرية على الثاني حتى قالوا لا يجزئه صيام رمضان عن رمضان بل لو صامه عصى .
وقد أرجع ابن رشد رحمه الله في (بداية المجتهد) الخلاف إلى الاختلاف في تفسير قوله جل وعلا : (وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) بين الحقيقة والمجاز بأن الجمهور حملوه على المجاز وقدروا (فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فأفطر) وأن الظاهرية حملوه على الحقيقة لأنها الأصل .
وفي كلامه رحمه الله نظر ، وبيانه أن المجاز الذي يتكلم عنه هو الإسنادي أو العقلي وأن حقيقته مقدرة وأن الظاهرية لم يقدروا أصلاً ، والأمر ليس كذلك حيث أن الجميع يقدر محذوفاً .
أما الجمهور فقد تقدم تقديرهم (فأفطر) ولعل الصواب أن يزاد فيقال إن الجمهور يقدرون (فأفطر فليصم)
أما الظاهرية فيقدرون (فليفطر وليصم) وبيان تقديرهم هذا أن الله جل وعلا قال أولاً : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ويدخل في عمومها المريض والمسافر فيكونا ممن أوجب الله جل وعلا عليهم الصيام ، وقوله جل وعلا (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) ليس فيها من جهة النص أن المريض والمسافر يجوز لهم فطر شيء من رمضان بل فيه أنهما يصومان عدة من أيام أخر فقط ، فلو لم يقدر الظاهرية شيئاً لكان الواجب على المريض والمسافر أن يصوما جميع رمضان لدخولهما تحت قوله جل وعلا (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وأن يضيفا إلى صيامه صيام عدة من أيام أخر لقوله جل وعلا (فعدة من أيام أخر) فيكون صيامهما أكثر من صيام الصحيح المقيم، وهم لا يقولون بذلك ، بل يفرضون عليه الفطر خلافاً لقوله سبحانه ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، ولا يمكن القول بفرض الفطر عليهما إبلا تقدير ( ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فليفطر ) .
فإذا اتفق الجميع على التقدير بطل ما قاله ابن رشد ومن وافقه ، وبطل الاحتجاج بالآية مفردة حتى ينضم إليها دليل آخر ، هذا إن لم نقبل أن السياق يشهد لتقدير الجمهور لأن تقدير الأمر زيادة فرض ولا يجوز بمجرد الاحتمال ، وتقدير فأفطر لا يثبت به سوى الرخصة وهو أقل ما تفيده الآية بالنظر إلى احتمالات ولا ملجئ للزيادة.
فإن قالوا : نحن نجعل الآية على ظاهرها حتى تفيد وجوب صيام رمضان وصيام عدة من أيام أخر ، لكن نستدل بالأحاديث على أنهما يفطران أيام المرض والسفر .
قيل : هذا ممكن أيضاً على قول الجمهور بأن يقولوا نجعل الآية على ظاهرها ونستدل على عدم فرضية الفطر وإجزاء صيامهما رمضان بالأحاديث .
وقد استكثر الجمهور من الروايات وأختصر منها أبعدها عن الشغب ، فنقول :
الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنه قالت : سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَسْلَمِىُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصِّيَامِ فِى السَّفَرِ فَقَالَ "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" متفق عليه .
فإن قيل : ليس فيه أنه سأله عن صيام رمضان ، قلنا : ولا فيه أنه سأله عن صيام غيره ، بل أطلق الصيام وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم ، فنبقيه على إطلاقه ، ولو كان ثمة فرق لبينه أو استفصل عن أي صيام يريد السائل ، وهذا كما قال الشافعي رحمه الله " ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال"
فإن قيل : لعله كان قبل نزول الآية ، ثم فرض الإفطار في رمضان والصيام في غيره .
قلنا : الجواب من وجوه :
الأول : أن هذا مبني على كون الآية دالة على عدم إجزاء صيام رمضان وعلى أن فرض المريض والمسافر صيام أيام أخرى في غير رمضان ، وقد قدمنا أن هذا لا يكون إلا بتقدير (فليفطر) ولا دليل عليه من نفس الآية ، فليس فيها ما ينسخ تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمر .
الثاني : أن ظاهر الحديث أن مشروعية الفطر في السفر سابقة على سؤال حمزة بن عمرو رضي الله عنه وأنه إنما أراد رخصة ليصوم كما في رواية النسائي رحمه الله " يا رسول الله إني أجد قوة على الصيام في السفر" صححها الألباني ، وهذا يدل على سبق نزول الآية .
الثالث : أن قوله صلى الله عليه وسلم "هي رخصة" إشارة إلى معهود ، والظاهر أنه الآية ، ولا يقال لعله أراد أن الفطر رخصة ، إث تأنيث الضمير يأباه ، والسياق دال على أنه أشار بالضمير إلى معهود.
الرابع : على افتراض دلالة الآية الفطر بدون تقدير (فليفطر) ، فإن الظاهر أيضاً أنها متقدمة على الحديث ، وذلك أن فرض صيام رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة ، وحمزة بن عمرو كان حينها في نحو الثانية عشرة ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نحو العشرين أو الواحد والعشرين من عمره ، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب يسافر ويكثر من الصوم ، فيشبه أن يكون نزول الآية قبل هذا بكثير كثير .
الخامس : على فرض أنه لم يتميز لنا أكان سؤاله قبل نزول الآية أم بعدها ، فلا يجوز لنا أن ندعي النسخ بمجرد الاحتمال ، بل على فرض ثبوت أن نزولها كان بعد السؤال ، فاللجوء إلى النسخ مع إمكان الجمع ممنوع ، وبخاصة على أصول ابن حزم رحمه الله ، والجمع يسير ممكن بتقدير ( ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر ) كما قاله الجمهور ، وأن الفطر لمن يطيق الصيام رخصة لا فرض فيلتقي مع تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي بالصيام إذا شاء والفطر إذا شاء.
الحديث الثاني : "سئل أنس عن صوم رمضان في السفر، فقال: سافرنا مع النبي صلىالله عليه و سلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، و لا المفطر على الصائم"
وبيان دلالته من وجوه :
أولاً : أن أنس استدل بصيامهم في السفر على السائل عن صوم رمضان ، فدل على أنه أراد أنهم كانوا يصومون في سفر رمضان .
الثاني : أنه استدل بكون ذلك الصيام كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدل على أنه أراد اطلاعه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، وإلا لم يكن لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى.
الثالث : أنه ذكر أن الصائم لم يعب على المفطر ولا المفطر على الصائم ، فدل على علم الصائمين بمن أفطر والمفطرين بمن صام ، ويبعد أن يعلم القوم بعضهم ببعض ويجهل رسول الله صلى الله عليه وسلمـ بذلك وهم جماعة في سفر أميرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مرجعهم في كل ما يسألون عنه من أمور دينهم ، بل تصل به الغفلة ـ وحاشاه صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن لا يتنبه إلى ما ننتبه نحن له ببساطة من اجتماع الناس إلى إفطار وسحور ، ومن نظر في سيرته صلى الله عليه وسلم رآه شديد التفقد لأصحابه فيسأل لِمَ استظل ا لمستظل ولم هذا تحت الشمس ولم ينضح على هذا الماء وغير ذلك .
رابعاً : مع اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في حكم الصيام في السفر كيف لا يخطر على بال مفطر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عمن صام وسؤال صائم عمن أفطر ؟!
وإلا إن جوز أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف بصيام من صوم وفطر من أفطر ، وأن الصائمين لم يعلموا بالمفطرين والمفطرين بالصائمين فضلاً عن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من ذلك ، فما الذي أراد أنس بإيراد هذا الجواب ؟ وما الذي يستفيده السائل منه ؟
كأنما سأل سائل أنس بن مالك عن الصيام في السفر فأجابه أنس بقوله "كنا نصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" إذ لا فرق بين الجوابين إلا بتقدير شيء مما قدمناه.
وبنحو حديث أنس حديث عائشة وأبي سعيد رضي الله عنهما .
الحديث الثالث : عن ابن عباس قال : "خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم منالمدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء، فرفعه إلى يديه، ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة ، و ذلك في رمضان ، فكان ابن عبّاس يقول: قد صام رسول الله صلىالله عليه و سلم ، و أفطر ، فمن شاء صام و من شاء أفطر"
فدل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام رمضان في السفر بعد ست سنوات من فرض صيام رمضان وقبل موته بثلاث ، ويشبه هذا أن يكون بعد نزول قوله جل وعلا ( ومن كان مريضاً أو على سفر ) وعلى فرض عدم الدلالة فيكفي أن صيامه دل على المشروعية ، ولم يعب على أحد صومه ، وأمره لهم بالفطر مختص بمن يلاقي عدوه لكونه أقوى لهم ، كما جاء في الحديث ولا يتعدى إلى كل مسافر وسفر ، هذا مقتضى الجمع .
فإن قيل : لِمَ لم تحملوه على النسخ ولم قدرتم قصر الحديث على من ذكرتم .
قلنا : لأن الجمهور ومنهم ابن حزم رحمهم الله جميعاً على أن الجمع ما أمكن مقدم على النسخ ، وقصر الحديث على مورده ليستقيم الجمع ، وليس في اللغة ولا في أصول الشريعة ولا فروعها ما يأباه ، فكيف أتركه وانتقل إلى رد المشروعية الثابتة بفعله صلى الله عليه وسلم وبعموم قوله في الحديث الأول وغيره مما سيأتي لأجل نسخ الأصل عدمه .
ولا خلاف أن النسخ إبطال الحكم ، والأصل في الأحكام بقائها فلا ينتقل إليه بلا موجب ، فما هو ؟

أما حديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ . فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : صَائِمٌ . قَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ ) .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : ( عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ )
أقول : قد اعتذروا عنه بأنه ليس من البر لمن كان يصل به السفر إلى هذا الحد ، أو أنه إذا صام فبلغ به الصوم هذا المبلغ فليس من البر في هذا السفر الاستمرار في الصيام ، وقد يكون بعض الناس ظنوا أن الصيام في السفر من البر من أجل ما فيه من احتمال المشقة فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس من البر ، أي هذه الصورة ، بل الصيام إن كان من أجل القيام بالفرض أو نفل كان يعتاده رجل من غير قصد للمشقة الحاصلة بالسفر ، فهذا من البر .
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله بقوله : " فإن قيل إنّما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل، قلنا : هذا باطل لا يجوز، لأنّ تلك الحال محرّم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر كما هو في السفر، فتخصيص النبي صلى الله عليه و سلم بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه صلى الله عليه و سلم و واجب أخذ كلامه عليه السلام على عمومه"
وهو غريب غير جارٍ على أصوله ، بل يجري على من يقول بمفهوم المخالفة ، بيانه أن نسأله : وما الذي في تخصيص الذكر بالسفر مما يمنع بطلان هذه الدعوى ؟
إن قال : لأن مفهومه أن الصيام في الحضر من البر ولو بلغ بالرجل هذه الحال .
قلنا : هذا مفهوم مخالفة وهو عندك مردود ، وعندنا لا يصح الاستدلال بمفهوم المخالفة حتى يجمع شروطاً لم تتوفر هنا ، فإن السفر مظنة المشقة بخلاف الحضر فلم يصح الاستدلال بفهوم الحديث ، فتبين أنه ليس في الحديث ما يمنع تأويل الجمهور.
أما قوله : "وواجب أخذ كلامه عليه السلام على عمومه"
فمردود بأن ذلك عند عدم المخصص ، أما مع وجوده فلا يحمل على عمومه ، وقد تقدمت الأحاديث المخصصة لهذا العموم .
أما حديث "أولئك العصاة"
فسماهم عصاة لأنه أمرهم بالفطر فعصوه ، لا لكون الصوم في السفر لا يجوز ولا يجزئ ، ودليله ما تقدم من الحديث والجمع بينها مقدم على ضرب بعضها ببعض.
هذا ما دار في خلدي وأحببت مشاركتكم به جريت فيه في الأغلب على ما يصح الاستدلال به وفق قواعد ابن حزم ، وإلا فأقل من هذا كان يكفي ، وأكثر منه ممكن.
والله جل وعلا أعلم .