المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "وَيَكُونَ الدِّينُ كلُّه لله"



أهــل الحـديث
14-01-2012, 04:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


"وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد, وإليك المشتكى, وأنت المستعان, وبك المستغاث, وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم لك الحمد كلّه, أوله وآخره, علانيته وسره, حق أنت أن تحمد, وأنت للحمد أهل, حق أنت أن تُعبد, لا إله إلا أنت, وأنت على كل شيء قدير. هديتنا للإسلام, ووفقتنا للسنة, وأنزلت إلينا خير كتبك, وأرسلت إلينا خير رسلك, وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس. فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخليله وكليمه ومصطفاه وخيرته من خلقه, صاحب الجبين الأنور والوجه الأزهر, خيرُ من وطء الثرى, وركب الذّرى, وتسنّم المراتب العُلى. خيرُ المرسلين, وسيدُ ولد آدم أجمعين, وقائدُ الغرّ المحجلين, كلّ بني الإنسان تحت لواء حمده يوم القيامة, آدم ومن دونه, صاحبُ الحوضِ المورود, والمقامِ المحمود, والشفاعةِ العظمى التي يغبطه عليها الأنبياء. بلّغ وبشّر وأنذر, ووعد وأوعد من ربه وحذّر, ترك أمته على الصراط المستقيم, الذي لا يضل عنه إلا المخذول, ولا يتنكب محجّته سوى المحروم, ولا يوفق لهدايته إلا المرحوم. جعلني الله والقارئ ووالدينا والمسلمين من حزبه المفلحين, وأتباعه المسددين, وآمن فزعنا يوم الدين, وآتانا صحفنا غداً باليمين, آمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين. اللهم صلّ وسلم, وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإن الله ابتعث محمداً صلى الله عليه وسلم بدين كامل, وشريعة تامة, فكان أعلم الخلق, وأفصح الخلق, وأنصح الخلق للخلق, صلى الله عليه وسلم, ثم لم يقبضه إليه حتى رضي عن بلاغه الوافي, وبيانه الشافي, فكانت الأمة بعده على الصراط المستقيم, والمهيع القويم, لا تضل هداتها عن سنته, ولا تزيغ بصائرهم عن شرعته, كانوا على هذا زمناً حتى أذن الله بابتلاء هذه الأمة المرحومة, وتمييز المؤمنين, واستبانة سبيل المجرمين, فنبتت نابتات سوء, في العصر الأول من الأصحاب, فقاموا لله حق القيام, وصاروا نجوماً في حنادس الظلام, ورجوماً لكل مبطل, وسعوطاً لكل مبدل, ومن قصد البحر استقل السواقيا.
وعلى آثارهم مشى التابعون, ثم الأتباع, فتمّت القرون المفضلة الثلاثة تماماً على الذي أحسن, فدونت السنن, وحفظت الشريعة, وقمع المبتدعون, وحورب المشركون, ودون العُلى ضربٌ يُدمّي النواصيا.
ما لاح برق أو ترنم طائر إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
وقامت منارات العلم في حواضر الإسلام بالوحيين تثجّ, وأتتها النفوس الراغبة من كل فجّ, فقرروا في نفوس الناس عظمة توحيد رب العالمين, وخطر ضده من الشرك الذميم, وحذّروهم من البدع بريد الكفر, و من المعاصي بريد النفاق, فأمروهم بالمعروف, ونهوهم عن المنكر, فأطاعهم الصالحون والعامّة ديانة, والفسّاق حياء أو مخافة, فمخرت سفينة الإسلام والإيمان البحر بعزّ وسلام, وكرامة وإقدام, ورحمة وشفقة, ولم تزل مُذ سارت تُسالِمُ وتُسالَم, وتُحارِبُ وتُحارَب, من وَفَى لها وَفَت له, ومن غَدَرَهَا أوقعت به, ثبت فيها فئام, وتساقط منها آخرون, تعاون أهلها على حفظها بحفظ الله لها, كلٌّ على ما يسّر الله له, فالعمل للدين قرين الانتماء إليه. وهذه السفينة هي الإسلام, وهي التوحيد, وهي السنّة, وهي السلفية, وهي إن ركبها الأدعياء! فليس في السلفية الحقّة شيء سوى الإسلام, وليس من الإسلام الأصيل شيء سواها, فباطنها وظاهرها الالتزام والدعوة إلى ما كان عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه, بلا وكس ولا شطط, مع قبول الاجتهاد المنضبط الدائر مع الدليل حيث دار, فهذا المنهاج السلفي هو عقد نظام الدين الصافي, والملة التالدة الخالدة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" صححه الألباني.
وهذه الدعوة السلفية كمعادن الطيب النفيس, فكلما ازداد ضربها نصع طيبها وتضوع عبيرها, وهذا عائد لأنها تتضمن حقيقة الإسلام الصافي الذي لم يُشب بلوثة خرافة, أو حوبة زندقة, أو تحريف للكلم عن مواضعه, بل رجعت بالأمر إلى أوله, وهو التوحيد والسنة, وانطلقت منه وانتهجته, فانتظم لها الدين جملة, وانسجمت تصورات العقول مع حاجات القلوب وأعمال الجوارح, فكان من أراد محض الإسلام الذي لم يُشب؛ ناله بأيسر جهد, موافقاً لفطرته السويّة, وعقله الذكيّ, خالياً من الأكدار والتعقيدات والمقدمات والآصار والأغلال, فوجدت الفطرة طريقها السويّ فسكنت, وتاقت إليه الروح ونالته فخشعت, وأطلق العقل عنانه المنضبط في مهيعه وسُمُوِّه, وأظهرت هذه الدعوة للأمة المهديّة المرحومة طريق نبيهم صلوات الله وسلامه عليه, واضحة آثار سيره عليه, محفوظ المسلك, بيّن المعالم, يسير المرء فيه فيراه واضحاً جليّاً, فلا يستوحش ولو سار وحده, لكثرة من يرى مِن سَلَفِهِ الذين قد ساروه وسلكوه, فيرى آثار نبيه صلى الله عليه وسلم, وعلى إثرها الأصحاب والتابعون والأتباع, ومن سار على تلك المحجة القويمة, واستقام على ذلك الصراط المستقيم, ويرى الأئمة فيه بسِيرهم وأقوالهم وفتاويهم يرشدونه حتى لا يضل, ويبصّرونه حتى لا يزيغ, ويعِظُونه حتى لا يتنكّب صراط المُنعَم عليهم, الذي امتن الله به عليه, فتستأنس نفسه في ذلك الطريق المسلوك بمعيّة من ساروا عليه من بدور الدجى وحرّاس الملة وحفّاظ الإسلام, فيرى الواقف في طرف الطريق قوافل الأئمة والصالحين والصديقين والعبّاد والشهداء, يسبقهم نبيهم صلى الله عليه وسلم, قد تركهم في أوله وينتظرهم في آخره. فليس في ذلك الطريق الجميل شرك ولا بدعة ولا فسق, بل توحيد وسنة وطاعة. جعلنا الله جميعاً ممن حقّق ذلك ومات عليه. آمين.
وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرّا تولاه العظيم الشَّانِ
وأهل الإسلام "كالجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" متفق عليه, ولهما مرفوعاً: "كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد مدحهم ربهم جل وعلا بقوله: "رحماء بينهم"(الفتح: 29) قال أيوب السختياني رحمه الله: "إنه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنه مات, فكأنما فقدت عضواً من أعضائي". وأهل السنة يعرفون الحق, يرحمون الخلق ويمحضونهم النصح, وهل ذلك إلا بأن تتحقق الشهادتان في النفوس ظاهراً وباطناً. فالحمد لله الذي أكمل لنا الدين ورضيه, قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة: 3) أكمل لهم الدين, فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً, وأتمه فلا ينقصه أبداً, ورضيه فلا يسخطه أبداً.(1) قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلّب جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً" رواه أحمد(2) وقال بعض المشركين لسلمان رضي الله عنه: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة, فقال: "أجل ..." رواه مسلم.
وبأسفٍ؛ فما زال بعض أبناء الملة وأهل القبلة, يغبّشون صفاءها باستحسانات يقدحها الهوى في أفئدتهم, فيبثّونها في العامّة دون الرجوع لحِكْمَةِ وعلم العلماء, لأنهم قد أسقطوهم من مرجعيّتهم, إذ عنّ لهم أنهم رجال وهم رجال, وما الفقه لأحد دون أحد...أمّا الخيام فإنها كخيامهم!.
ومن ثمّ بثّوا شبههم التي ظنوها حججاً, ونفخ بعضهم في كيرها, فطار شررها إلى أطراف خيمة الإسلام, فإن لم يدركها أهل العلم والفضل وإلا فالخوف أن يدرك مارِجُها الأركان, فالشبهة تبدأ هزيلة سقيمة فَتُغَذى بلبان الهوى, وتُنشَر في الأنام كأنها حقيقة مسلّمة, فتُتَلَقّفُ ممن قل نصيبه من الفقه, وما أكثرهم! والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبرُ!.
ظنّوها ثهلان ذا الهضبات ما يتحلحل, فإذا بها سحابة صيف عن قليل تقشّع, حقيقتها برق خُلّب, وإن زخرفوها بحسين الكَلم, ورصفوها مكراً لبادي الرأي, ثُمّ العجب أنهم لها أحنّ من شارف, وعليها أحذر من غراب, كأنهم لم يخلقوا إلا لها, ولن يسألوا عن سواها, فصيروها شعاراً عليه معاقد الولاء والبراء, فمن نبّههم أو أنكر باطلهم ردوا بحالهم ومقالهم: أساجلك العداوة ما بقينا! ثم استقبلهم أبو مرّة بلحيته, وتلفّع لهم بعمامته, فظنوه ناصحاً مشفقاً, وما دروا أنه من أزّهم لذلك, وجمع لهم ما هنالك, والباقعة أنهم ممن عُدَّ من أهل الدين, والفارس لا يغزو قومه, والرائد لا يكذب أهله, ولكن؛ إذا الله سنى عقد أمر تيسرا.
وظلم القريب يغصّ الحلوق ويجري من العين دماً بدمْ
فضيم البعيد أذى قد يداوى وكيد القريب مصاب أطمّْ
إذا قدوة القـوم أمسى لئيماً وباع بأخـراه دنياً أذمْ
فكبّر وسلّم عـلى أمتي فقـبل الوفاة يكون السقمْ
وبالجملةِ؛ فالسُّنة كلّها خير, والبدعة كلّها شرّ مهما تلوّنت وتقلبت وتبهرجت, لذا فكلما رفعت بدعة كاهلها قيّض الله لها دقّاً وكسراً بصوارم السنّة على أيدي الأئمة الحنفاء وهل هم إلا أئمة السلف الصالح, وأتباعهم حملة ذلك العهد الرباني, والنهج النبوي؟ فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة, فلما ارتد من ارتد من العرب, قصفهم الله بصارمه الصديق الأكبر, الذي قاد ألوية الموحدين من مدينة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم لدكّ معاقل الردة, وردّ الأمة لدين الله أفواجاً, ولمّا بث الشيطان سراياه الفكرية الكفرية المبدّلة للدين, والملوّثة للملّة, قام عليهم إمام السنة المبجل أحمد بن حنبل معه أئمة جهابذة, حاربوا الفتن, ورد الله بهم الباطل.
تناثر العلم شهداً من ثغورهمُ أكرم به منبعاً للدين ينسكبُ
ثم هدأ الناس زماناً حتى ثاب بعض من تلوّثَ ببدع القول لمذاهب منبوشة من رفات الفلسفة الإغريقية, إذ لم يكتف بعضهم بتقريرات أئمة السنة ونقضهم لها قرابة ثلاثة قرون منذ عهد أحمد وأقرانه, وراجت تلك المذاهب في بعض المنتسبة للعلم فتخطفت قلوبهم وبصائرهم فصنفوا وخطبوا ما أضلوا به الناس وفتنوا به العامة, وزينوا المنطق والفلسفة, وجعلوا مقدماتها الممتنعة وتقعيداتها المعقّدة شروطاً للإيمان, وضرورة لكل متعلم, ورفعت الرافضة عقيرتها بالدعوة إلى وثنيتها, وتنادت عبدة الموتى لإغواء العامّة, حتى عبّاد الصليب صار لهم طمع في ردة أهل الإسلام! وانتشرت الشّبه بين من رام العلم, وسقط في شباكها الكثير, فعظمت بهم البلية, وتكاملت بهم الرزية, حتى قيض الله للإسلام من هدّ عروشهم, وزلزل صروحهم, وجعل أعاليها أسافلها, ودكّ معاقل إحداثهم وحصون فتنتهم فأوهاها وأسقطها, وفضح شبههم وكشفها وعرّاها, ذاك هو شيخ الإسلام الرباني وإمام السنة الثاني, أحمد بن تيمية الحراني, فما زال يصول بالله ويجول ويقاتل بعلمه وعمله, ولسانه وسنانة هو ومن تابعه من الأئمة وأهل الفضل, فما زال كذلك حتى قَبَضَه في ذات الله سجيناً صابراً راضياً شاكراً, ولا نزكيه على الله, قد جعل الله جنته وبستانه في صدره, فرحل إلى ربه وهو يتلو: "إن المتقين في جنّات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر: 54_55) (3) ثمّ حمل الراية تلاميذه وكثير من أقرانه على سننه الحميد وفعله الرشيد, وليس به وحده جدّد الدين لكنه بزّ أهل زمانه في حمل لوائه وفاقهم في عظيم بلائه, وسار الناس على السنن المحمدي سنيّاً, ثم لم يلبث إبليس أن أغرى بعض الطّغام بعبادة الطاغوت جهاراً, وبذبح الحنيفية عند عتبته نهاراً, كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن, وحدثت البدع والفجور, ووقع الشر بينهم".(4) حتى رحم الله تعالى الأمة بجيل راشد, يقوده إمام هدى, فهبّت صبا نجد بالعلم والإيمان, فكان نسيمها راحة وهداية وبصيرة للراغبين.
خليليّ من نجدٍ قفا بي على الربى فقد هبّ من تلك الديار نسيم
وكانت حصباؤها رغاماً واجتثاثاً لصروح القبوريين, وكما صحّ عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن" فعاد الناس لدينهم, وآبوا لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. فلم يقبض الله الإمام المجدد حتى أقر عينيه برؤية ثمار دعوته وجهاده, وما عند الله خير وأبقى, ولا نزكي على الله أحدا.
عسى جدث يحوي رفاتاً لحِبِّنَا رياض جنان مترعات سواقيا
ثم أتمّ علماء الدعوة السَّنِيِّة السُّنِّيَة ذلك التجديد, فزكت شجرة الإسلام بتيك الكوكبة من العلماءِ الذين قاموا بالحق وبه يعدلون, فأظهرهم الله وأعزهم, على قلة المعين وضعف الناصر, فما برحوا يقيمون الديانة, ويحرسون معالم الملة, ويذودون عن أصول السنّة, ويَجلُون عرائس المعاني لراغبيها, ويزفّون أبكار خرائد المعارف لخاطبيها, فلله هم من أنجم وأقمار, ورواسٍ وأنهار!.
أتاك حديث لا يُملّ سماعه شهيّ إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنّى قتامه
ثم خرج ممن استظلوا بنعمة السنة, وتربّوا في رحاب مدرسة علماء الدعوة, وتخرجوا على علمهم, فأخذوا يناكفونها, زعماً أنهم يقوّمون المنهج ويصوّبون المسار! وما علموا أنهم قد أُخِذُوا بشبهات من سبقهم من مناوئي الدعوة النجدية السلفية, فما هم سوى أبواق سوء, ورُسُل بغْي, لمن خُلِبوا بهم وفُتِنوا, حالهم:
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا!
ولو أنّهم تريّثُوا وتمهّلوا, وراجعوا أنفسهم وتجردوا, وتدثروا بالتقوى, والتحفوا الورع؛ لأدّاهم ذلك إلى الهدى, "وأتوا البيوت من أبوابها" (البقرة: 189) وقد ركب موجتهم فئام من الأغرار, أو طوائف من الفجار, فتارة يركض معهم المستنوقون "العصرانيون" المنهزمون, وتارة التزويريون "التنويريون" المميعون, ومتأسلمة العلمانيين, ناهيك عن أهل الخرافة من المتصوّفة والمتشيّعة, أو أذناب الكفرة من العلمانيين والليبراليين والمستغربين, وخلف صفوف هؤلاء مجامع الاستشراق ونوادي الفكر الموجه, ودوائر البحوث والدراسات الممنهجة ضد الحق. فحاربوا الدعوة صفّاً واحداً, وتفرقوا إلا عليها, فتنوّعت طرق حربها, وتباينت سبل ضربها, فتارة في إسقاط الرموز باتهامهم في نياتهم.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميم
وأخرى بضرب المنهج, واتهامه بأنه دخيل على الإسلام, رمتني بدائها وانسلت! وثالثة بافتراء أحداث من وحي الحيال وزاملة الكذب, ولطخها بصفحة تلك الدعوة الصافية, وفي كل عصر لهم جنود مجندة, وشُبَهٌ ملوّنة "ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض" (محمد: 4) وللنار ملؤها وللجنة ملؤها. وتوارد هؤلاء المخذولون, وأولئك الموتورون على الهجوم على الدعوة السلفية أصالة أو نيابة.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهم
فمن جزافهم وخطلهم؛ قولهم: إن للشيخ محمد بن عبدالوهاب مآرب سياسية ومالية! أو أن حركته خارجية تكفيرية, وأنه يكفّر الأمة بعمومها, أو أنه مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أنه مدع للنبوة, أو أنه مرجئ لا يكفر أحداً مهما غلا كفره. (5) ثم ظهر الآن من يزعم أنه لا يختلف مع الشيخ علمياً لكنه لا يوافقه عملياً في المبدأ الأصيل التكفير والقتال, وهذا من تناقضه فأين الكفر بالطاغوت والبراءة منه؟! وبعضهم يتجاوز الشيخ إلى تلاميذه من علماء الدعوة فيتهمهم بأنهم خالفوا منهج الإمام وأنه لم يكفّر من قامت عليه الحجة, ويتعلق بمتشابه من القول, ويعرض عن المحكم المضطرد, وقد كفانا أئمة الدعوة رد كل شبهة, فقد سطروها في كتبهم وفتاويهم وردودهم.
ومن أولئك المدهنون من ينتسب للسلفية ويخالف منهجها بغموض وغمغمة, يريد بوهمه أن يبقى في المنطقة الرمادية التي حقيقتها "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" (النساء:143) كالشاة العائرة بين الغنمين, ولم يعلم أن أصول الدين وثوابت المنهج لا تقبل أنصاف الحلول, فلا منزلة بين المنزلتين, ولا طريق بين السبيلين, بل: "وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" (الأنعام: 55) "فريق في الجنة وفريق في السعير" (الشورى: 7) فنرى ذلك البائس يحبّر الصفحات يظنها ماءً زلالاً, وليست بشيء إنما هي حديث خرافة, وسراب بقيعة:
أظلّت علينا منك يوماً سحابة أضاءت لنا برقاً وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها
وأصبح تنويريّهم! أوعصرانيّهم! المنتسب للسلفية يُجْمِلُ الخطابَ مداهنة لا مداراة, ولا يبالي بأن نسبته المتمشعرة أو المتصوفة بل والمتشيعة لها! فصار كمن جره القرش لبحره, والعقرب لجحرها "ومن يهن الله فما له من مكرم" (الحج: 18). بل بعضهم ربما والى أهل الصليب وداهنهم في دينه.
أيها المبتلى بحب الكلاب لا يحب الكلاب إلا الكلاب
لو تعريت وسطها كنت منها إنما فقـتها بلبس الثياب
ونحن في زمن اشتدت فيه ضراوة الشّبه, وتخطّف كَلَبُها كثيراً من منتسبة العلم, ففي كل يوم لها صريع أو قتيل, وليتهم لوحدهم بل قد جرّوا معهم فئاماً من الأمة أحسنوا الظن بهم, وعلّقوا بكلامهم الحق, فصاروا رؤوس باطل, ودخان ضلالة, قد رُوِّعُوا وأُخنعوا بعبارات المستغربين وأفراخ المستشرقين وأذنابهم في وصف منهاج النبوة بالراديكالي والمتشدد والمتطرف واليميني والرجعي والظلامي والوهابي (6) فراحوا ينقّبون في الآثار والسير لا ليردّوا عادية أولئك بقوة وعزة وشمم, ولا ليصولوا عليهم ويُخرسوهم بالبراهين والحجج! بل ليجدوا لهزيمتهم النفسية تأويلاً ومخرجاً يلوون به باقي الأدلة لينفوا كلام الأسياد "الخصوم" وينفوا عن الدين الصلابة والشدة والغلظة مع أهلها, فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" (البقرة:61 ) فإن اشتد خطابهم, وأرقلت رواحلهم, وحُدَّت حرابهم؛ فإنما ذلك على إخوانهم...بينما سَلِمَ منهم شر البرية!.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وحين اتهم مستشرقون الإسلام بأنه قد انتشر بالسيف, قابلهم المنهزمون المخذولون الذين طغت عليهم عقدة المغلوب, وراعتهم صولة الصليب وغَيَاية المادة؛ فنفوا_عن حسن نية, وضعف بصيرة_ القتال في سبيل الله! وصيّروه جهاد الدفع دون الطلب "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" (الصف: 10_11). "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل" (البقرة: 191) "يا أيها الذيم آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" (التوبة: 123) وهل يجرؤ مسلم على توجيه آية التوبة هذه إلى جهاد الدفع, وهي في غاية الصراحة في الطلب: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29) وقال إمام المجاهدين صلوات الله وسلامه عليه: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو منهم" رواه البخاري معلقاً, ومن لم يثق في الوحي ثقة مطلقة فلا ترجه.
وأقول بعالي الصوت:
إن كان إرهاباً قتال عدونا فليشهد التاريخ أنني أرهابي
ومن الآخيّة عينها دفّت دافة الاعتزال, ونبتت نابتة الإرجاء بل والخرافة في بعضهم, فليتنبه الغيورون لذلك. وهذه نابتة لا بد من قطعها قبل استفحالها, لأنها تُلبس الباطل والإرجاء لباس السنة والسلفية, كما أن من واجب الوقت ردّ صيال الطرف الآخر سليل فكر الخوارج ووارث تعنتهم الفكري وضلالهم المنهجي وغلوّهم في الدين, الذين خرجوا على أهل الإسلام فكفّروهم, واستحلّوا دماءهم وأعراضهم, ولم يعلموا أنهم بذلك قد حكموا على أنفسهم بأن صاروا شر الخلق والخليقة! عياذاً بالله تعالى. وإنما تُرد عاديات هؤلاء وأولئك ببراهين الوحي, ومحكمات الشريعة (7).
لقد ضيع بعض قومنا الثوابت عند ازدحام الأحداث, وكثرةُ مزالق الناس, وكبر سقطاتهم ليست مبرراً لغيرهم إذا سقط, "بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره" (القيامة: 14_15) ولا يصحّ في النّهاية إلا الصحيح "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد: 17) والعاقلُ لا يبني قصراً ويهدم مصراً. وبعض هؤلاء متلوّن متقلب, في الصباح يحرّر, ويقرّر, وفي الظهر يصوّر ويكرّر, وفي المغرب ينقض ويبرّر! لا ضابط له ولا تأصيل, تارة يشرّق وأخرى يغرّب, ضالّته حيث حطّت رحلها أم قشعم:
يوماً يمان إذا ما جئتَ ذا يمن وإن لقيتَ معدّيّاً فعدنان
حتى مسألة سيادة الشريعة والحكم بما أنزل الله جدّ فيها عندهم نظر! "ومن يضلل الله فماله من هاد" (الزمر: 36) ناهيك عن التشبه بالكفّار ومسائل الغناء والمعازف والاختلاط والحجاب.... وتبرير ذلك الغثاء بهزال أغثى! "أفي الله شك"(إبراهيم: 10) بل وحتى تهنئة الكفار على كفرهم وجدت لها بين هؤلاء داعياً ومجيزاً, همّ بعضهم تتبع الشذوذات التي تُطرب أشباه الفُسّاق الباحثين عن أي تكأة أو مخرج من قيود الشريعة وحياض الأحكام, ظنّ ذلك المُزيِّف نفسه قد أتت بمسائل وحررت أحكاماً لم يعلمها السلف! أو قصرت عنها أفهامهم! أو علموها فخافوا! حتى صدع بها ديانة وأمانة! اللهم غفراً, كأنّما يقول: هاأنذا فاعرفوني, ثم ماذا ؟! حال بعضهم كمن بال في بئر زمزم, فلما سئل قال: كي يعرفني الناس! وصدق, فقد عرفه الناس بشرّ عمله, وخطيئة قلمه, وسيشهدون عليه بين يدي الديان يوم الحساب حين تضمحل الزيوف, ويبقى ما أُريد به وجه الله, وكان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون, ماذا كنتم تعبدون, وماذا أجبتم المرسلين"(8).
والإسلام منصور بنا أو بغيرنا, والسعيد من ركب تلك السفينة, ورافق أولئك القوم, والله حافظٌ دينه ومعلٍ كلمته ولو كره المشركون, ولو زاغ الزائغون, ودينه كامل لا يقبل التجزئة "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين"" (البقرة: 208) ولمّا اشترط بعض الناس شروطاً في بيعة الإسلام تناقض ثوابته, ردّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ذلك عليهم حتى يدخلوا في السلم كافة, ولما قال عمر لأبي بكر: "يا خليفة رسول الله! تألّف الناس". قال له أبو بكر: "يا ابن الخطاب! أجبّار في الجاهلية، خوّار في الإسلام؟! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك! علام أتألفهم، أعلى حديث مفترى؟! أم على شعر مفتعل؟!".
مآرب كانت في الحياة لأهلها عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً
ولم يوفّق في الكلام في ذلك بعض الفضلاء, وليتهم إذ لم يعلموا أو اشتبهوا سكتوا, وليتهم إن حسبوا أنهم علموا تريثوا وشاوروا الراسخين ممن تنقطع دونهم أعناق المطي, وقد سهّل الله تواصلهم, ولكن أبت أمُّ الندامة ذلك! وزلّة العالِم زلّة العالَم, ومضروب لها الطبل, ومحمولة عند المناوئين على أسوأ المحامل, فتكلّم بعضهم بكلام غريب, فمهّدوا وجعلوا الكلام في الشريعة وأصول الدين وكبار المسائل كلأً مباحاً لكل دعيٍّ ومتعالم! حتى جعلوا وحي الله وشرعة الخالق المالك ألعوبة بيد عبيده ومماليكه! مراعاة لخواطر أعداء الشريعة وعبدة الصليب "ولا تركنوا إلى الذين كفروا فتمسكم النار"(هود:113) وما ثَمّ إلا توفيق الله "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً" (الإسراء: 74) "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" (هود: 113).
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
ولابد من تحرير مسألة الأسماء والأحكام في باب الإيمان, وتأصيلِ العامّة عليها _وقد خدمها العلماء والباحثون بحمد الله بمدونات محررة وبكلام محقق_ ومن المهمّات بيان براءة المنهج السلفي من الضلالتين؛ المفْرِطين الغلاة, والمفَرّطين المقصرين, فالبعض من قومنا قد هرب من التكفير بالباطل فوقع في الإرجاء المذموم, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وكما أن القول بتكفير المجتمعات قول خطير فكذلك القول بإسلام المشركين الذين قامت عليهم الحجة قول خطير, فكلا القولين خلل منهجي في باب الإيمان, ثمّ جاءنا آخرون بقول شاذ حيث ألمحوا لاتهام الإمام بالإرجاء وأئمة الدعوة بالخروج! وما أعجب فهوم الناس!.
قال مفتي الديار النجدية الشيخ عبدالله أبو بطين رحمه الله: "وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة, فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره, وتعدى بآخرين فكفّروا من حكم الكتاب والسنة والإجماع بأنه مسلم, فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين, ومحنته من تينك البليتين" (9). وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله: "فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين, نحكم بأنهم مشركون, ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية, وما عدا هذا من الذنوب التي هي دونه في المرتبة والمفسدة لا نكفّر بها.....ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج, وقالته في أهل الذنوب من المسلمين"(10). إذن فلا بد من تكفير من يستحق, بعد اكتمال الشروط وانتفاء الموانع, لا كما يقوله بعضهم: إن الاحتياط أن لا تكفّر أحداً أصلاً! وهل هذا الاحتياط البارد والورع الأعور إلّا عين المضادة للقرآن الكريم, والمشاقة للسنة المطهرة, سواء من الكفار الأصليين, أو المرتدين. وليس من الإسلام في شيء ما يفعله أفراخ ذي الخويصرة وذي الثديّة من تكفير أهل الإسلام, وحرب أهل الإيمان, وشق صف أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال المشايخ عبدالله بن عبداللطيف وإبراهيم بن عبداللطيف وسليمان بن سحمان: "وأما قوله عن الشيخ محمد أنه لا يكفر من كان على قبة الكوّاز ونحوه, ولا يكفر الوثني حتى يدعوه وتبلغه الحجة فيقال: نعم, فإن الشيخ محمداً رحمه الله لم يكفر الناس ابتداءً إلا بعد قيام الحجة والدعوة, لأنهم إذ ذاك في زمن فترة أو عدم علم بآثار الرسالة, ولذلك قال: "لجهلهم, وعدم وجود من ينبههم" فأما إذا قامت عليهم الحجة فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها....ولا يجادل في هذه المسألة ويشبّه بها إلا من غلّب جانب الهوى, ومال إلى المطامع الدنيوية, واشترى بآيات الله ثمناً قليلاً" (11).
فعدم تكفير المجدد لبعض الناس ليس نفياً لحقيقة الكفر عن مرتكب الكفر الأكبر -تكفير الوصف- بل نفي لتكفير المعين -الشخص- قبل إقامة الحجة عليه, فهذه الأفعال مكفرة عند الإمام ولكن لاحتمال وجود الموانع توقف، وهذا مسلك نفيس وهو جادة أهل السنة على امتداد الزمان وهذا مضطرد في كتبهم ورسائلهم.
وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في البراءة من منهج الخوارج الذين يكفّرون بالكبيرة ومحذّراً من ضلالهم: "وأما ما يكذب علينا ستراً للحق, وتلبيساً على الخلق, بأننا نكفر الناس على الإطلاق من أهل زماننا ....فجوابنا سبحانك هذا بهتان عظيم, فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى" (12). قال الأحنف: ما خان شريف, ولا كذب عاقل, ولا اغتاب مؤمن, وكانوا يحلفون فيحنثون, ويقولون فلا يكذبون. وقال: اثنان لا يجتمعان أبداً؛ الكذب والمروءة. قلت: فأخص صفات المؤمن الصدق, وأخص صفات المنافق الكذب.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وسبيل علماء الأمة واحد في البراءة من التكفير بغير حق, وفي البراءة من عدم التكفير بإطلاق, والتطبيق فرع عن التنظير. ومن أولى المسائل الكبار التي وقع فيها الاختلاف والتفرق؛ مسائل التكفير والتبديع والتفسيق.
ومؤرخا الدعوة ابن غنام وابن بشر _والأول من تلاميذ المجدد_ قد شاهدا حال الناس إذ ذاك, فهما أعلم بواقع ذلك الزمان وحال أهله من بعض المؤرخين المعاصرين الذين شكّكوا في بعض الأمور.
قال الشيخ سليمان بن سحمان:
فيا أيها الإخوان جدوا وشمروا لنصرة دين الله بالمال واليد
وبيعوا نفوساً في رضا الله واطلبوا بذاك خلوداً في نعيم مؤبد
وبعض الكتّاب يقسّم السلفية لأقسام ويشرذمها لأنواع؛ فهذه سلفية تقليدية, وتلك جهادية, وثالثة علميّة, ورابعة إصلاحية, وخامسة وسادسة...! وهذا باطل, فالسلفية مدرسة واحدة, ومنهج واحد, واضح المعالم, بيّن القَسَمَات, والسلفية اسم مطابق لمعناه, ومعنى موافق لمبناه, فمن كان على ما كان عليه أهل العلم والدين في القرون المفضلة الثلاثة فهو سلفي.
وليس من السلفية في شيء تكفير المجتمعات الإسلامية أو الأفراد بمجرد الكبائر, أو الافتئات على الولاة, أو إيغار صدور شعوبهم عليهم, أو الخروج عليهم بإطلاق, ولا خفر ذمة المسلمين بالغدر بأهل ذمتهم وعهدهم, وإنهار الدماء المعصومة والأنفس المصونة من أمة الإسلام, أو ممن عاهدوهم علي الأمان والمسالمة.
وليس من السلفية في شيء الخنوع للكفرة والمستشرقين والمستغربين, وإقرار الربا والخنا والتغريب, بداية بالتبرير وانتهاءً بالتبديل. "ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون" (المائدة:80_81). "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"(المائدة: 52).
وليس من السلفية في شيء تصيّد عثرات أهل العلم, وإشاعتها على سبيل التّنقّص والشماتة, واستباحة أعراض أهل السنة بغيبتهم وأخذهم بالظّنّ, واعتساف كلامهم, والتحزّب لذات التحزّب, أوالتحزّب هرباً من التحزّب "هو سمّاكم المسلمين" (الحج: 78) والبذاء والإقذاع في الإنكار كيف وذلك على أمور يسوغ فيها الخلاف؟! _ولا يعني هذا ترك الرد على الغلط والخطأ, بل ولا بأس من التسمية إن دعت الحاجة, وسبيل السلف الرد والاحتساب فيه مع ضوابطه المعتبرة_.
أفاطمُ ماللنبع قد أجّ ماؤه وقد كان قبل اليوم عذباً وصافيا
وليس من السلفية في شيء التفريط في حقوق شهادة أن لا إله إلا الله, فيُخرجُ منها أهلها, ويُغفل عظيم حقها وحق أهلها. ولا التفريط في حقوق شهادة أن محمداً رسول الله, فيميّع السنة, ويدخل فيها من وما ليس منها.
وليس من السلفيّة في شيء تطويع أدلة الوحي لهوى السّاسة والسلاطين, وليس من السلفية في شيء تمييع الدين القويم, وتلويث المنهج النقي أو تبديله إما لرغبة حاكم أو حزب أو جمهور, كما قال السفيانان رحمهما الله: "من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كلّه"(13).
أيا مبتغي الفردوس عجّل بصارمٍ وكن صادق الإقبال عند التلاقيا
عن تحي عشت العزّ في كل لحظة وإن كانت الأخرى ستلقى المراقيا
واعلم أن هذا الدين محارب من زنادقة دخلوه ليهدموه وينقضوا أساساته وأعمدته ويُبدّلوا مادته من الداخل, ولا زال لهم أفراخ تقتات على لوثات مصنفاتهم الخبيثة, وتقيئها في نوادي الفكر, ومجالس الحوار, ونشرات الثقافة, وقنوات الأثير! وقد فرّخ بعض بيضهم, فبعض الناس أضلته شبهاتهم وتخطّفت قلبه لمّا أعرض عن تعظيم الآثار, وكفى بالخذلان عقوبة, وممن كان له دور في إثارة الشبه وإضلال الأمة:
إبراهيم النظام؛ وهو مزدكي زنديق, على ما قاله العلماء, تظاهر بالإسلام, وتلبس الاعتزال, وبث شبهه بين الناس. ومنهم عدوّ الإسلام المتسمي به ابن الراوندي الذي ألف لليهود كتاباً أسماه الدامغ, يزعم أنه يرد به على القرآن العظيم, أخزاه الله.
ومنهم غيلان الدمشقي, القدري, ويقال: إنه قد أخذ عقيدته من يوحنا أو سوسن الدمشقيين النصرانيين, وهو الذي ناظره الإمام الأوزاعي, ثم أفتى بقتله, فقتله هشام بن عبدالملك.
ومنهم معبد الجهني, وهو أوّل من قال بنفي القدر, وهو الذي توعده ابن عباس رضي الله عنهما أن لو قبض عليه _بعد ما عمي_ أن يعضّ أنفه حتى يقطعه, وأن يدق عنقه, غضباً لله تعالى. وقد قتله الحجاج بن يوسف عام 128.
ومنهم الجعد بن درهم, وهو أول من أظهر القول بخلق القرآن, وقد أخذ هذه العقيدة الضالة من اليهود, ويقال: إنه قد أخذ قالته من أبان بن سمعان, الذي أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وختنه, الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما أنتنها من سلسلة ضلال! وأقبِح به من سند كفر, وقد قتله خالد القسري _قصّاب الزنادقة_ عام 128 بناء على فتاوى العلماء.
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قـربان
وهو مؤدب آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد الذي لقب بالجعدي.
وكان من تلاميذ الجعدِ الجهمُ بن صفوان إمام نفاة الصفات, وهو جبريٌّ في القدر.
عجبت لمن يدعو الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقد قتله سلم بن أحوز رحمه الله بناء على فتاوى العلماء.
من تلاميذ الجهم أحمد بن أبي دؤاد رأس فتنة القول بخلق القرآن. ومن تلاميذ الجهم بن صفوان بشر المرّيسي؛ وهو يهودي ابن يهودي دخل نفاقاً بشهادة أمِّه؛ حيث قالت: ما دخل دينكم إلا ليفسده, وهو جهمي في الصفات, قدري في القدر, وكان ينكر العلم, وهو الذي ناظره عبدالعزيز الكناني, ورد عليه الإمام الدارمي.
ومنهم محمد بن الحسن النصيري, مدّعي الألوهية, من زعماء النصيرية في جبال اللاذقية، كان يلقب بالمهدي تارة، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض، خرج بالنصيرية فدخلوا جبلة فقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وأمر أصحابه بهدم المساجد، واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن يأسرونه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت، حتى يحقن دمك، فجرّدت إليهم العساكر، فقتل منهم جمع كبير، ونامت فتنتهم.
ومنهم ابن سينا فيلسوف الزنادقة قال ابن القيم عنه: كان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمعيد ولا معاد، ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.
ومنهم النصير الطوسي ولهذا الخبيث مصنفات, قال عنه ابن القيم :ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر المُلْحد وزير الملاحدة: النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين، والطبائعيين والسحرة.
ولا زالت عقائد أولئك الفجرة تُتداول في بعض الهيئات العلمية والجامعات الإسلامية على أنها فكر حرّ مستنير من أئمة كبار للمسلمين! هذا وللأسف فبعض متأخري الصّوفية قد أدركتهم موجات كفر وإلحاد, فصار منهم حلولية _يرون حلول الخالق في المخلوق!_ على عقيدة والحلاج وأتباعه القائل: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...! وما في الجبة إلا الله! وسبحاني سبحاني! واتحادية_يرون الخلق مظاهر للخالق!_ على عقيدة ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وابن الفارض, قال ابن عربي: من عبد الصنم فقد عبد الصمد! وقال أحد المريدين لشيخ ضلالة يؤصل لهم مذهب الاتحادية ويقرره في نفوسهم: يا شيخ أردت أن أقضي حاجتي فتذكرت قولك: إن الأرض وكل شيء هو الله! فكيف أصنع؟ فقال ذلك الإبليسي الزنديق: وربك أيش إذاً!! الكلّ ربك!!. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً, وسبحان الله عما يصفون, والآخر يقول مقرراً ومؤصلاً في نفوس الأغرار شرك الربوبية والألوهية معاً: لا يدخل مصر حبة شعير واحدة إلا بإذن السيد البدوي!. وفي قرة العيون للشيخ عبدالرحمن بن حسن: "وأعظم آلهة القبوريين في مصر أحمد البدوي".
وينبغي التنبّه الى اختراق المتصوفة من قبل بعض القبوريين, الذين جعلوهم يتبنّون خرافاتهم وشركياتهم؛ كخرافة التوسل والوساطة والسرّ ونحو تلك الوثنيات (14).
قال العلامة صالح آل الشيخ في كتابه (هذه مفاهيمنا): "وقد جادلت يوماً
ببلدٍ إفريقي أحد المفتونين من كبار العلماء المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها في حالهم، ومعنى العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق ولكن(سيب) الناس تعيش!".
وللعلم فليس كل المتصوفة يقولون بذلك الكفر, بل هو عند فئة قليلة نسبة إلى جمهورهم الذي يبرأ إلى الله من هذه الأمور, وبعض هؤلاء يحسن الظن ببعض الزنادقة وأئمة الضلال وهو لا يعلم حقيقة مقالاتهم الفاجرة. فمن المتصوفة أهل علم ودين وورع وفضل, انتسبوا جهلاً لطريقة دون سبيل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم, التي اجتمع فيها كل الخير بحذافيره, ومنهم زنادقة كفرة, أخبث من نطفة إبليس, وأكفر من اليهود والنصارى, وبين هؤلاء وأولئك طوائف.
ذكرت ذلك إيقاظاً لبعض من أحسن الظن بمن لا يستحقه, وليُحذر من تلك المذاهب الخبيثة والنحل الرديئة, وليعلم المحب أن دين الفلاسفة والزنادقة والباطنية والقبورية والحلولية والاتحادية مباين لدين المرسلين, ومزايل لملة محمد وإبراهيم عليهم الصلاة والتسليم, ومناقض لدين المسلمين, وأن بعض من ينتسب إلى الإسلام قد تشرب ذلك الضلال والوثنية, ولقد قابلت بعضاً منهم وصرّحوا بذلك, فما أعظم واجب أهل الحق, وأخطر مسؤوليتهم, وأكبر أمانتهم في كشف الباطل وبيان الحق.
وبالجملة فلا بد من البيان والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, والجدال بالتي هي أحسن, ونشر التوحيد, والتحذير من ضده, بكل طريقة ممكنة, لرفع الجهل عن الأمة, ونشر إرث النبوة فيها.
ولسان حال بعض الغيورين على ثوابت الإسلام ومحكمات الإيمان والقرآن:
كم من هموم أحرقت كبدي التي بـجوانـحي لكنن أتجلدُ
أواه قلبي لا تبح سري الذي أكنـنته قلباً حـزيناً يكمدُ
لكنما اللوعات حين أوارها تجثوا على القلب القوي فيهمدُ
تتهشّم الأضلاع من رجع الصدى من أنّة مكـلومة تتردّدُ
يا مقلتي ما عدت أقوى صابراً جودي ببحر زاخر يتمددُ
بحر خضم سخّنت أمواجه من نار كبدي والضلوع تقددُ
لكن نقول: دع البكاء على الأطلال والدِّمَنِ....وأصلح نفسك وثنِّ بمن حولك وأتبعهم بمن تطيق من عباد الله (15).
أبشر أخا الإسلام فالنصر قادم وإن أجلب الكفار كل النواديا
تلك مهمات المقال وهذا أوان الشروع في التفصيل, على قلة البضاعة, ولكن من باب المشاركة في نقل كلام أهل العلم والله من وراء القصد, وهو الموفق, وعليه التكلان.
وعناصره على النحو التالي:
1-المقدمة.
2_عظمة التوحيد, وخطر الشرك.
3-تعظيم السنة, وذم البدعة.
4_الأمر بالاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة.
5_جادة علماء السنة واحدة.
6_الوسطية دين المسلمين.
7_خطر التكفير بغير حق, وخبث مذهب الخوارج.
8_براءة الدعوة السلفية من التكفير بغير حق.
9_لزوم بيعة السلطان المسلم, وتحريم الخروج عليه.
10_خطر القول بعدم تكفير المعيّن بإطلاق, وخبث مذهب المرجئة.
11_الولاء والبراء, شرط الإيمان.
12_براءة الدعوة السلفية من عدم تكفير المعيّن بإطلاق.
13_مسألة العذر بالجهل في أمور الشرك الأكبر.
14_شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
15_الخاتمة.


إبراهيم بن عبدالرحمن الدميجي
16/ 2/ 1433
@aldumaiji


لإكمال قراءة المقال؛ فضلاً اتبع الرابط: مدونة إبراهيم الدميجي.

http://aldumaiji.blogspot.com/