تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : {{ مَشْهدُ الودَاعِ الأخِير . }}



أهــل الحـديث
08-01-2012, 06:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



مَشْهدُ الودَاعِ الأَخيرِ
- رَحمِكَ اللهُ - يا شَيخِي .

والله إنّ القلبَ ليعتَصرُ ألمًا ، وإنّ في النّفسِ لَحشْرجةٌ تمنعُ الكلامَ عن اللسانِ ، وإنّ العينَ لتبكي دموعًا حارّةً تشهدُ عليها الورقةُ التي أخطُّ عليها حروفي هذه ، آهٍ أيُّها القلمُ كيفَ تستطيعُ أنْ تتحمّلَ ما يجدُ صاحبُك ؟؟؟!!!!

تبدأ فصولُ الحكايةِ لمّا كنتُ في العاشرةِ من العمرِ رأيتُ أناسًا حولَ شيخٍ مهيبٍ ذي لحيةٍ بيضاءَ ربعة الطولِ ، ذي وجهٍ أبيضَ ، يتحلّقونَ حوله عند المنبرِ يرتلونَ آيات القرآن الكريم ، وهو يصححُّ لهم القراءة ، اقتربتُ منهم وجلستُ معهم عند ذلك الشيخ .

قال لي : هل أنتَ جديد ؟ .
قلتُ : نعم .
قال : اقرأ .
قلتُ : أنا جديد ، من أينَ أقرأ ، وكان معي في يدي مصحف المدينة .
قال : اقرأ الفاتحة غيبًا ، ثمّ أرجع المصحف الذي معكَ وأحضرْ جزءَ عمّ ، فهذا المصحف الذي معكَ كبيرٌ عليكَ ، أحضرتُ ما قالهُ لي وبدأتُ أقرأ من سورة النّاس ، وقرأتُ إلى أن وصلتُ إلى سورة الفيل .
قال لي : حسبك .
فما كان منّي إلا أن قمتُ من الحلقةِ عائدًا إلى بيتي مستعجلًا حتى أخبرَ أمّي بهذا الخبرِ ، فنادى عليَّ بصوتٍ عالٍ وفيه شدّة ووجهه مكفهرٌ وتكلمَ :
قال : ألا تعلمُ آداب الحلقةِ من الجلوس والقيام منها أيها الولد ؟؟!!! .
لم أكن أدري ما أجيبه قلتُ له : أنا جديد لا أعرف .
قال : تعالَ عندي ، واقعد ثمّ قال اسمعْ أيها الولد ما أقولُ وإياك أن تعيديها .
(( إذا أتيتَ إلى الحلقةِ فقل قبلَ أن تجلسَ : هل تسمحَ لي بالجلوسِ ، وإذا أردتَ الانصرافَ فارفع يدكَ وقل : هل تسمحُ لي أن أنصرفَ )) سمعتَ كلامي وإيّاك أن تعودَ لما فعلتَ هذا اليوم ، (( بعدين بصير كلام ثاني )) يقصدُ الضرب .

كانَ ذلكَ اليومُ هو أولُّ يومٍ لي في حلقة الدّرسِ في بيت من بيوت اللهِ ، وكانت تلكَ القراءة هي الأولى أيضًا من كتابِ الله ، وكان ذلكَ أولّ أدبٍ من الآداب أتعلمهُ في حياتي ولا زال يطرقُ فكري إلى وقت رقمِ هذه الكلمات (( ويكأنّهُ الساعة )) ، كانت السعادةُ تملأ عليّ قلبي ، رجعتُ إلى بيتي فرحًا مسرورًا ، وقلتُ لأمّي أني قرأتُ اليومَ عند إمام المسجد ، وقلتُ لها أن تعطيني المصحف ، وفتحتُ على سورةِ البقرةِ وبدأتُ أقرأ منها ، شعرتُ بغبطة عظيمة وبلغَ مني الفرح مبلغهُ .

مضت الأيامُ تلو الأخرى وأصبحَ عندي أصحاب في المسجد ، وزاد تقديري لشيخي وختمتُ عنده كتاب الله مرتين ، وكنّا نتنافسُ في أينا ينهي ربعه قبلَ الآخر ، ويسجله على الدفتر فقد كان لشيخي دفتر يسجلُ فيه كل من قرأ عنده ، ( لمتابعة الحفظ )، كبرتُ وكبر شيخي أيضًا ، وبلغ منه الهرم ، واجتاجتهُ الأمراض من كلّ مكان .

قبلَ أيام ....
صلّيتُ الفجر وعدتُ إلى المنزلِ ، وفي الصّباحِ هاتفي يطلقُ صوته ، فإذ به أخٌ لي في الله يقولُ : شيخ ....
الشيخ خليل مات .
الله أكبر ...
لا إله إلا الله .
إنّا لله .
لم أتمالك نفسي من البكاء ، غمرني كشلال هادر ، شعرتُ أنّ الدّنيا تدور من حولي .
شيخي مات .
شيخي مات .
إنّا لله وإنا إليه راجعونَ .
إنّا لله .

ذهبتُ إلى عملي وعدتُ باكرًا منهُ ، وانطلقتُ مسرعًا إلى مسجدنا وكانت الساعة العاشرة صباحًا ، ها هو أحدهم يقولُ لآخر : الشيخ خليل يغسلونه الآن وبعد قليل سيأتونَ به إلى المسجد .. ها هم وصلوا وعلى أكتافهم شيخي ولم أكن تلميذه الوحيد بل له من التلاميذ الكثير الكثير الكثير ، فهو من 1974 م في مسجدنا وقبل ذلك في مناطق أخرى ، في الخليل والظاهرية وغيرهما من المدن .

مسجّى ...
نعم مسجّى ...
شيخكَ أبا سُليمان مسجّى في زاوية المسجدِ يرقدُ ...
آهٍ ... آهٍ ... آهٍ .

كشفوا الكفن عن وجهه ليقبّلوه ، مشيتُ والخطوات متثاقلةٌ أجرّ قدميّ جرًّا ، اقتربتُ منه قليلا فقليلا ، قبّلتُ رأسهُ ووجههُ ، ولم أستطع حينها سوى ..................

وإنّ المصاب لأليمٌ ، وفي القلبِ غصةٌ عظيمةٌ تركت وفاة شيخي فيه أثرًا كبيرًا ، انطلقنا إلى المقبرةِ وهم الآن يوارونه التراب وحيدًا ، كان دائمًا كلّما شاهد ( حمّالة الموتى ) يشيرُ إليها ويقولُ لي هذه الكلمات على لسانها :

أيُّها الإنسانُ اسمعني بقلبكَ أنا الموّكل بحملك .

كان يوم الخميس في حيّنا عبارة عن عطلة لم يذهب أحدٌ إلى عملهِ ذلك اليوم ، والذي ذهبَ عاد باكرًا ، الكلّ يريدُ أن يلقيَ مشهدَ الوداع الأخير على شيخ إمام مسجدنا ، فالكلّ كان يحبّه .

أيّها الأخوة الأعزاء :
تذكرتُ بعد الدفن ( مع فارق القياس ) قولَ فاطمةَ لأنس : (( يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه آله وصحبهِ وسلّم التراب )) ، وكيف مات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وكيف مات الأئمة من بعدهم . وكيف كان وقع مصيبة الموت عليهم .

كيف كان وقعُ المصيبةِ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه آله وصحبهِ وسلّم لما دفنوا رسولنا ؟
كيف كان تلاميذ الأئمة يستقبلونَ خبرَ مفارقة شيوخهم الدنيا ، وكيف قضوا ليلتهم تلك ؟؟؟!!!!!

كانت تلكَ الليلةُ أوّل ليلة يغيبُ فيها شيخي عن الحياة ، وقد أجلسهُ المرضُ عن القيام طويلا .

هذا هو مشهد الوداع الأخيرِ لشيخي وهو مسجّى في مسجده .
رحمكَ الله يا من علمّتني كتاب ربّنا .
رحمك الله .
رحمك الله رحمةً واسعة .
وانتهت فصول حكايةِ إنسان قدّم لدين الله ، تُرى كيف هي نهايةُ حياتنا ؟؟؟؟؟؟


أبو سُليمانَ الخليليُّ .
كتبتها بعد وفاة الشيخ بأيام لأنني لم أستطع أن أخطّ حرفًا ....