المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مناقشة ابن رجب في بعض مسائل المعاصَرة و الدفاع عن مسلم بن الحجاج



أهــل الحـديث
07-01-2012, 11:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


* ذكر ابن رجب قال: (طرد بعض المتأخرين من الظاهرية و نحوهم هذا الأصل، و قال: كل خبر لا يصرح فيه بالسماع فإنه لا يحكم باتصاله مطلقًا ) ( شرح علل الترمذي: 2/ 587 )
قلت:لم يذكر هؤلاء المتأخرين من الظاهرية فأما مذهب ابن حزم في التدليس فقد جعل المدلِّسين قسمين:
أ* أحدهما: حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده فهذا يجب قبول رواياته سواء قال حدثنا أو أخبرنا أو عن أو قال أو غيرها، إلا ما علمْنا أنه دلَّسهُ بعينه فنترك هذا فقط و لا يضر سائر رواياته شيئًا، كقتادة بن دعامة و الحسن البصري و سفيان الثوري و جعل الدارقطنيُّ معهم مالك بن أنس، قال ابن حزم: و لا يصحُّ ذلك.
ب* و الآخر: من دلَّس عن الضعفاء فأسقطهم و سوَّى الإسناد كلَّهُ ثقات غرورًا لمن يأخذ عنه عمدًا فهذه جُرحة يردُّ بها حديثه سواء صرَّح بالسماع أم لا.
قلتُ: مما يؤيده ما روي عن أبي الوليد الطيالسي: أكان شعبة يفرق بين أخبرني و عن؟ فقال: أدركتُ العلماء و هم لا يفرقون بينهما.اهـ
و هذا نص قوي في تأييد ما ذهب إليه ابن حزم، غير أن أبا بكر البيهقي الحافظ تأوَّل عبارة الطيالسي فيمن لم يعرف بالتدليس، و هو تأويل بعيد جدًّا.
و قد صحَّ عن الإمام أبي جعفر الطبري أنه يأخذ بهذا القول، و حدثنا أبو أسامة الجزائري - بغردايةَ - عن مقبل بن هادي الوادعي أنه رجع إليه في آخر حياته - رحمه الله -.
* عزا ابن رجب اشتراط اللقيِّ-أي: العلم باللقاء بين الراويين مرة على الأقل - عزاه إلى جمهور المتقدمين! و هو مذهب علي ابن المديني و البخاري رحمهما الله، و استدلَّ لذلك بأن الأيمة قالوا: إن الأعمش رأى أنسًا و لم يسمعْ منه فرواياته عنه مرسلة.
قلت: هذا غريبٌ منه رحمه الله، فإن الأعمش قد عُلم أنه لم يسمعْ من أنس فكلُّ ما روى عنه فمنقطع لأنه لا بدَّ من ساقطٍ بينهما على الأقل، أما من عاصر الشيخ و لم يعلم أنه لقيه و لا تُيُقِّنَ أنه لم يلقه و كان عدلاً فواجب قبول خبره لأن العدالة تقتضي ذلك ، و إلا كان تناقُضًا بيِّنًا، والله أعلم.
ثم قال ابن رجب: ( و الرؤية أبلغ من إمكان اللقيِّ) ، قلت: هو كذلك، و لكنك تركتَ مقدمة أخرى فحصلت النتيجة خاطئةً، و المقدمة المتروكة هي كون الأيمة علموا عدم سماعه لا مجرد أنهم جهلوا ملاقاته للشيخ - و إن عاصره و إن رآه كحال الأعمش مع أنس - فعلمُهُم بعدم سماعه أبلغ من إمكان اللقيِّ، و اليقين الحاصلُ به موجبٌ لردِّ خبره كما سبق.
و مثَّل أيضًا بطارق بن شهاب الصحابي بأنه لم يصحَّ سماعه من النبي صلى الله عليه و سلم، و الصحيح أنه ثبت له السماع من النبي عليه السلام في قصة الأحمسيين و رجحه الحافظ ابن حجر في الإصابة، و الله أعلم.
قلت: ينبغي التنبيه حتى لا تختلط الأمور على الناظر، فإن الناقد يقول ( لم يسمع فلان من فلان و إنما رآه ) فهذا شيء، و قوله ( لا أعلم له سماعا من فلان ) فهذا شيء آخر، فالعبارة الأولى تدلُّ على علمه بالانقطاع بينهما، لأن إثبات الرؤية لا يوجب الاتصال، و هذا بديهة في الخبر المسموع - حاشا ما كان نقلاً للفعل المحض فيحتمل - و أما العبارة الأخرى فلا تفيد العلم بالانقطاع و إنما غاية ما فيها أن الناقد لم يجد لهذا الراوي تصريحًا بالسماع بل وجد له ألفاظًا محتملة كـ(عن، قال، ...)
و قد صحَّ بحمد الله أن العدل المعاصر فخبرُهُ على السماع و الاتصال حتى يثبت لنا خلافه، و الله الموفق.
* مسألة: قال ابن رجب: ( فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحيانا و لم يثبت له لقيُّهُ له ثم يدخل أحيانا بينه و بينه واسطةً فهذا يستدلُّ به هؤلاء الأيمة على عدم السماع منه )اهـ (2/ 593 )
ثم قال في بيان مذهب هؤلاء: ( ..و كلام أحمد و أبي زرعة و أبي حاتم في هذا المعنى كثيرٌ جدًّا، و كله يدور على أن مجرد ثبوت الرواية لا يكفي في ثبوت السماع و أن السماع لا يثبته غير التصريح به و أن رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة و تارة بغير واسطة يدل على أنه لم يسمع منه إلا أن يثبت له السماع من وجه، و كذلك رواية من هو ببلد عمن هو ببلد آخر و لم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه )اهـ (2/ 595-596بتصرف طفيف )
قلتُ: قد ذكر في هذه الفقرة قواعد متنوعة أرتبها كما يلي:
1- مجرد ثبوت الرواية لا يكفي في ثبوت السماع
2- السماع لا يثبته غير التصريح به
3- رواية العصريِّ بواسطة و بغيرها عن شيخ ما تدلُّ على الانقطاع ما لم يصرح بالسماع
4- رواية غير البلديِّ تدل أيضًا على الانقطاع ما لم يثبت اجتماعهما.
أما الأولى (1) فصحيحةٌ، لأن الثقة قد يرسل الأخبار عمن هو أقدم منه بطبقات، و قد صنعه الأيمة رحمهم الله في كل عصر و مصر، و له أسبابٌ كحال المذاكرة و الفتوى و الكسل و نحوها.
أما أن السماع لا يثبته غير التصريح به و هي القاعدة رقم (2) فهذا خطأٌ، لأنه تضييقٌ بغير حق، فهو منافٍ لتعديل الرواة و الثقة بهم، و الأصل أن الثقة لا يروي عن العصريِّ إلا ما سمعه منه مباشرةً لأن عدالته تمنعُهُ من إيهام سامعه و التدليس عليه حتى يأمن من أنَّ سامعه قد عرف عدم سماعه من شيخه حديثًا بعينه، فبيقين نصحح سماع الثقات عمَّن عاصروهم و لو لم يصرحوا به وقتًا ما.
و أما زيادة الواسطة تارةً و تركُها تارة أخرى - القاعدة (3) - فإن كان في حديث واحدٍ فقد يغلب في الظن أنه إسقاطٌ لها و أن الراوي لم يسمعه من شيخه، و لكن لا نجزمُ بهذا بل نُجرِي هذه الصورة على الأصل الأوَّل، و هو: الوثوق و الاطمئنان إلى نقلة الشريعة الأبرار، و أمَّا إن كانت في أحاديث متفرقة كأن يروي الليث بن سعد عن الزهري أحيانا طائفة من الأخبار، ثم يروي عن يونس بن عبيد عن الزهري أو عن عقيل بن خالد عنه أحاديث أخرى، فمن ظنَّ أنه لم يسمع منه مطلقًا فظنٌّ بعيدٌ جدًّا، و يحرم في الشريعة ترك اليقين لأيِّ ظنٍّ مهما غلب فكيف بهذا؟!!
و بعد أن ذكر ابن رجب كلام هؤلاء الأيمة الثلاثة - ابن حنبل و الرازيَّيْنِ - و نحوهم، شرع يردُّ على مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح في قوله: إن الثقة غير المدلس المعاصر يصحَّحُ حديثُهُ و لو لم نعلم أنه التقى بشيخه، و ردِّهِ - أعني مسلمًا - على من اشترط العلم باللقاء - كالبخاري رحمه الله -، فقد حاول ابن رجب أن يثبت الإجماع (!) على نقض قول مسلم، و أن قول هؤلاء الأيمة يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتدِّ بهم على مذهب البخاري الذي هو العلم بالملاقاة و لو مرةً واحدةً، بل و وُرود السماع و لو مرةً واحدةً !!
قلتُ: أما دعوى الإجماع استدلالاً من قول ثلاثة أيمة أو خمسة أو عشرة أو عشرين، فدعوى مرغوبٌ عنها و يحرُمُ الأخذُ بها، لأنه لا إجماع إلا حتى يسمع كلَّ حافظ من شرق الأرض إلى غربها أو يقرأه عن كل واحد منهم بحيث لا يستثني واحدًا منهم، و من ادَّعى هذا فقد أبطل، ثمَّ إن صحَّ له ملاقاة حفَّاظ الأرض كلهم فكيف يصنع بخلاف مسلم بن الحجاج؟ أو ليس حافظًا؟!!!
ثمَّ ضيَّق على نفسه ابنُ رجبٍ - رحمه الله بواسع رحمته - حين ألزم نفسَهُ إلزامًا صحيحًا و أجاب جوابًا ضعيفًا فقال ( فإن قال قائلٌ: هذا يلزم منه طرحُ أكثر الأحاديث و تركُ الاحتجاج بها، قيل: الصواب أن ما لم يرد فيه السماعُ من الأسانيد لا يُحكَمُ باتِّصاله و يُحتجُّ به مع إمكان اللُّقيِّ، كما يُحتجُّ بمرسل أكابر التابعين ) اهـ (2/ 597 بتصرف )
قلت: غفر الله لابن رجب،فقد حجَّر واسعا، و ذلك أنه رجع بالأحاديث الصحاح الغالب على الظن - عنده - صحَّتُها إلى المراسيل التي عَلِمَ يقينًا انقطاعَهَا ، إذْ قد يكون الساقطُ منافقًا أو كذَّابًا - و قد كان في الزمن الشريف زمن النبوَّة منافقون - فهل في المذاهب أشدُّ ضَعْفًا من مذهبٍ يورِّطُك في المضايق؟!
و الأعجبُ من ذلك كلِّهِ قولُهُ ( لا يُحكم باتصاله و يحتج به مع إمكان اللقي ) !!! أي: أنه منقطعٌ صحيحٌ - و الصحيح عندهم ما اتصل إسنادُهُ ...إلخ - فهذا يعني أنه منقطع متَّصلٌ !!!
ثم قوله ( كما يُحتجُّ بمرسل أكابر التابعين )، قلت: هذا ليس اتفاقًا، و فيه خلافٌ معروفٌ.
- ثُمَّ ألزم مسلمًا إلزامينِ:
أ- أحدهما: أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبي صلى الله عليه و سلم ، قلت: يعني به الصحابيَّ العدلَ الموثَّقَ المرضيَّ عنه من السماء، فحديثه- و ربِّ الكعبـــة - متصل لا يشكُّ فيه من أنصف و تجرَّد للحق.
ب- و الإلزام الآخَــــرُ: الحكم باتِّصال حديث كلِّ من عاصر النبيَّ صلى الله عليه و سلم إذا روى عنه شيئًا و لم يثبتْ سماعُهُ منه!
قلتُ: يعني بهم كبارَ التابعين كعَبيدةَ السَّلْمانيِّ - رضي الله عنهم و رحمهم الله - و هذا تمويهٌ ضعيفٌ لو سمعه أبو الحسين ما ردَّ عليه لانكشافه، و ذلك أنَّنا علمْنا بالإجماع أنَّ هؤلاء تابعون لم يلتقُوا بالنبي - عليه السلام - و لو دقيقةً فأقلَّ، إذْ لو التقى أحدهم بالرسول صلى الله عليه و سلم لكان صحابيًّا صحيح الصحبة، فمادام أنه لم يلقه بالإجماع فحديثُهُ منقطعٌ بيقينٍ و هو ضعيفٌ، على أن ابن رجب نفسَه يحتج بمرسل كبار التابعين كما سبق!
ثُمَّ إنَّ مسلمًا مذهبُهُ تصحيح حديث المعاصر حيث لم يعلم أنه لقيه و لم يعلم أنه لم يلقه، و إنما هما متعاصران فقط، أمَّا إنْ عَلِمَ مسلمٌ أنَّهُ لم يَلْقَــَهُ أصلاً فهذا يحكم عليه بالإرسال و الانقطاع بل و يضعفه كل عالم بالحديث، صحَّ أنَّ إلزام ابن رجب لابن الحجاج لا يثبُتُ بوجهٍ، و الحمدُ لله رب العالمين.