تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد.



أهــل الحـديث
04-01-2012, 02:10 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد.

الكلام علىتقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد يدور على النقاط التالية :
الأولى : أن تقسيمالأخبار من جهة نقلها إلى آحاد ومتواتر وغير ذلك هو أمر واقعي.
الثانية : أنتفاوت الأخبار في إفادتها للعلم، قضية بدهية.
الثالثة : تحرير محل نسبة أهلالعلم هذا التقسيم إلى علوم اليونان.
الرابعة : بيان أنه لا لوم على ابن الصلاحومن بعده في ذكر المتواتر ضمن علم الحديث.
الخامسة : بيان خطورة مبحث إفادة حديثالآحاد للعلم.
وإليك البيان :
الأولى
إن تقسيم الأخبار من جهة نقلها إلىآحاد ومتواتر وغير ذلك هو أمر واقعي لا يمكن إنكاره.
هناك من الأحاديث ما جاء منطريق واحد ، ومنها ما جاء من طريقين، ومنها ما جاء من ثلاثة طرق، ومنها ما جاء منطرق كثيرة؛ وهذا أمر واقعي يعلمه كل ممارس لهذا العلم الشريف! بل حتى في حياتنااليومية هناك أخبار تأتي من جهة واحدة، وهناك ما يأتي من أكثر من جهة!
إذا هذاأمر واقعي ينبغي أن لا يكون محل اختلاف!
من أين جاء الاختلاف ؟
جاء الاختلاففي اشتراط صفة وهيئة معينة للنقل، فمن زعم أن من الأخبار ما يأت عن جمع من الصحابة،ويرويه عن كل صحابي تابعيان، ويرويه عن كل تابعي اثنان، وهكذا عن كل واحد منهمايرويه اثنان، إلى أن يصل إلينا على هذه الصفة؛ أقول: من اشترط هذا الوصف ينكر عليه،ويقال له: لا وجود لحديث بهذا الوصف من جهة النقل. فإذا كان هذا هو المتواتر عندكفإننا نقول بناء على كلامك : كل الأحاديث آحاد؛ لأن هذا الوضع لا يوجد في نقل حديثأصلاً.
ومن باب أولى من اشترط في صفة المتواتر من جهة النقل: أن يرويه عن كلصحابي جمع من التابعين، وكذا عن كل واحد من التابعين جمع ممن بعدهم؛ فهذا لا وجودله، فإذا كان هذا هو المتواتر فإن الأخبار كلها آحاد!
هذا محل الإنكار والاختلاففي قضية تقسيم الأخبار من جهة نقلها إلى آحاد ومتواتر.
المقصود : أن تعدد طرقبعض الأحاديث على صفة العموم بدون هذه القيود والأوصاف موجود، فإن من الأحاديث مايأتي من طريق ومنها ما يأتي من طريقين ، ومنها ما يأتي من طرق كثيرة، بحيث يجتمع فيكل طبقة من الطبقات ما يحصل به تلقي جمع عن جمع على صفة العموم لا على صفة أخذ كلواحد منهم بخصوصه عن كل واحد على وجه مخصوص.
هذا أمر واقعي محسوس، إنكاره ومنعهإنكار لواقع محسوس، كمن يقول: لا وجود للشمس!
وليعلم أن نفي المتواتر الذي عناهأبو حاتم محمد بن حبان البستي()، و الحازمي() رحمهما الله، في نفيهما وجود أو تعذروجود المتواتر في الحديث، وأن الأحاديث كلها آحاد؛ تسلط على هذه الهيئة المخصوصةللمتواتر.
والذي عناه أهل العلم بالمتواتر هو وجوده بغير هذه الصفة التي يذكرهاالأصوليون بالعدد المعين في كل راوٍ!
والأمر لا يحتاج إلى كـثير كلام أو تشغيب،إنما يحتاج إلى إحسان ظن بأهل العلم، وحمل لكلامهم على الوجه اللائق بهم رحمهمالله!
وقد ألمح إلى هذا ابن الصلاح (ت643هـ) رحمه الله حيث قال: "ومن المشهور: المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعربمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب (ت463هـ) قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنهاتبع فيه غير أهل الحديث؛ ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد فيرواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، و لا بد فيإسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه ومن سئل إبراز مثال لذلكفيما يروى من الحديث أعياه تطلبه، ...، نعم حديث: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأمقعده من النار" نراه مثالاً لذلك"اهـ().
ولتعلم ـ وفقك الله ـ أن المحدث قديثبت له تواتر الحديث بالنظر إلى أفراد طرق الحديث، فهو يقف للحديث على طريق أوطريقين أو ثلاثة، فيحكم عليها بما يناسبها، ثم يقف على طريق آخر، وطريق آخر، فيقوملديه العلم بثبوت هذا الحديث، إما لكثرة الطرق، أو لصفة الناقلين، ونحو ذلك، وهكذاحتى ينشأ لديه علم نظري بتواتر هذا الحديث، فيصح بهذا الاعتبار أن الحديث المتواترمن مباحث هذا العلم!
وقد أشار الشاطبي رحمه الله إلى أن التأنق في استخراجالحديث من طرق كثيرة على قصد طلب تواتره؛ من صلب العلم لا منالملح!().
الثانية
تفاوت الأخبار في إفادتها للعلم قضية بدهية.
إذا نزلتبمنطقة لأول مرة، ولم تعلم مطلقاً ما فيها، وجاء من يسألك هل يوجد خلف هذا الجبلنهر؟ فإنك تقول: لا أدري، يمكن أن يكون خلف الجبل نهر، ويمكن أن لا يوجد خلف الجبلنهر، فأنا خالي الذهن، والقضية عندي لا أنفيها و لا أثبتها.
فإن جاء شخص وأخبركأن خلف هذا الجبل نهر، ووثقت به، فإن علمك بوجود نهر خلف الجبل، بعد خبر هذاالمخبر، ليس كحاله قبل مجيء هذا الخبر.
فإن جاء شخص آخر ، وأخبرك أن خلف الجبلنهر، وهكذا جاء آخر و آخر، وآخر، يخبرك بأن خلف الجبل نهر فإن علمك بوجود النهر خلفالجبل يزيد ويتأكد أكثر مما حصل بخبر الرجل بوجوده في أول الأمر.
فإذا صعدت فوقالجبل ورأيت النهر فإن علمك بوجود النهر خلف الجبل، ليس كحاله بخبرالمخبرين.
فإذا نزلت من الجبل واغترفت غرفة من النهر وشربت منه فإن علمك بوجودالنهر ليس كحاله بخبر المخبرين وبالرؤية.
هذا المثال يوضح أن العلم يتفاوت بحسبطرق نقله وحصوله لديك، ومن هنا جاءت مسألة مراتب العلم؛ وبيان ذلك :
مرتبة الشك : وهي الحال التي يتساوى فيها عندك الأمر إثباتاً ونفياً. فأنت لا تثبت و لاتنفي.
مرتبة الظن : وهي الحال التي يترجح فيها عندك جانب على آخر، ترجحاًيسيراً. والمقابل له (الوهم).
مرتبة غلبة الظن : وهي الحال التي يترجح فيها عندكجانب على جانب ترجحاً كثيراً.
مرتبة اليقين (علم اليقين) : وهي الحال التي يترجحفيها عندك جانب على آخر، بحيث لا يبقى للجانب الآخر أي أثر.
مرتبة حقاليقين.
مرتبة عين اليقين.
ومن نافلة القول : أن علمك يتفاوت في جانب كثرةالرجحان أو قلته بحسب حال المخبرين؛ فلو جاءك الخبر عن واحد أو اثنين من أهلالمنطقة ، وهم عندك من الثقات، فإنك تكتسب من العلم ما يقوم عندك مقام نقل جماعةليسوا من أهل المنطقة، وهذه قضية ترجع إلى أوصاف الناقلين، وهي خارج البحث هنا،ولكن فقط أنبه عليها.
فمن ادعى أن إفادة الأخبار للعلم على مرتبة واحدة مهماتعددت طرق نقلها، ومهما تنوعت صفات ناقليها، فقد غالط في هذا الأمرالبدهي!
الثالثة
تحرير محل نسبة أهل العلم هذا التقسيم إلى علوم اليونان وأنهمما لم يأت في كلام السلف.
إذا قيل : ما محل ما نسمعه من أهل العلم من أن تقسيمالأخبار إلى آحاد ومتواتر لم يكن من علوم السلف، وأنه مما دخل إلى الثقافةالإسلامية تأثراً لمناهج المدرسة العقلية اليونانية؟
فالجواب : لم ينكر العلماءرحمهم الله ما تقدم ذكره في النقطتين السابقتين، فهم لم ينكروا تنوع طرق النقلللأخبار، وهذا أمر واقعي عندهم، ولم ينكروا تفاوت الأخبار في إفادتها للعلم، وهذاأمر بدهي عندهم، إنما أنكروا الأمور التالية :
أنكروا حصر إفادة العلم علىالمتواتر، وذلك أن أتباع المدرسة العقلية الذين ساروا على خطى المدرسة اليونانيةحصروا إفادة العلم على المتواتر، فعندهم أن خبر الآحاد يفيد الظن مطلقاً، والمتواتريفيد العلم مطلقاً. أمّا جمهور أهل العلم من أهل المذاهب الأربعة فقالوا: العلم قديستفاد من المتواتر، وقد يستفاد من قرائن أخرى، منها ما يرجع إلى صفات النافلين،ومنها ما يرجع إلى أمور أخرى كإخراج صاحبا الصحيح له أو أحدهما، أو تلقي الأمة لهبالقبول ونحو ذلك.
أنكروا إطلاق القول في أن الآحاد يفيد الظن و لا يفيد القول،فقالوا: قد يقترن بخبر الآحاد ما يجعله يفيد العلم. بل قال أهل الحديث: إذا ثبتالخبر عن رسول الله r أفاد العلم وأوجب العمل.
أنكروا تقسيم أبواب الشرع إلىالعقيدة والأحكام، فجعل أتباع المدرسة العقلية أبواب العقيدة لا تثبت إلا بيقين،وبما أن الأخبار لا يفيد منها العلم إلا المتواتر، فلا تثبت أمور العقيدة إلابالمتواتر، أما حديث الآحاد فهو يفيد الظن مطلقاً، على أي حال أو صفة، فلا محل لهفي أبواب العقيدة، إنما محله في الشرائع والأحكام. هذا التقسيم أنكره أهل السنةوالجماعة، فقالوا تقسيم الأخبار إلى متواتر يفيد العلم وآحاد يفيد الظن، والبناءعلى هذا أن العقيدة لا تثبت إلا بالمتواتر، فالآحاد لا محل له في العقائد، هذا أمرمردود عند السلف وأتباعهم، لأن إفادة العلم ليست محصورة في المتواتر، ولأن هذاالتقسيم لأبواب الشريعة حادث لم يأت من سلف الأمة.
هذا هو محل إنكار العلماءلقضية تقسيم الأخبار إلى آحاد ومتواتر.
الرابعة
بيان أنه لا لوم على ابنالصلاح ومن بعدهم في ذكر المتواتر ضمن كتبهم في علم الحديث.
وجه بعض الناس اللومعلى ابن الصلاح ومن تابعه، وعلى ابن حجر ومن تابعه في ذكرهم للمتواتر في كتبهم فيعلم الحديث (مصطلح الحديث)، والحق أنه لا لوم عليهم للأمور التالية:
أولاً : إنما ذكر المتأخرون المتواتر في علوم الحديث من أجل إيضاح القسمة، لا أنه نوع مستقلمن أنواع علوم الحديث، فهم يذكرونه لما يتكلمون عن هيئة نقل الأسانيد إلينا، فمنهاما ينقل عن طريق الآحاد ومنها ما ينقل عن طريق المتواتر.
ثانياً : وهم لمّايذكرون المتواتر ينصون على أنه ليس من مباحث علوم الحديث، فكيف يلامون على شيءتبرؤوا منه ونصوا على أنه ليس من مباحث الفن؟!
ثالثاً : مجرد إيراد معلومات عنأمر له علاقة بعلم الحديث ليس معناه إدخاله في مباحث هذا العلم، وهذا أمر ظاهر لاأظن أنه محل شك في قبوله! فكيف يجعل مجرد ذكرهم لهذه الأمر أو غيره أنه إدخال فيمباحث العلم ما ليس منه؟!
وإليك عباراتهم التي نصوا فيها أن هذا المبحث ليس منعلوم الحديث:
قال ابن الصلاح (ت643هـ) رحمه الله: "ومن المشهور: المتواتر الذييذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص،وإن كان الحافظ الخطيب (ت463هـ) قد ذكره، ففي كلامه ما يُشعر بأنه اتبع فيه غير أهلالحديث؛ ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه عبارة عنالخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، و لا بد في إسناده من استمرار هذاالشرط في رواته من أوله إلى منتهاه ومن سئل إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديثأعياه تطلبه، ...، نعم حديث: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" نراهمثالاً لذلك"اهـ().
قال الحافظ ابن حجـر (ت852هـ) رحمه الله: "وإنما أبهمت شروطالمتواتر في الأصل (يعني: في متن نخبة الفكر) لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحثعلم الإسناد؛ إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يُترك منحيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله بل يجب العمل به من غيربحث"اهـ().
وطبعاً كل ما جاء بعد ابن الصلاح وعمل كتاباً على كتابه علوم الحديثمشى معه على هذا، وكل من جاء بعد ابن حجر رحمه الله وعمل كتاباً على كتابه مشى علىهذا!
رابعاً : هل في ذكر ابن الصلاح و ابن حجـر للمتواتر عند ذكرهما أقسام الخبرباعتبار وصوله إلينا، مع تنبيههما إلى أنه ليس من مباحث علم الحديث؛ عيب، أو لوم،أو شيء ينسب فيه إلى تغيير مصطلحات القوم؟!
(وهل ذكر المتواتر جرّ إلى مفسدة أومفاسد حتى تثار حوله هذه الضجة؟
لقد جر ذكره إلى خير كثير، ودعم للسنة النبوية،ورد على من زعم ندرة وجود المتواتر في أحاديث الرسول الكريم r أو عدمه.
قال ابنحجر رحمه الله: "فائدة : ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعزوجوده، إلا أن يُدّعى ذلك في حديث : "من كذب علي"، وما أدّعاه من العزة ممنوع، وكذاما أدّعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة اطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجالوصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقاً. ومنأحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورةالمتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً، المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها،إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، إلىآخر الشروط، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورةكثير"اهـ().
فهذا تقرير عظيم يترتب على ذكر ابن حجر للمتواتر.
فلو جره ذكرالمتواتر إلى باطل ونصرته؛ لحق النكير عليه، أما والأمر بالعكس فإن المنكر هوالإنكار والتشنيع عليه)() .


الخامسة
بيان خطورة مبحث إفادة حديثالآحاد للعلم، وأنه المدخل الذي يتسلل منه أهل البدع في تقرير بدعهم ، وترك العملبسنة الرسول r.
السبيل الذي يسلكه أهل البدع في رد السنن هو قضية إفادة حديثالآحاد للظن، فتجدهم جميعاً على كل سبيل بدعة مهما توجهت به، يدندن حول أن أحاديثالآحاد ظنية، لا تفيد إلا الظن.
فالصوفية يقولون : علمكم ميت عن ميت، وعلمنا عنالحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي.
والشيعة يردون أحاديث غير أهل البيت ومنرأوه غير مجروح من الصحابة عندهم.
والمعتزلة ومن تابعهم هذا أصلهم الأصيل، بلعندهم العقل يفيد العلم فإذا عارض الظن قدم العقل على الظن، فهم يردون الحديثبالعقل!
ولو تأملت المصنفات الأولى لأهل العلم لوجدت من أقدم الموضوعات التيتكلموا فيها قضية إفادة حديث الآحاد للعلم، وهذا الشافعي رحمه الله في مباحثالرسالة، تعرض لهذا الموضوع وتكلم فيه ، وكذا أحمد بن حنبل في رده على الجهميةوالزنادقة، وكذا البخاري رحمه الله في صحيحه، تكلم عن هذا الموضوع، فيآخرين.
وهذا جميعه ينئك عن خطورة الموضوع، وأنه ينبغي عدم التهاون فيه.
وقدرأيت كلاماً لابن تيميه يناسب ما نحن فيه، يقرر وجود الحديث المتواتر، ويحرر محلالتعقب فيه على الأصوليين، مع فوائد أخرى، كعادته رحمه الله، فرأيت إيرادهبطوله.
قال ابن تيميه (ت728هـ) رحمه الله:
"لفظ المتواتر يراد به معان؛ إذالمقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمى متواترا إلا ما رواهعدد كثير يكون العلم حاصلا بكثرة عددهم فقط ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضيةأفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية؛ وهذا قول ضعيف!
والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة!
وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم!
وقديحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل العلم بمجموع ذلك!
وقد يحصل العلم بطائفة دونطائفة!
وأيضا فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملا بموجبه يفيدالعلم عند جماهير الخلف والسلف!
وهذا في معنى المتواتر، لكن من الناس من يسميهالمشهور والمستفيض ويقسمون الخبر إلى متواتر ومشهور وخبر واحد!
وإذا كان كذلكفأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديقواجمعوا على صحتها وإجماعهم معصوم من الخطأ كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوممن الخطأ ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة وإن كان مستند أحدهم خبر واحدأو قياس أو عموم فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم وإنكان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ!
ثم هذه الأحاديثالتي اجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض!
وقد يحصل العلمبصدقها لبعضهم لعلمه بصفات المخبرين وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلمكمن سمع خبرا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار وقد كانوا شهدوامنه ما شهد وهم مصدقون له في ذلك وهم مقرون له على ذلك! ... ... ...
وأما عدد مايحصل به التواتر فمن الناس من جعل له عددا محصورا ثم يفرق هؤلاء:
فقيل: أكثر منأربعة.
وقيل : اثنا عشر.
وقيل : أربعون .
وقيل : سبعون.
وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقيل غير ذلك!
وكل هذه الأقوال باطلة لتكافئها فيالدعوى؛
والصحيح الذي عليه الجمهور: أن التواتر ليس له عدد محصور والعلم الحاصلبخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة كما يحصل الشبع عقيب الأكل، والري عند الشرب،وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكونلجودته كاللحم وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضبأو حزن ونحو ذلك؛
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر تارة يكون لكثرة المخبرين. وإذاكثروا فقد يفيد خبرهم العلم وإن كانوا كفارا!
وتارة يكون لدينهم وضبطهم، فربرجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم مالا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهموضبطهم!
وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر معالعلم بأنهما لم يتواطآ وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك مثل من يروى حديثاطويلا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه!
وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنةوالذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمن له مثل ذلك!
وتارةيحصل العلم بالخبر لكونه روى بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم ولم يكذبهأحد منهم فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان كما يمتنع تواطؤهم علىالكذب.
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ علم أن منقيد العلم بعدد معين وسوى بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطا عظيما؛ ولهذا كانالتواتر ينقسم إلى عام وخاص؛ فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة مالم يتواتر عند العامة كسجود السهو ووجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل ورجم الزانيالمحصن وأحاديث الرؤية وعذاب القبر والحوض والشفاعة أمثال ذلك.
وإذا كان الخبرقد تواتر عند قوم دون قوم وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم فمن حصل له العلم بهوجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه كما يجب ذلك في نظائره ومن لم يحصل له العلمبذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته كما على الناس أنيسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم فإن الله عصم هذهالأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم إذ غيرالعالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لايعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله بل على كل من ليسبعالم أن يتبع إجماع أهل العلم"اهـ().
قلت: فإنكار وجود المتواتر خلاف إجماع أهلالعلم، وعلى من أنكره أن يتبع إجماع أهل العلم! نعم أنكر أهل العلم المحققون حصرإفادة العلم على التواتر، كما أنكروا حصر ما يحصل به التواتر بعدد معيّن! وليس معنىهذا إنكارهم وجود المتواتر!


ارجو التقيم ....