المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دوناتا قزي... بولنديّة عاشت النفي السيبيريّ



حواء غرابيل
03-01-2012, 06:30 PM
http://www.al-akhbar.com/system/files/imagecache/250img/p10_20110701_pic1.jpg


لا يعلم كثيرون أن لبنان استقبل جالية بولندية قبل سبعين عاماً، نتيجة للنفي الذي مارسه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية. قد تكون دوناتا كافكا قزي الشخص الوحيد الباقي حياً من تلك الجالية. تروي، بمساعدة ابنها ويومياتها، تفاصيل تلك الأيام


لم تكن دوناتا كافكا قد تجاوزت عامها السادس عشر حين تقاسمت ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي السيطرة على بولندا عام 1939. وحين بدأ ستالين تطبيق مبادئ الشيوعية على قسمه من هذا البلد الأوروبي دهمت فرقه العسكرية بيوت الملّاكين والطبقتين المتوسطة والبورجوازية (عام 1941)، مُعدمةً الرجال ونافيةً سائر أفراد العائلة إلى معتقل سيبيريا الكبير. أُمهلت دوناتا وعائلتها عشر دقائق لحزم الأمتعة وحمل ما تيسّر، فيما اقتيد الوالد إلى مكان مجهول على أن يوافيهم إلى محطة القطار. سمعوا في ما بعد أنه دُفن حيّاً في الثلج وتُرك ليموت مع آلاف غيره. وثّقت دوناتا هذه التفاصيل ودوّنتها على قصاصات من الصحف، لعدم توافر الأوراق حينها.
تكتب عن رحلة الأشهر الستة في قطار مزدحم بالآلاف، حيث الجميع يتضوّرون جوعاً وينامون وقوفاً ويتبرّزون في المكان نفسه. سنتان في المقاطعة الباردة سيبيريا، التي حوّل إليها الاتحاد السوفياتي مئات الآلاف من المعتقلين عبر التاريخ.

بعد إصابتها بمرض فقدان الذاكرة في عامها السادس والثمانين، تعود قسوة تلك الأيام من خلال ردّات فعل لا واعية. ولدى زيارتها في غزير بدت ممتلئة بالحيوية. سألناها ماذا تعرف عن سيبيريا، قالت: «تحت الأرض»، وأعقبتها بـ«أسمع أنّها مكان شديد الصقيع». ثم أجهشت بالبكاء وأحست بالضيق.
أخذ ماريو، ابن دوناتا، عنها الكلام، عازياً هذه الحالة إلى ذعر والدته من وجود عدد كبير من الأشخاص في غرفة واحدة.... «سيبيريا، السجن تحت الأرض، غرفة ضيقة وأشخاص كثيرون».
سنتان قضتهما دوناتا وهي تهتم بإخوتها ووالدتها في الجبال السيبيرية، إلى أن حصلت تسوية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قضت بترحيل جميع البولنديين إلى بريطانيا مقابل تزويد الأخير بالسلاح. هكذا تقرّر ترحيل من بقي حياً من البولنديين في سيبيريا (نحو 23 في المئة من المنفيين) إلى إيران، ثم إلى لبنان تمهيداً لنقلهم إلى بريطانيا.
في طهران، أكملت دوناتا دراستها الثانوية، قبل أن تبدأ بعد ذلك رحلة العودة إلى بريطانيا مروراً بلبنان، حيث قرر العديد من البولنديين البقاء في هذا البلد، واستقروا في منطقة غزير في كسروان، والشوف في جبل لبنان. دوناتا واحدة من هؤلاء، وقد أحبت شاباً لبنانياً وقبلت عرضه للزواج. شقيقة زوجها لم تكن راضية عن زواج أخيها ببولندية، وخصوصاً أنّ شقيقاً ثانياً كرر التجربة عينها، فلم يكن منها إلا أن أدارت وجوه جميع القديسين في بيتها إلى الحائط غضباً!
إرادة الحياة عند دوناتا قوية، يقودها إيمان عميق بالله. في عودتها إلى الحياة، أكملت من حيث توقفت، فانتسبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت لتتعلم التمريض وتدرّس في الكلية حقبة 40 عاماً، وقد كُرّمت قبل أعوام قليلة كواحدة من النساء الأوائل اللواتي تخرّجن من الجامعة.
لم تزر دوناتا بولندا منذ نفيها وعائلتها إلى سيبيريا. قطعت كل صلة لها بهذا الماضي، واكتفت برواية قصتها لأولادها وأحفادها. كأن الخوف من المواجهة حال دون سؤالها عن منزلهم. ماذا حلّ به؟ كرهت الشيوعية والنازية على قدر ما أحبت الولايات المتحدة لأسباب محض عاطفية، متعلقة بانتشالها وعائلتها من الموت.
خلال الحرب الأهلية كانت تنتقل يومياً من غزير إلى مستشفى الجامعة الأميركية قاطعةً الحواجز، وحين تعود وتجد الجميع مختبئين في الملاجئ تضحك، وترى أن ما يحصل مزاح مقارنةً بسيبيريا. اعتادت أن تضع الراديو في جيبها، وأن لا يفارقها حتى في تنقلاتها خارج المنزل، وأن تستمع إلى أخبار الـ«بي بي سي» على مدار الساعة منذ كانت صبية.
تذكر دوناتا في واحدة من يومياتها في القطار إلى سيبيريا ورؤيتها مناظر الطبيعة الخلابة، أن الحياة جميلة. لذا لم تستسلم لرثاء ذاتها ولا للبكاء على الأطلال، ولا انجرفت في النضال السياسي في محاولة منها لاستعادة ما خسرته من أرض وبيت ومال. أكملت بشغف وعطاء لأن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

http://hh7.an3m1.com/Sep/an3m1.com_13242713895.gif