المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «ورحل معلم الناس الخير» بقلم : محمد بن نبيل.



أهــل الحـديث
01-01-2012, 02:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم









الشيخ أبو محمود إبراهيم بن علي جدامي




ورحل معلِّم الناس الخير


بقلم: محمد بن نبيل





رحمك الله يا أبا محمود!

لعمْرِي لئنْ خَطِفتْكَ المنايا ..... ووارَتْكَ تحتَ ظلامِ الحُفَرْ
فَما زلتَ في كلِّ نفسٍ تَعِيشْ ...... عبيرًا زكا وضياءً غَمَرْ




نعم؛ إن من الناس من إذا مات طُوي ذكرُه وغابتْ سيرتُه، ومنهم من إذا مات لم تزل الألسن تذكر منه قبيحَ الفِعال، وسيِّئ الأحوال، وهذا الصِّنف تستريح بموته السماوات والأرض، لكن قومًا آخرين تظلُّ ذكراهم في النفوس وسيرتهم على الألسُن كالعبير الزاكي و الضِّياء الغامر؛ ومن هؤلاء كان الشَّيخ أبو محمود رحمه الله!

عرفته منذ صغري رجلاً غَيورًا على دين الله كأشدِّ ما تكون الغَيرة، مهتمًّا بالدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير، يكاد ذلك يكون همَّه الذي لا همَّ له غيره، لكأني أراه في "مسجد الحصين" بقريتي بطرة، من أعمال محافظة الدقهلية بمصر، وهو يحدِّث الناس أدبار الصلوات؛ يعظهم ويذكِّرهم، وقد كان – رحمه الله – صاحب غيرة صادقة تظهر في كلماته؛ وكان من عادته إذا رأى في طريقه إلى المسجد منكرًا حذَّر منه، وجعله فاتحةَ موعظته، ثم استطرد في بيان خطر المعاصي والذنوب، وسوء عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي على المنكر..

وإلا يكن في ذلك حديثُه، كان في آية من كتاب الله قرأها وقرأ شيئًا مما سطَّره أهل العلم فيها، أو حديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قرأه وقرأ فيه كلام شُرَّاح الحديث، أو بابٍ من الفقه تعلَّمه وأحبَّ أن ينال أجر تعليمه، وهو في أكثر أحواله لا يفتأ يذكر حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((نضَّر الله امرأً سمِع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها كما سمعها؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع)).

كان رحمه الله نسيج وحده في التواضع وهضم النفس، هينًا لينًا، نصوحًا شفوقًا، يحدِّث من في سنِّ بنيه فيشعره أنه هو الكبير، كانت كلماته تحمل الكثير من معاني التحرُّق للاستزادة من العلم النافع والاجتهاد في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير، وكم حدَّثني بأمنيَّته في التفرُّغ التام للتعلُّم والدعوة، حاله:


يا لَهْفَ نفسِي على شَيئَيْنِ لو جُمِعَا ..... عِنْدِي لكُنتُ إذًا مِنْ أسعدِ البشَرِ
كَفَافُ عَيْشٍ يَقِينِي كُلَّ مَسْأَلَةٍ ..... وَخِدْمَةُ العِلْمِ حتَّى يَنْقَضِي عُمُرِي




كان أبو محمود رحمه الله صاحب همَّة عالية؛ تراه وقد ناهز الخمسين مشتغلًا بحفظ ما يستطيع من أحاديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومتون العلم، بعدما حفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ، وإذا علم بكتاب نافع اشتراه ولو غلا ثمنُه، وقد كان من آخر ما اشترى قبل موته كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي، في ثمانية وعشرين مجلدًا، وقد خلَّف رحمه الله مكتبة قيِّمة، جمعها مع الأيام والليالي، أسأل الله أن يوفِّق بنيه للانتفاع بها على الوجه الأمثل.

وقد ظلَّ رحمه الله حريصًا على تعلُّم الخير وتعليمه إلى آخر عمره؛ فقد كان ابتداء مرضه الذي توفي فيه قُبيل رمضان، ولما دخل رمضان اشتدَّ عليه المرض، وساءت صحَّته، وعلى الرغم من ذلك فقد حَرَص على لزوم المسجد أكثر أيام العشر الأواخر من رمضان، بل وعظ إخوانه كعادته، وذرَفت عيناه وهو يحدِّثهم بأن أشرف ما للعبد في الدنيا أن يخدم دين الله، ولما زرته في العيد قبل وفاته بيومين سألني أن أبحث له عن حديث للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أصحيح هو أم ضعيف، فرحمه الله ورضي عنه!

وفي يوم من أيام مرضه زرته وكنت علمت أنه مصابٌ بداء عضال قد تكون فيه وفاته؛ فأردتُّ قيامًا بحقِّه عليَّ أن أذكِّره بالله ولقائه – وأنا بلا شك أحوج منه إلى ذلك؛ لكنه حقُّ المسلم على أخيه – فذكرت أمامه قصَّة كنت حديثَ عهد بقراءتها حدثت لأحد العلماء عند احتضاره؛ أوردها ابن فرحون المالكي في كتابه "الديباج المذهب" مفادها أن الشيخ تاج الدين الفاكهاني لما حضرته الوفاة، قال صهره – وكان من أهل العلم أيضًا -: ((تشهَّدتُّ بين يديه؛ ففتح الشيخُ تاج الدين عينيه وأنشد:


وغَدا يُذكِّرني عُهودًا بالحِمَى ...... ومتى نسيتُ العهدَ حتى أذكُرَا؟!









ثم تشهَّد وقضى نَحْبَه)).


أردتُّ بذلك أن أذكِّره بسَعة رحمة الله، وأنَّ الله أرحم من أن يختم حياة من دلَّ عليه ودعا إلى سبيله بخاتمة سوء!

ومن عجيب الاتِّفاق أن الفاكهاني رحمه الله هو أحدُ من شرح كتاب "عمدة الأحكام" للحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله، وقد كان الشيخ أبو محمود رحمه الله معتنيًا بهذا الكتاب؛ يحفظه ويتفقَّه فيه، ويشرح أحاديثه في دروس المسجد، ويحثُّ من يحضرون دروسَه على حفظه، بل لقد حفظ بعضُ كبار السنِّ من روَّاد المسجد أبوابًا من الكتاب بتشجيع منه رحمه الله!

إن الحديث عن أبي محمود حديثٌ ذو شُجون، والرجل صاحبُ فضل عليَّ وعلى كثير من إخواني، وقد كنت منذ وفاته عازمًا على أن أكتب عنه شيئًا؛ وفاءً بحقِّه، وإشاعةً لفضله، واستجلابًا لدعوة صالحة له.

وقد مات أبو محمود مَبطونًا، والمبطون شهيد؛ كما أخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.

اللهم إنِّي أُشهدك أنِّي ما علمت عبدك إبراهيم إلا وقَّافًا عند حدودك، غيورًا على محارمك، مُهتمًّا بالدعوة إليك؛ اللهم فتقبَّل صالح عمله، وأكرم مثواه، واخلُفه في أهله وولده بخير ما تخلُف به الصالحين من عبادك!

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/37089/#ixzz1iCf48qYB