المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تعريف بتحقيق مركز نجيبويه لاختصار أبي زيد القيرواني للمدونة الكبرى



أهــل الحـديث
25-12-2011, 12:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


تعريف بتحقيق مركز نجيبويه لاختصار أبي زيد القيرواني للمدونة الكبرى

أقول – مستعيناً بالله تعالى – بعد حمده كما ينبغي لجلاله، والصلاة والسلام على نبيِّه المصطفى وصحبه وآله:
لا تخفى على فقيه أو متفقِّه مكانةُ أبي محمد ابن أبي زيد القيرواني في فقه إمام دار الهجرة؛ فهو الإمامُ الحجَّةُ المحقِّقُ المدقِّقُ، وعليه مدار التفريق بين فقهاء المذهب – عند من قسمهم إلى طبقتَي المتقدمين والمتأخرين - فجميعُ مَن قبله مِن المتقدمين، وجميعُ مَن بعدَه مِن المتأخرين، وهو أوَّلُ هذه الطبقة.
وقد بدأت عنايتي بفقه ابن أبي زيد رحمه الله وآثاره العلميَّة أثناء مطالعتي لسلسلة الأطروحات الجامعية التي أعدَّها طلابٌ في جامعة الأزهر الشريف – بفرعها في دمنهور - لنيل درجات في الدراسات العليا تحت عنوان "الفقه المالكي بين المتقدمين والمتأخرين"، وزادت هذه العناية أثناء تتبعي لمقارنات القاضي عياض لاختصارات مختصري المدونة في كتابه الماتع "التنبيهات المستنبطة"، ثم ترسخت عنايتي باختصار ابن أبي زيد للمدونة مع تكرار حاجتي إلى الرجوع إليه للمقارنة بين اختصاره وتهذيب أبي سعيد البراذعي لها أثناء اشتغالي بتحقيق تقييد أبي الحسن الزرويلي على التهذيب، وتكميل ابن غازي المكناسي على التقييد.
عندئذٍ أيقنتُ بضرورة إخراج "اختصار المدوَّنة" وتحريره من قيود الإهمال التي حالت دون العناية بتحقيقه وطباعته، وحتى نشره ولو بدون تحقيق، فعقدتُ العزم على القيام بهذا الواجب الكفائي، ومضيتُ فيه قُدمً بعد تردد طويل.
نعم، لقد تردَّدتُ طويلاً قبل الشروع في تحقيقه خشية أن لا أوفَّق فيه إلى بلوغ المنى، خاصَّة بعد أن علمتُ باحتكار المستشرق المجري ميكلوش موراني لنسخة عتيقة منه صوَّرها من خزانة القيروان العتيقة بموجب اتفاقٍ مُريبٍ يحول دون وصولها إلى يد غيره، وقد زرتُه في منزله على مشارف مدينة بون بألمانيا وطلبتُ منه الصورة التي عنده فتمنَّع وتذرَّع بما لا يقنع.
وقد استقرَّ في أذهان فقهاء المذهب وطلابه المعاصرين افتقارُ خزائن المخطوطات إلى ما يَصلُح للتحقيق من مخطوطات الاختصار، ما لم تكن بينَها النسخة التي يحتكر صورتَها موراني، وكدتُ أسلِّم بما سلَّموا به من ذلك لولا أنَّ الله تعالى فتح عليَّ – وهو الفتَّاح العليم – فوفَّقني للوقوف على ما لم يقف عليه هذا المستشرق، والوصول إلى ما لم يصل إليه، حتى اجتمعت بين يديَّ من مخطوطات الكتاب أجزاء شملته بتمامه في نُسخةٍ أولى، وعمَّت أغلب أبوابه وأجزائه في نسخة ثانية، وهو ما يفي بمتطلبات الضبط والتحقيق، خاصةً إذا أضيف إليه ما هو متاحٌ من مؤلفات ابن أبي زيد الأخرى وما تكتنزه - من أقواله وآرائه - مؤلفاتُ غيره المطبوعةُ والمخطوطةُ التي تمكن الإفادة منها كمصادر وسيطة في التوثيق والتدقيق، والتحقيق والتعليق.
واليومَ – بعد جهد دؤوب – أقدِّم اختصار المدوَّنة إلى المكتبة الإسلامية محققَّاً مضبوطاً على ما أرجو أن يكون مرادَ مؤلِّفِه، أو أقربَ ما يمكن من مراده.
*** *** ***
وقد كفانا المصنِّف مؤونة تبيان منهجه في تصنيفه وعمله فيه، فأشار إلى ذلك كلِّه – بعد مقدمته في فضل العلم والعلماء وبعض أصول مذهب مالك وفضائله - بما نلخِّصه من كلامه – موزَّعاً على نقاطٍ – في قوله رحمه الله:
• اختصرتُها كتاباً كتاباً، وباباً باباً.
• وربما قدَّمتُ فرعاً إلى أصله وأخرت شكلاً إلى شكله.
• وإذا التقت في المعنى مواضع كلها شبيهة به ألحقتها بأقربها شبها، ونبهت على موضعه في بقيتها، وربما آثرت تكرار ذلك تمامًا للمعنى الذي جرى ذلك فيه منها.
• وقد حذفتُ السؤالَ وإسنادَ ما ذكرتُ من الآثار، وكثيراً من الحجاج والتكرار.
• واستوعبتُ المسائل باختصار اللفظ في طلب المعنى بمبلغ العلم والطاقة.
• وجعلت مساق اللفظ لعبد الرحمن بن القاسم، وإن كان كله قول مالك فعند ما سمعت منه، ومنه ما قاسه على أصوله إلا ما بين أنه خالفه فيه، واختارَه من أحد قوليه.
• وقد أجريتُ ذكر مالك وغيره من أصحابه فيما لا غنى به عن ذلك فيه مما هو في المدونة.
• وربما ذكرت يسيراً من غيرها مما لا يستغني الكتاب عنه؛ من بيان مُجمَل، أو شرح مُشكِل، أو اختلافٍ اختارَه سحنونُ أو غيرُه من الأئمة، وأعلِّمُ عليه.
• وأشبعت الزيادات في اختصار الجراح والديات من "المجموعة" وغيرها من الأمهات.
• واختصرتُ من غيرها كتابَ الفرائض، وكتاب الجامع، إذ ليسا في المدونة ، إذ لا غنى بكتابنا عنهما ليستوعب الناظر فيه ما عسى أن يحتاج إليه، وليستغني به من اقتصر عليه.
• وكلما ابتدأت به في أوائل الفصول والأبواب من ذكر أصلٍ؛ من سنة، أو كتاب، أو أقاويل سلف، أو حجة قياس، فأكثرُه من غيرها، وأقلُّه منها.
• ورأيتُ أن التلويح بذكر الأصول المجملة عون في فهم فروعها المشكلة.
• وقد بذلتُ الجهد في تقليل الكثير، وتقريب البعيد عن المعنى الجلي والخفي، وجمع ما افترق من المعاني المشكلة، غيرَ مُتعمِّد لزلة، ولا متبرِّئ من غفلة، ولا راغب عن نصيحةِ من أنصفَ للهَ من نفسه في نفاذ رؤيته وصحة طوِيَّتِه.
• ورأيتُ أن أذكر لك من بعض ما روي من الآثار في فضل العلم، وفضل طلابه، وثوابه، وآدابه، وأحوال أئمته، وغير ذلك مما عسى أن يعود بالنفع عليك، ورأيت أن ذلك أفضل ما أُسديه إليك.
• وذكرت متن الحديث دون الإسناد رغبة في التقليل والاقتصاد.
*** ***
وفيما يلي أوجز أهمَّ معالم عملنا في التحقيق ومنهجنا في التخريج والتوثيق:
1- رقَمنا الكتاب وَفْقَ قواعد الإملاء العصريَّة، وصحَّحنا ما وقعَ فيه النسَّاخ من أخطاء إملائية، ثم قابلناه حرفاً حرفاً على النسخ التي وصلتنا أو وصلنا إليها، وسلكنا في إثبات الفوارق الواقعة بين النُّسَخ نهج النصّ المختار، فأثبتنا في المتن ما رأيناه أولى بالتقديم على غيره، وأشرنا في الهوامش إلى ما كان مرجوحاً أو مخالفاً للصواب.
2- استعنا في ملء بعض الثغرات ومواطن البياض والطمس الناتجة عن قرض الأرَضة، وتأثير الرطوبة، و غيرهما من عاديات الزمن، بالرجوع إلى المدوَّنة الكبرى، فإن لم يسعفنا ما طُبِعَ منها في بلوغ المراد رجعنا في ذلك إلى تهذيب البراذعي الذي اعتمد – إلى حد كبير – على الاختصار، وكثيراً ما كنا نجد عبارات ابن أبي زيد بنصِّها في التهذيب، وهذا مصداق ما قيل في العلاقة بين الكتابَين، وما تفيده الرواية عن بعض طلبة القيروان أنَّه أتى البراذعي ليقرأ عليه تهذيبه، فلما أتم قراءة صدر الكتاب أغلقه، فقال له البراذعي: اقرأ. قال: قد سمعتُه على أبي محمد، وهل زدتَ في المختصر أكثر من الصدر؟.
3- ثمة مواطن نادرة لم تسعفنا النسخ الخطية ولا ما نُشِر من طبعات المدوَّنة وتهذيبها في حلها، فلجأنا للتأكد من سلامتها، وإكمال سقطها، واستجلاء مقروضها ومطموسها، وتعويض التالف منها – إلى المصادر التي نقلت - بالنصِّ أو بالمعنى - كلامَ ابن أبي زيد منسوباً إليه، مع تقديم ما كان في مؤلفاته على ما في مؤلفات غيره، واعتبرنا ما وقفنا عليه في تلك المصادر بمثابة نسخ أُخَر تبعث طمأنينة النفس إلى صحة ما في المخطوطات، وثبوت نسبته ونسبة ما فيه إلى من يُنسَب إليه، مع الإشارة في الهوامش السفلية إلى المصدر الذي أفدنا منه في سدّ الخلة، وإكمال النقص.
4- ألحقنا بالكتاب اختصار ابن أبي زيد لكتاب الفرائض، وكتاب الجامع – الذي نشره بعض الفضلاء واعتبره كتاباً مستقلاً - مع أنَّ مدونة سحنون ليس فيها كتابٌ يجمع فقه الفرائض، ولا كتابٌ جامعٌ لما ندَّ من مسائل الفقه عن كُتُبها، وحملَنَا على ذلك ما وجدناه في مطلع النسخة التي يُحفَظ أصلها تحت رقم (1781د) في الخزانة العامة بالرباط، حيث جاء في أوَّل لوحاتها ما نصُّه: "كتابُ الجامع في السُّنن والآداب والحِكَم والمغازي والتاريخ وغير ذلك؛ مختصرٌ - من السماعات عن مالك، ومن الموطأ وغيره من الكتب – مضافٌ إلى مختصر المدونة".
وقولَه رحمه الله في خطبة الاختصار: "واختصرتُ من غيرها كتاب الفرائض وكتاب الجامع إذ ليسا في المدونة، ولا غنى بكتابنا عنهما، ليستوعب الناظر فيه ما عسى أن يحتاج إليه ، وليستغني به من اقتصر عليه".
5- أضفنا عناوين لما لم يعنون له المؤلف رحمه الله في بعض المواطن، وجعل ما أضفناه محصوراً ضمن معكوفتين، مع الإشارة في الهوامش إلى أنَّ تلك العناوين من زيادات التحقيق.
6- علَّقنا في هوامش الكتاب وحواشيه السفلية كثيراً من الفوائد المنثورة في كتب المذهب، وفي مقدِّمتها تنبيهات القاضي عياض، حيث نقلنا كثيراً من كلامه في لغة الفقهاء، وضبط الأسماء والألقاب والأنساب، وذكر اختلاف روايات المدونة، وما يترتَّب على ذلك من اختلاف في الأحكام، وعزونا ذلك كلَّه في مصدره.
7- كتبنا الآيات القرآنية وأجزائها بالرسم العثماني، وعزوناها إلى مواضعها في كتاب الله تعالى، بذكر اسم السورة ورقم الآية التي وردت فيها، بدءاً بالسورة ضمن معكوفتين، هكذا: [السورة: رقم الآية]، وجَعلنا ذلك عقب ذكر الآية مباشرةً، وليس في الحواشي.
8- خرجنا الأحاديث الواردة التي أوردها المؤلف في النص، أو أحال عليها أو أشار إليها دون إيراد نَصِّهَا من دواوين السنة المعتبرة مع التزام ما يلي في التخريج:
أ- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فلا نتوسع في تخريجه، ونكف عن بيان درجته، اكتفاءً بما تفيد رواية أحد الشيخين له من الجزم بصحته.
ب- إذا لم يكن الحديث في أيٍّ من الصحيحين فنخرّجه من دواوين المحدثين المعتبرة بتقديم السنن الأربعة، ثم بقية المصادر مرتبةً حسب الأقدم تصنيفاً، ونورد كلام العلماء فيه، مع التفصيل في بيان حال رجال الإسناد المُتكلَّم فيهم، وعلله إن وُجدت، وتوثيق ذلك كلِّه، وما أنا في الحكم على الحديث إلاَّ ناقلٌ عن المُتقدِّمين، أو مُستأنسٌ بآراء المُتأخِّرين.
ج- أثناء العزو إلى الكتب الستة نذكر الكتاب والباب الذي ورد فيه الحديث، مع ما يسهل الرجوع إليه من رقم الحديث التسلسلي، أو رقم الجزء والصفحة، أو جميع ما تقدم.
د- عند عزو الحديث أو الأثر إلى غير الكتب الستة نكف عن ذكر اسم الكتاب والباب اكتفاءً بالإشارة إلى موضع النص بالجزء والصفحة أو الرقم التسلسلي أو هما معاً.
9- أوردنا تراجم وافية كافية لمعظم أعلام السادة المالكية المذكورين في الكتاب، وجعلنا ترجمة كلٍّ منهم عند أوَّل ذِكرٍ له.
10- علقنا على بعض مسائل الكتاب حين الاقتضاء على وجه الإيجاز.
11- صدَّرنا الكتاب بمقدمة تحقيقية فيها ترجمة مختصرة للمؤلف رحمه الله، ودراسة وجيزة عن الكتاب.
12- ذيلنا الكتاب بثبت المصادر التي اعتمدناها في التحقيق والتوثيق، وفهارس للموضوعات وأخرى للآيات والأحاديث والآثار والأعلام المذكورين في الكتاب.
*** *** ***
هذا، وإننا إذ نقدم هذا العمل إلى المكتبة الإسلامية على ما فتح الله علينا فيه، لنستحضر قول ابن مالك رحمه الله: "إذا كانت العلوم منحاً إلاهية ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسُر على كثير من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف".
ونسأل الله تعالى أن يتقبل ما بذلناه فيه بقبول حسَن، وأن يشملنا ومؤلفه ومن اعتنى به بالمغفرة والنعماء والمِنَن، وظنُّنَا بمن وقف على خلل في عملنا أن يبادر إلى إصلاحه، وأن يشعرنا به لتعديله، إذ إنّ الكمال عزيز، والمؤمن مرآة أخيه، والدين النصيحة.
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات.
*** *** ***
وكتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
كان الله له ولوالديه، ولمن أمَّن على دعائه من محبيه وإخوانه وأعوانه ووالديه، ونسأ له في أجله حتى يتوب عليه.
مراكش (الحمراء) في غرة شهر الله المحرَّم سنة 1433هـ.