المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطيب الزهراء ... منذر بن سعيد البلوطي ** رجال من التاريخ **



أسواق
24-12-2011, 01:10 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

أحدثكم اليوم عن قاض كبير ، كان قاضي الجماعة في الأندلس ، وهو مثل منصب قاضي القضاة في بغداد ، وكان خطيبها الأول ، وكان عالمها الأكبر ، وكان يهزل حتى ليأتي بالعجائب من النكات والغرائب من المضحكات ، ولكنه إذا جد الجد ، وجاء الواجب وقف مواقف لا تثبت في مثلها الجبال الرواسي .


أما نكته فقد جهدت أن أعرض لبعضها وحاولت أن أعبر عنها بالكناية والإيماء والإشارة فوجدتها أفظع من أن يعرض لها في حديث يسمعه من أريد ومن لا أريد فمن أراد الوصول إليها فإن بعضها في (مطمح الأنفس )للفتح بن خاقان الوزير .


وأما مواقفه فهاكم صورا سريعة لطائفة منها ، لا أستقصي في الرواية ولا أستوفي التصوير لأن ذلك كثير والوقت قصير .



نحن الآن في الأندلس جنة الأرض ، في قرطبة عاصمة الدنيا ، في العصر الذي لم تعرف الأندلس في جاهليتها الأولى ثم في إسلامها أمس ثم في نصرانيتها اليوم عصرا أزهى منه ولا أبهى ، ولا أكرم ولا أعظم ، عصر أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر باني الزهراء .


لقد جمعت الدنيا بعظمتها وبهائها في الأندلس ، وجمعت الأندلس في قرطبة ، وجمعت قرطبة ذلك اليوم في القصر ، الذي ألبس من روعة البناء وجلال الفرش وعظمة السلطان ما لا يصفه قلم ، وأعد لاستقبال وفد قيصر الذي قدم من القسطنطينية يريق على عتبة الناصر ولاءه وتلتمس تأييده .


وتطلعت نفوس الخطباء إلى الكلام في هذا المقام وتمنى كل عالم وخطيب ، أن يشير إليه الخليفة بالرد على خطبة رئيس الوفد ، فلم ينل ذلك واحد منهم ، ونالهه الإمام أبو علي القالي البغدادي ضيف الأندلس ومؤلف الأمالي .


وقام ابو علي ليتكلم فأرتج عليه ، وانقطع فما قدر على كلمة ، وكاد يضطرب الأمر ، وإذا بشاب يقوم من بين العلماء فيقف على المنبر ، دون القالي بدرجة فيرتجل خطبة لم يسمع الناس مثلها هز فيها القلوب ولعب بالعواطف ، وملك المشاعر ، وجاء بشيء عجب ، نبه الخليفة إلى مكانه فسأل ابنه الحكم عنه ، فقال : هذا منذر بن سعيد البلوطي ، قال :لأرفعن منه فإنه لذلك أهل ، فولاه القضاء ، وخطابة المسجد الجامع ، ثم لما بنى مدينة الزهراء ، أعجوبة الفن المعماري التي لم يبن مثلها ملك ولا أمير ، والتي لو بقيت لكانت الحمراء إلى جانبها كوخا من الأكواخ ، ولما أكمل مسجدها ولاه خطابته .

وكان الخليفة قد استغرق في الإشراف على بنائها ، حتى قالوا إنه أضاع الجمعة مرة ، وبنى فيها قاعة جعل قرامدها من الذهب والفضة وغرم فيها ما لا يوصف وحشد الناس لافتتاحها وجعل أول حفلات الافتتاح صلاة الجمعة ، وكان الخطيب منذر بن سعيد ، فصعد المنبر فبدأ الخطبة بداية عجيبة ، بقوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله وأطيعون ، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ، أمدكم بأنعام وبنين ، وجنات وعيون ، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم )

ووصل ذلك بكلام جذل وقول فصل ذم فيه السرف والترف وإضاعة أموال الأمة في زخرفة القصور ووصله بقوله ودموعه تنحدر من لحيته :


والله يا أمير المؤمنين ، ماظننت أن الشيطان أخزاه الله يتمكن منك هذا التمكن ، حتى أنزلك منازل الكافرين ، فجعلت قراميد بيتك من الذهب والفضة ، والله تعالى يقول (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون )


ووصله بقواه تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ، لا يزال بنيانهم الذي بنو ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله حكيم عليم )

وما زال في مثل هذا حتى نسي الناس الخليفة والاحتفال وصغت القلوب إلى الله وصفت النفوس لله وارتج المسجد بالبكاء ...


فلما قضيت الصلاة انصرف الخليفة مغضبا وقال لابنه : أرأيت جرأته علينا . والله ....


ماذا ترونه يا سادة فاعلا معه ، إنه لم يفعل إلا أن قال : والله لا صليت الجمعة خلفه أبدا ...



قال الحكم : وما يمنعك من عزله ؟ فرجع الخليفة إلى نفسه وقال ، ويحك أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه لا أم لك يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد ، إني لأستحي من الله أن أجعل بيني وبينه إماما غيره .
وأمر بنقض الذهب والفضة من القصر .


وهاكم موقفا آخر من مواقفه مع الناصر .


أراد الناصر أن يبني قصرا لإحدى نسائه وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي ، فطلب شراءه فقالوا له لا يباع إلا بإذن القاضي ، فسأله بيعه فقال : لا إلا بإحدى ثلاث ، حاجة الأيتام أو وهن البناء أو غبطة الثمن . فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي ، فأباه وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا ، فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء وعز ذلك على الخليفة ، فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟


قال : أخذت بقول الله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا )




لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت الدار والحمام ، وبقيت للأيتام الأرض فالآن اشترها بما تراه من الثمن .


قال الخليفة : أنا أولى أن أنقاد إلى الحق . فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا.



*****


يا أيها السادة إذا أردتم أن تعرفوا من أين جاءته هذه الهيبة في الصدور وهذه الجلالة في النفوس وهذه المنزلة عند الخليفة والناس فاعلموا أنها ما جاءت إلا من إخلاصه لله وخوفه منه وعبادته له واتصاله به ، إن من خاف الله خافه كل شيء ومن كان مع الله جعل الخلق كلهم معه .


*******


قحط الناس في أواخر مدة الناصر ، فأمر القاضي منذر بن سعيد للخروج للاستسقاء ، فتأهب لذلك واستعد وصام بين يديه (أي قبله ) ثلاثة أيام واستغفر الله من ذنبه وأحصى حقوق الناس عليه فردها وسألهم السماح منها وخرج وخرج معه الناس جميعا ، رجالا ونساء وولدانا .

وقال لصديق له من خواص الخليفة وهو خارج ، اذهب فانظر ما يصنع أمير المؤمنين ؟.
فعاد يقول : ما رأيناه قط أخشع منه في يومنا هذا ، إنه لمنتبذ (وحيد)،حائر، لابس أخشن الثياب، مفترش التراب قد رمى منه على رأسه وعلى لحيته يبكي ويستغفر ويقول يا رب هذه ناصيتي بين يديك فإن أذنبت أتراك تعذب الرعية بذنبي وأنت أحكم الحاكمين وأنت قادر علي لن يفوتك شيء مني ...


فتهلل وجه القاضي وقال لغلامه : اذهب فاحمل المِمطَر (المشمع )فقد أذن الله بالسقيا ، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء ...

وقام يدعو والناس يضجون بالدعاء والتوبة والاستغفار فما انصرف حتى امتلأت السماء بالغيوم وبلل الناس المطر .


رحم الله منذر بن سعيد وكل من اتخذ الحق شعارا وأقام للدين منارا

وتقبلوا تحياتي وتقديري ،،،

رجال من التاريخ .. (( للشيخ على الطنطاوي رحمه الله ))

عادل