المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تصدير أ.د. قيس آل الشيخ المبارك لطبعة الجامع بين الأمهات في مركز نجيبويه



أهــل الحـديث
23-12-2011, 10:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


تصدير
بقلم
الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك
الفقيه المالكي – عضو هيئة كبار العلماء
أستاذ الفقه وأصوله في جامعة الملك فيصل

بسم الله الرحمن الرحيم
تجري أحكام مسائل الفقه على قانون الشَّريعة الإسلاميَّة الخالد، فهو قانونٌ تَنْتَظِمُ به شؤونُهم، وهو شريعةٌ يحتكمون إليها، ففيها حلٌّ لمشكلاتهم وبها يتمُّ تسيير جميع أحوالهم الحياتية.
فمقصود الشَّريعة الإسلامية مِن أحكامها، أن يسير النَّاس في قضاء شؤونهم المعاشيَّة خلال الحياة الدُّنيا على هذه الأرض سيرًا يُحقِّق لهم السعادة ويدفع عنهم المشقَّة والعَنَتْ، فالشريعة خيرٌ كلُّها، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله  يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه).
ومِن أجل ذلك راعَت في تشريعها طبائع النَّفس البشرية وما جُبِلَتْ عليه مِن صفات، فجعلتْ أحكامها مُتَّسقةً مع فطرتهم التي فُطِروا عليها، ولَمْ تجعلها انعكاسًا لدواعي أهواء النفس وشهواتها، كما لاحَظَتْ عوائدَ الناس وأعرافهم في تعاملاتهم المدنيّة من بيوع وغيرها، وحَمَلَت الألفاظ التي تجري بين المتعامِلِين على ما تقتضيه هذه العوائد والأعراف، فكانت العادةُ في الشريعة الإسلاميّة مُحَكَّمةً.
فمن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل أحكام دين الإسلام مُتّسقة مع ما فُطر عليه البشر مِن سجيَّة وطبيعة، لِيسهل على الناس العمل بها وتطبيقها، ولِيحصل السكون إليها والاطمئنان بها، فتتقبَّلُها العقول وتأنس إليها النفوس.
فالفقه الإسلامي ليس أحكاما تُلقى في فراغ، كما هو شأن القانون الذي يضعه البشر، بل إنَّ فروعه أشبه بفروع شجرة، فمهما كثرت وتنوَّعت فمرجعها إلى ساقٍ واحدةٍ، حتى قال الفقهاءُ: إن الفقه الإسلامي مَبْنِيٌّ على خمس قواعد، الأولى: الأمور بمقاصدها، والثانية: اليقين لا يُرفع بالشَّكِّ، والثالثة: الضَّرر يزال، والرابعة: المشقَّة تجلب التَّيسير، والخامسة: العادة مُحَكَّمة .
إذ لو كانت أحكامُ الشَّريعة غير متسقة مع الفطرة لَشقَّ على النَّاس تطبيقها، ولما قَبِلَتْها النُّفوس لِصعوبتها على النفس، ولذلك عابَ اللهُ تعالى على المشركين تركَ الفطرة باتباع الأهواء، فقال جلَّ شأنه: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} [الروم: 29]، ثم أردف ذلك بالدّعوة إلى الدِّين الموافق للفطرة فقال: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر لا يعلمون} [الروم: 30]. وهذا الخطاب ليس خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيُّ: (ودخلَ في هذا الخطاب أمَّتُه باتفاقٍ من أهل التَّأويل).
ولله درُّ أبي الطيِّب حين قال:
وأسرعُ مفعولٍ فعلتَ تغيُّرًا
تكلُّفُ شيءٍ في طباعِكَ ضدُّه

فبهذا القانون الفطريّ عالَجَت الشريعةُ أقضيةَ الناس في شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحلَّت مشاكلهم الأخلاقية، وهو أمرٌ نلحظه من ذلك القدر الكبير الذي دوَّنتْه لنا كتب الفقه الإسلامي، بما فيه فقه النَّوازل، وهو تراثٌ علميٌ غزيرٌ ثريٌّ بالنَّماذج التَّطبيقية لمعالجة الفقهاء لهموم النَّاس وأحوالهم .
فالشريعة الإسلامية، وإن حوت نُصوصًا ثابتة في عباراتها، غير أنها تحمل في مضمونها معاني كلّية، وقواعد ضابطة، تنتظم بها المسائل الجزئية .
فمهما كثرت الوقائع ومهما جدّت الحوادث، فإن في النصوص القرآنية والحديثية، وفي الأصول والقواعد الفقهية، جوابًا لكلّ واقعةٍ تجدّ، ومعالجةً لكل حادثة تنزل .
* * *
والأصل في المفتي ألا يُفتي إلا إذا كان عالـمًا بالقرآن وتفسيره، وعالـمًا بالحديث النَّبويِّ الشَّريف، وقادرًا على استنباط الأحكام الشرعية منهما، فإن لم يكن كذلك كما هو حال الناس اليوم، فلا أقل من أن يكون عالـمًا بالفقه، ضابطًا لأمَّهات مسائله وتفاريعه، وأقصد بالفقه: فِقَهَنا المعتبر، الذي اقتضت حكمة الله أن تَجْمَعَ متفرِّقَهُ المذاهبُ الفقهيَّة المعروفة، وبهذا حُفِظَ فِقهُ الشريعة الإسلامية عبرَ أربعةِ مدارس، وقد مضى على المسلمين زمنٌ لم يكن فيهم فقيهٌ إلَّا وينتسب إلى واحدٍ من هذه المذاهب، أما العامِّيُّ فلا مذهب له، بل مذهبه مذهبُ مَن يُفتيه .
وقد جرى تدوين هذه المذاهب بعد عرضها على نصوص الكتاب والسنة من قِبَلِ أئمة كبار، تعاقبوا على دراستها وتمحيصها، من أجل أن تبقى مُهتديةً هَدْيَ النُّصوص، واستخرجوا أصولها وقواعدها الكلِّيَّة التي يندرج تحتها ما يَجِدُّ مِن فروع، لتجمع جزئياتها عن الشتات، وعَنَوا بعرض ما يَجدُّ من الوقائع والأحداث على الأصول والقواعد الكلِّية، واستمرَّ الفقهاءُ يَعرضون ما جدَّ من الوقائع والأحداث على القواعد الكلِّية، فانضبطت بذلك الفتوى خلال العصور الماضية، وما كان هذا العمل منهم إلا أنهم على درايةٍ تامَّة بأن ضبط الفقه وتقنينَه فتوىً وقضاءً، يُعدُّ حاسمًا لمادّة الخلاف ومانعًا يحول دون الفوضى في الفتوى، وعاصمًا من الزلل، فصنَّفوا في ذلك المدوَّنات التي تُبيِّنُ الأقوال والاجتهادات التي تلوح لأئمة كلِّ مدرسة من هذه المدارس، ووجوه الخلاف بينها، بل وإلى تفاوتها من حيث القوَّة والضَّعف، والعلَّة في تقوية أو تضعيف القول، وهذا شاملٌ لكل المسائل الحياتية، وهو مظهرٌ يتجلَّى فيه ثراءُ الفقه الإسلامي، ثم يشير الفقهاء إلى المعتمَد في الفتوى مِن هذه الاجتهادات، بل ونبَّهوا على ما لا يجوز أن يُفتى به، من أقوال لا تسندها الحجة ولا يعضدها البرهان.
وقد كان ابتداء الفقه الإسلامي جمع التابعين لفتاوى الصحابة الكرام
رضوان الله عليهم، فكان اجتهادُ التابعين مستنيرًا باجتهاد الصحابة، وعلى خطى كل جيل درَجَ مَن جاء بَعده، حتى صارت علومًا مستفيضة اجتمعت لدى من بعدهم من تابعي التابعين الذين صاروا أوعيةً لهذه العلوم يروونها وينقِّحونها وينقلونها لمن بعدهم جيلاً بعد جيل، تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عُدولُه»، فلم يكن السندُ بيننا وبين السلف مقطوعًا، بل كان متّصلًا يحمله العدول من الخَلَف عن العدول مِن سلفهم، فكان العلماءُ يَرَوْن اقتفاء آثار الخَلَف مِن الاقتداء بالسلف.
حتى جاء العصر الحديث، ونبتت في المسلمين نابتةٌ غفلتْ عن هذا النهج الرَّبَّاني الذي سارَ عليه المسلمون طيلة العصور السابقة، فدَعَتْ إلى ترك التمذهب، وظنَّت أن الصواب هو أن يضع الواحدُ منهم نفسه في مقام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في أخذ الأحكام الفقهية من النصوص مباشرة، بل منهم من ظنَّ أن ذلك يكون من غير التفات إلى مناهج المتقدِّمين من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم رضي الله عنهم أجمعين، ودَعَتْ هذه الطائفةُ إلى تسهيل دخول باب الاجتهاد، رغم أن الهجوم على باب الاجتهاد أمرٌ لم تُعرَف به إلا طائفة يسيرة من معتزلة بغداد، حيث فَرَضَت الاجتهاد على عوام بغداد، وربَّما أطلقوا عليه: فقهَ الكتاب والسُّنة! باعتبار أنّ الأخذ بأقوال أئمة الدِّين قسيمًا للأخذ بالكتاب والسُّنة!، وهكذا كثُرَ في المسلمين هذه الأيام مَن يَظنُّ أنه قادر على الاجتهاد، بل رأيتُ مهندسين وأطباءَ لا يقبلون مِن غيرهم التَّحدُّث في فنون الطبِّ والهندسة وغيرها لأنها ليست فنَّ ذلك الغير، لكنهم يَستبيحون لأنفُسهم بل ولغيرهم أن يتكلَّموا في الفقه ـ وهو أصعب العلوم بل أخطرها ـ وهو ليس مِن فَنِّهم! وربَّما عابوا على غيرهم تورُّعَه أن يكون جريئًا في الفُتيا! ويأنفُ أحدُهم أن يُقالَ عنه مالكيّ أو شافعي!.
وهكذا تساهل الناسُ فيما لا يجوز التساهل فيه، وتجرَّأ على الفتيا في الدِّين مَن ليس أهلاً للفتوى، وهذا مخالف لنهج الأئمة المتقدِّمين من السلف والخلف، فأصبح الناسُ في فوضى دينيّـة كبيرة، حتى ضجَّت المنتديات والصحف بصنوفٍ مِن الفتاوى الشَّاذَّة، فرحم الله الإمام مالكًا رضي الله عنه الذي قال: «ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك»، وقد قال ابن المُنكدر عليه رحمةُ الله:‏ «العالِمُ بين الله تعالى وخلقه،‏ فلينظر كيف يدخل بينهم».
فواعجبًا من هؤلاء، وأين هم من الإمام مالك حين سُئل عن مسألة فقال:‏ لا أدري،‏ فقيل له:‏ هي مسألة خفيفةٌ سهلة،‏ فغضب! وقال:‏ ليس في العلم شيءٌ خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5] فالعلم كلُّه ثقيل .
* * *
ذلك أن المصيرَ إلى التَّقليد هو السَّبيل الوحيد لمن عجَز عن اقتراح الأحكام من أدلَّتها التفصيلية، وهو مصلحةٌ يجب الأخذ بها، وقد قال شاه وليُّّ الله الدهلوي: «إن هذه المذاهب الأربعة المدوَّنة المحرَّرة، قد اجتمعت الأمّةُ أو مَن يُعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى، لا سيَّما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جدًّا، وأُشربت النُّفوس الهوى وأُعجبَ كلُّ ذي رأي برأيه» انتهى .
وفي هذا يقول الحافظ أبو بكر ابن العربي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} [المائدة: 104]: «تَعلَّقَ قومٌ بهذه الآيةِ في ذمِّ التَّقليدِ، وقد ذكرَ الله سبحانَهُ ذمَّ الكُفَّارِ باتِّباعهم لآبائهم بالباطلِ، واقتدائهم بهم في الكُفرِ والمعصيةِ في مواضعَ من القرآن. وأكَّدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وإنَّما يكونُ كما فسَّرناهُ في الباطل. فأمَّا التَّقليدُ في الحقِّ فأصلٌ من أُصُولِ الدِّينِ، وعصمةٌ من عصمِ المسلمينَ يلجأُ إليها الجاهلُ المقصِّرُ عن دَرْكِ النَّظرِ، وقد اختلفَ العُلماءُ في جوازه في مسائل الأُصُولِ، فأمَّا جوازُه، بل وُجُوبُه في مسائل الفُرُوعِ فصحيحٌ، وهو قَبُولُ قول العالِم من غيرِ معرفةٍ بدليله؛ ولذلك منعَ العلماءُ أن يُقال: إنَّا نُقلِّدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لأنَّا إنَّما قَبِلْنا قولَهُ بدليلٍ ظاهرٍ، وأصلٍ مقطوعٍ به» .
ولأهميّـة لزوم اتباع هؤلاء الأئمة الأربعة، نصَّ على ذلك أئمّتُنا في كتب العقيدة، وفي هذا يقول العلامة الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في منظومته في عقيدة أهل السُّنّـة المسماة «الدُّرّة المرْضِيّـة»:
مَن لازِمٌ لِكلِّ أربابِ العملْ
تقليدُ حَبْرٍ مِنهُمُ فاسمعْ تَخِلْ

وإنَّما انعقد الإجماع على ذلك لأن الناس لم تزل منذ عهد النُّبوة تستفتي، ولم يزل الاستفتاء والإفتاء منتشراً بعد عصر النبوة بين الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وكثر المفتون في الحرمين وفي غير الحرمين من الأمصار من غير نكيرٍ من أحد.
فإذا كان استفتاءُ الفقهاء ـ مرّة يُستفتى هذا ومرّة يستفتى هذا ـ جائزًا إجماعًا، فإن الاقتصار على استفتاء واحدٍ من العلماء دون غيره أجْوَز، إذا كان المستفتَى موصوفًا بالعلم والديانة كالأئمة الأربعة المتفق على جلالة قدرهم وعلى حفظ مذاهبهم.
غير أن من الأهمية أن نتبيّن حقيقة التقليد، وهو ما أفصح عنه الشيخ أحمد زرُّوق البُرْنُسِيُّ الفاسي رحمه الله بقوله:
«التقليد: أخذ القول مِن غير استناد لعلامةٍ في القائل، ولا وجهٍ في المقول، فهو مذموم مطلقاً، لاستهزاء صاحبه بدينه .
والاقتداء: الاستناد في أخذ القول لديانة صاحبه وعلمه، وهذه رُتْبةُ أصحاب المذاهب مع أئمتها، فإطلاق التقليد عليها مجاز.
والتبصُّر: أخذ القول بدليله الخاص به، من غير استبدادٍ بالنظر، ولا إهمالٍ للقول، وهي رتبة مشايخ المذهب وأجاويد طلبة العلم.
والاجتهاد: اقتراح الأحكام مِن أدلّتها دون مبالاة بقائل، ثمّ إن لم يُعتبَرْ أصلٌ متقدِّمٌ فمُطلَق، وإلا فمقيَّد». انتهى .
* * *
إنني آمل أن نُبقيَ لفقهنا نضارته وإشعاعه، فنعود إلى الفقه المنضبط بالكتاب والسنة الذي تنتظِمُه مدارسُنا الأربعة المعتبرة، وهو الفقه الواقعي الذي يُلبِّي كل المستجدات في العصر الحديث، لأنه يَرُدُّ المسائل الجزئية إلى أصولها الكلية، فتصدر بسببه فتاوى لها أصولٌ تَرجِع إليها، وهذا هو الاجتهاد الصحيح، ذلك أن النصوص ثابتةٌ، أما الأحداث والوقائع غير متناهية، فإذا تركنا الباب لبسطاء الناس وعامّتهم فستخرج فتاوى تُحرِّم كل شيء بحجة سد الذريعة، وأخرى تبيح كلَّ شيء بداعية الضرورة والحاجة، وسيُعجَبُ صاحبُ كلِّ قولٍ بقوله، وهذه هي الفوضى الدينيّةُ التي نعيشها اليوم، ويشكوا منها العقلاء، ولن يُخرجنا منها إلا العودة إلى السير على هَدْي السلف الصالح .
* * *
ومن المعلوم أن هذه المدارس الأربعة، تتفق جميعها في كونها مستندةً إلى أصول الاجتهاد والاستنباط، ولكلٍّ منها منهجا اختطَّتْهُ وقواعدًا اعتمدتْها، مستندة على هذه الأصول والأسس الثابته، وتتفاوت هذه المدارس في إعمال هذه القواعد وفي تقديم بعضها على البعض الآخر أو تأخيره، وهو تفاوت واختلاف أتى على جميع صور الاختلاف ومحتمَلاته، بحيث إذا اجتهد مجتهدٌ، فلن يخرج عن هذه المحتملات التي هي محصورة غالباً في احتمالين، كاختلافهم في حكم الأمر إلى قولين، هل هو لِمُطلق الطلب، فيدخل فيه الندب، أو هو للوجوب فلا ينصرف للندب إلا بصارف، وكذلك اختلافهم في النادر هل يُعتبر حكمُهُ في نفسه أم يُلحَق بالغالب، وكاختلافهم إلى قولين في الترجيح إذا تَعارض الأصل مع الظاهر، وغير ذلك .
وكذلك الأمر في الحكم المستنبط استنادًا إلى هذه القواعد، فالغالب أن الحكم محصورٌ غالبًا في احتمالين أو ثلاثة، كالجواز والتحريم والإباحة والكراهة، ولا يزيد على الثلاثة إلا قليلا، مثل اختلافهم في حكم خيار المجلس إلى قولين، واختلافهم في مسألة انعزال الوكيل قبل عِلْمِهِ إلى قولين، ولعلَّ هذا هو ما أشار إليه مَن يرى إغلاق باب الاجتهاد، لأن أيَّ اجتهاد يقع، فإنه لن يخرج عن هذه المحتمَلات التي لا جديد فيها، بل قالَ بها المتقدِّمون .
لذا فإن أوَّل عتبة نصعد بها إلى باب الاجتهاد، هي أن ينكبَّ الفقهاء المعاصرون على ما كتبه فقهاء السلف والخلَف، دراسة وتمحيصًا، والوقوف على اجتهاداتهم، فبهذا التَّفقُّه والتَّعلُّم ترتاض نفوسُهُم وتَقوى على النَّظر، حتى يصير الاجتهادُ عندهم هيئةً راسخة ومَلَكةً ثابتة، فأولُ التجديدِ قَتْلُ القديم فهمًا .
ورحم الله الإمام الشاطبي الذي كانت آخرُ كلمةٍ قالها في كتابه الاعتصام: (إذا ثبت أن الحقَّ هو المعتبر دون الرجال، فالحقُّ أيضاً لا يُعرف دون وسائطهم، بل بِهم يُتَوَصَّل إليه، وهم الأدلاَّء على طريقه).
* * *
ومن أعظم ما صُنِّف في الفقه المالكي كتاب الجامع بين الأمَّهات، المعروف بمختصر ابن الحاجب، لمؤلِّفه أحد أذكياء العالَم، الشيخ الفقيه الأصولي المحقِّق أبي عمْرو جمال الدين عثمان بن عُمَر المعروف بابن الحاجب، والذي وَهبه الله ملَكةَ حُسن التصنيف في الفقه والأصول واللُّغة، مع البراعة والإتقان في الاختصار، فمنها في الأصول المنتهى ومختصره وهو أكثر كتب الأصول ذيوعًا وعناية عند العلماء بلا تردُّدٍ، وفي اللُّغة الكافية في النّحو والشّافية في الصّرف، وما أكثر شروحهما، وهو دليل عظيم شأنهما عند أئمَّة اللغة .
أمَّا في الفقه فكَتَبَ «الجامع بين الأمهات» والمعروف «مختصر ابن الحاجب الفرعي» الذي أتى فيه بعجب العُجاب، كما يقول ابن دقيق العيد. وهو كتابٌ معتمَدٌ منقَّح ومحرَّر، وفيه خلاصةٌ لجهود مَن تَقَدَّمه من أئمة المذهب، فقد لَخَّص فيه نحوا من ستينَ كتابًا من أمهات كتب المذهب، وقد قال ابن خلدون في مقدِّمته: «إلى أن جاء كتابُ أبي عمرو ابن الحاجب لَخَّص فيه طرق أهل المذهب في كل باب وتعديد أقوالهم في كل مسالة فجاء كالبرنامج للمذهب» ويدلُّ على هذا كثرة شروحه التي بلغت نحوًا من أربعين شرحًا.
فشكر الله للباحث المحقِّق المدقِّق الأستاذ الفاضل الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف، لاهتمامه وعنايته الفائقة بكتب مذهب إمام دار الهجرة، ولِـحُسن انتقائه للأهم منها قبل المهم، ولِـحُسن صنيعه في تقويم النَّص دون تزيُّدٍ ولا حشْوٍ، مع شَكْلٍ للنَّص كاملاً، واعتناءٍ بعلامات الترقيم والتنسيق.
وقد اعتَمَد على ثلاث نُسَخ خطيَّة أصلية، ثم قابَلَ النص على نسخة رابعة عتيقة وعلى طبعته السابقة التي حقَّقها الدكتور أبو عبد الرحمن الأخضري ونشرتها دار اليمامة في دمشق، ثم قابل النَّصَّ في صورته النهائية بنص الشيخ خليل في «التوضيح» مع إثبات اختيارات الشيخ خليل وتَعَقُّباته واستدراكاته وترجيحاته، ومِن دقَّة نظره وحسن صنيعه أن صدَّره بكتاب «القصد الواجب في معرفة اصطلاح ابن الحاجب» وهو أجوبة الونشريسي عن اصطلاح ابن الحاجب في جامع الأمهات، ثم ضمَّ إلى هامشه كتابي أبي عبد الله محمد ابن عبد السلام الأموي في غريب وأعلام مختصر ابن الحاجب.
* * *
وإني على يقين أنه سيتجلَّى مِن إخراج علوم الأئمة العظام أنّ وجود هذه المذاهب الأربعة مصدرُ إثراءٍ للفقه الإسلامي، فضلاً عن كونها داعيةً للتآلف والتّواد كما هو ملاحَظٌ من النظر فيها، وهذا مخالفٌ لما يصوِّرُه المستشرقون ومَن انخدع بهم من أن المذاهب مصدرٌ للتعصُّب وعنوانٌ للجمود، مستندين إلى أقوالٍ ووقائعَ يسيرةٍ مغمورةٍ في بحرٍ يفيض دلالةً على تقدير بعضهم لاجتهاد بعض، فالمتأمِّل في سِيَر الفقهاء كثيرًا ما يرى فقيهًا من مذهبٍ وبعضُ شيوخه من مذهب آخر.
أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى الحق، وأن يرفع عنّا الجهل وظُلْمته، والحمدُ لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
وكتب
د. قيس بن محمد آل الشيخ مبارك
الأحساء، في 25 ربيع الأول 1431 هـ.