أهــل الحـديث
22-12-2011, 08:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
تعريف بطبعة مركز نجيبويه لكتاب "الزاهي في أصول السنَّة" لابن شعبان القُرطيّ
=== === ===
ثمرةً لعمل تكامليٍّ دؤوب صدر عن مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث أثرٌ نفيسٌ نادرٌ من آثار السادة المالكية في الفقه، وهو كتاب "الزاهي" لابن شعبان القُرطي رحمه الله، وهو الكتاب الذي حصل بتحقيقه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب على درجة الماجستير في الفقه المالكي من جامعة نواكشوط الحرَّة، بعد عشر سنوات من حصوله على الدكتوراه في السنَّة وعلوم الحديث من جامعة أم درمان الإسلامية.
وفيما يلي نضع بين أيدي الفضلاء من أهل العلم وطلابه مقدمة تحقيق الكتاب بتمامها، بعد حذف الهوامش والحواشي السفلية منها، وما حملنا على حذفها هو قصور الخبرة عن نشر الملف بهوامشه على النت، والله من وراء القصد.
=== === ===
المقدمة التحقيقية
=== === ===
بسم الله الرحمن الرحيم
أقول - مستعيناً بالله تعالى - بعد حمدِه كما ينبغي لجلاله، والصلاةِ والسلام على نبيِّه المصطفى وصحبِه وآلِه:
أعود إلى مقاعد الدراسة طالباً يشرفه الله تعالى بالأخذ عن الأكابر من جديد، رغبةً مني في أن أختم حياتي طالباً للعلم -كما بدأتُها- راغباً في الجمع -أكاديمياً- بين علمَي الحديث والفقه، بعد أن منَّ الله عليَّ منذ قرابة عشر سنين بالحصول على الدرجة العالمية (الدكتوراه) في الحديث النبوي وعلوم السنة، فأثنِّي اليوم بتخصص أجده الأقرَب إلى نفسي عنايةً ودُربةً وممارسةً؛ وهو الفقه الإسلامي على مذهب إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى ورضي عنه، وقد اخترتُ للحصول على الماستر في هذا التخصص تحقيق كتاب «الزاهي الشعباني» في الفقه والسُّنن، لأبي إسحاق محمد ابن القاسم بن شعبان الْقُرْطِيّ رحمه الله.
وهو أحد الكتابين الأشهر بين مؤلفات ابن شعبان - على كثرة ما صنَّف وألَّف - وثانيهما «مختصر ما ليس في المختصر»، الذي جعله المؤلف رحمه الله تتمَّةً للمختصر الكبير ، لابن عبد الحكم المصري (ت 214هـ) وناهيك بقيمة هذين الكتابين عند المالكية، حيث لا يكاد يخلو كتابٌ من النقل عنهما أو عن أحدهما، والرد إلى قول ابن شعبان أو الإحالة إليه في أحدهما أو كليهما.
و«الزاهي» -الذي وقع عليه اختيارنا- مصدرٌ أصيلٌ من مصادر الفقه المالكي على طريقة المتقدمين، وهو من النفائس التي عزَّ وجودها، وقلَّ نظيرها، حيث إنَّ كُتُب ابن شعبان ومَن قَبْلَه نادرةُ الوجود في عالم المخطوطات، فضلاً عن المطبوعات، وقد فُقدَت أصول أكثرها، وانصرف المحققون والناشرون عن العناية بما وصلنا منها، فبات تراث المالكية الأصيل مهدداً بالضياع والاندثار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عاش ابن شعبان في مرحلة النقلة بين المتقدمين والمتأخرين من فقهاء المالكيَّة، حيث عاصر ابنَ أبي زيد القيرواني (ت 386هـ) الذي يعرف عند المالكية بأول المتأخرين من فقهاء المذهب ، وكانت بينهما مراسلة.
وفقه ابن شعبان وروايته من مصادر كتاب «النوادر والزيادات»، لابن أبي زيد القائل في ديباجته: «... وما ذكرتُ فيه لبكر بن العلاء، وأبي بكر الأبهري، وأبي إسحاق بن الْقُرْطِيّ فقد كتبوا إلي به» .
أسباب اختيار تحقيق «الزاهي» موضوعاً
لأطروحة الماجستير
اخترت هذا الموضوع لأسباب كثيرة من بينها:
• انقاذ ما أمكن من مصنَّفات الفقه المالكي من الإهمال الذي يحول بين الفقهاء والمتفقهين وبين الحصول عليها أو الوصول إلى بعض ما فيها، حيث إن كلمة «مفقود» باتت لصيقةً بكثير من الأمهات المصنفة فيه، وربَّما كان ما قيل إنه مفقود موجوداً، ولكن عنونته – في الفهارس التي يضعها غير المختصين في الغالب - بكتاب مجهول، أو نسبته إلى مؤلِّف مجهول، دعَّم زعمَ من زعم وقناعة من اقتنع بأنَّه مفقود.
• علاقة الموضوع المباشرة بما شرفني الله تعالى به من العناية بآثار السادة المالكية، حيث يشكل العمل في تحقيقه حلقة مكملة لما قمت وما أقوم به – منفرداً أو مشاركاً أو مشرفاً – من تحقيق أمهات كتب المذهب.
• المكانة الرفيعة التي يمتاز بها ابن شعبان بين فقهاء المالكية، بل فقهاء أهل السنة عموماً، وما عُرِف عنه من الرسوخ في الرواية والدراية، ولزوم المحجَّة وحُسن المُحاجَّة.
• ما امتاز به كتاب «الزاهي» من مزايا لا تقف عند حد تقديم المنقول على المعقول، بل تتعداه إلى الجمع بينهما، وتخطي حدود التقليد إلى التجديد، حيث يدور ابن شعبان في كتابه هذا مع الدليل حيث دار، ولو خرج به عن المشهور في المذهب، أو أخذ بناصيته إلى الخروج عن المذهب بالجملة في بعض الأحايين.
• حسن الصياغة والسبك الذي ميز أسلوب ابن شعبان في تأليفه، حيث يستهل أبوابه بنصوص من القرآن الكريم تبركاً وتفهاً، ويثني بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم يعرض أقوال الفقهاء، ويرجح من بينها ما يراه أقرب إلى مراد الشارع الحكيم.
• حرصي على الذبِّ عن عرض إمام من أئمة الإسلام بعد أن قدح في روايته ابن حزم الظاهري، وشكك في صدقه وضبطه ، الأمر الذي تدل على نقيضه الصنعة الحديثية لابن شعبان رحمه الله في زاهيه.
• دفع الفرية -التي دأب البعض على إلصاقها بمذهب إمام دار الهجرة- ورد الزعم القائل بأن المذهب يقوم على أقوال الإمام وتلاميذه، ولا يقيم وزناً للدليل ، حيث أردت بتحقيق «الزاهي» تقديم أنموذج للجمع بين الرواية والدراية، وإعمال النظر في إقامة الفقه على الدليل بعيداً عن ذميم التعصُّب، في التقليد والتمذهُب.
ولم يكن العمل في تحقيق «الزاهي» سهلاً ولا ميسوراً، بل كان من المشقة بمكان، ولذلك يحسن أن أشير فيما يلي إلى:
العقبات والمصاعب التي عانيتُها أثناء التحقيق
وهي كثيرة؛ منها:
• أنَّ المتوفِّر من مخطوطات «الزاهي» نسخةٌ يتيمةٌ لا بديل عن اعتمادها، رغم ما اعتراها من نقص واضطراب في الترتيب والتبويب، وأخطاء الناسخ، فضلاً عن خلوها مما يفيد مراجعتها على يد عالم فقيه، أو مقابلتها وتصحيحها على ما هو متقدم عليها، أو أصح منها.
• أنَّ بضاعتي في فقه إمام دار الهجرة مزجاة، حيث لم أتَّجه إلى التفقُّه على مذهبه إلا على كِبَر، وهذا ما تطلب مني بذل أضعاف ما يبذله غيري من الوقت والجهد للوقوف على اصطلاح المذهب وقواعده وأصوله، قبل الانتقال إلى مرحلة تحقيق كتبه وآثار أعلامه.
• قلة المطبوع، وصعوبة الوصول إلى المخطوط من كتب المذهب التي أحتاج الرجوع إليها أثناء التحقيق والتوثيق.
• عدم الحصول أو الوقوف على أيٍّ من كتب ابن شعبان الأخرى التي قد تربطها ببعضها وحدة نظمية أو موضوعية تعين على فهم بعض النصوص المشكلة في «الزاهي»، وهي كثيرة.
• كثرة ما جاء في «الزاهي» من الروايات الغريبة عن الإمام، وما قيل إنَّه من الآراء الشاذة في مذهبه، أو المخالفة له، مع ما يترتب على ذلك من صعوبة توثيقها، والتردد في نسبتها إليه.
• التضييق الواقع عليَّ من بعض المؤسسات الدينية الرسمية في بعض البلدان المتمذهبة – في الغرب الإسلامي - بمذهب السادة المالكية، التي تحاول احتكار العمل على تحقيق التراث، وترى نفسها – رغم قلة وضعف إنتاجها - صاحبة الوصاية على كتب المذهب تحقيقاً ونشراً، وتنظر إلى منافسيها بعين الريبة التي قد تحملها على مضايقتهم، أو النيل من سمعتهم، أو الوشاية بهم – بما ليس فيهم – إلى ذي سلطة قد يستعملها في إلحاق الأذى بهم.
وقد خفَّف عني هذه المصاعب وكثيراً غيرها، وواساني في عملي ومعاناتي، وشدًّ على يدي وآثرني في رحلتي وغُربتي، من وفقني الله للتعرف عليهم، والتعاون معهم؛ من إخواننا النبغاء، وأشياخنا النبهاء، في بلاد شنقيط، فكانوا للخير عنواناً، وعلى البر أعواناً، جزاهم الله عني أفضل الجزاء وأجزَلَه.
هذا، وقد جرى عملي في تحقيق «الزاهي» وفق خطة أعددتها قبل الشروع فيه، وقدَّمتها إلى جامعة نواكشوط، ثم عدَّلتُ فيه مراراً أثناء العمل، بحسب ما فتح الله تعالى به عليَّ، حتى كانت في صورتها النهائية على النحو التالي:
خطة البحث:
قسمتُ البحث إلى قسمين؛ أولهما للدراسة والتمهيد، متبوعاً بالنصِّ المحقق في قسم ثانٍ، على النحو التالي:
القسم الأول: التمهيد:
وفيه بعد -هذه- المقدمة مبحثان:
المبحث الأول
ترجمة المصنف
أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: اسمُه وكنيتُه ونسبُه ولقبُه.
المطلب الثاني: مولده.
المطلب الثالث: شيوخه.
المطلب الرابع: تلاميذه.
المطلب الخامس: مصنفاته.
المطلب السادس: من أخلاقه ومواقفه.
المطلب السابع: وفاته وثناء العلماء عليه.
المطلب الثامن: مآخذ العلماء على ابن شعبان ومناقشتهم في ما ادعوه.
المبحث الثاني
في التعريف بكتاب الزاهي
ومنهج أبي إسحاق ابن شعبان في تصنيفه
ووصف مخطوطته وعملنا في تحقيقه
وفيه مطالب:
المطلب الأول: عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلِّفه.
المطلب الثاني: أوان تأليف الزاهي وأسبابه وأهدافه.
المطلب الثالث: مادة الكتاب وموضوعه.
المطلب الرابع: طريقة ابن شعبان في تبويب وترتيب «الزاهي».
المطلب الخامس : أسلوب ابن شعبان في تأليف «الزاهي».
المطلب السادس : المنهج العلمي لابن شعبان في زاهيه.
وفيه مقاصد:
المقصد الأول : منهج المصنف في عرض المسائل.
المقصد الثاني : منهجه في الاستدلال.
وفيه فروع:
الفرع الأول: الاستدلال بالقرآن الكريم.
الفرع الثاني: الاستدلال بالسنة النبوية.
الفرع الثالث: الاستدلال بأدلة غير الكتاب والسنة.
المقصد الثالث: منهجه في الترجيح بين الأقوال.
المقصد الرابع: الجانب اللغوي في كتاب«الزاهي».
المطلب السابع: أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية بعده.
المطلب الثامن: أمورٌ قد تأخذ على الزاهي.
المطلب التاسع: وصف النسخة الخطية المتوفرة للكتاب.
أما القسم الثاني؛ فهو قسم التحقيق:
وقد بذلنا فيه وسعنا لإخراج القدر المتوفر من مخطوط الكتاب من المخطوط إلى المطبوع على ما نرجو أن يكون موافقاً لمراد مؤلِّفه رحمه الله، أو قريباً من مراده، والتزمنا في التحقيق ما يلي:
1- نسخُ النص من النسخة اليتيمة التي يحفظ أصلها في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، برقم: (5951).
2- حيث إن المعتمد في التحقيق ليس إلا نسخة يتيمة من الكتاب فقد لجأنا - للتأكد من سلامتها، وإكمال سقطها، واستجلاء مقروضها ومطموسها، وتعويض التالف منها – إلى المصادر التي نقلت - بالنصِّ أو بالمعنى - كلامَ ابن شعبان منسوباً إليه، وقابلنا ما في المخطوط بما في تلك المصادر، واعتبرناها بمثابة نسخ أُخَر تبعث طمأنينة النفس إلى صحة ما في المخطوط، وثبوت نسبته ونسبة ما فيه إلى من يُنسَب إليه، مع الإشارة في الهوامش السفلية إلى المصدر الذي أفدنا منه في سدّ الخلة، وإكمال النقص.
3- الاجتهاد في ملء ما لم تسعفنا إلى ملئه النسخة المخطوطة ولا المصادر المتاحة، بإعمال الرأي، واللجوء إلى الفقهاء والمحققين - المعاصرين- في المذهب.
4- ترك مسافات فارغة ضمن معكوفات لما لم نجد سبيلاً إلى ملئه بما يقتضيه السياق، والتنبيه على ذلك في الهوامش.
5- ترقيم صفحات المخطوط، وتمييز وجوهها (المرموز لكلٍّ منها بالحرف أ) عن ظهورها (المرموز لكلٍّ منها بالحرف ب)، وإثبات رقم كل لوحة في أوَّلها.
6- التنبيه على ما أشكل علينا فهمه من ألفاظ المؤلف وعباراته، وحل ما أمكن من مقفله، مع الإشارة إلى مواضع ما حللناه وما تركناه في الحواشي السفلية للنص المحقق.
7- إضافة عناوين لما لم يعنون له المؤلف رحمه الله في بعض المواطن، وجعل ما أضفناه محصوراً ضمن معكوفتين، مع الإشارة في الهوامش إلى أنَّ تلك العناوين من زيادات التحقيق.
8- كتابة الآيات القرآنية وأجزائها بالخط العثماني، وعزوها إلى مواضعها في كتاب الله تعالى، بذكر اسم السورة ورقم الآية التي وردت فيها، بدءاً بالسورة ضمن معكوفتين، هكذا: [السورة: رقم الآية]، وجَعلنا ذلك عقب ذكر الآية مباشرةً، وليس في الحواشي.
9- تخريج الأحاديث الواردة التي أوردها المؤلف في النص، أو أحال عليها أو أشار إليها دون إيراد نَصِّهَا من دواوين السنة المعتبرة مع التزام ما يلي في التخريج:
أ- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فلا نتوسع في تخريجه، ونكف عن بيان درجته، اكتفاءً بما تفيد رواية أحد الشيخين له من الجزم بصحته.
ب- إذا لم يكن الحديث في أيٍّ من الصحيحين فنخرّجه من دواوين المحدثين المعتبرة بتقديم السنن الأربعة، ثم بقية المصادر مرتبةً حسب الأقدم تصنيفاً، ونورد كلام العلماء فيه، مع التفصيل في بيان حال رجال الإسناد المُتكلَّم فيهم، وعلله إن وُجدت، وتوثيق ذلك كلِّه، وما أنا في الحكم على الحديث إلاَّ ناقلٌ عن المُتقدِّمين، أو مُستأنسٌ بآراء المُتأخِّرين.
ج- أثناء العزو إلى الكتب الستة نذكر الكتاب والباب الذي ورد فيه الحديث، مع ما يسهل الرجوع إليه من رقم الحديث التسلسلي، أو رقم الجزء والصفحة، أو جميع ما تقدم.
د- عند عزو الحديث أو الأثر إلى غير الكتب الستة نكف عن ذكر اسم الكتاب والباب اكتفاءً بالإشارة إلى موضع النص بالجزء والصفحة أو الرقم التسلسلي أو هما معاً.
10- تمييز الاختيارات الفقهية لابن شعبان (وغالبها ترجيحات من آراء غيره) بكتابتها بخط غليظ.
11- تبيين معاني بعض الكلمات الغريبة الواردة في النص، بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الفقه، والتعليق على مواضع من الكتاب بإيجاز عند وجود ما يقتضي التعليق.
12- صدَّرنا الكتاب بمقدمة تحقيقية فيها ترجمة مختصرة للمؤلف رحمه الله، ودراسة وجيزة عن الكتاب.
13- ذيلنا الكتاب بثبت المصادر التي اعتمدناها في التحقيق والتوثيق، وفهارس للموضوعات وأخرى للآيات والأحاديث والآثار والأعلام المذكورين في الكتاب.
وإننا إذ ننفض غبار الزمن عن «الزاهي» لابن شعبان، ونقدمه - محقَّقاً - إلى المكتبات المفتقرة إليه وإلى أمثاله، لندين بالفضل في إخراج هذا الكتاب إلى القائمين على مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، الذين أمدونا بمخطوط الكتاب المحفوظ لديهم، وإلى كل من ساهم في إنجاح هذا العمل بجهد أو رأي أو مشورة أو مساهمة، وأخص منهم فضيلة الشيخ – المشرف على هذا العمل – فضيلة الشيخ الأستاذ محفوظ إدومو، الذي وسعني بعلمه وفضله أثناء التحقيق، وأثنِّي بالأفاضل الأجلاء، والأشياخ الفضلاء، الذين بسطوا لي يد العون في مراحل العمل المختلفة، فكان أمنَّهم عليَّ فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأمين ولد الشيخ محمد الحافظ ، والدكتور محمد شافعي مفتاح بوشية، والشيخ أحمد مزيد بن محمد عبد الحقّ، فجزى الله الجميع خيراً، وأعظم لهم أجراً، آمين، آمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
دبلن (جمهورية إيرلندا)
في الثاني عشر من جمادى الأولى 1432هـ
الموافق للسادس عشر من نيسان (أبريل) 2011م
وكتب
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
المبحث الأول
ترجمة المصنف
أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان
المطلب الأول: اسمُه وكنيتُه ونسبُه ولقبُه:
هو أبو إسحاق، محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة بن داود ابن سليمان بن أيوب الصيقل بن عبيدة بن محمد، العماري (من ولد عمار بن ياسر) ، المصري.
كنِّيَ بأبي إسحاق، واشتهر بابن الْقُرْطِيّ (بقاف مضمومة وراء ساكنة وبعدها طاء مكسورة وياء النسب) كما ضبطها أبو المظفر السمعاني والقاضي عياض .
قال السمعاني: هذه النسبة إلى القرط، والمشهور بالانتساب إليه: عثمان ونوح ابنا شعبان الْقُرْطِيّ، وابن أخيهما أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الفقيه .
وقيل: ابن القرظي نسبة إلى بيع القرظ كما ضبطه ابن حجر ، وضبطها الذهبي بالقاف والضاد (ابن القرضي) .
قلتُ: في النفس شيء من الضبطين الأخيرين، ولا يبعد أن يكون أحدهما أو كلاهما من تحريف النساخ أو المحققين.
المطلب الثاني: مولده:
لم يشر أحد ممن ترجم لابن شعبان إلى تاريخ مولده على وجه التحديد، إلا أنهم ذكروا أنه توفي سنة 355هـ وقد جاوز الثمانين سنة، وهذا يعني أنه ولد في بدايات العقد الثامن من القرن الثالث الهجري؛ أي من سنة 271 هـ، فصاعداً.
المطلب الثالث: شيوخه:
نشأ ابن شعبان في مصر وسمع من شيوخها، ولم ينتقل منها إلى غيرها كما ذكر ابن حجر ، لذلك لم يعرف لابن شعبان شيوخ من خارج المدرسة المصرية للمذهب، اللهم إلا من نزل بها أو أتاها في رحلة علمية للتحمل والأداء.
وشيوخ ابن شعبان صنفان:
أوَّلهما: شيوخ رواية أخذ عنهم الحديث وأسند من طريقهم أحاديث في الزاهي وغيره من المصنَّفات.
وثاني الصنفَين: شيوخٌ تفقَّهَ عليهم، وروى عنهم مسائل وآراء وروايات فقهيَّة.
وقد أسعفتنا المصادر المتاحة بذكر وترجمة جماعة من شيوخ ابن شعبان، نذكرهم، ونعرِّف بهم - باختصار - فيما يلي:
1- أبو الحسن، علي بن سعيد بن بشير بن مهران الرازي، المعروف بعَليكَ - والكاف في عليك علامةُ تصغير في (عَليّ) بالفارسية – المتوفى بمصر سنة 299هـ .
محدِّثٌ تكلِّم فيه، قدم مصر نحو سنة خمسين ومائتين، فكتب بها وحدث، وكان صَحِبَ السلطان، ووَليَ بعض الأعمال.
حدث عن: عبد الأعلى بن حماد النرسي، وجبارة بن المغلس، وبشر بن معاذ العقدي، ونوح بن عمرو السكسكي، ومحمد بن هاشم البعلي، وعبد الرحمن بن خالد بن نجيح، ونصر بن علي الجهضمي، والهيثم بن مروان، وآخرين.
وحدث عنه أبو جعفر الطحاوي - في مُشكل الآثار - وأحمد بن الحسن ابن عتبة الرازي، وعبد الله بن جعفر بن الورد، ومحمد بن أحمد بن خروف، وأبو القاسم الطبراني، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو منصور محمد بن سعيد الأبيوردي، وآخرون.
ذكره في شيوخ ابن شعبان ابنُ ناصر الدين، وابن ماكولا.
2- أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن حمّاد بن مسلم بن عبد الله بن عمر التجيبي، المصري، المعروف بزغبة، المتوفى سنة 318هـ .
حدث عن عمه عيسى بن حمّاد، والربيع بن سليمان، وعنه أبو بكر بن المقرئ، وابن شعبان.
3- أبو إسحاق، إبراهيم بن عثمان بن سعيد بن المثنى المصري، الأزرق، الخشاب، المتوفى في رمضان سنة 303هـ .
سمع بمصر يونس بن عبد الأعلى، والحسن بن سليمان (قبيطة)، وبدمشق أبا جعفر الخراساني، وبالعراق عباسَ بن محمد الدوري، وأبا بكر بن أبي الدنيا.
وروى عنه ابن شعبان، وأبو سعيد بن يونس، وقال: إنه صالح الحديث.
4- أبو العباس، حاجب بن مالك بن أركين الفرغاني، الضرير، المتوفى بدمشق سنة 306هـ .
قدم بغداد، وحدث عن أبي عمر حفص بن عمر الدوري، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وأبي سعيد الأشج، وأبي حاتم الرازي.
وروى عنه القاسم بن علي بن جعفر الدوري، وأبو سعيد الأعرابي، ويوسف بن القاسم، وسليمان الطبراني، وابن شعبان.
5- أبو الطاهر، حامد بن محمد بن عبد الله بن عبد الخالق .
لم أقف من أخباره إلا على ما يفيد كونه من شيوخ ابن شعبان، حيث جاءت في تاريخ دمشق قصيدةٌ مسمطةٌ في السُّنة، تسمى الدامغة، أسندها ابنُ عساكر من طريق ابن شعبان عن أبي الطاهر عن أبيه (ناظم القصيدة)، ومطلعها:
الحمد لله مليك الملك
مسخر البحر ومجري الفلك
6- أبو العلاء، محمد بن أحمد بن جعفر بن أبي جميلة الذهلي، الوكيعي، الكوفي، الإمام المعمر، الثقة، المتوفى في جمادى الآخرة، سنة 300هـ .
نزيل مصر، وكان من أئمة الحديث، قال عنه ابن يونس المصري: «كان ثقةً ثبتاً».
سمع أباه أحمد بن جعفر الوكيعي عاصمَ بن علي، ومحمد بن الصباح الدولابي، وأحمد بن حنبل، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وأحمد بن جميل المروزي، وأحمد بن صالح المصري، والحارث بن مسكين، وأبي خيثمة زهير بن حرب، وأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وأبي بكر عثمان بن محمد بن أبي شيبة، وعلي بن الجعد، وعلي بن المديني، وهارون بن سعيد الأيلي، وهشام ابن عمار الدمشقي، وآخرين.@25@
وروى عنه النسائي، وابن عَدِيّ، وحمزة الكناني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، والحسن بن رشيق العسكري، وابن شعبان، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بنُ الأعرابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، وآخرون.
7- أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار النسائي (نسبة إلى نَسَا)، القاضي، المتوفى بفلسطين (وقيل بمكة) سنة 303هـ .
هو المحدِّثُ المشهور، أحدُ الأئمة المبرزين، والحفَّاظ المتقنين، صاحبُ السنن الكبرى، والتفسير، وعمل اليوم والليلة، وغيرها من المصنفات المفيدة.
طاف البلاد، وسمع بخراسان، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة، من جماعة يطول ذكرهم، من أبرزهم إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار.
وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني،، والحسن بن رشيق العسكري، وابن شعبان، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وخلقٌ كثير.
8- أبو بكر، عبد السلام بن أحمد بن سهيل بن مالك البصري، نزيل مصر، المتوفى في ربيع الآخر سنة 298هـ .
كان صالحاً صدوقاً، سمع هشامَ بن عمار، وعيسى بن حماد زغبة، وجماعة.
وروى عنه حمزةُ بن محمد بن علي الكناني، وأبو سعيد بن يونس، وجماعة آخرهم موتاً الحسين بن رشيق.
9- عبد الله بن أزهر بن سهيل الخولاني المصري، المتوفى بعد سنة 300هـ .
له رواية عن يزيد بن سعيد الإسكندراني.
قال - في روايته - ابنُ يونس المصري: تعرف، وتنكر.
10- أبو عبد الله، محمد بن حفص بن عبد الرحمن الطالقاني، المرابطي، نزيل مصر، كان حيّاً سنة 303هـ .
روى عن قتيبة بن سعيد، وصالح بن محمد الترمذي.
وروى عنه أبو أحمد بن عدي الجرجاني، والحسن بن رشيق العسكري، وأحمد بن محمد بن إسحاق حرمي، وأبو جعفر الطحاوي.
ضعَّفَه الدارقطني.
11- أبو شيبة، داود بن إبراهيم بن داود بن يزيد بن روزبة البغداديُّ، الفارسيُّ الاصل، المتوفى بمصر سنة 310هـ .
شيخٌ محدثٌ صدوقٌ، سكن مصر، وقال - فيه - الدارقطني: صالح.
سمع محمَّدَ بن بكار بن الريان، وعبد الله بن عمر بن محمد بن أبان، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن حميد الرازي، وعبد الله بن مطيع البكري، وعبد الأعلى بن حماد، والعلاء بن عمرو، وأحمد بن عبد الرحمن بن بكار.
وروى عنه أبو جعفر الطحاوي، وأبو حاتم بن حِبَّان، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو أحمد بن عدي الجرجاني، وأبو بكر ابن المقرئ الأصبهاني.
12- محمد بن إبراهيم بن يحيى بن إسحاق بن جناد أبو بكر المنقري، المتوفى في ذي الحجة الحرام سنة 276هـ .
يقال إن أصله من مرو الروذ.
سمع مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وأبا الوليد الطيالسي، وأبا عمر الحوضي، وموسى بن إسماعيل التبوذكي، ومحمد بن أبي غالب.
وروى عنه موسى بن هارون، وعبد الله بن محمد البغوي، وأبو عبد الله الحكيمي، وعلي بن محمد المصري، ومحمد بن العباس بن نجيح البزاز، وأبو جعفر الطحاوي، وغيرُهم.
13- أبو عبد الله (وقيل: أبو عبيد الله)، محمد بن الربيع بن سليمان بن داود الجيزي، المصري، المتوفى في ربيع الأول سنة 324هـ .
كان من الشهود بمصر ، وكان مقدما فيهم.
سمع أباه، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهارون بن سعيد الأيلي ومحمد بن عزيز الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة بن يحي، وأبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس المكي.
وروى عنه إبراهيم بن علي التمار، ومحمد بن محمد الحلبي، وأبو بكر ابن المقري، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو بكر محمد بن جعفر البغدادي، وغيرُهُم.
15- أبو بكر، محمد بن زبّان بن حبيب بن زبّان بن حبيب المصري، الحضرمي، المتوفى في جمادى الأولى 317هـ .
إمامٌ، قدوةٌ، حُجَّةٌ، محدِّثٌ، روى عن أبيه، ومحمد بن رمح التجيبي، وسلمة بن شبيب، ومولاه الحارث بن مسكين.
وحدَّث عنه أبو سعيد بن يونس، وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري، وأبو أحمد بن عدي الجرجاني.
17- أبو الحسن، عبيد الله بن المنتاب بن الفضل بن أيوب البغدادي، الكرابيسي، وقيل في اسمه غير هذا .
ولي قضاء المدينة للمقتدر بالله، وقيل: إنه ولي قضاء مكة، بل والشام أيضاً.
شيخ من شيوخ المالكية، وفقهاء أصحاب مالك وحذاقهم ونظارهم وحفاظهم، وأحد أئمَّة المذهب البغداديين.
كان من أصحاب القاضي إسماعيل، وبه تفقه، وله كتاب في مسائل الخلاف والحجة لمالك.
روى عنه أبو القاسم الشافعي، وابن شعبان، وغيرُهُما.
16- أبو بكر، أحمد بن موسى بن عيسى بن صدقة الصدفي -مولاهم- المصري، المعروف بالرَّباب (بالباء الموحدة التحتانية وقبلَها راءٌ مشددة)، المتوفى سنة 306هـ .
فقيه مشهور بمصر، من أصحاب محمد بن عبد الله بن عبد الحكم .
17- أبو الطاهر، محمد بن سليمان بن داود القوصي، المصري .
روى عن أبي بكر بن الوقار، وروى عنه ابن شعبان.
18- أبو الحسن، محمد بن محمد بن عبد الله بن النفاح (بفتح النون والفاء المشددة وفي آخرها حاء مهملة) بن بدر الباهلي، السامري الأصل، المتوفى بمصر في ربيع الآخر سنة 314هـ .
كان صاحب حديث ثقةً ثبتاً متقللاً، من أهل الصيانة.
سافر إلى الشام فكتب عن شيوخها، ودخل مصر فاستوطنها وحدث بها حتى مات.
سمع أبا عمر حفص بن عمر الدوري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن إبراهيم الدورقي.
وحدَّث عنه حمزة الكناني، وأبو سعيد بن يونس، وابن شعبان.
المطلب الرابع: تلاميذه:
أخذ عن ابن شعبان وتفقه عليه وسمع معه نخبة من العلماء، ويمكن تقسيم الآخذين عنه إلى قسمَين: قسم تفقه عليه وبعضهم لازمه وتخرج به بل خلفه أحدهم في حلقته من بعده، وقسم روى عنه الحديث أو سمع عليه بعض كتبه الفقهية أو غيرها.
وقد أسعفتنا كتب التراجم بالتعرف على بضع وثلاثين منهم، نسميهم، ونعرِّف بمن تيسر التعريف به بما تيسَّر، ونحيل إلى المصادر من أراد التوسع فيما يلي:
أبو أحمد (وأبو علي)، عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين بن محمد الطبراني، الأكواخي (نسبة إلى موضع قرب بانياس استوطنه المترجَم)، المتوفى في ربيع الأول سنة 993هـ .
أبو القاسم، خلف بن القاسم بن سهلون (ويقال: ابن سهل) بن أسود، المعروف بابن الدبَّاغ، المتوفى في ربيع الآخر سنة 393هـ .
محمد بن أحمد بن الخلاص البَجَّاني ، المتوفى نحو سنة 400 هـ .
أبو القاسم، أصبغ بن عبد الله بن مسرة القرطبي، الحنّاط، المتوفى في شهر رمضان سنة 388هـ .
أبو المطرِّف، عبد الرحمن بن خلف بن سدمون التجيبي (من أهل أقليش)، المتوفى سنة 391هـ .
أبو عبد الله، محمد بن علي بن أبي الحسين القرطبي، المتوفى في صفر الخير سنة 372هـ .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قادم بن زيد القرطبي، المتوفى سنة 380 أو 388هـ .
أبو بكر، عتيق بن أحمد الشرفي (من شرف مصر) .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد بن عبيد بن موسى الوشاء، المتوفى في جمادى الآخرة سنة 397هـ .
أبو عبد الملك، أمية بن عبد الله الهمداني الميورقي (نسبة إلى ميورقة)، المتوفى في ذي القعدة الحرام سنة 413هـ .
أبو عبد الملك، مروان بن عبد الملك القرطبي، الفراء، المتوفى سنة 383هـ .
أبو القاسم، عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي، الجوهري، المتوفى في رمضان سنة 381هـ .
أبو المطرف، عبد الرحمن بن هارون بن عبد الرحمن الأنصاري،المعروف بالقنازعي، المتوفى سنة 413هـ .
أبو محمد، إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي القرشي، العامري (من ولد عامر بن لؤي) الإشبيلي، المتوفى بعد سنة400هـ .
أبو زيد، عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار، المتوفى سنة 396هـ .
أبو جعفر، أحمد بن عطاء الله القرشي، المتوفى سنة 391 أو 392هـ.
أبو الحسن، حسن بن محمد بن حسن الخولاني، الكانشي، المتوفى سنة 347هـ .
أبو بكر، خالد بن خالد بن يزيد المصري .
أبو عبد الله، محمد بن نظيف، المالكي، البزّار، المتوفى سنة 355هـ .
سعيد بن محمد بن سيِّد أبيه بن مسعود الأموي، البلدي (من أهل بلدة) .
أبو محمد، عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي (من أهل أصيلة)، المتوفى في ذي الحجة سنة 392هـ .
أبو الفتح، أحمد بن عمر بن سعيد بن ميمون الجهازي .
أبو بكر، محمد بن سليمان (وقيل: محمد بن إسماعيل، وقيل: محمد بن بكر) بن المفضَّل النعالي (نسبة إلى عمل النعال) الصراري (نسبة إلى النعال الصرارية)، المتوفى سنة 380هـ .
أبو عبد الله، محمد بن يحيى الأجدابي (نسبة إلى أجدابيا الواقعة بين طرابلس وبنغازي من أعمال ليبيا اليوم) .
أبو رجاء، زكرياء بن محمد (مولى لب بن فضل)، من أهل تدمير، المتوفى بمرسية سنة 371هـ .
أبو بكر، محمد بن عيسى الأقريطشي .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن قاسم الفاكهي، القرطبي .
أبو عبد الله، مزاحم بن عيسى (من أهل سرقسطة)، المتوفى سنة 394هـ .
أبو الحسن، علي بن أحمد بن زكريا بن الخطيب، المعروف بابن زكرون، الطرابلسي، المتوفى سنة 370هـ .
أبو بكر، يحيى بن مجاهد بن عوانة الفزاري، القرطبي، المتوفى سنة 366هـ .
أبو القاسم، خلاص بن منصور بن سملتون البزاز (من أهل بطليوس) القرطبي، المتوفى سنة 380 هـ .
أبو محمد، عبد الله بن سعد (من أهل قرطبة)، المتوفى قبل سنة 370هـ .
المطلب الخامس: مصنفاته:
نظراً للمكانة العلمية المرموقة لابن شعبان في عصره ومصره، فقد تصدى للتأليف في موضوعات منوعة شملت الفقه والتفسير والسير والآداب والأخلاق، وتنوعت كتبه بين جوامع انتظمت عامَّةَ أبواب الفقه مثل كتاب «الزاهي» و«مختصر ما ليس في المختصر» وأخرى أُفرِدَت لمسائل فقهية أو أخلاقية مخصوصة.
وقد أسعفتنا كتب التراجم مع ما ذكره المؤلف في «الزاهي» بعناوين عشرين كتاباً منها، ووقفنا من خلال تحليل هذه العناوين والنقول المبثوثة - منها وعنها - هنا وهناك على معلومات قيِّمة عن ابن شعبان وكتبه، وعن الحركة العلمية في عصره أيضاً.
وفيما يلي نأتي على ذِكر ما تيقنَّا كونَه من تآليف ابن شعبان رحمه الله:
مختصر ما ليس في مختصر عبد الله بن عبد الحكم .
هكذا سماه ابن شعبان في ثلاثة مواضع من «الزاهي»؛ فقال: وقد ذكرت حديث سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع ما معه من الأحاديث، فيما عملتُ من «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله بن عبد الحكم» في كتاب الجامع، والحمد لله. اهـ .
وقال في موضع ثانٍ:
وقد أعتق أبو بكر الصديق رضي الله عنه سبعةً كلهم يعذب في الله عز وجل، وقد ذكرتُ أسماءهم في «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله». اهـ .
وفي موضع ثالث:
ولا يجوز القراض والمال عند رب المال، فإن فعل هذا على غير الأمانة، وله أجر مثله إن عمل، وقراض المثل غير إجارة المثل، (وما كشفت عنهما) في كتاب «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله»، وبالله التوفيق. اهـ .
وذكره الحميدي في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي، أبي محمد القرشي العامري، وزاد بأن ذكر سنده إليه فقال:
أخبرنا أبو عمر النمري، قال: نا إسماعيل بن عبد الرحمن بكتاب أبي إسحاق ابن شعبان في مختصر ما ليس في مختصر ابن عبد الحكم، وبكتابه في الأشربة، وبكتابه في النساء، عن أبي إسحاق سماعاً منه. اهـ.
وذكره الضبِّيُّ – أيضاً - في ترجمة أبي علي إسماعيل بن القاسم القالي وذكر إسناده في روايته، فقال:
أخبرنا القاضي أبو القاسم عن ابن موهب، عن أبي عمر، قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بكتاب أبي إسحاق بن شعبان في مختصر ما ليس في مختصر ابن عبد الحكم، وبكتابه في الأشربة، وبكتابه في النساء، عن أبي إسحاق سماعاً منه. اهـ.
ويكثر النقل عنه في كتب المالكية عموماً، سواء في ذلك متقدمهم ومتأخرهم، وخاصة اللخمي في «التبصرة»، وابن رشد في «البيان والتحصيل» إلا أنهم يسمونه - كما يسميه عامة من ترجم لابن شعبان - مختصر ما ليس في المختصر.
ومما يفسر لنا العناية الخاصة التي يوليها ابن شعبان لمختصر ابن عبد الحكم أنه تفقه وروى كتبه الفقهية على يد تلميذه أبي بكر أحمد بن موسى الصدفي المعروف بالرباب، فضلاً عن تتلمذه – كما أسلفنا - على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، رحمهم الله جميعاً.
2- الشعباني الزاهي، وهو هذا الكتاب – الذي بين أيدينا - وسوف نخصُّه بتعريف مفصل به -إن شاء الله-.
3- كتاب أحكام القرآن.
ذكر هذا الكتاب كل من ترجموا لابن شعبان باسم كتاب أحكام القرآن، أو كتاب في أحكام القرآن ، ونقل منه أبو بكر ابن العربي القرطبي في تفسيره .
4- كتاب الأشربة .
ذكره جميع من ترجموا لابن شعبان، ورواه الحافظ أبو عمر ابن عبد البر من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن محمد بن القاسم بن شعبان كما نص عليه الحميدي والضبي .
يبدو من عنوانه، ومن الأخبار المنقولة منه أن موضوعه الأنبذة؛ ما يجوز منها وما لا يجوز.
ونقل أبو عمر ابن عبد البر في كتبه نقولا من هذا الكتاب بسنده المتقدم ومن ذلك قوله في «التمهيد»:... مرسل مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الغبيراء؟ فقال: «لا خير فيها»، ونهى عنها.
قال مالك: وسألت زيد بن أسلم عن الغبيراء؟ فقال: «هي الأسكرة».
هكذا رواه أكثر رواة الموطأ مرسلاً، وما علمتُ أحداً أسنده عن مالك إلا ابن وهب، وحديث ابن وهب في ذلك حدثَنَاه إسماعيلُ بن عبد الرحمن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان، قال: حدثنا غير واحد عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عن الغبيراء، فذكره سواء.
قال أبو إسحاق بن شعبان: وحدثناه أحمد بن محمد عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك مثلَه.
هكذا قال ابن شعبان والذي في الموطأ لابن القاسم في هذا الحديث الإرسال كرواية يحيى وغيره والأسكرة نبيذ الأرز، وقيل: نبيذ الذرة.اهـ .
وقال -أيضاً-: وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن القاسم ابن شعبان، حدثنا عبد الرحمن بن أحمد، حدثنا محمد بن ميمون، ومحمد بن عبد الله الضبي، قالا: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي عن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، قال: حدثني أبي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجمعوا بين الزهو والرطب والزبيب، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة».
أخبرنا إسماعيل، حدثنا محمد بن شعبان، حدثنا إبراهيم بن عثمان، حدثنا حاتم بن قتيبة، حدثنا علي بن حجر، حدثنا داود بن الزبرقان، قال: حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنبذوا الزهو والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعاً، وانتبذوا كل واحد منهما على حدته».
وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن القاسم ابن شعبان، قال: حدثنا علي بن سعيد، قال: حدثنا جبارة بن المغلس الجماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن الربيع عن عائذ بن نصيب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخلَط التمر والزبيب جميعاً، وقال: «ينبذ هذا على حدة، وهذا على حدة» .
5- كتاب النساء .
ذكره كل من ترجم لابن شعبان، وسمَّاه بعضهم (جماع النسوان).
ويبدو من خلال ما وصلنا من نصوص الكتاب أنه يتكلم عن مسألة ما يجوز وما لا يجوز من إتيان النساء، ومما يُصدِّقُ ذلك ما نقله - عنه - أبو بكر ابن العربي حيث قال رحمه الله: اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها؛ فجوزه طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب «جماع النسوان» و«أحكام القرآن» وأسند جوازه إلى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة. اهـ .
6- المناسك .
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... وإن زاد في التلبية ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا من طريق عبد الله بن الفضل الهاشمي فحسن؛ وهو: «لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ». وقد شرحت من وصف هذا في كتاب المناسك. اهـ .
وذكره جُلُّ من ترجم لابن شعبان، وهو كما يظهر من عنوانه في أحكام الحج والعمرة، ولعل النقل الذي نقله ابن عبد البر في «التمهيد» من هذا الكتاب حيث قال رحمه الله:
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شعبان، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا يونس، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، وغيره، عن ابن شهاب، أنه لا حصبة لمن تعجل في يومين.
قال أبو إسحاق بن شعبان: إنما التحصيب لمن صدر آخر أيام منى وبذلك سميت تلك الليلة ليلة الحصبة. اهـ .
7- النوادر.
نسبه إلى ابن شعبان عامة من ترجموا له .
ويوحي عنوانه أنَّه يورد فيه القصص الظريفة والمواعظ الطريفة والأشعار المستحسنة كما هو الشأن في نظائره غالباً.
ولعل منه ما أخرجه ابن عساكر في أبي جعفر الخراساني الشافعي قال: ذكر أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الْقُرْطِيّ الفقيه: حدثني إبراهيم بن عثمان، حدثني أبو جعفر الخراساني بدمشق - من أصحاب الشافعي – قال: قال الأصمعي: دخلت المقام، فإذا أنا بامرأة تبكي ابناً لها، وهي تقول:
لما نشا ورجوته لغد
وظننت أن يقوى به ظهري
ويكون من أعمامه خَلَفا
ويشد بعد تأطر أزري
رشقته عن قوس بلا تِرة
سهم المنون بمنزل قفر
ما زلت حتى ذقت لوعتها
فأمرّ منها لوعة الصبر
ولا يبعد أن يكون من مادة هذا الكتاب ما رواه ابن عساكر -أيضاً- في ترجمة أبي بكر محمد بن عيسى الأقريطشي، قال: حدَّثَ بدمشق عن محمد بن القاسم المالكي، بسنده إلى بعض الصالحين، قال (من الطويل):
ننافس في الدنيا ونحن نعيبها
لقد حذرتناها لعمري خطوبها
وما نحسب الساعات تبلغ آنه
على أنها فينا سريعٌ دبيبها
كأني برهطٍ يحملون جنازتي
إلى حفرةٍ يحثى علي كثيبها
فكم لي من مسترجعٍ متوجعٍ
وباكيةٍ يعلو علي نحيبها
وإني لممن يكره الموت والبلى
ويعجبني روح الحياة وطيبها
فحتى متى حتى متى وإلى متى
يدوم طلوع الشمس لي وغروبها
فيا هادم اللذات ما منك مهربٌ
تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
رأيت المنايا قسمت بين أنفسٍ
ونفسي سيأتي بعدهن نصيبها
8- السنن قبل الوضوء .
ذكره جلُّ من ترجم لابن شعبان، وهو كما يبدو من عنوانه يتناول السنن التي تسبق الوضوء كالاستنجاء، والسواك، وما شابه ذلك.
وقد يكون النقل الذي نقله في السواك من مرويات ابن شعبان في هذا الكتاب.
قال ابن المنير: روى ابْن شعبان الفقيه المالكي بسنده أنه عليه السلام كان يجعل السِّواك موضع القلم من أُذُن الكاتب. اهـ .
9- كتاب في الفدية.
موضوع هذا الكتاب هو (الخلع)، ويتناول افتداء المرأة نفسها من زوجها.
أشار إليه ابن شعبان في زاهيه بقوله:... وإن كان مالها كله، وإن كان الضرر من قِبَله، رد عليها ما صار إليه منها، وجاز طلاقُه عليها، والفداء تطليقة ثانية، ولهذا كتاب مفرد عملناه فيه اختلاف الناس في هذا الباب. اهـ .
10- كتابٌ في تحريم المُسكِر.
أشار إليه ابن شعبان في زاهيه بقوله:... ولهذا كتاب كامل عملناه في تحريم المسكر. اهـ .
قلتُ: قد يكون هذا الكتاب هو -بعينه- كتاب «الأشربة» لابن شعبان، والله أعلم.
11- كتابٌ في طلاق المُكرَه.
12- كتاب في طلاق السكران.
أشار إليه، وإلى الذي قبلَه ابنُ شعبان في زاهيه بقوله:... وفي طلاق السكران المتلطخ قولان، وبوقوعه أقول، وطلاق المكره لا يلزم، ولهاتين المسألتين كتابان مما عملت.اهـ .
13- مناقب مالك (فضائل مالك) .
عنوانه يدل على مضمونه، وقد ذكر عياض أن ابن شعبان نقل بعض رسائل مالك، ولا يبعُد أن يكون ما نقله من مادة كتابه هذا ، وقد يكون من هذا الكتاب ما نقله الباجي - من طريق أبي القاسم الجوهري – قال:
حدثنا أبو إسحاق بن شعبان، حدثني إبراهيم بن عثمان، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا سعيد بن عفير: سمعت مالك بن أنس يقول: أما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُحبُّ أن يؤتى به على ألفاظه. اهـ .
14- الرواة عن مالك، أو تسمية من روى عن مالك بن أنس (رجال مالك) ذكره كل من ترجم له، وأكثر النقل منه من جاء بعدَه؛ ممن ألف في الرواة عن مالك، أو تكلم عليهم، خاصة القاضي عياض، في مواضع متفرقة من المدارك.
وإن حالت عوادي الزمن بيننا وبين هذا الكتاب، فقد زودنا الإمام الذهبي بديباجة خطبته فقال: إني وقفتُ على تأليف ابن شعبان في تسمية الرواة عن مالك، قال في أوله: بدأت فيه بحمد الله الحميد ذي الرشد والتسديد، الحمد لله أحق ما بدئ، وأولى من شُكِر، الصمد الواحد، ليس له صاحبة ولا ولد، جلَّ عن المثل، فلا شبيه له ولا عدل... أحاط علمه بالأمور، ونفذ حكمه في سائر المقدور. اهـ .
وهذا الكتاب يرويه الحافظ ابن عساكر من طريق القاضي المالكي أبي الحسن علي بن جعفر السلفاني .
وقد نقل السيوطي في «ترتيب الممالك» نبذة منه، قال إنًّه وجدها مقيَّدةً في آخر نسخةٍ من طبقات عبد الملك ابن حبيب ، وفيها أنَّ ابنَ شعبان حدَّث بهذا الكتاب سنة 350هـ، أي في آخر حياته رحمه الله .
15- شيوخ مالك (رجال مالك) .
ذكره عامة من ترجموا لابن شعبان وهو كما يظهر من عنوانه يعدد شيوخ مالك بن أنس ممن له عنهم رواية.
وقد رواه ابن الأبار من طريق عن أبي عبد الله بن قاسم الفاكهي عن ابن شعبان وسماه: رجال مالك .
ولعل النقول التي تنسب لابن شعبان ممَّا ينفرد به من ذكر شيوخ مالك هي من هذا الكتاب، ومن ذلك ما نقله عياض من كون مالك روى عن أبيه عن جده عن عمر .
16- مواعظ ذي النون الإخميمي.
نسب هذا الكتاب إلى ابن شعبان أكثر من ترجموا له ، وهو كما يبدو من عنوانه يتناول مواعظ المتصوف أبي الفيض ذي النون المصري (واسمه ثوبان ابن إبراهيم الإخميمي – نسبة إلى بلدة إخميم – النوبي، المتوفى بالجيزة سنة 245هـ)، وكان مشهوراً بمواعظه .
ولعل القصة التي رواها ابن عساكر في تاريخه من طريق عبد الله بن بكر الطبراني عن ابن شعبان أن تكون مما رواه ابن شعبان في كتابه هذا، ونصُّها:
حدثني محمد بن سليمان بن داود القوصي عن سعيد الإسكاف، عن عمرو السراج، قال: قلت لذي النون: يا أبا الفيض كيف كان خلاصُك من المتوكل وقد أمر بقتلك؟ قال: لما أوصلني الغلام إلى الستر رفعه ثم قال لي: ادخل، فنظرت فإذا المتوكل في غلالة مكشوفَ الرأس، وعُبَيد الله قائمٌ على رأسه متكئٌ على السيف، وعرفت في وجوه القوم الشر، ففتح لي باب، قلت في نفسي: يا من ليس في السموات قطرات، ولا في البحار قطرات، ولا في ديلج الرياح دلجات، ولا في الأرضين خبيات، ولا في قلوب الخلائق خطرات، ولا في أعصابهم حركات، ولا في عيونهم لحظات، إلا وهي لك شاهدات، وعليك دالات، وبربوبيتك معترفات، وفي قدرتك متحيرات، فبالقدرة التي تحير بها من في الأرضين ومن في السموات، إلا صليت على محمد وعلى آل محمد، وأخذتَ قلبَه عني، قال: فقام إليَّ المتوكل يخطو حتى اعتنقني ثم قال: أتعبناك يا أبا الفيض. إن تشأ أن تقيم عندنا فأقم، وإن تشأ أن تنصرف فانصرف، فاخترت الانصراف. اهـ .
17- كتاب الأشراط .
ذكره عامة من ترجموا له، ويظهر من عنوانه أنه في بيان ما يجوز وما لا يجوز، وما يعتبر وما لا يعتبر من الشروط الواقعة في الوثائق والعقود.
18- كتاب فضائل رمضان.
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... ولفضل صيام شهر رمضان كتابٌ كاملٌ مما عملتُ، ليس هذا موضعه. اهـ .
19- كتاب في صيام عاشوراء.
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... وصيام يوم عاشوراء له كتاب مفرد مما عملناه. اهـ .
20- كتاب فيما يحرم بالرضاع أو هو(كتاب في لبن الفحل).
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... والرضاعة من قبل الفحل يحرم على اختلاف فيها. وبهذا أقول، ولي في هذا كتاب مفرد.اهـ .
خاتمة حول مؤلفات ابن شعبان:
أختم ما وفقني الله تعالى له من التعريف بما تيسَّر من مؤلفات ابن شعبان بتنبيهين اثنين؛ أولهما أني لم أذكر بعض الكتب لاحتمال كونها أسماء لكتب أخرى ذكرتها فيما ذكرت، مثل كتاب الأحكام، إذ ترددتُ بين كونه كتاباً مستقلاً بذاته، أو كون هذا العنوان اختصاراً للعنوان الأتم لكتاب آخر، وهو «أحكام القرآن»، ومثل ذلك التبست علي العلاقة – إن وجدت – بين كتاب السنن ، وكتاب السنن في الوضوء، والله أعلم وأحكم.
والتنبيه الثاني ألخِّصُ فيه ما قلته وأنا أعدد مؤلفات أبي مروان عبد الملك بن حبيب السلمي، في مقدمتي التحقيقية لكتابه «الأحكام» الذي فرغت من تحقيقه مؤخراً، وخلاصة ما قلته هناك أن من العرف الشائع عند المالكية التعبيرُ بصيغة الجمع عند الحديث عن الكتب الضخمة، فالمدونة عندهم كتاب (أو ديوان) واحد يوصف بأنه كتب، وكذلك الحال بالنسبة للأسدية والموازية وجامع ابن يونس وغير ذلك، حتى إن القاضي عياض: - وهو الذي أورد قول أبي مروان أنَّه صنَّف ألف كتاب وخمسين كتاباً - قال في موضع آخر من ترجمته: «... ألَّفَ ابنُ حبيب كتباً كثيرةً... منها الكُتُب المسماة بالواضحة في السُّنَن والفقه » .@50@
وإذ تلفتُ النظرَ صيغةُ الجمع في قول عياض: «الكُتُب المسماة بالواضحة» إلى موسوعيَّتها وتعدد كتبها؛ فإن الأمر ذاته ينسحب على كثير من العناوين التي تنسب إلى بعض العلماء على أنَّها كتب مفردة، مع أنها قد تكون أجزاءً أو أبواباً أو كتباً من كتاب واحدٍ أوسع منها، يجمعها أو يجمع أكثرَها.
وبناء على ما تقدم يمكن أن يكون كتابا ابن شعبان في الطلاق وكتابه في الخلع، أجزاء أو فصولاً من كتاب مصنَّف في مسائل الطلاق وأحكامه، وما يلحق به، وكذلك الحال بالنسبة لمناقب مالك وشيوخه ورجاله.
كما يمكن أن يكون بعضها رسالة صغيرة لا تتعدى في حجمها اللوحة واللوحتين، خاصة إن كان حالها موافقاً لما في النبذة التي أوردها الجلال السيوطي من كتاب رجال (الرواة عن) مالك، المعنون - أيضاً - بتسمية من روى عن مالك بن أنس، وهذا العنوان يشير إلى أن ليس في الكتاب سوى ذكر أسماء الرواة، مع أنَّ أسماءهم يمكن أن تستوعبها لوحة أو لوحتان من المخطوط.
ومثل ذلك يقال عن كتب وأجزاء كثيرة يمكن ضم بعضها إلى بعض، أو استخراج بعضها من بعض.
هذا ما استحسنتُ الإشارة إليه، والتنبيه عليه، وما توفيقي إلا بالله.
المطلب السادس: من أخلاقه ومواقفه:
كان ابن شعبان رحمه الله من المتمسكين بالسنة النابذين للبدعة، يتسم بالورع والزهد في الدنيا، والبعد عن الأهواء.
قال الإمام الذهبي في ترجمته: «كان صاحب سنة كغيره من أئمة الفقه في ذلك العصر» .
ولما علم بنبأ قرب دخول العبيديين مصر - وكان شديد الذمّ لهم - دعا الله تعالى أن يميته قبل أن يدركهم، فكانت دعوته مستجابة .
ومما يدل على بغضه لهم وإعراضه عن الدنيا ما حكاه القابسي قائلاً: أرسل معزّ بني عبيد، قبل دخوله مصر، الى أبي إسحاق ابن شعبان صلة من مائة مثقال، وكتاباً مع رسوله ابن الديلمي، فقرض ابن شعبان البسملة من الكتاب، وأحرق باقيَه في الشمعة أمام الرسول، ورد المائة عليه، وقال له – أي للرسول -: لولا أنه ثبت عندي أنك سنّي، ما خرجتَ من هذه الدار، ولجعلتُ من يقتلك .
وكان الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين بالأندلس يوجه سرّاً كل عام إلى كل واحد من علماء مصر صلة سَنية (مئتي مثقال) ويخص ابن شعبان بضعفها، وفعل ذلك بعده صاحب القيروان فردها ابن شعبان وأساء القول فيه .
المطلب السابع: وفاته وثناء العلماء عليه:
توفي ابن شعبان بعد حياة حافلة بالعلم، وقد جاوز سِنُّه ثمانين سنة، وكانت وفاته يوم السبت، لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة 355هـ - وهي سنة دخول بني عبيد الروافضِ إلى مصر - ودفن يوم الأحد، وصلى عليه أبو علي الصيرفي رحمه الله، وخلق عظيم .
وخلَّف رحمه الله ذكراً عاطراً بين العلماء، فأثنوا عليه بما فيه، وما هو أهله، ومن ذلك قول القاضي عياض: كان ابن شعبان رأس المالكية بمصر، وأحفظهم للمذهب، مع التفنن، لكن لم يكن له بصر بالنحو .
وقال القاضي عياض - في ابن شعبان - نقلاً عن الفرغاني: كان رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنن في سائر العلوم، من الخبر والتاريخ والأدب، الى التديّن والورع... وكان واسع الرواية، كثير الحديث، مليح التأليف .
وعن ابن مفرّج العنسي: كان ابن شعبان واسع الرواية كثير الحديث شيخ الفتوى وحافظ البلد، وكذلك قال أيضاً ابن أبي زيد فيه .
وقول الذهبي عنه: كان صاحب سنة واتباع، وباع مديد في الفقه، مع بصر بالأخبار، وأيام الناس، مع الورع والتقوى، وسعة الرواية .
وفي «تاريخ الإسلام»: كان ابن شعبان صاحب سنة كغيره من أئمة الفقه في ذلك العصر .
ومن النقول السابقة وما شابهها من أقوال العلماء، مترجمين ومؤرخين وفقهاء، تتبين لنا مكانة ابن شعبان الرفيعة عند الأئمة حيث بالغوا في الثناء عليه علماً وورعاً، رغم ما قد يعكر على ذلك من مغامز، سنعرِّج عليها في المطلب التالي ونزنها بميزان النقد العلمي إن شاء الله.
المطلب الثامن: مآخذ العلماء على ابن شعبان ومناقشتهم في ما ادعوه:
أثنى كثير من العلماء على ابن شعبان، في علمه وخلقه، وإن كان لبعضهم عليه مآخذ في علمه بالنحو، وفي بعض آرائه الفقهية، وفي مروياته، ونذكر من ذلك ما يلي:
قال الذهبي عنه في «تاريخ الإسلام»: ولم يكن بالمتقن للأثر مع سعة علمه .
وذكر عياض نقلاً عن الفرغاني أنَّ ابن شعبان كان يلحن، ولم يكن له بصرٌ بالعربية، مع غزارة علمه .
وقال في المدارك: ذُكِرَ لي أن أبا الحسن القابسي، وأبا محمد بن أبي زيد رحمهما الله تعالى، وغالب ظني – والكلام لعياض - أنه أبو الحسن، كان يقول في ابن شعبان: إنه ليّن الفقه، وأما كتبه ففيها غرائب من قول مالك، وأقوال شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته، ليست مما رواه ثقات أصحابه، واستقر من مذهبه .
وقال ابن حزم بعد أن أورد – في تحريم المعازف - حديثاً في سنده ابنُ المبارك وابنُ شعبان: وكل من دون ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون، وابن شعبان في المالكيين نظير عبد الباقي بن قانع في الحنفيين، قد تأملنا حديثهما فوجدنا فيه البلاء البين، والكذب البحت، والوضع اللائح، وعظيم الفضائح، فإما تغير ذكرهما، أو اختلطت كتبهما، وإما تعمدا الرواية عن كل من لا خير فيه من كذاب، ومغفل، يقبل التلقين .
ونخلص مما مضى إلى حصر مآخذ العلماء على ابن شعبان في أمور:
أولها: اللحن في العربية، وهذا ما لم نجد ما يدل عليه في «الزاهي»، ولا فيما وقفنا عليه من أقوال منسوبة إلى ابن شعبان في بطون الكتب، وحتى لو وقع منه لحنٌ فلا يضير ما لم يكن لحناً في الرواية، وما سلم من هذه التهمة كثير من الثقات والرواة الأثبات، ومنهم مالك بن أنس، فتنبَّه .
وثانيها: رواية الغرائب من قول مالك، والأقوال الشاذة في مذهبه، ولا أراهم نقموا عليه إلا أنَّه يخرج عن المذهب في بعض المسائل لقوة دليل المخالف فيها، وهذه تحسب له لا عليه، فقد اختار في «الزاهي» من أقوال المخالفين لما استقرَّت عليه الرواية عن مالك جملة لا بأس بها.
وما يقال عن رواية الغرائب من قول مالك - وهو أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره - يرد بما استقر عند أهل الرواية من أنَّ من حفِظ حجةٌ على من لم يحفَظ، وناهيك بحفظ ابن شعبان وسعة روايته.
ومن ناحية أخرى يمكن التفريق فيما يرويه ابن شعبان عن مالك، أو ينسبه من أقوال للمذهب بين ما يجري على قواعد المذهب، وهذا لا بأس في نسبته إليه، لأن ابن شعبان أهلٌ للاجتهاد والتخريج على أقوال الإمام وأصول مذهبه.
وبين ما كان من رواية المغمورين عن مالك ما لم يرو عنه حفَّاظ أصحابه فلا شك أن الانفراد بذلك شذوذ يطعن به في صحة الرواية لكن هذا الطعن لا يتعدى إلى راويها.
وثالثها أخطرها وهو الضعف في رواية الحديث، حيث طعن ابن حزم في روايته للحديث، وهذا الطعن يستند بشكل مباشر إلى التشكيك في ضبطه، لا في أمانته وعدالته وصدقه.
وقد تولى الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» الرد على ابن حزم في تجهيل مَنْ فوق ابن شعبان، فقال رحمه الله:... لم يصب ابن حزم في دعواه أنهم مجهولون؛ فإن أبا نعيم ويزيد بن عبد الصمد مشهوران، وقد تقدم في ترجمتي إبراهيم بن عثمان وأحمد بن المعمر ما يغني عن الإعادة، وقد أخرج الدارقطني الحديث المذكور في غرائب مالك من طريقين آخرَين عن أبي نعيم.
وقد تابع الإمام الذهبيُّ – في السيَر والتاريخ والكامل - ابنَ حزم على تضعيف ابن شعبان من جهة الرواية دون أن يبين لذلك سبباً، إلا أنه قال في «ميزان الاعتدال»: وهَّاه أبو محمد ابنُ حزم، ما أدرى لماذا .
وأثناء التحقيق تتبعتُ بالتدقيق المواضع التي أسند فيها ابن شعبان أحاديث في «الزاهي» فوجدت أن جميع الأحاديث التي أسندها يرويها عن كبار الحفاظ في عصره ومصره، ومن الطريق المعروفة التي يرويها منها أهل الحديث، ولم يشذ عن ذلك في أيِّ حديثٍ مما أسنده.
وحيث إن الجرح يحتاج إلى تفسير، ولا يقبل جزافاً - وبخاصة من ابن حزم، الذي نسلِّم بأن من الحزم عدم موافقته في أحكامه على كثير من مخالفيه، وأكثرهم فقهاء متمذهبون – فإنه لا يسعنا أن نعدل عمَّا وقفنا عليه أثناء تحقيق الزاهي من جودة ضبط ابن شعبان، وصحة أسانيده، إلى قول من لم يقم دليلاً على ما قال في تضعيف الرجال.
ومن جهة أخرى فإنَّ تفرُّد ابن شعبان برواية ما لم يروه غيره لا مطعن فيه، لأن الأصل العدالة والسلامة، وما التفرد إلا لكثرة الاطلاع، خاصةً وأنَّ ابنَ شعبان موصوفٌ بسعة الرواية، وتفرد من كان كذلك لا يستبعد، فهذا الإمام مسلم بن الحجَّاج – صاحب الصحيح – يقول في ثنائه على ابن شهاب الزهري: «... وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد» .
فيتحرر من ذلك أن تضعيف ابن شعبان في الرواية مجازفة من مجازفات أبي محمد بن حزم، تشبه مجازفته في تجهيل أولئك الأعلام الموجودين في إسناد ابن شعبان.
المبحث الثاني
في التعريف بكتاب الزاهي
ومنهج أبي إسحاق ابن شعبان في تصنيفه
المطلب الأول: عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلِّفه:
سمَّى ابن شعبان كتابه الذي بين أيدينا بالزاهي، ونسبَه إلى نفسه بتسميته (الشعباني الزاهي)، وأرجع ذلك إلى ما يبرره بقوله: «... فعملت كتابي هذا وسميته بنسبي، فجعلته «الشعباني الزاهي» لما ينضاف إلى الاختيار من ألفاظي، وما عسى أن أختارُهُ من أقوالهم التي لم ينسبوها إلى إمامهم، مما لا يخرُجُ عن مذهبه». اهـ .
وحملت مخطوطة الكتاب التي وصلتنا تتمة للعنوان، فجاء على صفحة الغلاف منها أنَّه كتاب (الزاهي في أصول السنَّة)، وفي هذا الزيادة إفادةُ تحديد موضوعه.
أما نسبتُه إلى ابن شعبان رحمه الله، فالتوسع في جمع الدلائل عليها ضربٌ من الفضول الذي لا حاجة إليه، لأنَّ هذه النسبة ثابتة مشهورة، فما من أحد ترجم لابن شعبان إلا ونسب الكتاب إليه، ولا تكاد تجد في كتب المالكية المتأخرين من لا ينقل منه ما ينسبه إلى ابن شعبان أو يعزوه صراحةً إلى «الزاهي»، زد على ذلك التصريح بنسبة الكتاب إلى ابن شعبان في صدر الكتاب، بل وفي عشرات المواضع والمسائل المصدَّرة بعبارة (قال أبو إسحاق) بين دفتيه وفي ثناياه، كما يتضح في النص المحقق لمن تأمَّلَه، فضلاً عما تؤكده الحواشي التحقيقية المثبتة في هامشه كثرة النقول التي وجدناها في كتب المتأخرين، وهي موجودة بفحواها أو مبناها في الكتاب الذي بين أيدينا.
المطلب الثاني: أوان تأليف الزاهي وأسبابه وأهدافه:
يظهر من كلام ابن شعبان في «الزاهي» أنَّه من آخر ما صنَّف، بقرينة ذكره لأكثر كتبه الأخرى فيه، ومنها «مختصر ما ليس في المختصر» ، و«المناسك» ، وكتُبُه في الخلع، والطلاق، وما يحرم بالرضاع، وفضائل رمضان، وعاشوراء .
كما بين المقاصد التي من أجلها ألف هذا الكتاب، ويمكن حصرها في رجاءين:
• رجاء الثواب في المعاد، والانتفاع بما يترتب على عمل العاملين به، وإلى هذا أشار بقوله في خطبته: «لِما رجوت في ذلك وأَملتُ من عظيم الثواب في المعاد» .
• رجاء أن ينتفع به العباد، فيأخذوا منه ما يقوِّمون به عباداتهم، وفق مراد الله وسنة رسول الله، وإلى هذا أشار بقوله: «لما عسى أن ينتفع به من ينتفع من العباد لما يأخذون عنه من الخير والسداد، ويزدجر به لاهيهم عن الفساد، إن ربك لبالمرصاد» .
فكأني بابن شعبان يريد بكتابه هذا أن يصير صدقة جاريةً تعود عليه بالأجر الذي لا ينقطع، فنعم المقصد والمراد، ونعم الزاد ليوم المعاد.
المطلب الثالث: مادة الكتاب وموضوعه:
الزاهي كتاب جامعٌ لأبواب الفقه، أراد مؤلفه أن يقيم فيه فقهَ أهل المدينة على الدليل، لذلك لم يُقَل: إنه كتاب في الفقه المالكي، بل قيل: – كما على غلاف المخطوط وقد قدَّمنا الإشارة إليه – إنه كتابٌ في أصول السنَّة، وأنَّ ابن شعبان جعله أصلاً فيها، وجمع فيه جميع الأصول، واستشهد عليه بالقرآن والحديث، وكثَّر من الشواهد. اهـ .
وقد سعى مؤلفه فيه إلى تحقيق أمور من بينها:
• أن يبن فيه مذهب مالك، وما اختلفت فيه الروايات عنه، مما ليس في الموطأ، حيث برّأ ابن شعبان في ديباجته الموطأ من الاختلاف الواقع في الأقوال المنسوبة إلى مالك، فقال: «رأيت كثيراً من أصحابه يخالف بعضهم بعضاً في الروايات عنه، فيما عدا الموطأ، من المسائل التي سألوه عنها، وسئل فسمعوا ووعوا، ولا يختلفون في المنصوص عنه فيه من المسائل، إلا في زيادة كلمة ونقصان أخرى، بالشيء اليسير الذي لا يزيل معنى، ولا يغير قولاً، فقام إجماعهم هناك بنفسه» .
• الترجيح بين أقوال أئمة المذهب، المنسوب منها إلى الإمام مالك وغير المنسوب إليه، دون أن يخرج عن إطار المذهب وقواعد إمامه، وقد أشار إلى ذلك في خطبته بقوله: «واحتجتُ إلى الاختيار من اختلافهم بما أَرُدُّهُ إلى إجماعهم ... من أقوالهم التي لم ينسبوها إلى إمامهم مما لا يخرج عن مذهبه». اهـ .
• استيعاب أكبر قدر ممكن من المسائل، وترتيبها على الأبواب ترتيبا يسهل مأخذه، وقد أشار إلى ذلك في خطبته، فقال: «جعلت كتابي هذا أبواباً من كل صنف ونوع من أصناف العلم وأنواعه باباً باباً؛ ليقرب على من التمس صنفاً من الأصناف، أو نوعاً من الأنواع ما قصد له من ذلك الصنف أو النوع» .
المطلب الرابع: طريقة ابن شعبان في تبويب وترتيب «الزاهي»:
سلك ابن شعبان في ترتيب كتابه هذا أسلوبا بديعاً لم يخرج فيه عن الاطار المنطقي الشائع عند المالكية في ترتيب كتبهم فبدأه بخطبة مقتضبة ضمَّنَها نبذة في فضل العلم، وختمها بأسباب تأليف الكتاب ومنهجه، و– بعد الإشارة المتقدمة إلى أنَّه جعل كتابه أبواباً –قال موضِّحاً:
«استفتحت ذلك بأبواب الطهارة، ثم أبواب الزكاة، ثم أبواب الصيام، ثم أبواب الحج، ثم أبواب جهاد العدو، ثم أبواب الصلاة على الجنائز، ثم ما يتبع ذلك مما قدَّمتُ ذِكرَه، حتى يأتي ذلك على آخر الكتاب بتوفيق الله U» .
وقد حرص المصنف على جمع النظائر في كل موضع، وسبب ذلك أن كثيراً من المعلومات تذكر في غير مظنتها المعهودة، فمن ذلك أنه ذكر كثيراً من أحكام الجمعة في باب الطهارة استطراداً وجمعاً مع نظيرها وهو غسل الجمعة.
ومن ذلك ذكره لأحكام تغيب الحشفة في الفرج جمعاً مع نظيرها وهو وجوب الغسل بذلك.
والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما ترتيب المعلومات داخل الأبواب، فإن ابن شعبان سلك فيها منهجاً موحداً لم يختلّ – بحسب الموجود من المخطوط -
فهو يبدأ الباب – عادةً - بالآيات القرآنية الدالة على فحوى الباب، سواء كانت هذه الدلالة صريحة أو ضمنية، بل أحياناً لا يكون بين الآية وبين الباب إلا مجرد التناسب اللفظي، مما يدل على أن ابن شعبان يتبرك بوجود الآيات في صدور الأبواب وإن لم يكن لها علاقة بموضوعه.
ثم يتبع الآيات أحاديثَ الباب، ثم يأتي بالمسائل واحدة إثر الأخرى، مع عنايةٍ فائقةٍ بالآداب والفضائل والأذكار، دون أن يتكلف تخريج أحاديث الأذكار في الأعم الأغلب.
وفي سياق حديثه عن كل مسألة يورد ابنُ شعبان اختلافَ علماء المذهب، ثم يرجح ما يراه راجحاً من هذه الأقوال.
وأحيانا يورد أقوال أئمة المذاهب الأخرى، وفقهاء الأمصار، وربما رجحها على المذهب – وإن كان ذلك نادراً - بل ربما رجَّحَ قولاً من خارج المذاهب الأربعة، كما سنعرض له في منهجه في الترجيح قريباً إن شاء الله.
وربما خلا الباب من ذكر الآيات القرآنية وأتى بالأحاديث، أو خلا من الأحاديث النبوية وأتى بالآيات.
وفيما يلي نورد ثلاثة أمثلة من أبواب الزاهي تتجلى فيها منهجيَّة ابن شعبان في الترتيب:
1- باب النية والتسمية :
قال أبو إسحاق: قال الله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}[البقرة: 284].
وقال عز وجل: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].
فالنية للدخول في الطهارة وغيرها لازمةٌ واجبةٌ، لا تتم الأعمال إلا بها، كما جاء في الحديث: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى».
والتسمية للطهارة مرغوب فيها، محضوض عليها، وينبغي استعمالها وترك الخلاف لما نهاه الأثر منها كما جاء، وينبغي وضع الإناء على اليمين والإفراغ منه على اليد اليمنى؛ ليبتدئ بغسلها قبل اليسرى، أو يجمعا في الغسل بعد ذلك قبل إدخالهما أو إدخال إحداهما في الإناء؛ لأن التيامن في جميع الأمور سنة يجب استعمالها، وبالله التوفيق.
2- باب معرفة الصلوات ومواقيتها من كتاب الله :
قال أبو إسحاق: قال الله عز وجل: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}[الروم: 17] هذه صلاة الصبح {وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} [الروم: 18] صلاة الظهر.
وقال عز ذكره: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] هي صلاة الصبح.
وقال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وهذا صلاة الظهر... {إلى غسق الليل} هذا صلاة العشاء.
وقال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } عند صلاة الظهر، وهي الأولى، وإنما سميت صلاة الأولى لأنها أول صلاة صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، {ومن بعد صلاة العشاء} [النور: 58]. فهذه في العتمة.
وقال عز ذكره: {الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 218، 219]. هذا في صلاة الصبح، وقد روى غيره فيه: أن تقلبه في الساجدين: إخراجه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبياً.
وقال عز ذكره: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]. وقد اختلف في طرفي النهار، فقيل: الطرفين : الظهر والعصر. وقيل: الصبح والعصر. وقيل: الصبح والمغرب. وقيل: الصبح والظهر والعصر.
والذي نقول به أن طرفي النهار الصبح والظهر والعصر، {وزلفا من الليل} المغرب والعشاء عند أكثر الناس، {إن الحسنات يذهبن السيئات} هن الصلوات الخمس.
3- باب سترة المصلي في الصلاة :
قال أبو إسحاق: ويصلي المصلي وبينه وبين سترته قدر ممر الشاة، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، وهذا - والله أعلم - لأنه حيث يأمن، والأول قد ثبت عنه أيضاً.
ومن صلى إلى قائم لم يعد، وإذا مرت الوحش بين يدي المصلي في الفيفاء فلا بأس، ومن استتر بجنب رجل فلا بأس، ولا بأس أن يستتر الرجل بقلنسوته إذا كان لها ارتفاع، وكذلك الوسادة والمرفقة، وليست النار ولا الماء ولا الوادي بسترة، وينهى من صلى إلى غير سترة.
المطلب الخامس: أسلوب ابن شعبان في تأليف «الزاهي»:
تميز أسلوب ابن شعبان في «الزاهي» بالوضوح والعناية، ولم يتعب القارئ بالرموز والإشارات التي بلغت حد الإيهام والإلغاز في بعض المختصرات، وجمع بين دفتيه جملة من المزايا نبرز أبرزها فيما يلي:
ومع أن «الزاهي» يشبه أن يكون مختصراً في الفقه المالكي، فإن شأن الاختصار فيه شأن الكتب المؤلفة في عصره وما قبله، قائمة بذاتها وليست اختصارات لمؤلفات متقدمة عليها، حيث كان الاختصار في تلك الحقبة متمثلا في الإشارة إلى كثير من الأدلة بدون التنصيص عليها، أو الإتيان بألفاظها، أو سردها بتمامها، فنجد ابن شعبان كثيراً ما يعتذر عن عدم البسط بكون المقام لا يناسب ذلك، أو بكونه قد بسطه في كتاب مفرد، أو في أحد كتبه المطولة .
ورغم ما حرص عليه المصنف من الاختصار إلا أن الكتاب لم يخل من الاستطراد في مواضع، منها:
- تعداده أسماء المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
- إشارته إلى أن سلمان الفارسي أول مكاتَب في الإسلام .
-ومن أطرف تلك الاستطرادات قوله: وقد فرق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم؛ منهم منظور بن زبان بن سنان بن عمرو الفزاري، كانت تحته مليكة ابنة خارجة بن سنان المزني خلف عليها بعد أبيه، فأولدها خولة بنت منظور، فتزوجها الحسن بن على بن أبي طالب، وخلف عليها بعد الحسن عبد الله بن الزبير. ومنظور الذي يقول:
ألا لا أبالي ما الذي فعل الدهرُ
إذا ذهبت مني مليكة والخمرُ
وعمر بن الخطاب هو الذي كان فرَّق بينهما.
وتميم بن أبي معقل - وهو القائل- وكانت تحتَه دهماء امرأة أبيه، ففرق الإسلام بينهما:
هل عاشق نال من دهماء حاجته
في الجاهلية قبل الدين مرحوم
المطلب السادس : المنهج العلمي لابن شعبان في زاهيه:
المقصد الأول : منهج المصنف في عرض المسائل:
باستقراء منهج ابن شعبان في طرق المسائل الفقهية نلحظ أموراً نلخصها فيما يلي:
• يتناول ابن شعبان المسائل الفقهية في «الزاهي» بإحدى طريقتين، فإما أن يقدم الدليل، ثم يعقبه بذكر المسألة المستفادة منه.
وإما أن يقدِّم ذكر الحكم الشرعي في المسألة، ثم يسوق مستند الحكم من النصوص الشرعية.
فمن الأمثلة على إيراد المسائل بالطريقة الأولى – وهي الأكثر في الزاهي – قوله رحمه الله:
قال أبو إسحاق: قال الله تبارك وتعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. فافترض عز ذكره غسل اليدين إلى المرفقين، ولم يفترض تقديم اليمنى على اليسرى، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بغسل اليمنى، وأنه كان يبدأ بميامنه، وأنه كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره ونعله وترجله؛ يريد: ترجيل الشعر. وبتقديم اليمنى أقول .
ومن الأمثلة على إيراد المسائل بالطريقة الثانية قوله رحمه الله: المضمضة والاستنشاق والاستنثار سنة، وينبغي أن يستعمل ذلك ثلاثاً ثلاثاً، ويبالغ غير الصائم في الاستنشاق .
• إذا كان في المسألة خلاف واضح للفقهاء يذكره ابن شعبان في بداية المسألة بعد ذكر الدليل عليها.
مثال ذلك: قوله في الصلاة الوسطى: قال الله تبارك وتعالى: {حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238].
فاختلف أهل العلم في الصلاة الوسطى، فقالت طائفة منهم: هي صلاة العصر. وقالت طائفة غير هؤلاء: هي صلاة الظهر، وقالت طائفة: هي صلاة الصبح .
• يعرض ابن شعبان الأقوال في المسألة بكل حياد، ثم يختار منها ما يراه موافقاً للصواب، دون أن يكرر القول مرة أخرى، بل يذكر عبارة صريحة في اختياره للقول.
مثال ذلك قوله: ومن هلك من أهل الكتاب لا وارث له جعل ما ترك لأهل جزيته الذي يجمعه وإياهم ما يؤدون كما يعقلون عنه، وقد قال ابن القاسم، ومحمد بن مسلمة، والشافعي: للمسلمين. وبالأول أقول .
• ينقل ابن شعبان آراء وأقوالاً عن كبار فقهاء المذهب مصرحاً بأسمائهم في الأعم الأغلب، كابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وابن الماجشون، ولا يصرح في بعض المواطن بأسمائهم، بل يشير إليهم بألفاظ من قبيل (أصحابنا) أو (أصحابه) .
مثال ذلك قوله: وقال غير واحد من أصحابنا: لو أن المطلق سأل من يتزوجها له لتحل ففعل بغير شرط بينهما كان مأجوراً محلاً، وهذا عند مالك غير إحلال. .
وقوله في موضع آخر: فقال مالك بن أنس وأكثر أصحابه: إن المسنون من الصلاة خمس؛ هي التي جمع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفطر، وصلاة الأضحى، وصلاة الخسوف للشمس، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الوتر، وزاد بعض أصحابه ركعتي الفجر، وركعتي التجرد للإحرام وصلاة الجنائز، وزاد آخر على هذا فقال: والجمع ليلة المطر وغيره اهـ .
• يتناول ابن شعبان - في كثير من المواضع - خلافَ أهل المدينة في بعض المسائل ناسباً بعض الآراء إلى أصحابها، مع الاستدلال لهم إن وجد الدليل، ثم يبين ما يختاره من أقوالهم.
مثال ذلك قوله: واختلف أهل المدينة في تكبيرة الإحرام، فروي عن الزهري أنه قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة الإحرام. وقال غيره من المدنيين: إنما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فرضٌ، لقوله: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» وبهذا أقول. اهـ .
وقوله: وقد اختلف متقدمو أهل المدينة في الأمَة من غير أهل الكتاب؛ فأحلت، وحرمت، وبتحريمها أقول؛ كالحرة منهن اهـ .
المقصد الثاني: منهجه في الاستدلال:
أدلة ابن شعبان في كتاب «الزاهي» أبرزها الكتاب والسنة، وله أدلة أخرى من الإجماع والقياس، وبيان ذلك في الفروع التالية:
الفرع الأول: الاستدلال بالقرآن الكريم:
الأدلة من نصوص القرآن الكريم مستفيضة بصورة واضحة في كتاب «الزاهي»، حيث أثرى مسائله بعشرات النصوص القرآنية، وجعلها – في غالب الأحيان – فاتحة كلامه عن المسائل الفقهية.
ولابن شعبان طرقه وأساليبه في إيراد هذه النصوص والاستدلال بها، فمن ذلك:
• يورد ابن شعبان – أحياناً - نصَّ الآية أو الآيات ابتداء للاستدلال بها على المسألة المرادة، وفي أحيان أخرى يقرر الحكم ثم يستدل له بالآية.
مثال الأول: ما أورده من الآيات الكريمة من سور الفرقان والواقعة والنبأ للدلالة على طهورية ماء السماء .
ومثاله - أيضاً - قول أبي إسحاق: قال الله تبارك وتعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]، فالوجه ما دون منابت شعر الرأس من اللحـيين والخدين والعينين والأنف والذقن. اهـ .
ومثال الثاني قوله: وقد علم عز وجل أن الأزواج لا يستطيعون العدل ولو حرصوا، وإذا لم يكن العدل فلا بد من الميل، فنهاهم عن كلِّ الميل {فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] لا أيِّم ولا ذات بعل. اهـ .
• يستشهد ابن شعبان بنصوص من القرآن الكريم للاستدلال بها في توضيح معنى حرف أو كلمة أو جملة.
مثال ذلك قوله: وبإدخال المرافق في الغسل أقول؛ قال الله عز وجل في عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وأمه: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] وقد كانا مقيمين بها، وقال عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وقد دخله صلى الله عليه وسلم .
• يتعرض ابن شعبان - أحياناً - لبعض مواطن الخلاف بين المفسرين في معنى الآية أو يشير إلى سبب نزولها.
مثال ذلك قوله: قال الله تبارك وتعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، وقد اختلف في تفسير ذلك، فقيل: اللباس. وقيل: نعالكم. وقيل: إنهم كانوا يطوفون عراة، فنزلت هذه الآية .
الفرع الثاني: الاستدلال بالسنة النبوية:
يستدل ابن شعبان في «الزاهي» بأحاديث نبويّة، وآثار سلفيَّة عن الصحابة والتابعين، ويوردها بأساليب مختلف، من بينها:
• يذكر ابن شعبان طائفة من الأحاديث أو الآثار بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
فيروي عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي وعن عيسى بن أحمد بن يحيى، وعن داود بن إبراهيم بن داود، وعن أحمد بن شعيب، وعن محمد بن زبان بن حبيب .
• يذكر ابن شعبان طائفة أخرى من الأحاديث بلا سند، مكتفيا فيها بذكر الراوي الأعلى، أو ذكرها بدون راوٍ على سبيل الجزم بصحتها بقوله كما في قوله: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا .
مثال الأول قوله عند ذكر فرائض الحج: ثم الإهلال بما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
ومثال الثاني قوله: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة ابنة قيس: «لا تسبقيني بنفسك» .
وقوله: ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في الرقة حتى مبلغ خمس أواق، فإذا بلغت خمسا ففيها ربع العشر» .
• يذكر ابن شعبان طائفة أخرى من السنن الفعلية -بالمعنى- للاستدلال بها على الحكم المراد تقريره.
مثال ذلك قوله: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فجعل واحداً عنه وعن أهله، والآخر عن أمته .
ومثاله أيضًا: ولو باع مريض شقصاً له من أجنبي ببعض ما يساوي، ثم هلك من مرضه ذلك فالمحاباة تخرج من الثلث، والشفيع أحد ولده –كان له الأخذ بالشفعة؛ قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد رده .
• يتعرض ابن شعبان – في مواضع من كتابه - لشرح غريب الحديث، وبيان بعض معاني ألفاظه، فمن أمثلة ذلك قوله: معنى الحديث: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا...»، أي: إذا فرغ الإمام من القراءة فقولوا: «آمين»، لأن العرب تسمي الداعي مؤمِّناً، والمؤمِّن داعياً، فعند فراغ الإمام من قراءته ودعائه وتأمينه يؤمن المصلي. اهـ .
• ليس من منهج ابن شعبان في «الزاهي» تخريج الأحاديث والآثار التي يوردها أو يسندها، ومع ما قدَّمنا - بما تيقنَّاه ووقفنا عليه أثناء دراسة وتخريج أحاديث الكتاب - من دحض دعوى أبي محمد ابن حزم التي رمى بها ابن شعبان ولم يقم عليها دليلاً، لا يسعنا أن نغفل الإشارة إلى ثلاثة أمور لاحظناها أثناء التخريج، وهي:
أولاً: بدافع الجنوح إلى الاختصار عمد ابن شعبان إلى ضم ألفاظ بعض الأحاديث إلى بعض، كما في قوله رحمه الله: رويَ مرفوعاً: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ خَشَعْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .
وقوله: روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُعَقُّ عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ؛ فَإِنَّ دَمَ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» .
ثانياً: أورد ابنُ شعبان أحاديث على أنها مرفوعة والصواب أنها موقوفة، ومنها: «مَنْ عَقَّ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَعُقَّ بِشَاةٍ شَاةٍ» .
ثالثاً: إيراد بعض الأحاديث الصحاح بألفاظ التوهين والتضعيف، ومن ذلك قوله: ولو كان حديث الاستسعاء ثابتاً ، وقوله: حديث بروع بنت واشق غير معروف ولا ثابت .@75@
قلتُ: هذه الاستدراكات الثلاثة على الصنعة الحديثية لابن شعبان في «الزاهي» لا يطعَن أيٌّ منها في أمانته، ولا دينه، ولا ضبطه، بل غاية ما يقال: إنًّ ابن شعبان أخطأ فيها، وما زال أهل العلم يستدرك بعضهم على بعض، ويكمل بعضهم بعضاً، وكل بني آدم خطَّاء، والعلم عند الله.
الفرع الثالث: الاستدلال بأدلة غير الكتاب والسنة:
يستدل ابن شعبان في بعض المسائل بأدلة من غير الكتاب والسنة، كالإجماع، والقياس، ويراعي عند ذكر الإجماع الإشارة إلى من شذ عنه، أو خالف فيه.
• فمن استدلالاته بالإجماع قوله - في الصلاة -: وقد أجمعوا على أن من سلم تسليمة واحدة فقد خرج من الصلاة على اختلاف منهم في خروجه منها قبل تسليمة واحدة . وقوله - في الزكاة -: ولا يعطى مكاتب لأن المكاتب لا يجوز إلا في الرقاب الواجبة، فخرج عن هذا الاسم، وقد قال الله عز وجل: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب} [البقرة: 177] فيتوهم متوهم أنهم وصفوا بهذا لمعونتهم المكاتبين، مع أن المكاتب عبد كما جاء في الخبر، وقد أجمعوا ألا يعطى عبدٌ .
• ومن استدلاله بالقياس قوله: وإنما منع إحلالها الحديث المحفوظ: «لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، وما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حتى نهرها به، فأما القياس فما لا يحل لا يحصن، ولو قيس عليه الصداق وغيره؛ لكان قياساً محتملاً، لولا كراهية الشذوذ عن المذهب. اهـ .
وقوله: ومن وطئ بنت أم ولده من غيره؛ حرمت عليه أم ولده، وعتقت مكانها، وإن حملت هي أيضاً عتقت مكانها، وإن لم تحمل عزلت عنه؛ كي لا يعود إليها، وكانت له إجارتها، ولو ارتد وله أم ولد ثم راجع الإسلام؛ عادت إليه على حالها، وقال أشهب: قد عتقت؛ لأن الفرج قد كان حرم؛ فلا يعود حلاً، كما تطلق المرأة بالردة، فلا يعود على النكاح الأول بالرجوع، وهو القياس. اهـ .
المقصد الثالث: منهجه في الترجيح بين الأقوال:
ألزم ابن شعبان نفسه في عامة المسائل التي أوردها في «الزاهي» أن يرجح من الأقوال ما يراه أقرب للحق، وأقعد بالحجة، وأوفق للدليل، واستخدم – في الغالب - عباراتٍ وألفاظاً صريحةً في الإشارة إلى ما ترجَّح لديه، مثل:
(آثر عندي ، وأصوب ، وأشبه بالأصول ، وبه أو بتحريمه أقول ، والاختيار كذا )، والأحب إلي ، وما إلى ذلك مما يدل على اختيار بعض الأقوال.
• وقد استند في الترجيح إلى الأدلة القرآنيَّة، ومن ذلك قوله:
والكتابة: أن يجعل بينه وبين عبده كتاباً بما يفترقان عليه وإشهاداً، ولا أحب الكتابة بغير هذا؛ لظاهر الكتاب .
• ورجح بالأحاديث النبوية، وربما علَّق الترجيح على صحة الحديث، ومن ذلك قوله:
وقد اختُلف في مَيْت الجراد، وفي الحديث الذي جاء فيه: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَالمَيْتَتَانِ: الحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»، فأجيز على تثبيت الحديث، وكُرِه للاختلاف في الحديث، والاختيارُ إجازته؛ لأنه نثرة حوت كما قال كعب الأحبار. اهـ .
وقوله – في مسألة والذي أختاره من هذا أنها إن فحشت عليه أو منعته نفسها أو خالفت ما وأجب الله له عليها وعظها مرة ومرة ومرة، فإن لم تنته هجر مضجعها ثلاثا، فإن لم تنته ضربها ضرباً غير مبرح، كما جاء في الخبر .
وقوله: وقال غيرهما : عزائم السجود أحد عشر سجدة، ليس في المفصَّل منها شيء، وأسقط هؤلاء السجدة الثانية من سورة الحج، والقول الأول عندي آثر؛ لما جاء من الآثار. اهـ .
• ورجَّح بالقياس، إلا أنه كان يقدم عليه ظواهر النصوص، ومن ذلك قوله: وبالأول أقول بمنزلة البيع؛ لأن اثنين لو جمعا سلعتهما فباعاها على أن يقتسما الثمن على القيم ما جاز، وإن كان أشهب يجيز ذلك. اهـ .
• وربما رجَّحَ القولَ بكونه أحوط، ومن ذلك قولُه: وقد اختلف في الواطئ دون الفرج ينزل من مائه في الفرج، فقيل: لا غسل على المرأة إلا أن تكون أنزلت. وقيل: عليها الغسل وإن لم تنزل، وهو الاختيار؛ للحيطة. اهـ .
• وقد يرجح القول لشهرته عن الإمام مالك، كما في قوله: فأحلَّ للأحرار والعبيد جميعاً من الأزواج أربعاً، ومن الإماء ما ملكت أيمانهم، وهذا باب قد اختلف فيه؛ فروي عن مالك بن أنس وأهل الكوفة وغيرهم أنه لا يحل للعبيد من الأزواج غير اثنتين، وما ذكرت أولاً فهو الأشهر الأظهر عن مالك، وبه أقول .
• وكان رحمه الله حريصاً أن لا يخرج عن نطاق المذهب، حتى ولو كان القياس يقتضي ذلك، ولا أدل على ذلك من قوله: «فأما القياس فما لا يحل لا يحصن، ولو قيس عليه الصداق وغيره؛ لكان قياساً محتملاً، لولا كراهية الشذوذ عن المذهب». اهـ .
• وفي مواضع قليلة اتجه عنده الدليل خارج المذهب، فمال معه إلى مذهب أحد أئمة الأمصار، ومن ذلك قوله: والقياس عندي أن يقوم الناس لقضاء ما فاتهم من الصلاة بعد التسليمة الأولى، إن كان إمامهم يسلم تسليمتين، وبه أقول، وهو قول الليث بن سعد. اهـ .
وقوله: فإذا تطهرت بالماء أو بالتيمم حلَّ له ما كان محرماً عليه منها، ولم يكن لها منعُه من التماس نسله، كما لم يكن له العزل عنها بغير إذنها إن كانت حرة، وبإذن مالكها إن كانت أمةً لقومٍ، وكان له ذلك في أمته؛ بحق مُلكِه. اهـ .
وقوله: وقد اختُلِف في الاستمتاع من الحائض والنفساء بما دون الفرجين، والاختيار أنهن إذا التحفن حتى لا يوصل إلى فروجهن؛ جاز الاستمتاع بالأفخاذ، وإنما خاف من منع من ذلك مواقعةَ الحدود؛ كالرَّتع حول الحمى المحرم «وَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»، هكذا قال صلى الله عليه وسلم.اهـ .
• وربما رجح القول خارج المذهب بكونه أيسر كما فعل في قوله: وسهل في روث الدواب - الخيل والبغال والحمير - يصيب النعل والخف، وأبوالها، يُمسحان ويصلى به؛ لما يضيق على الناس من غسل ذلك في كل وقت. اهـ .
• وفي مرات نادرة رجح بما يفهم من سياق النص كما في قوله: ومما يدل على وجوب القراءة على المصلي وحده، وسقوطها عن المأموم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم المصلي وحده، فقال: إذا كبرت فاقرأ، ثم اركع، ثم ارفع، ثم اسجُد. وقال في المأمومين: «فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا»، ولم يقل: وإذا قرأ فاقرؤوا، وكان هذا أقوى دليلاً، اهـ .
المقصد الرابع: الجانب اللغوي في كتاب«الزاهي»:
أشرنا في ترجمة ابن شعبان إلى ما قيل من أنَّه كان يلحن، ولم يكن بصيراً بالعربيَّة، أو ضليعاً فيها، ولكن يلحظ على كتاب ابن شعبان - فيما يتعلق بهذا الجانب - ما يدحض هذه التهمة، فقد ظهرت عناية المصنف باللغة بدرجة تلفت الانتباه، من خلال ما يلي:
أولا: ما يورده من الإطلاقات القرآنية (الدلالة الاستعمالية) في الاستدلال على المعاني اللغوية كما في قوله:
وكتب أمير المؤمنين أبو العباس إلى ابن أبي ليلى: أن لا يقضى للجار بالشفعة، ولو كانت الشفعة للجار لكانت لجميع من بالبلد الذي بيعت به الدار؛ لقول الله جل اسمه: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفعون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} [الأحزاب: 60]. /70 أ/ فجعل أهل المدينة له جاراً. اهـ .
وقوله في موضع آخر:
فإن افترقا فلا قضاء لها بَعْدُ ما لم تعجل بالقيام، أو يطول المجلس حتى يخرجا إلى غيره؛ فيبطل حكم /99 ب/ مجلسهما؛ لقول الله عز وجل {وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68]. فجعل المجلس يفترق بالمعنيين؛ ولقوله عز وجل: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [النساء: 140]. اهـ .
ثانياً: كثرة ما يورد الشواهد الشعرية (الدلالة الوضعية) للدلالة على معنى كلمة أو تقرير حكم، ومن ذلك:
قوله: وقالت العرب: شطرُ الشيء: قِبَلَه وتلقاءَه.
وقال كعب بن مالك في قصيدة له:
عَبد وَحُر كَرِيم مُوثَق قَنَصاً
شَطرَ المَدينةِ مَأسُورٌ وَمَقْتُولُ
وقال في موضع آخر: ويقصر الألف ولا يشدد الميم كما قال الشاعر :
تباعَد مِنِّي فطْحُلٌ إذ سألتُه
أَمِين فزاد اللهُ ما بيننا بُعْدَا
وإن شئت أطلت الألف ولا تشدد الميم، وفي ذلك يقول غيرُه:
يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً
ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
وقال: والذود عند العرب الواحد، قال الشاعر:
إن ترجعوها ضماراً من حمائلكم
فإن عدتها ذود وسبعونا
وقوله: والأصح منه أن القانع من لا يسأل، والمعتر من يسأل، ومنه قول زهير:
على مُكْتريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم
وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ
وقوله: روي أن أول من ذكر الطلاق منهم الأعشى بقوله:
أجارتنا بيني فإنك طالقه
والبين: طلاق - أيضاً -، لو قال لها: بيني؛ لطلقت ثلاث تطليقات، يدل على هذا ما ذكر الأعشى في قوله:
وبيني فإن البين خير من العصا
وإلا تري لي فوق رأسك بارقه
حبستك حتى لامني الناس كلهم
وخفت بأن تأتي لدي ببائقه
وذوقي فتى حي فإني ذائق
فتاة لحي مثل ما أنت ذائقه
فجعل البين منها تقصياً، وهذا قبل نزول حكم الزوج بعد الطلاق ثلاثاً، وقال: عبد الله بن الزبعري:
يا غراب البين أسمعت فقل
إنما تنطق شيئاً قد فعل
وشواهد الشعر في هذا أكثر من أن يحتملها الباب. اهـ .
وربما عول ابن شعبان في استدلاله على استعمال اللفظ في القرآن بضميمة أدلة أخرى (دلالة الإشارة) ومن ذلك قوله:
والجار عند العرب الزوج والشريك الخليط، من ذلك قول حمل بن مالك ابن النابغة:
كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، وهو عمود الخيمة، ثم ذكر الحديث. وقول الأعشى لزوجه:
أَجارَتنا بِيني فإِنك طالقة
كذاكِ أُمور الناس غادٍ وطارِقَه
ثالثاً: استعماله أسلوب السجع، وهو واضحٌ جداً في مقدمة الكتاب، وفيما فيه من الأدعية التي يوردها، بل وفي تقرير بعض الأحكام الفقهية، كما في قوله: لما نص الله تبارك وتعالى اليدين مما وجب الاتفاق عليه لطهوره في التنزيل، ولما أنزل في الرجلين مما يحتمله التأويل، والفرض لا يثبت لتغليب من جهة بالتعليل، ولا بالإنابة عن وجوه التفصيل، ولا باتباع الكثير وترك العدد القليل، وإنما يثبت باتفاق الجميع على وجوبه في التنزيل وجوباً لا ريب في أصله ولا تأويل، ثم لا يضر حدوث الاختلاف في التفريع، والله البديع، أسأله حسن التبيلغ، بلا زيغ عن الحق ولا ترويغ؛ إنه العلي الرفيع .
رابعاً: إعماله لبعض قواعد النحو، مثل حذف الخبر، أو إشراك أكثر من جملة في خبرٍ واحد، كما في قوله: ومن أذن لزوجته أو لعبده في الاعتكاف ثم أراد منعهما، ومن نذر جوار مكة أو نذر الصيام بها لزمه الوفاء بذلك، ولو نواه ولم ينذره لم يلزمه .
فهنا نلاحظ أن الخبر قد حذف وتقديره: «فله ذلك».
المطلب السابع: أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية بعده:
نقل كثيرٌ من فقهاء المذهب في كتبهم نقولاً كثيرة عن ابن شعبان، فبعضهم نقل أقواله وتعرض لها بالنقد والتحليل كما فعل ابن أبي زيد - وهو من معاصري ابن شعبان - حيث ينقل عنه وينتقده أو يعلق عليه فيما يراه ، بينما ينقل عامَّة الفقهاء أقوال ابن شعبان، ورواياته عن غيره، ولا يتعرضون لها بنقد أو تحليل، كما هو الشأن عند شُّراح مختصر خليل وغيرهم.
وبدلاً من أن أسوق من بطون تلك الكتب ما يوافق القدر الذي حوته مخطوطة الزاهي التي بين أيدينا، سأحاول عرض أقوالٍ نسبها أصحاب تلك الكتب إليه، وليست فيما وصلنا منه، لأضرب عصفورين بحجر، فأفيد تقرير أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية من جهة، وألفت النظر إلى السقط الكبير الذي حُرمنا بسببه من تحقيق الكتاب وإخراجه كاملاً، خاصةً وقد وقفنا على جملة مما نقله الفقهاء عن الزاهي لا نستبعد أن يكون ما فاتنا منه يعدل ما وصلنا أو يزيد عنه، وذلك لسقوط كتب وأبواب بتمامها من نسخته التي وصلتنا، و-قد يكون- من هذه الكتب والأبواب؛ البيوع، والإجارة، والمزارعة، والجعالة، والهبة، والوقف، والعارية، والحجر والتفليس، والضمان، والصلح، والحوالة، والشركة، والوكالة، والإقرار، واللقطة، والوديعة، والغصب، والاستبراء، والأقضية، والشهادات، والجنايات، والحدود، والديات، والقسمة، والوصايا، والفرائض، وغيرُها.
وفيما يلي نسوق طائفة مما نُقل عن الزاهي - ولم نجده فيما بين أيدينا منه - مع الإشارة الهامشية المقرونة بكل نقل إلى الكتاب أو الباب الذي يغلب على الظن أن يكون النصُّ المنقول من محتوياته، فنقول وبالله التوفيق:
- قال ابن الحاج: روى أبو إسحاق بن شعبان في كتابه الزاهي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن» .
- ونقل ميَّارة عن ابن شعبان أنه قال في الزاهي ما نصُّه: «... ولو أجيح وغلا ثمن الثمرة حتى زاد على المعلوم من الأثمان لو لم تكن جائحة ما سقطت» .
- ونسب الموَّاق وعُلَيْش إلى الزاهي مسألةً نصُّها: «لو شرط الواقف ما يجوز أن يبدأ من غلتها بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما ينخرم منه، بطل شرطه» .
- ونسب إليه الموَّاق –أيضاً– ما نصُّه: «لا يباع نقض المحبس، وأجاز بعض أصحابنا بيعه ولا أقوله» .
- وكذا مسألة: «من استعار دابة فلا يركبها غيره وإن كان مثله في الخفة» .
- وفي ذخيرة القرافي عن الزاهي: «لَوْ جَعَلَهَا فِي قَمِيصِهِ ضَمِنَ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ. وَالْأول أحوط فِي الْحَدِيثِ» .
- وقال الموَّاق: «وفي الزاهي: من أقر لغيره بمال منجم أو مؤجل، فقال المقر له: هو حالٌّ، فقيل: يحلف المقر» .
- وقال – أيضاً -: «وفي الزاهي: إن وجدها على فراشه أو ثوب أو دابة أو معه مال مشدود أو حزم على مال موضوع مشدود فهو له» .
- وعند الشيخ عُلَيْش من مسائل الزاهي ما نصُّه: «لو جعل الوديعة في جيب قميصه ضمنها، وقيل: لا، والأول أحوط» .
- وفي مصابيح الدماميني عن «الزاهي» ما نصُّه: «العروق أربعة؛ عِرقان ظاهران، وعرقان باطنان، فالظاهران: البناء والغرس، والباطنان الآبار والعيون» .
- وقال القاضي أبو الوليد ابن رشد (الجدّ): «قيل: إنه لا بد من حيضة مستقلة كالمعتدة لا تعتد إلا بالطهر، حكى هذا القول ابن شعبان في الزاهي، واختاره وأخذ به» .
- ونقل التسولي عن الزاهي مسألةً نصُّها: «إن السفيه كالصبي لا يحلف مع شاهده، بل حتى يرشد» .
- وعند الشهاب القرافي، أنَّ ابنَ شعبان قال في كتابه: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه حَكم بالضرب والسجن؛ فثبت بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سَجَن - وإن لم يكن ذلك في سجن مُتَّخذ لذلك - وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان له سجن، وأنه سَجَن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبعاً على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وأمرِه الناس بالتفقه في ذلك، وضرَبَه مرةً بعد مرة، ونفاه إلى العراق، وقيل: إلى البصرة، وكتب أن لا يجالسه أحد. قال المُحدِّثُ: فلو جاءنا - ونحن مائة - لتفرَّقنا عنه، ثم كتب أبو موسى إلى عمر أنه قد حسنت توبته، فأمره عمر رضي الله عنه فخلى بينه وبين الناس، وسجن عثمان رضي الله عنه صابئ بن حارث - وكان من لصوص بني تميم وفُتَّاكِهم - حتى مات في الحبس، وسَجَن عليُ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الكوفة، وسَجَن عبدُ الله بن الزبير في مكة، وسَجَن – أيضاً - في سجن عارم محمَّدَ بنَ الحنفية إذ امتنع من بيعته. اهـ .
- ونقل الحطَّاب عن زاهي ابن شعبان أنَّ من قال: أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا لم تقبل شهادته؛ لأنه حلاف، وليست بشهادة. اهـ .
- وقال ابن فرحون: أول من أحدث الشهادة على ذلك – أي كتاب القاضي إلى القاضي- هارون الرشيد، وقيل: أبوه -المهدي - قاله ابن شعبان في الزاهي. اهـ .
- وفي ذخيرة القرافي عن الزاهي: «وَفِي كِتَابِ الرَّضَاعِ يُحَدُّ بِالْمَيِّتَةِ لِأَنَّهَا آدَمِيَّةٌ مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ وَفِي الزَّاهِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّهَا لَا تَشْتَهِي غَالِبًا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا صَدَاقَ لَهَا» .
وفيها أيضاً: «وَوَافَقَنَا (ح) عَلَى أَنَّ الدِّيوَانَ يَعْقِلُ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الزَّاهِي حَكَى فِيهِ قَوْلَيْنِ» .
- ونقل الحطَّاب عن زاهي ابن شعبان أنَّ من قتل عبده لم يُقتَل به، وإن كان عبداً. اهـ .
- وعند الشيخ عُلَيْش عن ابن شعبان في مسألة -نفي المحارب - في الزاهي: «قيل أن ينفى من قراره ثم يطلب فيخفى، ثم يطلب أبداً، ولا ينفى لبلد الشرك، وبه أقول» .
- وقال الموَّاق: «وفي الزاهي: من هلك عن زوج حامل لم تنفذ وصاياه، ولا تأخذ زوجته أدنى سهميها حتى تضع» .
- وقال الحطَّاب: « قال في الجواهر: ولو قال على بني أبي دخل فيه إخوته لأبيه وأمه وإخوته لأبيه، ومن كان ذكراً من أولادهم خاصة مع ذكور ولدهم. اهـ. وقاله ابن شعبان في الزاهي» .
- وعند الشيخ عُلَيْش أنَّ ابن شعبان روى في الزاهي عن أشهب – في مسألة من أوصى بشيء يخرج كل يوم - قوله: «يحاصص له بالمال أجمع لاحتمال إجازة الورثة» .
قال محقِّقُه أبو الهيثم الشهبائي: هذا ما يسَّر الله الوقوف عليه مما صرَّح متأخرو المالكية في كتبهم بنقله من الزاهي، أما ما نسبوه إلى ابن شعبان بما لا يفيد الجزم بكونه من الزاهي فلم نورد شيئاً منه لاحتمال أن يكون قاله في غير كتابه هذا، وما نسبوه إليه موافقاً لما في القدر المتوفر من المخطوط وثَّقناه من كتبهم، وأثبتنا مواضعه في هوامش النصِّ المحقق بما يغني عن الإتيان به أو التمثيل له في هذه المقدِّمة، والله الموفق.
المطلب الثامن: أمورٌ قد تؤخذ على الزاهي:
أبى الله العصمة إلا لكتابه، ولم يبلغ الكمال أحدٌ من عباده، وعليه فلا بأس أن نُلمح إلى بعض ما قد يؤخذ على ابن شعبان في كتابه، لا طعناً فيه ولا غمزاً لقناته، بل تنبيهاً وتذكيراً ينتفع به المتنبه، ويعود بالخير على قارئه، ومن الأمور التي قد تؤخذ على الزاهي، نشير إلى ما يلي:
• يذهب ابن شعبان – في بعض الأحايين – إلى تفسير الآيات القرآنية بما يشذ فيه عن المعروف عند عامة المفسرين من السلف والخلف، ولا يبعد أن يكون ذلك مؤشراً على أنه لم يكن له بصرٌ بالعربية كما قيل ، ومن ذلك قوله: قال الله جل ذكره: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103]. يريد: ركوعها وسجودها. اهـ .
وقوله في موضع آخر:
ثم قال جل ذكره: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء: 21]. والميثاق الغليظ: الحمل والولد .
وقوله: والحامل ترى الدم تترك الصلاة كالحائض، قال الله عز وجل: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} [الرعد: 8]. فتغَيُّض الأرحام: خروج الدم على الحمل، ثم تزداد بعد إتمام شهور الحمل، قبل وضع الولد بقدر ما كان خس من الولد الدم؛ ليعود في جسمه {وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8، 9] .
• يبالغ ابن شعبان – أحياناً - في إعمال العمومات، والإغراق في عدم تخصيص المُطْلقات، ومن ذلك قوله: «أباح الله عز وجل للمريض التيمم، وأباح له الفطرَ في شهر رمضان وقضاءَ ذلك بعدَّةٍ من أيام أُخَر، والمحيض مرض من الأمراض» .
وقوله في موضع آخر: «... وكذلك الحيض هو مرض من الأمراض يفطر فيه» .
• ومما قد يؤخذ على ابن شعبان أيضا: الغرابة في التعليل؛ سواء كان من نقله أو قوله ومن ذلك قوله: «قيل: لا بأس بالتيمم بالرمل والحجر؛ لأنهما مخلوقان» .
وقوله: «وإنما جُعِلَ المحيض بالاستظهار خمس عشرة ليلة؛ لأن المرأة لا تترك الصلاة أكثر من نصف عمرها، وبهذا سقط نصف ديتها، وصارت شهادتها نصف شهادة، وبالله التوفيق» .
• ومما قد يؤخذ على ابن شعبان ادعاؤه النسخ فيما لا نسخ فيه، اللهم إلا أن يقال إن مفهومه للنسخ مختلف عن الشائع، فقد قيل: إن بعض السلف كانوا يطلقونه على التخصيص.
ومن أمثلة ذلك قوله: قال الله تبارك اسمه: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة: 3] فكان قليل الدم وكثيره محرماً نجساً بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} الآية [الأنعام: 145]. فصار كثير الدم هو المحرم النجس، وعفا عن قليله، فصار عفواً. اهـ .
والدم المسفوح: ما يخرج عند الذبح والنحر، ويتبع ذلك كل ما أشبهه من قيح أو صديد أو دم حوت أو دم يخرج عن جرح أو محجم أو ما أشبه ذلك. اهـ .
تذييل:
لمناسبة ما نحن فيه من ذكر بعض ما قد يؤخذ على «الزاهي»، نورد فيما يلي بعض ما تعقَّبَه فيه ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله:
أولاً: تفرد ابن شعبان بآراء ليست لغيره في المذهب:
في بعض المواضع يشير ابن أبي زيد إلى أنه لم يجد هذا القول لغير ابن الْقُرْطِيّ، فيورد كلامه أو رأيه باللفظ أو بالمعنى، ثم يتعقبه.
مثال ذلك:
قال ابن الْقُرْطِيّ: وليس عليه متابعة الغضون في التَّيَمُّم، وعليه تخليل أصابعه فيه. اهـ.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: ما رأيته لغيره .
وقَالَ ابْنُ الْقُرْطِيّ: لو قال: يا فلان فعل اللهُ بكَ. كان مُتَكَلِّمًاً، تفسُد صلاته. اهـ.
فتعقبه ابن أبي زيد – كما تعقب القول السابق - بقوله: ما رأيته لغيره .
ثانياً: تفرد ابن شعبان بآراء أو ترجيحات لا وجه لها في المذهب:
في مواطن أخرى ينتقد ابنُ أبي زيد ابنَ شعبان لإتيانه بآراء لا وجه لها في المذهب.
مثال ذلك:
قَالَ ابْنُ الْقُرْطِيّ: من بدأ فسَلَّمَ عن يساره، ثم لم يُسَلَّمْ آخرى حَتَّى تكلم، بطلت صلاته.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: ولم يذكر ابن الْقُرْطِيّ إلى من تُنْسَب هذا المسألة، ولا وجه لإفساد صلاته؛ لأنه إِنَّمَا ترك التيامن .
وقال ابنُ أبي زيد أيضاً: ومن كتاب ابن الْقُرْطِيّ: ولا يؤخر غسل الميت بعد خروج نفسه، ولا يغسل بماء زمزم ميتٌ ولا نجاسةٌ، وإنما يكره غسل الميت بماء الورد والقرنفل من ناحية السرف، وإلاَّ فهو جائز ؛ إذ لم يغسل للطهر، وهو إكرام للقاء الملكين.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: وما ذكر ابن الْقُرْطِيّ في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه، وإن كان يعني في قوله بماء الورد والقرنفل أنه لا يغسل بغيره من الماء القراح، فليس هذا قول أهل المدينة .
المطلب التاسع: وصف المخطوط المتوفر للكتاب:
أشرت سالفاً إلى أن للزاهي نسخة يتيمة لا يُعرف غيرها، وهي التي يحفظ أصلُها (5951) في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي وتتكون هذه النسخة من ستٍ ومائة لوحة، عدد مسطَّراتها (27) سطراً في الصفحة في كل سطر منها (13) كلمة في المتوسط، وهي مكتوبة بخط مغربي أسود المداد، وفي آخرها نقصٌ غير يسير لا يُعلَم مقداره بالتحديد، ولكنَّه – بالتأكيد – يشمل كتباً وأبواباً كثيرة من «الزاهي»، حيث ينتهي المتوفِّر منها بقول المصنِّف رحمه الله: «... التي عليك رجعتها زوجٌ لك لقول الله عز وجل: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228]، فجعله جل ذكره بعلاً لها، وقد طلقها. وبالله التوفيق».
تحتوي نسخة المخطوط على سفرين على الأقل من أسفار «الزاهي» التي لا تكفي القرائن المتاحة للجزم بعددها، فالسفر الأول يبدأ من بداية المخطوط وينتهي بنهاية كتاب الضحايا، وبعده يبدأ السفر الثاني الذي يبدأ بـ (باب العقيقة) وينتهي بنهاية القدر المتوفر من الكتاب.
تتصدر هذه النسخة صفحة أفردت لعنوان الكتاب، وجاء فيها ما نصُّه: «السفر الأول من كتاب الزاهي في أصول السنة، تأليف أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الفقيهِ الجليل رضي الله عنه، جمع فيه جميع الأصول، واستشهد عليه بالقرآن والحديث، وكثَّر من الشواهد، وجعله أصلاً في السنَّة، رحمةُ الله عليه ورضوانه، وصلى الله على محمد نبيه الكريم، نفع الله به كاتبه وقارئه والعامل بما فيه، ونفع به صاحبه، آمين آمين آمين ربَّ العالمين، ولمن شاء الله بَعْدَه».
وتخلو هذه النسخة من اسم الناسخ، ومكان النسخ، وزمانه، ولا تحمل أية إشارة قد تدل على أنها مصححة أو مقابلة على غيرها، وليس في حواشيها شيءٌ ذو بال يزيد قيمتها التي أوهى بها سوء النسخ الذي يعتريها في مواطن كثيرة.
ويتخلل المخطوط سقط في أثنائه بلغ لوحة كاملة، والتي تحتوي على نهاية كتاب الجهاد وبداية كتاب الجنائز.
وفيه اختلاف في أسلوب التبويب، وهو ما اضطرنا إلى إضافة بعض العناوين.
هذا ما يسَّر الله جمعه –بإيجاز– في التعريف بكتاب الزاهي، والمخطوط المعتمد في تحقيقه، فإذا أضيف إلى ما تقدَّم من ترجمة ابن شعبان والتعريف به، كان في المجموع ما يحسن بعده الولوج إلى النص المحقق من كتاب الزاهي، نفع الله به مصنِّفه وناسخه ومحقِّقه وناشره.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلتُ وإليه أنيب.
وكتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
كان الله له ولوالديه، ولمن أمَّن على دعائه من محبيه وإخوانه وأعوانه ووالديه، ونسأ له في أجله حتى يتوب عليه.
تعريف بطبعة مركز نجيبويه لكتاب "الزاهي في أصول السنَّة" لابن شعبان القُرطيّ
=== === ===
ثمرةً لعمل تكامليٍّ دؤوب صدر عن مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث أثرٌ نفيسٌ نادرٌ من آثار السادة المالكية في الفقه، وهو كتاب "الزاهي" لابن شعبان القُرطي رحمه الله، وهو الكتاب الذي حصل بتحقيقه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب على درجة الماجستير في الفقه المالكي من جامعة نواكشوط الحرَّة، بعد عشر سنوات من حصوله على الدكتوراه في السنَّة وعلوم الحديث من جامعة أم درمان الإسلامية.
وفيما يلي نضع بين أيدي الفضلاء من أهل العلم وطلابه مقدمة تحقيق الكتاب بتمامها، بعد حذف الهوامش والحواشي السفلية منها، وما حملنا على حذفها هو قصور الخبرة عن نشر الملف بهوامشه على النت، والله من وراء القصد.
=== === ===
المقدمة التحقيقية
=== === ===
بسم الله الرحمن الرحيم
أقول - مستعيناً بالله تعالى - بعد حمدِه كما ينبغي لجلاله، والصلاةِ والسلام على نبيِّه المصطفى وصحبِه وآلِه:
أعود إلى مقاعد الدراسة طالباً يشرفه الله تعالى بالأخذ عن الأكابر من جديد، رغبةً مني في أن أختم حياتي طالباً للعلم -كما بدأتُها- راغباً في الجمع -أكاديمياً- بين علمَي الحديث والفقه، بعد أن منَّ الله عليَّ منذ قرابة عشر سنين بالحصول على الدرجة العالمية (الدكتوراه) في الحديث النبوي وعلوم السنة، فأثنِّي اليوم بتخصص أجده الأقرَب إلى نفسي عنايةً ودُربةً وممارسةً؛ وهو الفقه الإسلامي على مذهب إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى ورضي عنه، وقد اخترتُ للحصول على الماستر في هذا التخصص تحقيق كتاب «الزاهي الشعباني» في الفقه والسُّنن، لأبي إسحاق محمد ابن القاسم بن شعبان الْقُرْطِيّ رحمه الله.
وهو أحد الكتابين الأشهر بين مؤلفات ابن شعبان - على كثرة ما صنَّف وألَّف - وثانيهما «مختصر ما ليس في المختصر»، الذي جعله المؤلف رحمه الله تتمَّةً للمختصر الكبير ، لابن عبد الحكم المصري (ت 214هـ) وناهيك بقيمة هذين الكتابين عند المالكية، حيث لا يكاد يخلو كتابٌ من النقل عنهما أو عن أحدهما، والرد إلى قول ابن شعبان أو الإحالة إليه في أحدهما أو كليهما.
و«الزاهي» -الذي وقع عليه اختيارنا- مصدرٌ أصيلٌ من مصادر الفقه المالكي على طريقة المتقدمين، وهو من النفائس التي عزَّ وجودها، وقلَّ نظيرها، حيث إنَّ كُتُب ابن شعبان ومَن قَبْلَه نادرةُ الوجود في عالم المخطوطات، فضلاً عن المطبوعات، وقد فُقدَت أصول أكثرها، وانصرف المحققون والناشرون عن العناية بما وصلنا منها، فبات تراث المالكية الأصيل مهدداً بالضياع والاندثار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عاش ابن شعبان في مرحلة النقلة بين المتقدمين والمتأخرين من فقهاء المالكيَّة، حيث عاصر ابنَ أبي زيد القيرواني (ت 386هـ) الذي يعرف عند المالكية بأول المتأخرين من فقهاء المذهب ، وكانت بينهما مراسلة.
وفقه ابن شعبان وروايته من مصادر كتاب «النوادر والزيادات»، لابن أبي زيد القائل في ديباجته: «... وما ذكرتُ فيه لبكر بن العلاء، وأبي بكر الأبهري، وأبي إسحاق بن الْقُرْطِيّ فقد كتبوا إلي به» .
أسباب اختيار تحقيق «الزاهي» موضوعاً
لأطروحة الماجستير
اخترت هذا الموضوع لأسباب كثيرة من بينها:
• انقاذ ما أمكن من مصنَّفات الفقه المالكي من الإهمال الذي يحول بين الفقهاء والمتفقهين وبين الحصول عليها أو الوصول إلى بعض ما فيها، حيث إن كلمة «مفقود» باتت لصيقةً بكثير من الأمهات المصنفة فيه، وربَّما كان ما قيل إنه مفقود موجوداً، ولكن عنونته – في الفهارس التي يضعها غير المختصين في الغالب - بكتاب مجهول، أو نسبته إلى مؤلِّف مجهول، دعَّم زعمَ من زعم وقناعة من اقتنع بأنَّه مفقود.
• علاقة الموضوع المباشرة بما شرفني الله تعالى به من العناية بآثار السادة المالكية، حيث يشكل العمل في تحقيقه حلقة مكملة لما قمت وما أقوم به – منفرداً أو مشاركاً أو مشرفاً – من تحقيق أمهات كتب المذهب.
• المكانة الرفيعة التي يمتاز بها ابن شعبان بين فقهاء المالكية، بل فقهاء أهل السنة عموماً، وما عُرِف عنه من الرسوخ في الرواية والدراية، ولزوم المحجَّة وحُسن المُحاجَّة.
• ما امتاز به كتاب «الزاهي» من مزايا لا تقف عند حد تقديم المنقول على المعقول، بل تتعداه إلى الجمع بينهما، وتخطي حدود التقليد إلى التجديد، حيث يدور ابن شعبان في كتابه هذا مع الدليل حيث دار، ولو خرج به عن المشهور في المذهب، أو أخذ بناصيته إلى الخروج عن المذهب بالجملة في بعض الأحايين.
• حسن الصياغة والسبك الذي ميز أسلوب ابن شعبان في تأليفه، حيث يستهل أبوابه بنصوص من القرآن الكريم تبركاً وتفهاً، ويثني بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم يعرض أقوال الفقهاء، ويرجح من بينها ما يراه أقرب إلى مراد الشارع الحكيم.
• حرصي على الذبِّ عن عرض إمام من أئمة الإسلام بعد أن قدح في روايته ابن حزم الظاهري، وشكك في صدقه وضبطه ، الأمر الذي تدل على نقيضه الصنعة الحديثية لابن شعبان رحمه الله في زاهيه.
• دفع الفرية -التي دأب البعض على إلصاقها بمذهب إمام دار الهجرة- ورد الزعم القائل بأن المذهب يقوم على أقوال الإمام وتلاميذه، ولا يقيم وزناً للدليل ، حيث أردت بتحقيق «الزاهي» تقديم أنموذج للجمع بين الرواية والدراية، وإعمال النظر في إقامة الفقه على الدليل بعيداً عن ذميم التعصُّب، في التقليد والتمذهُب.
ولم يكن العمل في تحقيق «الزاهي» سهلاً ولا ميسوراً، بل كان من المشقة بمكان، ولذلك يحسن أن أشير فيما يلي إلى:
العقبات والمصاعب التي عانيتُها أثناء التحقيق
وهي كثيرة؛ منها:
• أنَّ المتوفِّر من مخطوطات «الزاهي» نسخةٌ يتيمةٌ لا بديل عن اعتمادها، رغم ما اعتراها من نقص واضطراب في الترتيب والتبويب، وأخطاء الناسخ، فضلاً عن خلوها مما يفيد مراجعتها على يد عالم فقيه، أو مقابلتها وتصحيحها على ما هو متقدم عليها، أو أصح منها.
• أنَّ بضاعتي في فقه إمام دار الهجرة مزجاة، حيث لم أتَّجه إلى التفقُّه على مذهبه إلا على كِبَر، وهذا ما تطلب مني بذل أضعاف ما يبذله غيري من الوقت والجهد للوقوف على اصطلاح المذهب وقواعده وأصوله، قبل الانتقال إلى مرحلة تحقيق كتبه وآثار أعلامه.
• قلة المطبوع، وصعوبة الوصول إلى المخطوط من كتب المذهب التي أحتاج الرجوع إليها أثناء التحقيق والتوثيق.
• عدم الحصول أو الوقوف على أيٍّ من كتب ابن شعبان الأخرى التي قد تربطها ببعضها وحدة نظمية أو موضوعية تعين على فهم بعض النصوص المشكلة في «الزاهي»، وهي كثيرة.
• كثرة ما جاء في «الزاهي» من الروايات الغريبة عن الإمام، وما قيل إنَّه من الآراء الشاذة في مذهبه، أو المخالفة له، مع ما يترتب على ذلك من صعوبة توثيقها، والتردد في نسبتها إليه.
• التضييق الواقع عليَّ من بعض المؤسسات الدينية الرسمية في بعض البلدان المتمذهبة – في الغرب الإسلامي - بمذهب السادة المالكية، التي تحاول احتكار العمل على تحقيق التراث، وترى نفسها – رغم قلة وضعف إنتاجها - صاحبة الوصاية على كتب المذهب تحقيقاً ونشراً، وتنظر إلى منافسيها بعين الريبة التي قد تحملها على مضايقتهم، أو النيل من سمعتهم، أو الوشاية بهم – بما ليس فيهم – إلى ذي سلطة قد يستعملها في إلحاق الأذى بهم.
وقد خفَّف عني هذه المصاعب وكثيراً غيرها، وواساني في عملي ومعاناتي، وشدًّ على يدي وآثرني في رحلتي وغُربتي، من وفقني الله للتعرف عليهم، والتعاون معهم؛ من إخواننا النبغاء، وأشياخنا النبهاء، في بلاد شنقيط، فكانوا للخير عنواناً، وعلى البر أعواناً، جزاهم الله عني أفضل الجزاء وأجزَلَه.
هذا، وقد جرى عملي في تحقيق «الزاهي» وفق خطة أعددتها قبل الشروع فيه، وقدَّمتها إلى جامعة نواكشوط، ثم عدَّلتُ فيه مراراً أثناء العمل، بحسب ما فتح الله تعالى به عليَّ، حتى كانت في صورتها النهائية على النحو التالي:
خطة البحث:
قسمتُ البحث إلى قسمين؛ أولهما للدراسة والتمهيد، متبوعاً بالنصِّ المحقق في قسم ثانٍ، على النحو التالي:
القسم الأول: التمهيد:
وفيه بعد -هذه- المقدمة مبحثان:
المبحث الأول
ترجمة المصنف
أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان
وفيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: اسمُه وكنيتُه ونسبُه ولقبُه.
المطلب الثاني: مولده.
المطلب الثالث: شيوخه.
المطلب الرابع: تلاميذه.
المطلب الخامس: مصنفاته.
المطلب السادس: من أخلاقه ومواقفه.
المطلب السابع: وفاته وثناء العلماء عليه.
المطلب الثامن: مآخذ العلماء على ابن شعبان ومناقشتهم في ما ادعوه.
المبحث الثاني
في التعريف بكتاب الزاهي
ومنهج أبي إسحاق ابن شعبان في تصنيفه
ووصف مخطوطته وعملنا في تحقيقه
وفيه مطالب:
المطلب الأول: عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلِّفه.
المطلب الثاني: أوان تأليف الزاهي وأسبابه وأهدافه.
المطلب الثالث: مادة الكتاب وموضوعه.
المطلب الرابع: طريقة ابن شعبان في تبويب وترتيب «الزاهي».
المطلب الخامس : أسلوب ابن شعبان في تأليف «الزاهي».
المطلب السادس : المنهج العلمي لابن شعبان في زاهيه.
وفيه مقاصد:
المقصد الأول : منهج المصنف في عرض المسائل.
المقصد الثاني : منهجه في الاستدلال.
وفيه فروع:
الفرع الأول: الاستدلال بالقرآن الكريم.
الفرع الثاني: الاستدلال بالسنة النبوية.
الفرع الثالث: الاستدلال بأدلة غير الكتاب والسنة.
المقصد الثالث: منهجه في الترجيح بين الأقوال.
المقصد الرابع: الجانب اللغوي في كتاب«الزاهي».
المطلب السابع: أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية بعده.
المطلب الثامن: أمورٌ قد تأخذ على الزاهي.
المطلب التاسع: وصف النسخة الخطية المتوفرة للكتاب.
أما القسم الثاني؛ فهو قسم التحقيق:
وقد بذلنا فيه وسعنا لإخراج القدر المتوفر من مخطوط الكتاب من المخطوط إلى المطبوع على ما نرجو أن يكون موافقاً لمراد مؤلِّفه رحمه الله، أو قريباً من مراده، والتزمنا في التحقيق ما يلي:
1- نسخُ النص من النسخة اليتيمة التي يحفظ أصلها في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، برقم: (5951).
2- حيث إن المعتمد في التحقيق ليس إلا نسخة يتيمة من الكتاب فقد لجأنا - للتأكد من سلامتها، وإكمال سقطها، واستجلاء مقروضها ومطموسها، وتعويض التالف منها – إلى المصادر التي نقلت - بالنصِّ أو بالمعنى - كلامَ ابن شعبان منسوباً إليه، وقابلنا ما في المخطوط بما في تلك المصادر، واعتبرناها بمثابة نسخ أُخَر تبعث طمأنينة النفس إلى صحة ما في المخطوط، وثبوت نسبته ونسبة ما فيه إلى من يُنسَب إليه، مع الإشارة في الهوامش السفلية إلى المصدر الذي أفدنا منه في سدّ الخلة، وإكمال النقص.
3- الاجتهاد في ملء ما لم تسعفنا إلى ملئه النسخة المخطوطة ولا المصادر المتاحة، بإعمال الرأي، واللجوء إلى الفقهاء والمحققين - المعاصرين- في المذهب.
4- ترك مسافات فارغة ضمن معكوفات لما لم نجد سبيلاً إلى ملئه بما يقتضيه السياق، والتنبيه على ذلك في الهوامش.
5- ترقيم صفحات المخطوط، وتمييز وجوهها (المرموز لكلٍّ منها بالحرف أ) عن ظهورها (المرموز لكلٍّ منها بالحرف ب)، وإثبات رقم كل لوحة في أوَّلها.
6- التنبيه على ما أشكل علينا فهمه من ألفاظ المؤلف وعباراته، وحل ما أمكن من مقفله، مع الإشارة إلى مواضع ما حللناه وما تركناه في الحواشي السفلية للنص المحقق.
7- إضافة عناوين لما لم يعنون له المؤلف رحمه الله في بعض المواطن، وجعل ما أضفناه محصوراً ضمن معكوفتين، مع الإشارة في الهوامش إلى أنَّ تلك العناوين من زيادات التحقيق.
8- كتابة الآيات القرآنية وأجزائها بالخط العثماني، وعزوها إلى مواضعها في كتاب الله تعالى، بذكر اسم السورة ورقم الآية التي وردت فيها، بدءاً بالسورة ضمن معكوفتين، هكذا: [السورة: رقم الآية]، وجَعلنا ذلك عقب ذكر الآية مباشرةً، وليس في الحواشي.
9- تخريج الأحاديث الواردة التي أوردها المؤلف في النص، أو أحال عليها أو أشار إليها دون إيراد نَصِّهَا من دواوين السنة المعتبرة مع التزام ما يلي في التخريج:
أ- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فلا نتوسع في تخريجه، ونكف عن بيان درجته، اكتفاءً بما تفيد رواية أحد الشيخين له من الجزم بصحته.
ب- إذا لم يكن الحديث في أيٍّ من الصحيحين فنخرّجه من دواوين المحدثين المعتبرة بتقديم السنن الأربعة، ثم بقية المصادر مرتبةً حسب الأقدم تصنيفاً، ونورد كلام العلماء فيه، مع التفصيل في بيان حال رجال الإسناد المُتكلَّم فيهم، وعلله إن وُجدت، وتوثيق ذلك كلِّه، وما أنا في الحكم على الحديث إلاَّ ناقلٌ عن المُتقدِّمين، أو مُستأنسٌ بآراء المُتأخِّرين.
ج- أثناء العزو إلى الكتب الستة نذكر الكتاب والباب الذي ورد فيه الحديث، مع ما يسهل الرجوع إليه من رقم الحديث التسلسلي، أو رقم الجزء والصفحة، أو جميع ما تقدم.
د- عند عزو الحديث أو الأثر إلى غير الكتب الستة نكف عن ذكر اسم الكتاب والباب اكتفاءً بالإشارة إلى موضع النص بالجزء والصفحة أو الرقم التسلسلي أو هما معاً.
10- تمييز الاختيارات الفقهية لابن شعبان (وغالبها ترجيحات من آراء غيره) بكتابتها بخط غليظ.
11- تبيين معاني بعض الكلمات الغريبة الواردة في النص، بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الفقه، والتعليق على مواضع من الكتاب بإيجاز عند وجود ما يقتضي التعليق.
12- صدَّرنا الكتاب بمقدمة تحقيقية فيها ترجمة مختصرة للمؤلف رحمه الله، ودراسة وجيزة عن الكتاب.
13- ذيلنا الكتاب بثبت المصادر التي اعتمدناها في التحقيق والتوثيق، وفهارس للموضوعات وأخرى للآيات والأحاديث والآثار والأعلام المذكورين في الكتاب.
وإننا إذ ننفض غبار الزمن عن «الزاهي» لابن شعبان، ونقدمه - محقَّقاً - إلى المكتبات المفتقرة إليه وإلى أمثاله، لندين بالفضل في إخراج هذا الكتاب إلى القائمين على مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، الذين أمدونا بمخطوط الكتاب المحفوظ لديهم، وإلى كل من ساهم في إنجاح هذا العمل بجهد أو رأي أو مشورة أو مساهمة، وأخص منهم فضيلة الشيخ – المشرف على هذا العمل – فضيلة الشيخ الأستاذ محفوظ إدومو، الذي وسعني بعلمه وفضله أثناء التحقيق، وأثنِّي بالأفاضل الأجلاء، والأشياخ الفضلاء، الذين بسطوا لي يد العون في مراحل العمل المختلفة، فكان أمنَّهم عليَّ فضيلة الشيخ الدكتور محمد الأمين ولد الشيخ محمد الحافظ ، والدكتور محمد شافعي مفتاح بوشية، والشيخ أحمد مزيد بن محمد عبد الحقّ، فجزى الله الجميع خيراً، وأعظم لهم أجراً، آمين، آمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
دبلن (جمهورية إيرلندا)
في الثاني عشر من جمادى الأولى 1432هـ
الموافق للسادس عشر من نيسان (أبريل) 2011م
وكتب
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
المبحث الأول
ترجمة المصنف
أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان
المطلب الأول: اسمُه وكنيتُه ونسبُه ولقبُه:
هو أبو إسحاق، محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة بن داود ابن سليمان بن أيوب الصيقل بن عبيدة بن محمد، العماري (من ولد عمار بن ياسر) ، المصري.
كنِّيَ بأبي إسحاق، واشتهر بابن الْقُرْطِيّ (بقاف مضمومة وراء ساكنة وبعدها طاء مكسورة وياء النسب) كما ضبطها أبو المظفر السمعاني والقاضي عياض .
قال السمعاني: هذه النسبة إلى القرط، والمشهور بالانتساب إليه: عثمان ونوح ابنا شعبان الْقُرْطِيّ، وابن أخيهما أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الفقيه .
وقيل: ابن القرظي نسبة إلى بيع القرظ كما ضبطه ابن حجر ، وضبطها الذهبي بالقاف والضاد (ابن القرضي) .
قلتُ: في النفس شيء من الضبطين الأخيرين، ولا يبعد أن يكون أحدهما أو كلاهما من تحريف النساخ أو المحققين.
المطلب الثاني: مولده:
لم يشر أحد ممن ترجم لابن شعبان إلى تاريخ مولده على وجه التحديد، إلا أنهم ذكروا أنه توفي سنة 355هـ وقد جاوز الثمانين سنة، وهذا يعني أنه ولد في بدايات العقد الثامن من القرن الثالث الهجري؛ أي من سنة 271 هـ، فصاعداً.
المطلب الثالث: شيوخه:
نشأ ابن شعبان في مصر وسمع من شيوخها، ولم ينتقل منها إلى غيرها كما ذكر ابن حجر ، لذلك لم يعرف لابن شعبان شيوخ من خارج المدرسة المصرية للمذهب، اللهم إلا من نزل بها أو أتاها في رحلة علمية للتحمل والأداء.
وشيوخ ابن شعبان صنفان:
أوَّلهما: شيوخ رواية أخذ عنهم الحديث وأسند من طريقهم أحاديث في الزاهي وغيره من المصنَّفات.
وثاني الصنفَين: شيوخٌ تفقَّهَ عليهم، وروى عنهم مسائل وآراء وروايات فقهيَّة.
وقد أسعفتنا المصادر المتاحة بذكر وترجمة جماعة من شيوخ ابن شعبان، نذكرهم، ونعرِّف بهم - باختصار - فيما يلي:
1- أبو الحسن، علي بن سعيد بن بشير بن مهران الرازي، المعروف بعَليكَ - والكاف في عليك علامةُ تصغير في (عَليّ) بالفارسية – المتوفى بمصر سنة 299هـ .
محدِّثٌ تكلِّم فيه، قدم مصر نحو سنة خمسين ومائتين، فكتب بها وحدث، وكان صَحِبَ السلطان، ووَليَ بعض الأعمال.
حدث عن: عبد الأعلى بن حماد النرسي، وجبارة بن المغلس، وبشر بن معاذ العقدي، ونوح بن عمرو السكسكي، ومحمد بن هاشم البعلي، وعبد الرحمن بن خالد بن نجيح، ونصر بن علي الجهضمي، والهيثم بن مروان، وآخرين.
وحدث عنه أبو جعفر الطحاوي - في مُشكل الآثار - وأحمد بن الحسن ابن عتبة الرازي، وعبد الله بن جعفر بن الورد، ومحمد بن أحمد بن خروف، وأبو القاسم الطبراني، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو منصور محمد بن سعيد الأبيوردي، وآخرون.
ذكره في شيوخ ابن شعبان ابنُ ناصر الدين، وابن ماكولا.
2- أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن حمّاد بن مسلم بن عبد الله بن عمر التجيبي، المصري، المعروف بزغبة، المتوفى سنة 318هـ .
حدث عن عمه عيسى بن حمّاد، والربيع بن سليمان، وعنه أبو بكر بن المقرئ، وابن شعبان.
3- أبو إسحاق، إبراهيم بن عثمان بن سعيد بن المثنى المصري، الأزرق، الخشاب، المتوفى في رمضان سنة 303هـ .
سمع بمصر يونس بن عبد الأعلى، والحسن بن سليمان (قبيطة)، وبدمشق أبا جعفر الخراساني، وبالعراق عباسَ بن محمد الدوري، وأبا بكر بن أبي الدنيا.
وروى عنه ابن شعبان، وأبو سعيد بن يونس، وقال: إنه صالح الحديث.
4- أبو العباس، حاجب بن مالك بن أركين الفرغاني، الضرير، المتوفى بدمشق سنة 306هـ .
قدم بغداد، وحدث عن أبي عمر حفص بن عمر الدوري، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وأبي سعيد الأشج، وأبي حاتم الرازي.
وروى عنه القاسم بن علي بن جعفر الدوري، وأبو سعيد الأعرابي، ويوسف بن القاسم، وسليمان الطبراني، وابن شعبان.
5- أبو الطاهر، حامد بن محمد بن عبد الله بن عبد الخالق .
لم أقف من أخباره إلا على ما يفيد كونه من شيوخ ابن شعبان، حيث جاءت في تاريخ دمشق قصيدةٌ مسمطةٌ في السُّنة، تسمى الدامغة، أسندها ابنُ عساكر من طريق ابن شعبان عن أبي الطاهر عن أبيه (ناظم القصيدة)، ومطلعها:
الحمد لله مليك الملك
مسخر البحر ومجري الفلك
6- أبو العلاء، محمد بن أحمد بن جعفر بن أبي جميلة الذهلي، الوكيعي، الكوفي، الإمام المعمر، الثقة، المتوفى في جمادى الآخرة، سنة 300هـ .
نزيل مصر، وكان من أئمة الحديث، قال عنه ابن يونس المصري: «كان ثقةً ثبتاً».
سمع أباه أحمد بن جعفر الوكيعي عاصمَ بن علي، ومحمد بن الصباح الدولابي، وأحمد بن حنبل، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وأحمد بن جميل المروزي، وأحمد بن صالح المصري، والحارث بن مسكين، وأبي خيثمة زهير بن حرب، وأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وأبي بكر عثمان بن محمد بن أبي شيبة، وعلي بن الجعد، وعلي بن المديني، وهارون بن سعيد الأيلي، وهشام ابن عمار الدمشقي، وآخرين.@25@
وروى عنه النسائي، وابن عَدِيّ، وحمزة الكناني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، والحسن بن رشيق العسكري، وابن شعبان، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بنُ الأعرابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، وآخرون.
7- أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار النسائي (نسبة إلى نَسَا)، القاضي، المتوفى بفلسطين (وقيل بمكة) سنة 303هـ .
هو المحدِّثُ المشهور، أحدُ الأئمة المبرزين، والحفَّاظ المتقنين، صاحبُ السنن الكبرى، والتفسير، وعمل اليوم والليلة، وغيرها من المصنفات المفيدة.
طاف البلاد، وسمع بخراسان، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة، من جماعة يطول ذكرهم، من أبرزهم إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار.
وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني،، والحسن بن رشيق العسكري، وابن شعبان، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وخلقٌ كثير.
8- أبو بكر، عبد السلام بن أحمد بن سهيل بن مالك البصري، نزيل مصر، المتوفى في ربيع الآخر سنة 298هـ .
كان صالحاً صدوقاً، سمع هشامَ بن عمار، وعيسى بن حماد زغبة، وجماعة.
وروى عنه حمزةُ بن محمد بن علي الكناني، وأبو سعيد بن يونس، وجماعة آخرهم موتاً الحسين بن رشيق.
9- عبد الله بن أزهر بن سهيل الخولاني المصري، المتوفى بعد سنة 300هـ .
له رواية عن يزيد بن سعيد الإسكندراني.
قال - في روايته - ابنُ يونس المصري: تعرف، وتنكر.
10- أبو عبد الله، محمد بن حفص بن عبد الرحمن الطالقاني، المرابطي، نزيل مصر، كان حيّاً سنة 303هـ .
روى عن قتيبة بن سعيد، وصالح بن محمد الترمذي.
وروى عنه أبو أحمد بن عدي الجرجاني، والحسن بن رشيق العسكري، وأحمد بن محمد بن إسحاق حرمي، وأبو جعفر الطحاوي.
ضعَّفَه الدارقطني.
11- أبو شيبة، داود بن إبراهيم بن داود بن يزيد بن روزبة البغداديُّ، الفارسيُّ الاصل، المتوفى بمصر سنة 310هـ .
شيخٌ محدثٌ صدوقٌ، سكن مصر، وقال - فيه - الدارقطني: صالح.
سمع محمَّدَ بن بكار بن الريان، وعبد الله بن عمر بن محمد بن أبان، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن حميد الرازي، وعبد الله بن مطيع البكري، وعبد الأعلى بن حماد، والعلاء بن عمرو، وأحمد بن عبد الرحمن بن بكار.
وروى عنه أبو جعفر الطحاوي، وأبو حاتم بن حِبَّان، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو أحمد بن عدي الجرجاني، وأبو بكر ابن المقرئ الأصبهاني.
12- محمد بن إبراهيم بن يحيى بن إسحاق بن جناد أبو بكر المنقري، المتوفى في ذي الحجة الحرام سنة 276هـ .
يقال إن أصله من مرو الروذ.
سمع مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وأبا الوليد الطيالسي، وأبا عمر الحوضي، وموسى بن إسماعيل التبوذكي، ومحمد بن أبي غالب.
وروى عنه موسى بن هارون، وعبد الله بن محمد البغوي، وأبو عبد الله الحكيمي، وعلي بن محمد المصري، ومحمد بن العباس بن نجيح البزاز، وأبو جعفر الطحاوي، وغيرُهم.
13- أبو عبد الله (وقيل: أبو عبيد الله)، محمد بن الربيع بن سليمان بن داود الجيزي، المصري، المتوفى في ربيع الأول سنة 324هـ .
كان من الشهود بمصر ، وكان مقدما فيهم.
سمع أباه، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهارون بن سعيد الأيلي ومحمد بن عزيز الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة بن يحي، وأبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس المكي.
وروى عنه إبراهيم بن علي التمار، ومحمد بن محمد الحلبي، وأبو بكر ابن المقري، والحسن بن رشيق العسكري، وأبو بكر محمد بن جعفر البغدادي، وغيرُهُم.
15- أبو بكر، محمد بن زبّان بن حبيب بن زبّان بن حبيب المصري، الحضرمي، المتوفى في جمادى الأولى 317هـ .
إمامٌ، قدوةٌ، حُجَّةٌ، محدِّثٌ، روى عن أبيه، ومحمد بن رمح التجيبي، وسلمة بن شبيب، ومولاه الحارث بن مسكين.
وحدَّث عنه أبو سعيد بن يونس، وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي المصري، وأبو أحمد بن عدي الجرجاني.
17- أبو الحسن، عبيد الله بن المنتاب بن الفضل بن أيوب البغدادي، الكرابيسي، وقيل في اسمه غير هذا .
ولي قضاء المدينة للمقتدر بالله، وقيل: إنه ولي قضاء مكة، بل والشام أيضاً.
شيخ من شيوخ المالكية، وفقهاء أصحاب مالك وحذاقهم ونظارهم وحفاظهم، وأحد أئمَّة المذهب البغداديين.
كان من أصحاب القاضي إسماعيل، وبه تفقه، وله كتاب في مسائل الخلاف والحجة لمالك.
روى عنه أبو القاسم الشافعي، وابن شعبان، وغيرُهُما.
16- أبو بكر، أحمد بن موسى بن عيسى بن صدقة الصدفي -مولاهم- المصري، المعروف بالرَّباب (بالباء الموحدة التحتانية وقبلَها راءٌ مشددة)، المتوفى سنة 306هـ .
فقيه مشهور بمصر، من أصحاب محمد بن عبد الله بن عبد الحكم .
17- أبو الطاهر، محمد بن سليمان بن داود القوصي، المصري .
روى عن أبي بكر بن الوقار، وروى عنه ابن شعبان.
18- أبو الحسن، محمد بن محمد بن عبد الله بن النفاح (بفتح النون والفاء المشددة وفي آخرها حاء مهملة) بن بدر الباهلي، السامري الأصل، المتوفى بمصر في ربيع الآخر سنة 314هـ .
كان صاحب حديث ثقةً ثبتاً متقللاً، من أهل الصيانة.
سافر إلى الشام فكتب عن شيوخها، ودخل مصر فاستوطنها وحدث بها حتى مات.
سمع أبا عمر حفص بن عمر الدوري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن إبراهيم الدورقي.
وحدَّث عنه حمزة الكناني، وأبو سعيد بن يونس، وابن شعبان.
المطلب الرابع: تلاميذه:
أخذ عن ابن شعبان وتفقه عليه وسمع معه نخبة من العلماء، ويمكن تقسيم الآخذين عنه إلى قسمَين: قسم تفقه عليه وبعضهم لازمه وتخرج به بل خلفه أحدهم في حلقته من بعده، وقسم روى عنه الحديث أو سمع عليه بعض كتبه الفقهية أو غيرها.
وقد أسعفتنا كتب التراجم بالتعرف على بضع وثلاثين منهم، نسميهم، ونعرِّف بمن تيسر التعريف به بما تيسَّر، ونحيل إلى المصادر من أراد التوسع فيما يلي:
أبو أحمد (وأبو علي)، عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين بن محمد الطبراني، الأكواخي (نسبة إلى موضع قرب بانياس استوطنه المترجَم)، المتوفى في ربيع الأول سنة 993هـ .
أبو القاسم، خلف بن القاسم بن سهلون (ويقال: ابن سهل) بن أسود، المعروف بابن الدبَّاغ، المتوفى في ربيع الآخر سنة 393هـ .
محمد بن أحمد بن الخلاص البَجَّاني ، المتوفى نحو سنة 400 هـ .
أبو القاسم، أصبغ بن عبد الله بن مسرة القرطبي، الحنّاط، المتوفى في شهر رمضان سنة 388هـ .
أبو المطرِّف، عبد الرحمن بن خلف بن سدمون التجيبي (من أهل أقليش)، المتوفى سنة 391هـ .
أبو عبد الله، محمد بن علي بن أبي الحسين القرطبي، المتوفى في صفر الخير سنة 372هـ .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قادم بن زيد القرطبي، المتوفى سنة 380 أو 388هـ .
أبو بكر، عتيق بن أحمد الشرفي (من شرف مصر) .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد بن عبيد بن موسى الوشاء، المتوفى في جمادى الآخرة سنة 397هـ .
أبو عبد الملك، أمية بن عبد الله الهمداني الميورقي (نسبة إلى ميورقة)، المتوفى في ذي القعدة الحرام سنة 413هـ .
أبو عبد الملك، مروان بن عبد الملك القرطبي، الفراء، المتوفى سنة 383هـ .
أبو القاسم، عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الغافقي، الجوهري، المتوفى في رمضان سنة 381هـ .
أبو المطرف، عبد الرحمن بن هارون بن عبد الرحمن الأنصاري،المعروف بالقنازعي، المتوفى سنة 413هـ .
أبو محمد، إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي القرشي، العامري (من ولد عامر بن لؤي) الإشبيلي، المتوفى بعد سنة400هـ .
أبو زيد، عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار، المتوفى سنة 396هـ .
أبو جعفر، أحمد بن عطاء الله القرشي، المتوفى سنة 391 أو 392هـ.
أبو الحسن، حسن بن محمد بن حسن الخولاني، الكانشي، المتوفى سنة 347هـ .
أبو بكر، خالد بن خالد بن يزيد المصري .
أبو عبد الله، محمد بن نظيف، المالكي، البزّار، المتوفى سنة 355هـ .
سعيد بن محمد بن سيِّد أبيه بن مسعود الأموي، البلدي (من أهل بلدة) .
أبو محمد، عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي (من أهل أصيلة)، المتوفى في ذي الحجة سنة 392هـ .
أبو الفتح، أحمد بن عمر بن سعيد بن ميمون الجهازي .
أبو بكر، محمد بن سليمان (وقيل: محمد بن إسماعيل، وقيل: محمد بن بكر) بن المفضَّل النعالي (نسبة إلى عمل النعال) الصراري (نسبة إلى النعال الصرارية)، المتوفى سنة 380هـ .
أبو عبد الله، محمد بن يحيى الأجدابي (نسبة إلى أجدابيا الواقعة بين طرابلس وبنغازي من أعمال ليبيا اليوم) .
أبو رجاء، زكرياء بن محمد (مولى لب بن فضل)، من أهل تدمير، المتوفى بمرسية سنة 371هـ .
أبو بكر، محمد بن عيسى الأقريطشي .
أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن قاسم الفاكهي، القرطبي .
أبو عبد الله، مزاحم بن عيسى (من أهل سرقسطة)، المتوفى سنة 394هـ .
أبو الحسن، علي بن أحمد بن زكريا بن الخطيب، المعروف بابن زكرون، الطرابلسي، المتوفى سنة 370هـ .
أبو بكر، يحيى بن مجاهد بن عوانة الفزاري، القرطبي، المتوفى سنة 366هـ .
أبو القاسم، خلاص بن منصور بن سملتون البزاز (من أهل بطليوس) القرطبي، المتوفى سنة 380 هـ .
أبو محمد، عبد الله بن سعد (من أهل قرطبة)، المتوفى قبل سنة 370هـ .
المطلب الخامس: مصنفاته:
نظراً للمكانة العلمية المرموقة لابن شعبان في عصره ومصره، فقد تصدى للتأليف في موضوعات منوعة شملت الفقه والتفسير والسير والآداب والأخلاق، وتنوعت كتبه بين جوامع انتظمت عامَّةَ أبواب الفقه مثل كتاب «الزاهي» و«مختصر ما ليس في المختصر» وأخرى أُفرِدَت لمسائل فقهية أو أخلاقية مخصوصة.
وقد أسعفتنا كتب التراجم مع ما ذكره المؤلف في «الزاهي» بعناوين عشرين كتاباً منها، ووقفنا من خلال تحليل هذه العناوين والنقول المبثوثة - منها وعنها - هنا وهناك على معلومات قيِّمة عن ابن شعبان وكتبه، وعن الحركة العلمية في عصره أيضاً.
وفيما يلي نأتي على ذِكر ما تيقنَّا كونَه من تآليف ابن شعبان رحمه الله:
مختصر ما ليس في مختصر عبد الله بن عبد الحكم .
هكذا سماه ابن شعبان في ثلاثة مواضع من «الزاهي»؛ فقال: وقد ذكرت حديث سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع ما معه من الأحاديث، فيما عملتُ من «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله بن عبد الحكم» في كتاب الجامع، والحمد لله. اهـ .
وقال في موضع ثانٍ:
وقد أعتق أبو بكر الصديق رضي الله عنه سبعةً كلهم يعذب في الله عز وجل، وقد ذكرتُ أسماءهم في «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله». اهـ .
وفي موضع ثالث:
ولا يجوز القراض والمال عند رب المال، فإن فعل هذا على غير الأمانة، وله أجر مثله إن عمل، وقراض المثل غير إجارة المثل، (وما كشفت عنهما) في كتاب «مختصر ما ليس في مختصر عبد الله»، وبالله التوفيق. اهـ .
وذكره الحميدي في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي، أبي محمد القرشي العامري، وزاد بأن ذكر سنده إليه فقال:
أخبرنا أبو عمر النمري، قال: نا إسماعيل بن عبد الرحمن بكتاب أبي إسحاق ابن شعبان في مختصر ما ليس في مختصر ابن عبد الحكم، وبكتابه في الأشربة، وبكتابه في النساء، عن أبي إسحاق سماعاً منه. اهـ.
وذكره الضبِّيُّ – أيضاً - في ترجمة أبي علي إسماعيل بن القاسم القالي وذكر إسناده في روايته، فقال:
أخبرنا القاضي أبو القاسم عن ابن موهب، عن أبي عمر، قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بكتاب أبي إسحاق بن شعبان في مختصر ما ليس في مختصر ابن عبد الحكم، وبكتابه في الأشربة، وبكتابه في النساء، عن أبي إسحاق سماعاً منه. اهـ.
ويكثر النقل عنه في كتب المالكية عموماً، سواء في ذلك متقدمهم ومتأخرهم، وخاصة اللخمي في «التبصرة»، وابن رشد في «البيان والتحصيل» إلا أنهم يسمونه - كما يسميه عامة من ترجم لابن شعبان - مختصر ما ليس في المختصر.
ومما يفسر لنا العناية الخاصة التي يوليها ابن شعبان لمختصر ابن عبد الحكم أنه تفقه وروى كتبه الفقهية على يد تلميذه أبي بكر أحمد بن موسى الصدفي المعروف بالرباب، فضلاً عن تتلمذه – كما أسلفنا - على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، رحمهم الله جميعاً.
2- الشعباني الزاهي، وهو هذا الكتاب – الذي بين أيدينا - وسوف نخصُّه بتعريف مفصل به -إن شاء الله-.
3- كتاب أحكام القرآن.
ذكر هذا الكتاب كل من ترجموا لابن شعبان باسم كتاب أحكام القرآن، أو كتاب في أحكام القرآن ، ونقل منه أبو بكر ابن العربي القرطبي في تفسيره .
4- كتاب الأشربة .
ذكره جميع من ترجموا لابن شعبان، ورواه الحافظ أبو عمر ابن عبد البر من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن محمد بن القاسم بن شعبان كما نص عليه الحميدي والضبي .
يبدو من عنوانه، ومن الأخبار المنقولة منه أن موضوعه الأنبذة؛ ما يجوز منها وما لا يجوز.
ونقل أبو عمر ابن عبد البر في كتبه نقولا من هذا الكتاب بسنده المتقدم ومن ذلك قوله في «التمهيد»:... مرسل مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الغبيراء؟ فقال: «لا خير فيها»، ونهى عنها.
قال مالك: وسألت زيد بن أسلم عن الغبيراء؟ فقال: «هي الأسكرة».
هكذا رواه أكثر رواة الموطأ مرسلاً، وما علمتُ أحداً أسنده عن مالك إلا ابن وهب، وحديث ابن وهب في ذلك حدثَنَاه إسماعيلُ بن عبد الرحمن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان، قال: حدثنا غير واحد عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عن الغبيراء، فذكره سواء.
قال أبو إسحاق بن شعبان: وحدثناه أحمد بن محمد عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك مثلَه.
هكذا قال ابن شعبان والذي في الموطأ لابن القاسم في هذا الحديث الإرسال كرواية يحيى وغيره والأسكرة نبيذ الأرز، وقيل: نبيذ الذرة.اهـ .
وقال -أيضاً-: وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن القاسم ابن شعبان، حدثنا عبد الرحمن بن أحمد، حدثنا محمد بن ميمون، ومحمد بن عبد الله الضبي، قالا: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي عن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، قال: حدثني أبي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجمعوا بين الزهو والرطب والزبيب، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة».
أخبرنا إسماعيل، حدثنا محمد بن شعبان، حدثنا إبراهيم بن عثمان، حدثنا حاتم بن قتيبة، حدثنا علي بن حجر، حدثنا داود بن الزبرقان، قال: حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنبذوا الزهو والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعاً، وانتبذوا كل واحد منهما على حدته».
وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن القاسم ابن شعبان، قال: حدثنا علي بن سعيد، قال: حدثنا جبارة بن المغلس الجماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن الربيع عن عائذ بن نصيب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخلَط التمر والزبيب جميعاً، وقال: «ينبذ هذا على حدة، وهذا على حدة» .
5- كتاب النساء .
ذكره كل من ترجم لابن شعبان، وسمَّاه بعضهم (جماع النسوان).
ويبدو من خلال ما وصلنا من نصوص الكتاب أنه يتكلم عن مسألة ما يجوز وما لا يجوز من إتيان النساء، ومما يُصدِّقُ ذلك ما نقله - عنه - أبو بكر ابن العربي حيث قال رحمه الله: اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها؛ فجوزه طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب «جماع النسوان» و«أحكام القرآن» وأسند جوازه إلى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة. اهـ .
6- المناسك .
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... وإن زاد في التلبية ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا من طريق عبد الله بن الفضل الهاشمي فحسن؛ وهو: «لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ». وقد شرحت من وصف هذا في كتاب المناسك. اهـ .
وذكره جُلُّ من ترجم لابن شعبان، وهو كما يظهر من عنوانه في أحكام الحج والعمرة، ولعل النقل الذي نقله ابن عبد البر في «التمهيد» من هذا الكتاب حيث قال رحمه الله:
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شعبان، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا يونس، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، وغيره، عن ابن شهاب، أنه لا حصبة لمن تعجل في يومين.
قال أبو إسحاق بن شعبان: إنما التحصيب لمن صدر آخر أيام منى وبذلك سميت تلك الليلة ليلة الحصبة. اهـ .
7- النوادر.
نسبه إلى ابن شعبان عامة من ترجموا له .
ويوحي عنوانه أنَّه يورد فيه القصص الظريفة والمواعظ الطريفة والأشعار المستحسنة كما هو الشأن في نظائره غالباً.
ولعل منه ما أخرجه ابن عساكر في أبي جعفر الخراساني الشافعي قال: ذكر أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الْقُرْطِيّ الفقيه: حدثني إبراهيم بن عثمان، حدثني أبو جعفر الخراساني بدمشق - من أصحاب الشافعي – قال: قال الأصمعي: دخلت المقام، فإذا أنا بامرأة تبكي ابناً لها، وهي تقول:
لما نشا ورجوته لغد
وظننت أن يقوى به ظهري
ويكون من أعمامه خَلَفا
ويشد بعد تأطر أزري
رشقته عن قوس بلا تِرة
سهم المنون بمنزل قفر
ما زلت حتى ذقت لوعتها
فأمرّ منها لوعة الصبر
ولا يبعد أن يكون من مادة هذا الكتاب ما رواه ابن عساكر -أيضاً- في ترجمة أبي بكر محمد بن عيسى الأقريطشي، قال: حدَّثَ بدمشق عن محمد بن القاسم المالكي، بسنده إلى بعض الصالحين، قال (من الطويل):
ننافس في الدنيا ونحن نعيبها
لقد حذرتناها لعمري خطوبها
وما نحسب الساعات تبلغ آنه
على أنها فينا سريعٌ دبيبها
كأني برهطٍ يحملون جنازتي
إلى حفرةٍ يحثى علي كثيبها
فكم لي من مسترجعٍ متوجعٍ
وباكيةٍ يعلو علي نحيبها
وإني لممن يكره الموت والبلى
ويعجبني روح الحياة وطيبها
فحتى متى حتى متى وإلى متى
يدوم طلوع الشمس لي وغروبها
فيا هادم اللذات ما منك مهربٌ
تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
رأيت المنايا قسمت بين أنفسٍ
ونفسي سيأتي بعدهن نصيبها
8- السنن قبل الوضوء .
ذكره جلُّ من ترجم لابن شعبان، وهو كما يبدو من عنوانه يتناول السنن التي تسبق الوضوء كالاستنجاء، والسواك، وما شابه ذلك.
وقد يكون النقل الذي نقله في السواك من مرويات ابن شعبان في هذا الكتاب.
قال ابن المنير: روى ابْن شعبان الفقيه المالكي بسنده أنه عليه السلام كان يجعل السِّواك موضع القلم من أُذُن الكاتب. اهـ .
9- كتاب في الفدية.
موضوع هذا الكتاب هو (الخلع)، ويتناول افتداء المرأة نفسها من زوجها.
أشار إليه ابن شعبان في زاهيه بقوله:... وإن كان مالها كله، وإن كان الضرر من قِبَله، رد عليها ما صار إليه منها، وجاز طلاقُه عليها، والفداء تطليقة ثانية، ولهذا كتاب مفرد عملناه فيه اختلاف الناس في هذا الباب. اهـ .
10- كتابٌ في تحريم المُسكِر.
أشار إليه ابن شعبان في زاهيه بقوله:... ولهذا كتاب كامل عملناه في تحريم المسكر. اهـ .
قلتُ: قد يكون هذا الكتاب هو -بعينه- كتاب «الأشربة» لابن شعبان، والله أعلم.
11- كتابٌ في طلاق المُكرَه.
12- كتاب في طلاق السكران.
أشار إليه، وإلى الذي قبلَه ابنُ شعبان في زاهيه بقوله:... وفي طلاق السكران المتلطخ قولان، وبوقوعه أقول، وطلاق المكره لا يلزم، ولهاتين المسألتين كتابان مما عملت.اهـ .
13- مناقب مالك (فضائل مالك) .
عنوانه يدل على مضمونه، وقد ذكر عياض أن ابن شعبان نقل بعض رسائل مالك، ولا يبعُد أن يكون ما نقله من مادة كتابه هذا ، وقد يكون من هذا الكتاب ما نقله الباجي - من طريق أبي القاسم الجوهري – قال:
حدثنا أبو إسحاق بن شعبان، حدثني إبراهيم بن عثمان، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا سعيد بن عفير: سمعت مالك بن أنس يقول: أما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُحبُّ أن يؤتى به على ألفاظه. اهـ .
14- الرواة عن مالك، أو تسمية من روى عن مالك بن أنس (رجال مالك) ذكره كل من ترجم له، وأكثر النقل منه من جاء بعدَه؛ ممن ألف في الرواة عن مالك، أو تكلم عليهم، خاصة القاضي عياض، في مواضع متفرقة من المدارك.
وإن حالت عوادي الزمن بيننا وبين هذا الكتاب، فقد زودنا الإمام الذهبي بديباجة خطبته فقال: إني وقفتُ على تأليف ابن شعبان في تسمية الرواة عن مالك، قال في أوله: بدأت فيه بحمد الله الحميد ذي الرشد والتسديد، الحمد لله أحق ما بدئ، وأولى من شُكِر، الصمد الواحد، ليس له صاحبة ولا ولد، جلَّ عن المثل، فلا شبيه له ولا عدل... أحاط علمه بالأمور، ونفذ حكمه في سائر المقدور. اهـ .
وهذا الكتاب يرويه الحافظ ابن عساكر من طريق القاضي المالكي أبي الحسن علي بن جعفر السلفاني .
وقد نقل السيوطي في «ترتيب الممالك» نبذة منه، قال إنًّه وجدها مقيَّدةً في آخر نسخةٍ من طبقات عبد الملك ابن حبيب ، وفيها أنَّ ابنَ شعبان حدَّث بهذا الكتاب سنة 350هـ، أي في آخر حياته رحمه الله .
15- شيوخ مالك (رجال مالك) .
ذكره عامة من ترجموا لابن شعبان وهو كما يظهر من عنوانه يعدد شيوخ مالك بن أنس ممن له عنهم رواية.
وقد رواه ابن الأبار من طريق عن أبي عبد الله بن قاسم الفاكهي عن ابن شعبان وسماه: رجال مالك .
ولعل النقول التي تنسب لابن شعبان ممَّا ينفرد به من ذكر شيوخ مالك هي من هذا الكتاب، ومن ذلك ما نقله عياض من كون مالك روى عن أبيه عن جده عن عمر .
16- مواعظ ذي النون الإخميمي.
نسب هذا الكتاب إلى ابن شعبان أكثر من ترجموا له ، وهو كما يبدو من عنوانه يتناول مواعظ المتصوف أبي الفيض ذي النون المصري (واسمه ثوبان ابن إبراهيم الإخميمي – نسبة إلى بلدة إخميم – النوبي، المتوفى بالجيزة سنة 245هـ)، وكان مشهوراً بمواعظه .
ولعل القصة التي رواها ابن عساكر في تاريخه من طريق عبد الله بن بكر الطبراني عن ابن شعبان أن تكون مما رواه ابن شعبان في كتابه هذا، ونصُّها:
حدثني محمد بن سليمان بن داود القوصي عن سعيد الإسكاف، عن عمرو السراج، قال: قلت لذي النون: يا أبا الفيض كيف كان خلاصُك من المتوكل وقد أمر بقتلك؟ قال: لما أوصلني الغلام إلى الستر رفعه ثم قال لي: ادخل، فنظرت فإذا المتوكل في غلالة مكشوفَ الرأس، وعُبَيد الله قائمٌ على رأسه متكئٌ على السيف، وعرفت في وجوه القوم الشر، ففتح لي باب، قلت في نفسي: يا من ليس في السموات قطرات، ولا في البحار قطرات، ولا في ديلج الرياح دلجات، ولا في الأرضين خبيات، ولا في قلوب الخلائق خطرات، ولا في أعصابهم حركات، ولا في عيونهم لحظات، إلا وهي لك شاهدات، وعليك دالات، وبربوبيتك معترفات، وفي قدرتك متحيرات، فبالقدرة التي تحير بها من في الأرضين ومن في السموات، إلا صليت على محمد وعلى آل محمد، وأخذتَ قلبَه عني، قال: فقام إليَّ المتوكل يخطو حتى اعتنقني ثم قال: أتعبناك يا أبا الفيض. إن تشأ أن تقيم عندنا فأقم، وإن تشأ أن تنصرف فانصرف، فاخترت الانصراف. اهـ .
17- كتاب الأشراط .
ذكره عامة من ترجموا له، ويظهر من عنوانه أنه في بيان ما يجوز وما لا يجوز، وما يعتبر وما لا يعتبر من الشروط الواقعة في الوثائق والعقود.
18- كتاب فضائل رمضان.
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... ولفضل صيام شهر رمضان كتابٌ كاملٌ مما عملتُ، ليس هذا موضعه. اهـ .
19- كتاب في صيام عاشوراء.
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... وصيام يوم عاشوراء له كتاب مفرد مما عملناه. اهـ .
20- كتاب فيما يحرم بالرضاع أو هو(كتاب في لبن الفحل).
أشار إليه المؤلف في زاهيه بقوله:... والرضاعة من قبل الفحل يحرم على اختلاف فيها. وبهذا أقول، ولي في هذا كتاب مفرد.اهـ .
خاتمة حول مؤلفات ابن شعبان:
أختم ما وفقني الله تعالى له من التعريف بما تيسَّر من مؤلفات ابن شعبان بتنبيهين اثنين؛ أولهما أني لم أذكر بعض الكتب لاحتمال كونها أسماء لكتب أخرى ذكرتها فيما ذكرت، مثل كتاب الأحكام، إذ ترددتُ بين كونه كتاباً مستقلاً بذاته، أو كون هذا العنوان اختصاراً للعنوان الأتم لكتاب آخر، وهو «أحكام القرآن»، ومثل ذلك التبست علي العلاقة – إن وجدت – بين كتاب السنن ، وكتاب السنن في الوضوء، والله أعلم وأحكم.
والتنبيه الثاني ألخِّصُ فيه ما قلته وأنا أعدد مؤلفات أبي مروان عبد الملك بن حبيب السلمي، في مقدمتي التحقيقية لكتابه «الأحكام» الذي فرغت من تحقيقه مؤخراً، وخلاصة ما قلته هناك أن من العرف الشائع عند المالكية التعبيرُ بصيغة الجمع عند الحديث عن الكتب الضخمة، فالمدونة عندهم كتاب (أو ديوان) واحد يوصف بأنه كتب، وكذلك الحال بالنسبة للأسدية والموازية وجامع ابن يونس وغير ذلك، حتى إن القاضي عياض: - وهو الذي أورد قول أبي مروان أنَّه صنَّف ألف كتاب وخمسين كتاباً - قال في موضع آخر من ترجمته: «... ألَّفَ ابنُ حبيب كتباً كثيرةً... منها الكُتُب المسماة بالواضحة في السُّنَن والفقه » .@50@
وإذ تلفتُ النظرَ صيغةُ الجمع في قول عياض: «الكُتُب المسماة بالواضحة» إلى موسوعيَّتها وتعدد كتبها؛ فإن الأمر ذاته ينسحب على كثير من العناوين التي تنسب إلى بعض العلماء على أنَّها كتب مفردة، مع أنها قد تكون أجزاءً أو أبواباً أو كتباً من كتاب واحدٍ أوسع منها، يجمعها أو يجمع أكثرَها.
وبناء على ما تقدم يمكن أن يكون كتابا ابن شعبان في الطلاق وكتابه في الخلع، أجزاء أو فصولاً من كتاب مصنَّف في مسائل الطلاق وأحكامه، وما يلحق به، وكذلك الحال بالنسبة لمناقب مالك وشيوخه ورجاله.
كما يمكن أن يكون بعضها رسالة صغيرة لا تتعدى في حجمها اللوحة واللوحتين، خاصة إن كان حالها موافقاً لما في النبذة التي أوردها الجلال السيوطي من كتاب رجال (الرواة عن) مالك، المعنون - أيضاً - بتسمية من روى عن مالك بن أنس، وهذا العنوان يشير إلى أن ليس في الكتاب سوى ذكر أسماء الرواة، مع أنَّ أسماءهم يمكن أن تستوعبها لوحة أو لوحتان من المخطوط.
ومثل ذلك يقال عن كتب وأجزاء كثيرة يمكن ضم بعضها إلى بعض، أو استخراج بعضها من بعض.
هذا ما استحسنتُ الإشارة إليه، والتنبيه عليه، وما توفيقي إلا بالله.
المطلب السادس: من أخلاقه ومواقفه:
كان ابن شعبان رحمه الله من المتمسكين بالسنة النابذين للبدعة، يتسم بالورع والزهد في الدنيا، والبعد عن الأهواء.
قال الإمام الذهبي في ترجمته: «كان صاحب سنة كغيره من أئمة الفقه في ذلك العصر» .
ولما علم بنبأ قرب دخول العبيديين مصر - وكان شديد الذمّ لهم - دعا الله تعالى أن يميته قبل أن يدركهم، فكانت دعوته مستجابة .
ومما يدل على بغضه لهم وإعراضه عن الدنيا ما حكاه القابسي قائلاً: أرسل معزّ بني عبيد، قبل دخوله مصر، الى أبي إسحاق ابن شعبان صلة من مائة مثقال، وكتاباً مع رسوله ابن الديلمي، فقرض ابن شعبان البسملة من الكتاب، وأحرق باقيَه في الشمعة أمام الرسول، ورد المائة عليه، وقال له – أي للرسول -: لولا أنه ثبت عندي أنك سنّي، ما خرجتَ من هذه الدار، ولجعلتُ من يقتلك .
وكان الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين بالأندلس يوجه سرّاً كل عام إلى كل واحد من علماء مصر صلة سَنية (مئتي مثقال) ويخص ابن شعبان بضعفها، وفعل ذلك بعده صاحب القيروان فردها ابن شعبان وأساء القول فيه .
المطلب السابع: وفاته وثناء العلماء عليه:
توفي ابن شعبان بعد حياة حافلة بالعلم، وقد جاوز سِنُّه ثمانين سنة، وكانت وفاته يوم السبت، لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة 355هـ - وهي سنة دخول بني عبيد الروافضِ إلى مصر - ودفن يوم الأحد، وصلى عليه أبو علي الصيرفي رحمه الله، وخلق عظيم .
وخلَّف رحمه الله ذكراً عاطراً بين العلماء، فأثنوا عليه بما فيه، وما هو أهله، ومن ذلك قول القاضي عياض: كان ابن شعبان رأس المالكية بمصر، وأحفظهم للمذهب، مع التفنن، لكن لم يكن له بصر بالنحو .
وقال القاضي عياض - في ابن شعبان - نقلاً عن الفرغاني: كان رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنن في سائر العلوم، من الخبر والتاريخ والأدب، الى التديّن والورع... وكان واسع الرواية، كثير الحديث، مليح التأليف .
وعن ابن مفرّج العنسي: كان ابن شعبان واسع الرواية كثير الحديث شيخ الفتوى وحافظ البلد، وكذلك قال أيضاً ابن أبي زيد فيه .
وقول الذهبي عنه: كان صاحب سنة واتباع، وباع مديد في الفقه، مع بصر بالأخبار، وأيام الناس، مع الورع والتقوى، وسعة الرواية .
وفي «تاريخ الإسلام»: كان ابن شعبان صاحب سنة كغيره من أئمة الفقه في ذلك العصر .
ومن النقول السابقة وما شابهها من أقوال العلماء، مترجمين ومؤرخين وفقهاء، تتبين لنا مكانة ابن شعبان الرفيعة عند الأئمة حيث بالغوا في الثناء عليه علماً وورعاً، رغم ما قد يعكر على ذلك من مغامز، سنعرِّج عليها في المطلب التالي ونزنها بميزان النقد العلمي إن شاء الله.
المطلب الثامن: مآخذ العلماء على ابن شعبان ومناقشتهم في ما ادعوه:
أثنى كثير من العلماء على ابن شعبان، في علمه وخلقه، وإن كان لبعضهم عليه مآخذ في علمه بالنحو، وفي بعض آرائه الفقهية، وفي مروياته، ونذكر من ذلك ما يلي:
قال الذهبي عنه في «تاريخ الإسلام»: ولم يكن بالمتقن للأثر مع سعة علمه .
وذكر عياض نقلاً عن الفرغاني أنَّ ابن شعبان كان يلحن، ولم يكن له بصرٌ بالعربية، مع غزارة علمه .
وقال في المدارك: ذُكِرَ لي أن أبا الحسن القابسي، وأبا محمد بن أبي زيد رحمهما الله تعالى، وغالب ظني – والكلام لعياض - أنه أبو الحسن، كان يقول في ابن شعبان: إنه ليّن الفقه، وأما كتبه ففيها غرائب من قول مالك، وأقوال شاذة عن قوم لم يشتهروا بصحبته، ليست مما رواه ثقات أصحابه، واستقر من مذهبه .
وقال ابن حزم بعد أن أورد – في تحريم المعازف - حديثاً في سنده ابنُ المبارك وابنُ شعبان: وكل من دون ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون، وابن شعبان في المالكيين نظير عبد الباقي بن قانع في الحنفيين، قد تأملنا حديثهما فوجدنا فيه البلاء البين، والكذب البحت، والوضع اللائح، وعظيم الفضائح، فإما تغير ذكرهما، أو اختلطت كتبهما، وإما تعمدا الرواية عن كل من لا خير فيه من كذاب، ومغفل، يقبل التلقين .
ونخلص مما مضى إلى حصر مآخذ العلماء على ابن شعبان في أمور:
أولها: اللحن في العربية، وهذا ما لم نجد ما يدل عليه في «الزاهي»، ولا فيما وقفنا عليه من أقوال منسوبة إلى ابن شعبان في بطون الكتب، وحتى لو وقع منه لحنٌ فلا يضير ما لم يكن لحناً في الرواية، وما سلم من هذه التهمة كثير من الثقات والرواة الأثبات، ومنهم مالك بن أنس، فتنبَّه .
وثانيها: رواية الغرائب من قول مالك، والأقوال الشاذة في مذهبه، ولا أراهم نقموا عليه إلا أنَّه يخرج عن المذهب في بعض المسائل لقوة دليل المخالف فيها، وهذه تحسب له لا عليه، فقد اختار في «الزاهي» من أقوال المخالفين لما استقرَّت عليه الرواية عن مالك جملة لا بأس بها.
وما يقال عن رواية الغرائب من قول مالك - وهو أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره - يرد بما استقر عند أهل الرواية من أنَّ من حفِظ حجةٌ على من لم يحفَظ، وناهيك بحفظ ابن شعبان وسعة روايته.
ومن ناحية أخرى يمكن التفريق فيما يرويه ابن شعبان عن مالك، أو ينسبه من أقوال للمذهب بين ما يجري على قواعد المذهب، وهذا لا بأس في نسبته إليه، لأن ابن شعبان أهلٌ للاجتهاد والتخريج على أقوال الإمام وأصول مذهبه.
وبين ما كان من رواية المغمورين عن مالك ما لم يرو عنه حفَّاظ أصحابه فلا شك أن الانفراد بذلك شذوذ يطعن به في صحة الرواية لكن هذا الطعن لا يتعدى إلى راويها.
وثالثها أخطرها وهو الضعف في رواية الحديث، حيث طعن ابن حزم في روايته للحديث، وهذا الطعن يستند بشكل مباشر إلى التشكيك في ضبطه، لا في أمانته وعدالته وصدقه.
وقد تولى الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» الرد على ابن حزم في تجهيل مَنْ فوق ابن شعبان، فقال رحمه الله:... لم يصب ابن حزم في دعواه أنهم مجهولون؛ فإن أبا نعيم ويزيد بن عبد الصمد مشهوران، وقد تقدم في ترجمتي إبراهيم بن عثمان وأحمد بن المعمر ما يغني عن الإعادة، وقد أخرج الدارقطني الحديث المذكور في غرائب مالك من طريقين آخرَين عن أبي نعيم.
وقد تابع الإمام الذهبيُّ – في السيَر والتاريخ والكامل - ابنَ حزم على تضعيف ابن شعبان من جهة الرواية دون أن يبين لذلك سبباً، إلا أنه قال في «ميزان الاعتدال»: وهَّاه أبو محمد ابنُ حزم، ما أدرى لماذا .
وأثناء التحقيق تتبعتُ بالتدقيق المواضع التي أسند فيها ابن شعبان أحاديث في «الزاهي» فوجدت أن جميع الأحاديث التي أسندها يرويها عن كبار الحفاظ في عصره ومصره، ومن الطريق المعروفة التي يرويها منها أهل الحديث، ولم يشذ عن ذلك في أيِّ حديثٍ مما أسنده.
وحيث إن الجرح يحتاج إلى تفسير، ولا يقبل جزافاً - وبخاصة من ابن حزم، الذي نسلِّم بأن من الحزم عدم موافقته في أحكامه على كثير من مخالفيه، وأكثرهم فقهاء متمذهبون – فإنه لا يسعنا أن نعدل عمَّا وقفنا عليه أثناء تحقيق الزاهي من جودة ضبط ابن شعبان، وصحة أسانيده، إلى قول من لم يقم دليلاً على ما قال في تضعيف الرجال.
ومن جهة أخرى فإنَّ تفرُّد ابن شعبان برواية ما لم يروه غيره لا مطعن فيه، لأن الأصل العدالة والسلامة، وما التفرد إلا لكثرة الاطلاع، خاصةً وأنَّ ابنَ شعبان موصوفٌ بسعة الرواية، وتفرد من كان كذلك لا يستبعد، فهذا الإمام مسلم بن الحجَّاج – صاحب الصحيح – يقول في ثنائه على ابن شهاب الزهري: «... وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد» .
فيتحرر من ذلك أن تضعيف ابن شعبان في الرواية مجازفة من مجازفات أبي محمد بن حزم، تشبه مجازفته في تجهيل أولئك الأعلام الموجودين في إسناد ابن شعبان.
المبحث الثاني
في التعريف بكتاب الزاهي
ومنهج أبي إسحاق ابن شعبان في تصنيفه
المطلب الأول: عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلِّفه:
سمَّى ابن شعبان كتابه الذي بين أيدينا بالزاهي، ونسبَه إلى نفسه بتسميته (الشعباني الزاهي)، وأرجع ذلك إلى ما يبرره بقوله: «... فعملت كتابي هذا وسميته بنسبي، فجعلته «الشعباني الزاهي» لما ينضاف إلى الاختيار من ألفاظي، وما عسى أن أختارُهُ من أقوالهم التي لم ينسبوها إلى إمامهم، مما لا يخرُجُ عن مذهبه». اهـ .
وحملت مخطوطة الكتاب التي وصلتنا تتمة للعنوان، فجاء على صفحة الغلاف منها أنَّه كتاب (الزاهي في أصول السنَّة)، وفي هذا الزيادة إفادةُ تحديد موضوعه.
أما نسبتُه إلى ابن شعبان رحمه الله، فالتوسع في جمع الدلائل عليها ضربٌ من الفضول الذي لا حاجة إليه، لأنَّ هذه النسبة ثابتة مشهورة، فما من أحد ترجم لابن شعبان إلا ونسب الكتاب إليه، ولا تكاد تجد في كتب المالكية المتأخرين من لا ينقل منه ما ينسبه إلى ابن شعبان أو يعزوه صراحةً إلى «الزاهي»، زد على ذلك التصريح بنسبة الكتاب إلى ابن شعبان في صدر الكتاب، بل وفي عشرات المواضع والمسائل المصدَّرة بعبارة (قال أبو إسحاق) بين دفتيه وفي ثناياه، كما يتضح في النص المحقق لمن تأمَّلَه، فضلاً عما تؤكده الحواشي التحقيقية المثبتة في هامشه كثرة النقول التي وجدناها في كتب المتأخرين، وهي موجودة بفحواها أو مبناها في الكتاب الذي بين أيدينا.
المطلب الثاني: أوان تأليف الزاهي وأسبابه وأهدافه:
يظهر من كلام ابن شعبان في «الزاهي» أنَّه من آخر ما صنَّف، بقرينة ذكره لأكثر كتبه الأخرى فيه، ومنها «مختصر ما ليس في المختصر» ، و«المناسك» ، وكتُبُه في الخلع، والطلاق، وما يحرم بالرضاع، وفضائل رمضان، وعاشوراء .
كما بين المقاصد التي من أجلها ألف هذا الكتاب، ويمكن حصرها في رجاءين:
• رجاء الثواب في المعاد، والانتفاع بما يترتب على عمل العاملين به، وإلى هذا أشار بقوله في خطبته: «لِما رجوت في ذلك وأَملتُ من عظيم الثواب في المعاد» .
• رجاء أن ينتفع به العباد، فيأخذوا منه ما يقوِّمون به عباداتهم، وفق مراد الله وسنة رسول الله، وإلى هذا أشار بقوله: «لما عسى أن ينتفع به من ينتفع من العباد لما يأخذون عنه من الخير والسداد، ويزدجر به لاهيهم عن الفساد، إن ربك لبالمرصاد» .
فكأني بابن شعبان يريد بكتابه هذا أن يصير صدقة جاريةً تعود عليه بالأجر الذي لا ينقطع، فنعم المقصد والمراد، ونعم الزاد ليوم المعاد.
المطلب الثالث: مادة الكتاب وموضوعه:
الزاهي كتاب جامعٌ لأبواب الفقه، أراد مؤلفه أن يقيم فيه فقهَ أهل المدينة على الدليل، لذلك لم يُقَل: إنه كتاب في الفقه المالكي، بل قيل: – كما على غلاف المخطوط وقد قدَّمنا الإشارة إليه – إنه كتابٌ في أصول السنَّة، وأنَّ ابن شعبان جعله أصلاً فيها، وجمع فيه جميع الأصول، واستشهد عليه بالقرآن والحديث، وكثَّر من الشواهد. اهـ .
وقد سعى مؤلفه فيه إلى تحقيق أمور من بينها:
• أن يبن فيه مذهب مالك، وما اختلفت فيه الروايات عنه، مما ليس في الموطأ، حيث برّأ ابن شعبان في ديباجته الموطأ من الاختلاف الواقع في الأقوال المنسوبة إلى مالك، فقال: «رأيت كثيراً من أصحابه يخالف بعضهم بعضاً في الروايات عنه، فيما عدا الموطأ، من المسائل التي سألوه عنها، وسئل فسمعوا ووعوا، ولا يختلفون في المنصوص عنه فيه من المسائل، إلا في زيادة كلمة ونقصان أخرى، بالشيء اليسير الذي لا يزيل معنى، ولا يغير قولاً، فقام إجماعهم هناك بنفسه» .
• الترجيح بين أقوال أئمة المذهب، المنسوب منها إلى الإمام مالك وغير المنسوب إليه، دون أن يخرج عن إطار المذهب وقواعد إمامه، وقد أشار إلى ذلك في خطبته بقوله: «واحتجتُ إلى الاختيار من اختلافهم بما أَرُدُّهُ إلى إجماعهم ... من أقوالهم التي لم ينسبوها إلى إمامهم مما لا يخرج عن مذهبه». اهـ .
• استيعاب أكبر قدر ممكن من المسائل، وترتيبها على الأبواب ترتيبا يسهل مأخذه، وقد أشار إلى ذلك في خطبته، فقال: «جعلت كتابي هذا أبواباً من كل صنف ونوع من أصناف العلم وأنواعه باباً باباً؛ ليقرب على من التمس صنفاً من الأصناف، أو نوعاً من الأنواع ما قصد له من ذلك الصنف أو النوع» .
المطلب الرابع: طريقة ابن شعبان في تبويب وترتيب «الزاهي»:
سلك ابن شعبان في ترتيب كتابه هذا أسلوبا بديعاً لم يخرج فيه عن الاطار المنطقي الشائع عند المالكية في ترتيب كتبهم فبدأه بخطبة مقتضبة ضمَّنَها نبذة في فضل العلم، وختمها بأسباب تأليف الكتاب ومنهجه، و– بعد الإشارة المتقدمة إلى أنَّه جعل كتابه أبواباً –قال موضِّحاً:
«استفتحت ذلك بأبواب الطهارة، ثم أبواب الزكاة، ثم أبواب الصيام، ثم أبواب الحج، ثم أبواب جهاد العدو، ثم أبواب الصلاة على الجنائز، ثم ما يتبع ذلك مما قدَّمتُ ذِكرَه، حتى يأتي ذلك على آخر الكتاب بتوفيق الله U» .
وقد حرص المصنف على جمع النظائر في كل موضع، وسبب ذلك أن كثيراً من المعلومات تذكر في غير مظنتها المعهودة، فمن ذلك أنه ذكر كثيراً من أحكام الجمعة في باب الطهارة استطراداً وجمعاً مع نظيرها وهو غسل الجمعة.
ومن ذلك ذكره لأحكام تغيب الحشفة في الفرج جمعاً مع نظيرها وهو وجوب الغسل بذلك.
والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما ترتيب المعلومات داخل الأبواب، فإن ابن شعبان سلك فيها منهجاً موحداً لم يختلّ – بحسب الموجود من المخطوط -
فهو يبدأ الباب – عادةً - بالآيات القرآنية الدالة على فحوى الباب، سواء كانت هذه الدلالة صريحة أو ضمنية، بل أحياناً لا يكون بين الآية وبين الباب إلا مجرد التناسب اللفظي، مما يدل على أن ابن شعبان يتبرك بوجود الآيات في صدور الأبواب وإن لم يكن لها علاقة بموضوعه.
ثم يتبع الآيات أحاديثَ الباب، ثم يأتي بالمسائل واحدة إثر الأخرى، مع عنايةٍ فائقةٍ بالآداب والفضائل والأذكار، دون أن يتكلف تخريج أحاديث الأذكار في الأعم الأغلب.
وفي سياق حديثه عن كل مسألة يورد ابنُ شعبان اختلافَ علماء المذهب، ثم يرجح ما يراه راجحاً من هذه الأقوال.
وأحيانا يورد أقوال أئمة المذاهب الأخرى، وفقهاء الأمصار، وربما رجحها على المذهب – وإن كان ذلك نادراً - بل ربما رجَّحَ قولاً من خارج المذاهب الأربعة، كما سنعرض له في منهجه في الترجيح قريباً إن شاء الله.
وربما خلا الباب من ذكر الآيات القرآنية وأتى بالأحاديث، أو خلا من الأحاديث النبوية وأتى بالآيات.
وفيما يلي نورد ثلاثة أمثلة من أبواب الزاهي تتجلى فيها منهجيَّة ابن شعبان في الترتيب:
1- باب النية والتسمية :
قال أبو إسحاق: قال الله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}[البقرة: 284].
وقال عز وجل: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].
فالنية للدخول في الطهارة وغيرها لازمةٌ واجبةٌ، لا تتم الأعمال إلا بها، كما جاء في الحديث: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى».
والتسمية للطهارة مرغوب فيها، محضوض عليها، وينبغي استعمالها وترك الخلاف لما نهاه الأثر منها كما جاء، وينبغي وضع الإناء على اليمين والإفراغ منه على اليد اليمنى؛ ليبتدئ بغسلها قبل اليسرى، أو يجمعا في الغسل بعد ذلك قبل إدخالهما أو إدخال إحداهما في الإناء؛ لأن التيامن في جميع الأمور سنة يجب استعمالها، وبالله التوفيق.
2- باب معرفة الصلوات ومواقيتها من كتاب الله :
قال أبو إسحاق: قال الله عز وجل: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}[الروم: 17] هذه صلاة الصبح {وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} [الروم: 18] صلاة الظهر.
وقال عز ذكره: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] هي صلاة الصبح.
وقال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وهذا صلاة الظهر... {إلى غسق الليل} هذا صلاة العشاء.
وقال الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } عند صلاة الظهر، وهي الأولى، وإنما سميت صلاة الأولى لأنها أول صلاة صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، {ومن بعد صلاة العشاء} [النور: 58]. فهذه في العتمة.
وقال عز ذكره: {الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 218، 219]. هذا في صلاة الصبح، وقد روى غيره فيه: أن تقلبه في الساجدين: إخراجه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبياً.
وقال عز ذكره: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]. وقد اختلف في طرفي النهار، فقيل: الطرفين : الظهر والعصر. وقيل: الصبح والعصر. وقيل: الصبح والمغرب. وقيل: الصبح والظهر والعصر.
والذي نقول به أن طرفي النهار الصبح والظهر والعصر، {وزلفا من الليل} المغرب والعشاء عند أكثر الناس، {إن الحسنات يذهبن السيئات} هن الصلوات الخمس.
3- باب سترة المصلي في الصلاة :
قال أبو إسحاق: ويصلي المصلي وبينه وبين سترته قدر ممر الشاة، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، وهذا - والله أعلم - لأنه حيث يأمن، والأول قد ثبت عنه أيضاً.
ومن صلى إلى قائم لم يعد، وإذا مرت الوحش بين يدي المصلي في الفيفاء فلا بأس، ومن استتر بجنب رجل فلا بأس، ولا بأس أن يستتر الرجل بقلنسوته إذا كان لها ارتفاع، وكذلك الوسادة والمرفقة، وليست النار ولا الماء ولا الوادي بسترة، وينهى من صلى إلى غير سترة.
المطلب الخامس: أسلوب ابن شعبان في تأليف «الزاهي»:
تميز أسلوب ابن شعبان في «الزاهي» بالوضوح والعناية، ولم يتعب القارئ بالرموز والإشارات التي بلغت حد الإيهام والإلغاز في بعض المختصرات، وجمع بين دفتيه جملة من المزايا نبرز أبرزها فيما يلي:
ومع أن «الزاهي» يشبه أن يكون مختصراً في الفقه المالكي، فإن شأن الاختصار فيه شأن الكتب المؤلفة في عصره وما قبله، قائمة بذاتها وليست اختصارات لمؤلفات متقدمة عليها، حيث كان الاختصار في تلك الحقبة متمثلا في الإشارة إلى كثير من الأدلة بدون التنصيص عليها، أو الإتيان بألفاظها، أو سردها بتمامها، فنجد ابن شعبان كثيراً ما يعتذر عن عدم البسط بكون المقام لا يناسب ذلك، أو بكونه قد بسطه في كتاب مفرد، أو في أحد كتبه المطولة .
ورغم ما حرص عليه المصنف من الاختصار إلا أن الكتاب لم يخل من الاستطراد في مواضع، منها:
- تعداده أسماء المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
- إشارته إلى أن سلمان الفارسي أول مكاتَب في الإسلام .
-ومن أطرف تلك الاستطرادات قوله: وقد فرق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم؛ منهم منظور بن زبان بن سنان بن عمرو الفزاري، كانت تحته مليكة ابنة خارجة بن سنان المزني خلف عليها بعد أبيه، فأولدها خولة بنت منظور، فتزوجها الحسن بن على بن أبي طالب، وخلف عليها بعد الحسن عبد الله بن الزبير. ومنظور الذي يقول:
ألا لا أبالي ما الذي فعل الدهرُ
إذا ذهبت مني مليكة والخمرُ
وعمر بن الخطاب هو الذي كان فرَّق بينهما.
وتميم بن أبي معقل - وهو القائل- وكانت تحتَه دهماء امرأة أبيه، ففرق الإسلام بينهما:
هل عاشق نال من دهماء حاجته
في الجاهلية قبل الدين مرحوم
المطلب السادس : المنهج العلمي لابن شعبان في زاهيه:
المقصد الأول : منهج المصنف في عرض المسائل:
باستقراء منهج ابن شعبان في طرق المسائل الفقهية نلحظ أموراً نلخصها فيما يلي:
• يتناول ابن شعبان المسائل الفقهية في «الزاهي» بإحدى طريقتين، فإما أن يقدم الدليل، ثم يعقبه بذكر المسألة المستفادة منه.
وإما أن يقدِّم ذكر الحكم الشرعي في المسألة، ثم يسوق مستند الحكم من النصوص الشرعية.
فمن الأمثلة على إيراد المسائل بالطريقة الأولى – وهي الأكثر في الزاهي – قوله رحمه الله:
قال أبو إسحاق: قال الله تبارك وتعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. فافترض عز ذكره غسل اليدين إلى المرفقين، ولم يفترض تقديم اليمنى على اليسرى، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بغسل اليمنى، وأنه كان يبدأ بميامنه، وأنه كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره ونعله وترجله؛ يريد: ترجيل الشعر. وبتقديم اليمنى أقول .
ومن الأمثلة على إيراد المسائل بالطريقة الثانية قوله رحمه الله: المضمضة والاستنشاق والاستنثار سنة، وينبغي أن يستعمل ذلك ثلاثاً ثلاثاً، ويبالغ غير الصائم في الاستنشاق .
• إذا كان في المسألة خلاف واضح للفقهاء يذكره ابن شعبان في بداية المسألة بعد ذكر الدليل عليها.
مثال ذلك: قوله في الصلاة الوسطى: قال الله تبارك وتعالى: {حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238].
فاختلف أهل العلم في الصلاة الوسطى، فقالت طائفة منهم: هي صلاة العصر. وقالت طائفة غير هؤلاء: هي صلاة الظهر، وقالت طائفة: هي صلاة الصبح .
• يعرض ابن شعبان الأقوال في المسألة بكل حياد، ثم يختار منها ما يراه موافقاً للصواب، دون أن يكرر القول مرة أخرى، بل يذكر عبارة صريحة في اختياره للقول.
مثال ذلك قوله: ومن هلك من أهل الكتاب لا وارث له جعل ما ترك لأهل جزيته الذي يجمعه وإياهم ما يؤدون كما يعقلون عنه، وقد قال ابن القاسم، ومحمد بن مسلمة، والشافعي: للمسلمين. وبالأول أقول .
• ينقل ابن شعبان آراء وأقوالاً عن كبار فقهاء المذهب مصرحاً بأسمائهم في الأعم الأغلب، كابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وابن الماجشون، ولا يصرح في بعض المواطن بأسمائهم، بل يشير إليهم بألفاظ من قبيل (أصحابنا) أو (أصحابه) .
مثال ذلك قوله: وقال غير واحد من أصحابنا: لو أن المطلق سأل من يتزوجها له لتحل ففعل بغير شرط بينهما كان مأجوراً محلاً، وهذا عند مالك غير إحلال. .
وقوله في موضع آخر: فقال مالك بن أنس وأكثر أصحابه: إن المسنون من الصلاة خمس؛ هي التي جمع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفطر، وصلاة الأضحى، وصلاة الخسوف للشمس، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الوتر، وزاد بعض أصحابه ركعتي الفجر، وركعتي التجرد للإحرام وصلاة الجنائز، وزاد آخر على هذا فقال: والجمع ليلة المطر وغيره اهـ .
• يتناول ابن شعبان - في كثير من المواضع - خلافَ أهل المدينة في بعض المسائل ناسباً بعض الآراء إلى أصحابها، مع الاستدلال لهم إن وجد الدليل، ثم يبين ما يختاره من أقوالهم.
مثال ذلك قوله: واختلف أهل المدينة في تكبيرة الإحرام، فروي عن الزهري أنه قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة الإحرام. وقال غيره من المدنيين: إنما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فرضٌ، لقوله: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» وبهذا أقول. اهـ .
وقوله: وقد اختلف متقدمو أهل المدينة في الأمَة من غير أهل الكتاب؛ فأحلت، وحرمت، وبتحريمها أقول؛ كالحرة منهن اهـ .
المقصد الثاني: منهجه في الاستدلال:
أدلة ابن شعبان في كتاب «الزاهي» أبرزها الكتاب والسنة، وله أدلة أخرى من الإجماع والقياس، وبيان ذلك في الفروع التالية:
الفرع الأول: الاستدلال بالقرآن الكريم:
الأدلة من نصوص القرآن الكريم مستفيضة بصورة واضحة في كتاب «الزاهي»، حيث أثرى مسائله بعشرات النصوص القرآنية، وجعلها – في غالب الأحيان – فاتحة كلامه عن المسائل الفقهية.
ولابن شعبان طرقه وأساليبه في إيراد هذه النصوص والاستدلال بها، فمن ذلك:
• يورد ابن شعبان – أحياناً - نصَّ الآية أو الآيات ابتداء للاستدلال بها على المسألة المرادة، وفي أحيان أخرى يقرر الحكم ثم يستدل له بالآية.
مثال الأول: ما أورده من الآيات الكريمة من سور الفرقان والواقعة والنبأ للدلالة على طهورية ماء السماء .
ومثاله - أيضاً - قول أبي إسحاق: قال الله تبارك وتعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]، فالوجه ما دون منابت شعر الرأس من اللحـيين والخدين والعينين والأنف والذقن. اهـ .
ومثال الثاني قوله: وقد علم عز وجل أن الأزواج لا يستطيعون العدل ولو حرصوا، وإذا لم يكن العدل فلا بد من الميل، فنهاهم عن كلِّ الميل {فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] لا أيِّم ولا ذات بعل. اهـ .
• يستشهد ابن شعبان بنصوص من القرآن الكريم للاستدلال بها في توضيح معنى حرف أو كلمة أو جملة.
مثال ذلك قوله: وبإدخال المرافق في الغسل أقول؛ قال الله عز وجل في عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وأمه: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] وقد كانا مقيمين بها، وقال عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وقد دخله صلى الله عليه وسلم .
• يتعرض ابن شعبان - أحياناً - لبعض مواطن الخلاف بين المفسرين في معنى الآية أو يشير إلى سبب نزولها.
مثال ذلك قوله: قال الله تبارك وتعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، وقد اختلف في تفسير ذلك، فقيل: اللباس. وقيل: نعالكم. وقيل: إنهم كانوا يطوفون عراة، فنزلت هذه الآية .
الفرع الثاني: الاستدلال بالسنة النبوية:
يستدل ابن شعبان في «الزاهي» بأحاديث نبويّة، وآثار سلفيَّة عن الصحابة والتابعين، ويوردها بأساليب مختلف، من بينها:
• يذكر ابن شعبان طائفة من الأحاديث أو الآثار بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
فيروي عن إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي وعن عيسى بن أحمد بن يحيى، وعن داود بن إبراهيم بن داود، وعن أحمد بن شعيب، وعن محمد بن زبان بن حبيب .
• يذكر ابن شعبان طائفة أخرى من الأحاديث بلا سند، مكتفيا فيها بذكر الراوي الأعلى، أو ذكرها بدون راوٍ على سبيل الجزم بصحتها بقوله كما في قوله: ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا .
مثال الأول قوله عند ذكر فرائض الحج: ثم الإهلال بما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
ومثال الثاني قوله: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة ابنة قيس: «لا تسبقيني بنفسك» .
وقوله: ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في الرقة حتى مبلغ خمس أواق، فإذا بلغت خمسا ففيها ربع العشر» .
• يذكر ابن شعبان طائفة أخرى من السنن الفعلية -بالمعنى- للاستدلال بها على الحكم المراد تقريره.
مثال ذلك قوله: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فجعل واحداً عنه وعن أهله، والآخر عن أمته .
ومثاله أيضًا: ولو باع مريض شقصاً له من أجنبي ببعض ما يساوي، ثم هلك من مرضه ذلك فالمحاباة تخرج من الثلث، والشفيع أحد ولده –كان له الأخذ بالشفعة؛ قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد رده .
• يتعرض ابن شعبان – في مواضع من كتابه - لشرح غريب الحديث، وبيان بعض معاني ألفاظه، فمن أمثلة ذلك قوله: معنى الحديث: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا...»، أي: إذا فرغ الإمام من القراءة فقولوا: «آمين»، لأن العرب تسمي الداعي مؤمِّناً، والمؤمِّن داعياً، فعند فراغ الإمام من قراءته ودعائه وتأمينه يؤمن المصلي. اهـ .
• ليس من منهج ابن شعبان في «الزاهي» تخريج الأحاديث والآثار التي يوردها أو يسندها، ومع ما قدَّمنا - بما تيقنَّاه ووقفنا عليه أثناء دراسة وتخريج أحاديث الكتاب - من دحض دعوى أبي محمد ابن حزم التي رمى بها ابن شعبان ولم يقم عليها دليلاً، لا يسعنا أن نغفل الإشارة إلى ثلاثة أمور لاحظناها أثناء التخريج، وهي:
أولاً: بدافع الجنوح إلى الاختصار عمد ابن شعبان إلى ضم ألفاظ بعض الأحاديث إلى بعض، كما في قوله رحمه الله: رويَ مرفوعاً: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ خَشَعْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .
وقوله: روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُعَقُّ عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ؛ فَإِنَّ دَمَ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» .
ثانياً: أورد ابنُ شعبان أحاديث على أنها مرفوعة والصواب أنها موقوفة، ومنها: «مَنْ عَقَّ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَعُقَّ بِشَاةٍ شَاةٍ» .
ثالثاً: إيراد بعض الأحاديث الصحاح بألفاظ التوهين والتضعيف، ومن ذلك قوله: ولو كان حديث الاستسعاء ثابتاً ، وقوله: حديث بروع بنت واشق غير معروف ولا ثابت .@75@
قلتُ: هذه الاستدراكات الثلاثة على الصنعة الحديثية لابن شعبان في «الزاهي» لا يطعَن أيٌّ منها في أمانته، ولا دينه، ولا ضبطه، بل غاية ما يقال: إنًّ ابن شعبان أخطأ فيها، وما زال أهل العلم يستدرك بعضهم على بعض، ويكمل بعضهم بعضاً، وكل بني آدم خطَّاء، والعلم عند الله.
الفرع الثالث: الاستدلال بأدلة غير الكتاب والسنة:
يستدل ابن شعبان في بعض المسائل بأدلة من غير الكتاب والسنة، كالإجماع، والقياس، ويراعي عند ذكر الإجماع الإشارة إلى من شذ عنه، أو خالف فيه.
• فمن استدلالاته بالإجماع قوله - في الصلاة -: وقد أجمعوا على أن من سلم تسليمة واحدة فقد خرج من الصلاة على اختلاف منهم في خروجه منها قبل تسليمة واحدة . وقوله - في الزكاة -: ولا يعطى مكاتب لأن المكاتب لا يجوز إلا في الرقاب الواجبة، فخرج عن هذا الاسم، وقد قال الله عز وجل: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب} [البقرة: 177] فيتوهم متوهم أنهم وصفوا بهذا لمعونتهم المكاتبين، مع أن المكاتب عبد كما جاء في الخبر، وقد أجمعوا ألا يعطى عبدٌ .
• ومن استدلاله بالقياس قوله: وإنما منع إحلالها الحديث المحفوظ: «لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، وما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حتى نهرها به، فأما القياس فما لا يحل لا يحصن، ولو قيس عليه الصداق وغيره؛ لكان قياساً محتملاً، لولا كراهية الشذوذ عن المذهب. اهـ .
وقوله: ومن وطئ بنت أم ولده من غيره؛ حرمت عليه أم ولده، وعتقت مكانها، وإن حملت هي أيضاً عتقت مكانها، وإن لم تحمل عزلت عنه؛ كي لا يعود إليها، وكانت له إجارتها، ولو ارتد وله أم ولد ثم راجع الإسلام؛ عادت إليه على حالها، وقال أشهب: قد عتقت؛ لأن الفرج قد كان حرم؛ فلا يعود حلاً، كما تطلق المرأة بالردة، فلا يعود على النكاح الأول بالرجوع، وهو القياس. اهـ .
المقصد الثالث: منهجه في الترجيح بين الأقوال:
ألزم ابن شعبان نفسه في عامة المسائل التي أوردها في «الزاهي» أن يرجح من الأقوال ما يراه أقرب للحق، وأقعد بالحجة، وأوفق للدليل، واستخدم – في الغالب - عباراتٍ وألفاظاً صريحةً في الإشارة إلى ما ترجَّح لديه، مثل:
(آثر عندي ، وأصوب ، وأشبه بالأصول ، وبه أو بتحريمه أقول ، والاختيار كذا )، والأحب إلي ، وما إلى ذلك مما يدل على اختيار بعض الأقوال.
• وقد استند في الترجيح إلى الأدلة القرآنيَّة، ومن ذلك قوله:
والكتابة: أن يجعل بينه وبين عبده كتاباً بما يفترقان عليه وإشهاداً، ولا أحب الكتابة بغير هذا؛ لظاهر الكتاب .
• ورجح بالأحاديث النبوية، وربما علَّق الترجيح على صحة الحديث، ومن ذلك قوله:
وقد اختُلف في مَيْت الجراد، وفي الحديث الذي جاء فيه: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَالمَيْتَتَانِ: الحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»، فأجيز على تثبيت الحديث، وكُرِه للاختلاف في الحديث، والاختيارُ إجازته؛ لأنه نثرة حوت كما قال كعب الأحبار. اهـ .
وقوله – في مسألة والذي أختاره من هذا أنها إن فحشت عليه أو منعته نفسها أو خالفت ما وأجب الله له عليها وعظها مرة ومرة ومرة، فإن لم تنته هجر مضجعها ثلاثا، فإن لم تنته ضربها ضرباً غير مبرح، كما جاء في الخبر .
وقوله: وقال غيرهما : عزائم السجود أحد عشر سجدة، ليس في المفصَّل منها شيء، وأسقط هؤلاء السجدة الثانية من سورة الحج، والقول الأول عندي آثر؛ لما جاء من الآثار. اهـ .
• ورجَّح بالقياس، إلا أنه كان يقدم عليه ظواهر النصوص، ومن ذلك قوله: وبالأول أقول بمنزلة البيع؛ لأن اثنين لو جمعا سلعتهما فباعاها على أن يقتسما الثمن على القيم ما جاز، وإن كان أشهب يجيز ذلك. اهـ .
• وربما رجَّحَ القولَ بكونه أحوط، ومن ذلك قولُه: وقد اختلف في الواطئ دون الفرج ينزل من مائه في الفرج، فقيل: لا غسل على المرأة إلا أن تكون أنزلت. وقيل: عليها الغسل وإن لم تنزل، وهو الاختيار؛ للحيطة. اهـ .
• وقد يرجح القول لشهرته عن الإمام مالك، كما في قوله: فأحلَّ للأحرار والعبيد جميعاً من الأزواج أربعاً، ومن الإماء ما ملكت أيمانهم، وهذا باب قد اختلف فيه؛ فروي عن مالك بن أنس وأهل الكوفة وغيرهم أنه لا يحل للعبيد من الأزواج غير اثنتين، وما ذكرت أولاً فهو الأشهر الأظهر عن مالك، وبه أقول .
• وكان رحمه الله حريصاً أن لا يخرج عن نطاق المذهب، حتى ولو كان القياس يقتضي ذلك، ولا أدل على ذلك من قوله: «فأما القياس فما لا يحل لا يحصن، ولو قيس عليه الصداق وغيره؛ لكان قياساً محتملاً، لولا كراهية الشذوذ عن المذهب». اهـ .
• وفي مواضع قليلة اتجه عنده الدليل خارج المذهب، فمال معه إلى مذهب أحد أئمة الأمصار، ومن ذلك قوله: والقياس عندي أن يقوم الناس لقضاء ما فاتهم من الصلاة بعد التسليمة الأولى، إن كان إمامهم يسلم تسليمتين، وبه أقول، وهو قول الليث بن سعد. اهـ .
وقوله: فإذا تطهرت بالماء أو بالتيمم حلَّ له ما كان محرماً عليه منها، ولم يكن لها منعُه من التماس نسله، كما لم يكن له العزل عنها بغير إذنها إن كانت حرة، وبإذن مالكها إن كانت أمةً لقومٍ، وكان له ذلك في أمته؛ بحق مُلكِه. اهـ .
وقوله: وقد اختُلِف في الاستمتاع من الحائض والنفساء بما دون الفرجين، والاختيار أنهن إذا التحفن حتى لا يوصل إلى فروجهن؛ جاز الاستمتاع بالأفخاذ، وإنما خاف من منع من ذلك مواقعةَ الحدود؛ كالرَّتع حول الحمى المحرم «وَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»، هكذا قال صلى الله عليه وسلم.اهـ .
• وربما رجح القول خارج المذهب بكونه أيسر كما فعل في قوله: وسهل في روث الدواب - الخيل والبغال والحمير - يصيب النعل والخف، وأبوالها، يُمسحان ويصلى به؛ لما يضيق على الناس من غسل ذلك في كل وقت. اهـ .
• وفي مرات نادرة رجح بما يفهم من سياق النص كما في قوله: ومما يدل على وجوب القراءة على المصلي وحده، وسقوطها عن المأموم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم المصلي وحده، فقال: إذا كبرت فاقرأ، ثم اركع، ثم ارفع، ثم اسجُد. وقال في المأمومين: «فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا»، ولم يقل: وإذا قرأ فاقرؤوا، وكان هذا أقوى دليلاً، اهـ .
المقصد الرابع: الجانب اللغوي في كتاب«الزاهي»:
أشرنا في ترجمة ابن شعبان إلى ما قيل من أنَّه كان يلحن، ولم يكن بصيراً بالعربيَّة، أو ضليعاً فيها، ولكن يلحظ على كتاب ابن شعبان - فيما يتعلق بهذا الجانب - ما يدحض هذه التهمة، فقد ظهرت عناية المصنف باللغة بدرجة تلفت الانتباه، من خلال ما يلي:
أولا: ما يورده من الإطلاقات القرآنية (الدلالة الاستعمالية) في الاستدلال على المعاني اللغوية كما في قوله:
وكتب أمير المؤمنين أبو العباس إلى ابن أبي ليلى: أن لا يقضى للجار بالشفعة، ولو كانت الشفعة للجار لكانت لجميع من بالبلد الذي بيعت به الدار؛ لقول الله جل اسمه: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفعون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} [الأحزاب: 60]. /70 أ/ فجعل أهل المدينة له جاراً. اهـ .
وقوله في موضع آخر:
فإن افترقا فلا قضاء لها بَعْدُ ما لم تعجل بالقيام، أو يطول المجلس حتى يخرجا إلى غيره؛ فيبطل حكم /99 ب/ مجلسهما؛ لقول الله عز وجل {وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68]. فجعل المجلس يفترق بالمعنيين؛ ولقوله عز وجل: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [النساء: 140]. اهـ .
ثانياً: كثرة ما يورد الشواهد الشعرية (الدلالة الوضعية) للدلالة على معنى كلمة أو تقرير حكم، ومن ذلك:
قوله: وقالت العرب: شطرُ الشيء: قِبَلَه وتلقاءَه.
وقال كعب بن مالك في قصيدة له:
عَبد وَحُر كَرِيم مُوثَق قَنَصاً
شَطرَ المَدينةِ مَأسُورٌ وَمَقْتُولُ
وقال في موضع آخر: ويقصر الألف ولا يشدد الميم كما قال الشاعر :
تباعَد مِنِّي فطْحُلٌ إذ سألتُه
أَمِين فزاد اللهُ ما بيننا بُعْدَا
وإن شئت أطلت الألف ولا تشدد الميم، وفي ذلك يقول غيرُه:
يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً
ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا
وقال: والذود عند العرب الواحد، قال الشاعر:
إن ترجعوها ضماراً من حمائلكم
فإن عدتها ذود وسبعونا
وقوله: والأصح منه أن القانع من لا يسأل، والمعتر من يسأل، ومنه قول زهير:
على مُكْتريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم
وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ
وقوله: روي أن أول من ذكر الطلاق منهم الأعشى بقوله:
أجارتنا بيني فإنك طالقه
والبين: طلاق - أيضاً -، لو قال لها: بيني؛ لطلقت ثلاث تطليقات، يدل على هذا ما ذكر الأعشى في قوله:
وبيني فإن البين خير من العصا
وإلا تري لي فوق رأسك بارقه
حبستك حتى لامني الناس كلهم
وخفت بأن تأتي لدي ببائقه
وذوقي فتى حي فإني ذائق
فتاة لحي مثل ما أنت ذائقه
فجعل البين منها تقصياً، وهذا قبل نزول حكم الزوج بعد الطلاق ثلاثاً، وقال: عبد الله بن الزبعري:
يا غراب البين أسمعت فقل
إنما تنطق شيئاً قد فعل
وشواهد الشعر في هذا أكثر من أن يحتملها الباب. اهـ .
وربما عول ابن شعبان في استدلاله على استعمال اللفظ في القرآن بضميمة أدلة أخرى (دلالة الإشارة) ومن ذلك قوله:
والجار عند العرب الزوج والشريك الخليط، من ذلك قول حمل بن مالك ابن النابغة:
كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، وهو عمود الخيمة، ثم ذكر الحديث. وقول الأعشى لزوجه:
أَجارَتنا بِيني فإِنك طالقة
كذاكِ أُمور الناس غادٍ وطارِقَه
ثالثاً: استعماله أسلوب السجع، وهو واضحٌ جداً في مقدمة الكتاب، وفيما فيه من الأدعية التي يوردها، بل وفي تقرير بعض الأحكام الفقهية، كما في قوله: لما نص الله تبارك وتعالى اليدين مما وجب الاتفاق عليه لطهوره في التنزيل، ولما أنزل في الرجلين مما يحتمله التأويل، والفرض لا يثبت لتغليب من جهة بالتعليل، ولا بالإنابة عن وجوه التفصيل، ولا باتباع الكثير وترك العدد القليل، وإنما يثبت باتفاق الجميع على وجوبه في التنزيل وجوباً لا ريب في أصله ولا تأويل، ثم لا يضر حدوث الاختلاف في التفريع، والله البديع، أسأله حسن التبيلغ، بلا زيغ عن الحق ولا ترويغ؛ إنه العلي الرفيع .
رابعاً: إعماله لبعض قواعد النحو، مثل حذف الخبر، أو إشراك أكثر من جملة في خبرٍ واحد، كما في قوله: ومن أذن لزوجته أو لعبده في الاعتكاف ثم أراد منعهما، ومن نذر جوار مكة أو نذر الصيام بها لزمه الوفاء بذلك، ولو نواه ولم ينذره لم يلزمه .
فهنا نلاحظ أن الخبر قد حذف وتقديره: «فله ذلك».
المطلب السابع: أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية بعده:
نقل كثيرٌ من فقهاء المذهب في كتبهم نقولاً كثيرة عن ابن شعبان، فبعضهم نقل أقواله وتعرض لها بالنقد والتحليل كما فعل ابن أبي زيد - وهو من معاصري ابن شعبان - حيث ينقل عنه وينتقده أو يعلق عليه فيما يراه ، بينما ينقل عامَّة الفقهاء أقوال ابن شعبان، ورواياته عن غيره، ولا يتعرضون لها بنقد أو تحليل، كما هو الشأن عند شُّراح مختصر خليل وغيرهم.
وبدلاً من أن أسوق من بطون تلك الكتب ما يوافق القدر الذي حوته مخطوطة الزاهي التي بين أيدينا، سأحاول عرض أقوالٍ نسبها أصحاب تلك الكتب إليه، وليست فيما وصلنا منه، لأضرب عصفورين بحجر، فأفيد تقرير أثر كتاب ابن شعبان في كتب متأخري المالكية من جهة، وألفت النظر إلى السقط الكبير الذي حُرمنا بسببه من تحقيق الكتاب وإخراجه كاملاً، خاصةً وقد وقفنا على جملة مما نقله الفقهاء عن الزاهي لا نستبعد أن يكون ما فاتنا منه يعدل ما وصلنا أو يزيد عنه، وذلك لسقوط كتب وأبواب بتمامها من نسخته التي وصلتنا، و-قد يكون- من هذه الكتب والأبواب؛ البيوع، والإجارة، والمزارعة، والجعالة، والهبة، والوقف، والعارية، والحجر والتفليس، والضمان، والصلح، والحوالة، والشركة، والوكالة، والإقرار، واللقطة، والوديعة، والغصب، والاستبراء، والأقضية، والشهادات، والجنايات، والحدود، والديات، والقسمة، والوصايا، والفرائض، وغيرُها.
وفيما يلي نسوق طائفة مما نُقل عن الزاهي - ولم نجده فيما بين أيدينا منه - مع الإشارة الهامشية المقرونة بكل نقل إلى الكتاب أو الباب الذي يغلب على الظن أن يكون النصُّ المنقول من محتوياته، فنقول وبالله التوفيق:
- قال ابن الحاج: روى أبو إسحاق بن شعبان في كتابه الزاهي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن» .
- ونقل ميَّارة عن ابن شعبان أنه قال في الزاهي ما نصُّه: «... ولو أجيح وغلا ثمن الثمرة حتى زاد على المعلوم من الأثمان لو لم تكن جائحة ما سقطت» .
- ونسب الموَّاق وعُلَيْش إلى الزاهي مسألةً نصُّها: «لو شرط الواقف ما يجوز أن يبدأ من غلتها بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما ينخرم منه، بطل شرطه» .
- ونسب إليه الموَّاق –أيضاً– ما نصُّه: «لا يباع نقض المحبس، وأجاز بعض أصحابنا بيعه ولا أقوله» .
- وكذا مسألة: «من استعار دابة فلا يركبها غيره وإن كان مثله في الخفة» .
- وفي ذخيرة القرافي عن الزاهي: «لَوْ جَعَلَهَا فِي قَمِيصِهِ ضَمِنَ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ. وَالْأول أحوط فِي الْحَدِيثِ» .
- وقال الموَّاق: «وفي الزاهي: من أقر لغيره بمال منجم أو مؤجل، فقال المقر له: هو حالٌّ، فقيل: يحلف المقر» .
- وقال – أيضاً -: «وفي الزاهي: إن وجدها على فراشه أو ثوب أو دابة أو معه مال مشدود أو حزم على مال موضوع مشدود فهو له» .
- وعند الشيخ عُلَيْش من مسائل الزاهي ما نصُّه: «لو جعل الوديعة في جيب قميصه ضمنها، وقيل: لا، والأول أحوط» .
- وفي مصابيح الدماميني عن «الزاهي» ما نصُّه: «العروق أربعة؛ عِرقان ظاهران، وعرقان باطنان، فالظاهران: البناء والغرس، والباطنان الآبار والعيون» .
- وقال القاضي أبو الوليد ابن رشد (الجدّ): «قيل: إنه لا بد من حيضة مستقلة كالمعتدة لا تعتد إلا بالطهر، حكى هذا القول ابن شعبان في الزاهي، واختاره وأخذ به» .
- ونقل التسولي عن الزاهي مسألةً نصُّها: «إن السفيه كالصبي لا يحلف مع شاهده، بل حتى يرشد» .
- وعند الشهاب القرافي، أنَّ ابنَ شعبان قال في كتابه: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه حَكم بالضرب والسجن؛ فثبت بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سَجَن - وإن لم يكن ذلك في سجن مُتَّخذ لذلك - وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان له سجن، وأنه سَجَن الحطيئة على الهجو، وسجن ضبعاً على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وأمرِه الناس بالتفقه في ذلك، وضرَبَه مرةً بعد مرة، ونفاه إلى العراق، وقيل: إلى البصرة، وكتب أن لا يجالسه أحد. قال المُحدِّثُ: فلو جاءنا - ونحن مائة - لتفرَّقنا عنه، ثم كتب أبو موسى إلى عمر أنه قد حسنت توبته، فأمره عمر رضي الله عنه فخلى بينه وبين الناس، وسجن عثمان رضي الله عنه صابئ بن حارث - وكان من لصوص بني تميم وفُتَّاكِهم - حتى مات في الحبس، وسَجَن عليُ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الكوفة، وسَجَن عبدُ الله بن الزبير في مكة، وسَجَن – أيضاً - في سجن عارم محمَّدَ بنَ الحنفية إذ امتنع من بيعته. اهـ .
- ونقل الحطَّاب عن زاهي ابن شعبان أنَّ من قال: أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا لم تقبل شهادته؛ لأنه حلاف، وليست بشهادة. اهـ .
- وقال ابن فرحون: أول من أحدث الشهادة على ذلك – أي كتاب القاضي إلى القاضي- هارون الرشيد، وقيل: أبوه -المهدي - قاله ابن شعبان في الزاهي. اهـ .
- وفي ذخيرة القرافي عن الزاهي: «وَفِي كِتَابِ الرَّضَاعِ يُحَدُّ بِالْمَيِّتَةِ لِأَنَّهَا آدَمِيَّةٌ مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ وَفِي الزَّاهِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّهَا لَا تَشْتَهِي غَالِبًا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا صَدَاقَ لَهَا» .
وفيها أيضاً: «وَوَافَقَنَا (ح) عَلَى أَنَّ الدِّيوَانَ يَعْقِلُ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الزَّاهِي حَكَى فِيهِ قَوْلَيْنِ» .
- ونقل الحطَّاب عن زاهي ابن شعبان أنَّ من قتل عبده لم يُقتَل به، وإن كان عبداً. اهـ .
- وعند الشيخ عُلَيْش عن ابن شعبان في مسألة -نفي المحارب - في الزاهي: «قيل أن ينفى من قراره ثم يطلب فيخفى، ثم يطلب أبداً، ولا ينفى لبلد الشرك، وبه أقول» .
- وقال الموَّاق: «وفي الزاهي: من هلك عن زوج حامل لم تنفذ وصاياه، ولا تأخذ زوجته أدنى سهميها حتى تضع» .
- وقال الحطَّاب: « قال في الجواهر: ولو قال على بني أبي دخل فيه إخوته لأبيه وأمه وإخوته لأبيه، ومن كان ذكراً من أولادهم خاصة مع ذكور ولدهم. اهـ. وقاله ابن شعبان في الزاهي» .
- وعند الشيخ عُلَيْش أنَّ ابن شعبان روى في الزاهي عن أشهب – في مسألة من أوصى بشيء يخرج كل يوم - قوله: «يحاصص له بالمال أجمع لاحتمال إجازة الورثة» .
قال محقِّقُه أبو الهيثم الشهبائي: هذا ما يسَّر الله الوقوف عليه مما صرَّح متأخرو المالكية في كتبهم بنقله من الزاهي، أما ما نسبوه إلى ابن شعبان بما لا يفيد الجزم بكونه من الزاهي فلم نورد شيئاً منه لاحتمال أن يكون قاله في غير كتابه هذا، وما نسبوه إليه موافقاً لما في القدر المتوفر من المخطوط وثَّقناه من كتبهم، وأثبتنا مواضعه في هوامش النصِّ المحقق بما يغني عن الإتيان به أو التمثيل له في هذه المقدِّمة، والله الموفق.
المطلب الثامن: أمورٌ قد تؤخذ على الزاهي:
أبى الله العصمة إلا لكتابه، ولم يبلغ الكمال أحدٌ من عباده، وعليه فلا بأس أن نُلمح إلى بعض ما قد يؤخذ على ابن شعبان في كتابه، لا طعناً فيه ولا غمزاً لقناته، بل تنبيهاً وتذكيراً ينتفع به المتنبه، ويعود بالخير على قارئه، ومن الأمور التي قد تؤخذ على الزاهي، نشير إلى ما يلي:
• يذهب ابن شعبان – في بعض الأحايين – إلى تفسير الآيات القرآنية بما يشذ فيه عن المعروف عند عامة المفسرين من السلف والخلف، ولا يبعد أن يكون ذلك مؤشراً على أنه لم يكن له بصرٌ بالعربية كما قيل ، ومن ذلك قوله: قال الله جل ذكره: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103]. يريد: ركوعها وسجودها. اهـ .
وقوله في موضع آخر:
ثم قال جل ذكره: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء: 21]. والميثاق الغليظ: الحمل والولد .
وقوله: والحامل ترى الدم تترك الصلاة كالحائض، قال الله عز وجل: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} [الرعد: 8]. فتغَيُّض الأرحام: خروج الدم على الحمل، ثم تزداد بعد إتمام شهور الحمل، قبل وضع الولد بقدر ما كان خس من الولد الدم؛ ليعود في جسمه {وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8، 9] .
• يبالغ ابن شعبان – أحياناً - في إعمال العمومات، والإغراق في عدم تخصيص المُطْلقات، ومن ذلك قوله: «أباح الله عز وجل للمريض التيمم، وأباح له الفطرَ في شهر رمضان وقضاءَ ذلك بعدَّةٍ من أيام أُخَر، والمحيض مرض من الأمراض» .
وقوله في موضع آخر: «... وكذلك الحيض هو مرض من الأمراض يفطر فيه» .
• ومما قد يؤخذ على ابن شعبان أيضا: الغرابة في التعليل؛ سواء كان من نقله أو قوله ومن ذلك قوله: «قيل: لا بأس بالتيمم بالرمل والحجر؛ لأنهما مخلوقان» .
وقوله: «وإنما جُعِلَ المحيض بالاستظهار خمس عشرة ليلة؛ لأن المرأة لا تترك الصلاة أكثر من نصف عمرها، وبهذا سقط نصف ديتها، وصارت شهادتها نصف شهادة، وبالله التوفيق» .
• ومما قد يؤخذ على ابن شعبان ادعاؤه النسخ فيما لا نسخ فيه، اللهم إلا أن يقال إن مفهومه للنسخ مختلف عن الشائع، فقد قيل: إن بعض السلف كانوا يطلقونه على التخصيص.
ومن أمثلة ذلك قوله: قال الله تبارك اسمه: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة: 3] فكان قليل الدم وكثيره محرماً نجساً بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} الآية [الأنعام: 145]. فصار كثير الدم هو المحرم النجس، وعفا عن قليله، فصار عفواً. اهـ .
والدم المسفوح: ما يخرج عند الذبح والنحر، ويتبع ذلك كل ما أشبهه من قيح أو صديد أو دم حوت أو دم يخرج عن جرح أو محجم أو ما أشبه ذلك. اهـ .
تذييل:
لمناسبة ما نحن فيه من ذكر بعض ما قد يؤخذ على «الزاهي»، نورد فيما يلي بعض ما تعقَّبَه فيه ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله:
أولاً: تفرد ابن شعبان بآراء ليست لغيره في المذهب:
في بعض المواضع يشير ابن أبي زيد إلى أنه لم يجد هذا القول لغير ابن الْقُرْطِيّ، فيورد كلامه أو رأيه باللفظ أو بالمعنى، ثم يتعقبه.
مثال ذلك:
قال ابن الْقُرْطِيّ: وليس عليه متابعة الغضون في التَّيَمُّم، وعليه تخليل أصابعه فيه. اهـ.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: ما رأيته لغيره .
وقَالَ ابْنُ الْقُرْطِيّ: لو قال: يا فلان فعل اللهُ بكَ. كان مُتَكَلِّمًاً، تفسُد صلاته. اهـ.
فتعقبه ابن أبي زيد – كما تعقب القول السابق - بقوله: ما رأيته لغيره .
ثانياً: تفرد ابن شعبان بآراء أو ترجيحات لا وجه لها في المذهب:
في مواطن أخرى ينتقد ابنُ أبي زيد ابنَ شعبان لإتيانه بآراء لا وجه لها في المذهب.
مثال ذلك:
قَالَ ابْنُ الْقُرْطِيّ: من بدأ فسَلَّمَ عن يساره، ثم لم يُسَلَّمْ آخرى حَتَّى تكلم، بطلت صلاته.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: ولم يذكر ابن الْقُرْطِيّ إلى من تُنْسَب هذا المسألة، ولا وجه لإفساد صلاته؛ لأنه إِنَّمَا ترك التيامن .
وقال ابنُ أبي زيد أيضاً: ومن كتاب ابن الْقُرْطِيّ: ولا يؤخر غسل الميت بعد خروج نفسه، ولا يغسل بماء زمزم ميتٌ ولا نجاسةٌ، وإنما يكره غسل الميت بماء الورد والقرنفل من ناحية السرف، وإلاَّ فهو جائز ؛ إذ لم يغسل للطهر، وهو إكرام للقاء الملكين.
فتعقبه ابن أبي زيد بقوله: وما ذكر ابن الْقُرْطِيّ في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه، وإن كان يعني في قوله بماء الورد والقرنفل أنه لا يغسل بغيره من الماء القراح، فليس هذا قول أهل المدينة .
المطلب التاسع: وصف المخطوط المتوفر للكتاب:
أشرت سالفاً إلى أن للزاهي نسخة يتيمة لا يُعرف غيرها، وهي التي يحفظ أصلُها (5951) في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي وتتكون هذه النسخة من ستٍ ومائة لوحة، عدد مسطَّراتها (27) سطراً في الصفحة في كل سطر منها (13) كلمة في المتوسط، وهي مكتوبة بخط مغربي أسود المداد، وفي آخرها نقصٌ غير يسير لا يُعلَم مقداره بالتحديد، ولكنَّه – بالتأكيد – يشمل كتباً وأبواباً كثيرة من «الزاهي»، حيث ينتهي المتوفِّر منها بقول المصنِّف رحمه الله: «... التي عليك رجعتها زوجٌ لك لقول الله عز وجل: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228]، فجعله جل ذكره بعلاً لها، وقد طلقها. وبالله التوفيق».
تحتوي نسخة المخطوط على سفرين على الأقل من أسفار «الزاهي» التي لا تكفي القرائن المتاحة للجزم بعددها، فالسفر الأول يبدأ من بداية المخطوط وينتهي بنهاية كتاب الضحايا، وبعده يبدأ السفر الثاني الذي يبدأ بـ (باب العقيقة) وينتهي بنهاية القدر المتوفر من الكتاب.
تتصدر هذه النسخة صفحة أفردت لعنوان الكتاب، وجاء فيها ما نصُّه: «السفر الأول من كتاب الزاهي في أصول السنة، تأليف أبي إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان الفقيهِ الجليل رضي الله عنه، جمع فيه جميع الأصول، واستشهد عليه بالقرآن والحديث، وكثَّر من الشواهد، وجعله أصلاً في السنَّة، رحمةُ الله عليه ورضوانه، وصلى الله على محمد نبيه الكريم، نفع الله به كاتبه وقارئه والعامل بما فيه، ونفع به صاحبه، آمين آمين آمين ربَّ العالمين، ولمن شاء الله بَعْدَه».
وتخلو هذه النسخة من اسم الناسخ، ومكان النسخ، وزمانه، ولا تحمل أية إشارة قد تدل على أنها مصححة أو مقابلة على غيرها، وليس في حواشيها شيءٌ ذو بال يزيد قيمتها التي أوهى بها سوء النسخ الذي يعتريها في مواطن كثيرة.
ويتخلل المخطوط سقط في أثنائه بلغ لوحة كاملة، والتي تحتوي على نهاية كتاب الجهاد وبداية كتاب الجنائز.
وفيه اختلاف في أسلوب التبويب، وهو ما اضطرنا إلى إضافة بعض العناوين.
هذا ما يسَّر الله جمعه –بإيجاز– في التعريف بكتاب الزاهي، والمخطوط المعتمد في تحقيقه، فإذا أضيف إلى ما تقدَّم من ترجمة ابن شعبان والتعريف به، كان في المجموع ما يحسن بعده الولوج إلى النص المحقق من كتاب الزاهي، نفع الله به مصنِّفه وناسخه ومحقِّقه وناشره.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلتُ وإليه أنيب.
وكتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
كان الله له ولوالديه، ولمن أمَّن على دعائه من محبيه وإخوانه وأعوانه ووالديه، ونسأ له في أجله حتى يتوب عليه.