المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محاضرات دورة أصول العقيدة في توحيد الأسماء والصفات للشيخ الرضواني المحاضرة السادسة عشر



أهــل الحـديث
22-12-2011, 07:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




المحاضرة السادسة عشر



تطبيق منهج السلف على صفة الكلام

· افتراق الناس في مسألة الكلام:
افترق الناس في مسألة الكلام على عدة أقوال أبرزها:
1. أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني إما من العقل الفعال عند بعضهم أو من غيره وهذا قول المتفلسفة .
2. أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا قول المعتزلة .
3. أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وهذا قول الكلابية والأشعرية وغيره .
4. أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه .
5. أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة .
· بيان اعتقاد السلف الصالح في صفة الكلام:
يمكن بيان اعتقاد السلف الصالح في صفة الكلام من خلال النقاط التالية:
أولا: أن الله يتكلم بالكيفية التي تليق بجلاله فهو سبحانه: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الشورى:11).
ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم كما هو اعتقاد المتكلمين بل أخبرنا الله تبارك وتعالى أن بعض المخلوقات تتكلم بدون جارحة تخرج الحروف.
قال تعالى: } اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { (يس:65) فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم.
وقال أيضا:} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { (فصلت:21).
وعند البخاري قال عبد الله بن مسعود:(فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلي الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
فالأيدي والأرجل والجلود والطعام كل ذلك يتكلم بلا فم يخرج منه الصوت المعتمد على مقاطع الحروف، فأصل قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز.
ثانيا: أن صفة الكلام صفة ذات وصفة فعل:
(أ) - وكونه من صفات الذات لأنه من لوازم الكمال وضده من أوصاف النقص والله سبحانه له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته. ولهذا ذم الله بني إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله.
قال تعالى عنهم: } وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ { (الأعراف:148).
وقال أيضا عن العجل:} أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا { (طه:89). فعجْز العجل عن مخاطبتهم ونفْي الكلام عنه من صفات النقص التي يستدل بها على عدم ألوهيته.
(ب) - وأما كونه من صفات الأفعال فلأن الله أخبرنا أنه يتكلم بمشيئته وإرادته، قال تعالى:} إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون { (النحل:40).
وقال سبحانه: } إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون { (يس:82).
وكذلك قوله تعالى: } وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها { (الإسراء:16).
وسواء كان الأمر ها هنا أمر تكويني أو أمر تشريعي فهو موجود بقوله تعالى له كن بعد أن لم يكن. وكذلك قوله تعالى:} وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ { (الأعراف:11) وإنما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره.
وكذلك قوله تعالى:} وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ { (الأعراف:143). والآيات والأحاديث التي لا حصر لها تدل على أن الله يتكلم متى شاء وإذا شاء وكيف شاء.
قال العلامة ابن القيم بعد أن أورد الأدلة على صفة الكلام: (وهناك أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دفعت دفعت الرسالة بأجمعها وإن كانت مجازا كان الوحي كله مجازا وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره. فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر وأوضح من كل واضح) مختصر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم ص 518.
ثالثا: أنه سبحانه يتكلم بصوت يسمع سمعه جبريل من الله وسمعه موسي عليه السلام وسمعه محمد صلي الله عليه وسلم والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- قوله تعالى:} ِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ { (البقرة:253).
2- وقال تعالى: } هَل أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى { (النازعات 12:17).
3- وقال تعالى: } وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ { (سبأ:23).
4- وعند البخاري في الحديث: (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادي جبريل:إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء:إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض).
5- وعند البخاري عن جابر بن عبد الله قال:سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب:أنا الملك أنا الديان).
6- وقد بوب الإمام البخاري أبوابا كثيرة في إثبات كلام الربِّ U يوم القيامةِ مع الأنبياء وأهل الجنة وغيرهم، وروى من حديث عبد اللهِ بن مسعود t أن رسول اللهِ S قال: (إن آخِرَ أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخِرَ أهل النار خروجاً من النارِ رجلٌ يخرجُ حَبْواً، فيقول له ربُّه: ادخل الجنةَ، فيقولُ: رب الجنةُ ملأى فيقول له ذلكَ ثلاثَ مَرَّات، فكلُّ ذلك يعيد عليه، الجنة ملأى، فيقول: إنَّ لكَ مثل الدنيا عشرَ مرار) ([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn1)).
7- وعنده من حديث عدي بن حاتم t أن رسول الله S قال: (ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمهُ ربهُ ليس بينَهُ وبينَهُ ترجمان، فينظرُ أيمنَ منهُ فلا يرى إلاّ ما قدَّمَ من عمله، وينظرُ أَشْأَمَ منه فلا يَرَى إلا ما قدَّمَ، وينظرُ بين يديه فلا يرى إلاَّ النارَ تِلقاء وجهه، فاتَّقوا النار ولو بِشقِّ تمرة) ([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn2)).
8- وروى أيضا من حديث صفوان بنِ مُحْرِز أنَّ رجلاً سأل ابن عُمر t: كيف سمعتَ رسول الله Sيقول في النجوى؟ قال: (يدنو أحدُكم من ربِّه حتى يضع كنفه عليه - يعني ستره - فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقررهُ ثم يقول: إني سَترتُ عليك في الدنيا، وأنا أغفِرها لك اليوم).
9- وفي كلام الله مع أهل الجنة روى البخاري من حديث أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ t أن النبيُّ Sقال: (إن اللهَ يقولُ لأهل الجنةِ: يا أهل الجنةِ، فيقولون: لبيْك ربنا وسعدَيك، والخير في يَدَيْك، فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نَرضى يا رب وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً من خلقِك، فيقول: ألا أُعطيكُم أفضَل من ذلك؟ فيقولون: يا ربّ وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ عليكم بعدَهُ أبدا).
10- ومن حديث أبي هريرة t أن النبيَّ S كان يوماً يُحدثُ وعندَه رجلٌ من أهل الباديةِ: أنَّ رجلاً من أهل الجنة استأذَنَ ربَّهُ في الزَّرع فقال: أو لستَ فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحبُّ أن أزرعَ، فأسرعَ وبذر، فتبادَرَ الطَّرْفَ نباته واستواؤه واستحصاؤه وتكويرهُ أمثال الجبال، فيقول اللّهُ تعالى: دونَك يا ابن آدم فإِنه لا يُشبعُك شيءٌ، فقال الأعرابيُّ: يا رسول الله لا تَجِد هذا إِلاَّ قُرشياً أو أنصارِيّاً فإِنَّهم أصحابُ زَرْعٍ فأمَّا نحن فَلسنا بأصحابِ زَرْعٍ، فضحِك رسولُ الله) ([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn3)).
11- وفي هذا أعلى دلالة وأبينها وأوضحها على ثبوت صفة الكلام لربنا U وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء بكلام يسمعه من يشاء، وقد تواترت الأدلة تواترت على أنه سبحانه يتكلم إذا شاء بما شاء وكيف شاء، وأن كلامه يسمع وأن القرآن الكريم الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات هو عين كلامه حقا لا هو من تأليف ملك، ولا هو من تأليف ملك بشر ([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn4)).
والمراد أن الأدلة تواترت على أنه سبحانه يتكلم إذا شاء بما شاء وكيف شاء، وأن كلامه يسمع وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات عين كلامه حقا لا تأليف ملك ولا بشر وأنه سبحانه الذي قال بنفسه: } المص { (الأعراف:1). } حم عسق { (الشورى:1، 2). } كهيعص { (مريم:1). وأن القرآن بجميع حروفه ومعانيه نفس كلامه الذي تكلم به وليس ألفاظ القرآن وحروفه ترجمة ترجم بها جبريل أو محمد صلي الله عليه وسلم عما قام بالرب من المعني من غير أن يتكلم الله بها.
· مذهب الأشعرية في صفة الكلام هو الأكثر انتشارا حتى الآن مع كونه باطلا.
قال الشيخ طه العفيفي: (ليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت ولا يوصف بجهر ولا سر ولا تقديم ولا تأخير ولا وقف ولا سكون ولا وصل ولا فصل لأن هذا كله من صفات الحوادث) كتاب حق الله على العباد ص 92.
سلك الشيخ العفيفي بقوله ذلك طريقة الخلف في إثباته لصفة الكلام ولازمها أن الله تعالى لا يتكلم بصوت يسمع، وإنما كلامه معني واحد وإشارات مجملة يفهمه جبريل ثم يعبر عنه بلغة الرسل. فإذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. فكلام الله سبحانه عندهم ليس فيه أمر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار، بل هو معني واحد فهمه جبريل ولم يسمعه ثم فصله بطريقته الخاصة إلى الأمر والنهي والخبر والاستخبار وعبر عن ذلك باللغات المناسبة.
والذي دفعهم إلى ذلك كما سبق هو قياس كلام الخالق وصفاته على كلام المخلوق وصفاته بقياس تمثيلي أو شمولي فهم يرون أن المخلوق إذا تكلم فكلامه مكون من حروف وأصوات وموصوف بالجهر والسر والتقديم والتأخير والوقف والسكوت والوصل والفصل وغير ذلك، وكل ذلك لا يكون إلا بجارحه بها محل مخارج الحروف التي يصدر منها الكلام، والخالق إذا تكلم بكلام مسموع يفهمه البشر فإن كلامه سيكون حتما بلسان وفم قياسا على المخلوق.
من أجل ذلك عددوا القيود والشروط السلبية حتى يثبتوا لله صفة الكلام على مضض.
فقالوا ليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت ولا يوصف بجهر ولا سر ولا تقديم ولا تأخير ولا وقف ولا سكوت ولا وصل ولا فصل لأن هذا كله من صفات الحوادث.
· أبرز دليل عند الأشعرية على أن كلام الله هو الكلام النفسي والرد عليهم.
أبرز دليل عند الأشعرية على أن كلام الله هو الكلام النفسي هو قول الأخطل النصراني:


إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا

1- هذا استدلال فاسد ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به لقالوا هذا خبر واحد! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه ؟ ! وقيل إنما قال: إن البيان لفي الفؤاد وهذا أقرب إلى الصحة.
2- وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت! أي: شيء من الإله بشيء من الناس ! وزعموا أن كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق لإفهام المعنى القديم .
3- هل يستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟!
4- وأيضا: فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه . ولزم أن لا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى .
5- وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد أخرس لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائما بنفسه لم يسمع منه حرفا ولا صوتا بل فهم معنى مجردا ثم عبر عنه فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي.
6- ويقال لمن قال إنه معنى واحد: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر، وإن قال: بعضه فقد قال يتبعض، وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئا من كلامه
7- ولما قال تعالى للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) ولما قال لهم (اسجدوا لآدم) وأمثال ذلك -: هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه فهذا مكابرة، وإن قال: بعضه فقد اعترف بتعدده.
8- ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس -: (قوله صلى الله عليه وسلم: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) (وقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب - لا يبطل الصلاة وإنما يبطلها التكلم بذلك فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
9- وأيضا: ففي الصحيحين (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ففرق بين حديث النفس وبين الكلام وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب.
10- وأيضا ففي السنن: (أن معاذا رضي الله عنه قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فبين أن الكلام إنما هو باللسان فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل -: إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما - ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك.
11- ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وأن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق -: فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر فإن الله يقول: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع ؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع. وليس القرآن إلا سورا مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة قال تعالى: (فاتوا بعشر سور مثله مفتريات) (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) (في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات. قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول: آلم، حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.
12- وقوله: (لا يأتون بمثله) - أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه.
13- أن الله توعد بسقر من سمع القرآن وقال: (إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ) (المدثر:25) فمن أنكر أن القرآن كلام الله وقال إنه كلام محمد أو غيره من الخلق ملكا كان أو بشرا فقد كفر ، ولذلك قال الطحاوي: (ولا يشبه قول البشر) يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق قال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (النساء:87). وقال تعالى: (قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء:88) .
13- وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38). فلما عجزوا - وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله، وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي بلغة العربية، فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف. وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها ،ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن ؟ كما في قوله تعالى: (الم ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ) (البقرة:2)(المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:2)(الر تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ) (يونس:1).وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه بل خاطبكم بلسانكم.
فحقيقة مذهبهم في صفة الكلام، والذي تأباه الفطرة ويقبحه العقل أنهم شبهوا الله بالأخرس الأبكم الذي يعبر عن مراده الداخلي بإشارات يفهم منها المعني المقصود لعدم قدرته على الكلام. فهم فروا من التشبيه حسب زعمهم بتعطيل ما يجب إثباته لله تعالى إلى أشد أنواع التشبيه قبحا ونقصا حيث شبهوا الله بالأبكم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
· مذهب الأشعرية في صفة الكلام لا يوصف بالوسطية.
تقدم أن أحد المعتزلة حاول أن يحرف آية في كتاب الله حتى ينفي صفة الكلام كما هو مذهبهم فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة:أريدك أن تقرأ: } وكلم الله موسي تكليما { (النساء:164). بنصب لفظ الجلالة بدلا من الرفع ليكون موسي عليه السلام هو المتكلم والله هو المستمع، فقال أبو عمرو:هب أني قرأت الآية كما تريد فكيف تصنع بقوله تعالى: } ولما جاء موسي لميقاتنا وكلمه ربه { (الأعراف:143).فبهت المعتزلي لأن الآية صريحة في إثبات صفة الكلام لله.
الأصل الأول عند المعتزلة: التوحيد فقد زعموا فيه أنهم أهلُ التوحيد وخاصتُه، والمنزهون لربهم عن التشبيه، وخلاصة رأيهم في التوحيد أن الله تعالى لا صفة له لأنه منزه عن الشبيه والمثيل كما قال: } ليس كمثله شيء { (الشورى:11)، وهذا توحيد يناقض الفطرة ولا ينطلي إلا على أذهان السفهاء، بل هو توحيد يسخر منه جميع العقلاء فهل يصح أن تقول مثلا ولله المثل الأعلى: الأمير لا نظير له أبد، فيقال لك في ماذا؟ أو ما الذي انفرد به؟ فتقول: ولا شيء، أو لا صفة له أصلا. ولا نظن عاقلا يقبل ذلك على نفسه فضلا عن ربه، فالعقلاء يمدون غيرهم بإثبات الصفات التي تليق بهم، والموحدون لله حقا يحمدون ربهم بإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، أما توحيد المعتزلة فتوحيد معكوس يزعمون فيه أنهم يمدحون ربهم وهم في حقيقة أمرهم يذمونه ويصفونه بصفات النقص التي لا يرضاه عاقل لنفسه، وقد أداهم توحيدهم هذا إلى القول بنفي صفة الكلام عن الله سبحانه وتعالى والقول بخلق القرآن وزعموا أنه مخلوق كسائر المخلوقات.
· كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن؟
لما تأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة في استقلال العقل بإثبات الصفات أو نفيها وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها محتجين بأن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال، وأن ظاهر النصوص باطل واعتقاده ضلال، رتبوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال، فنفوا رؤية رب العزة والجلال وردوا الأخبار وأنكروا الآثار التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة، وقالوا أيضا بنفي صفة الكلام عن الله، وجعلوه عاجزا عن التكلم بالقرآن بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له فم ولسان، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان.
وقد استفحل أمرهم وكثر عددهم وانتشر في البلاد خبرهم، ومن المؤسف أن بعض خلفاء الدولة العباسية قربهم وجعلهم في أعلى المناصب القيادية متعللين بأنهم كانوا يجادلون المخالفين مجادلة عقلية، وكانوا يقطعون الزنادقة والشيعة والجبرية في كثير من المناظرات الكلامية وأن شيوخ الحديث تعجز عن ذلك.
وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية تصادق مع بعض دعاة المعتزلة، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المرييسي ذا أصل يهودي، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي، فغلب عليه وقال به وانسلخ من دواعي التقوى والإيمان وأعلن القول بخلق القرآن ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره، وكان عالمَهم المقتدى بأمره، فمقته أهل العلم وناظروه، وحكم عليه بعضهم بالفسق وكفروه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله عن هذا الجهمي: ناظرت بشر بن غياث المريسي فكان مما قال: القرعة قمار وهي حرام، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة فبهت تاريخ دمشق 51/380، وحديث عمران رواه مسلم وفيه: (أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ S فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَال لهُ قَوْلا شَدِيدًا) ، وفي رواية أخرى: (أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين) ، ومعلوم أن الوصية فيما دون الثلث، ولذلك أجرى النبي Sالقرعة بينهم، ومعنى قال له قولا شديدا أي أنكر فعله وكرهه، والشاهد أن أبسط أمور السنة لا يعرفها بشر المريسي.
واختلط الخليفة المأمون أيضا برجل يقال له أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزالي، قربه المأمون واتخذه صاحبا، ومن شدة تعلق المأمون به عظمه الشعراء نفاقا للخليفة حتى قال بعض الشعراء من بني العباس الذين تولوا المعتزلة:


رسول الله والخلفاء منا : ومنا أحمد بن أبي دؤاد.

فرد عليه بعض شعراء أهل السنة الذين أدركوا خطورة هذا الرجل وأمثاله فقال:


رسول الله والخلفاء منا : ونبرأ من دعي بني إياد



وما منا إياد إذا أقرت : بدعوة أحمد بن أبي دؤاد .

ومن شدة الترابط بين المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد والخليفة المأمون أشار على الخليفة أن يكتب على سترة الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، بدلا من قوله تعالى: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الشورى:11)، فأراد أن يحرف كلام الله لينفي وصفه بالسمع البصر، تماما كما قال الجهم بن صفوان عن قوله تعالى: } الرحمن على العرش استوى { (طه:5)، قال: لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت.
وكذلك قرب المأمون إليه رجالا من المعتزلة حتى راوده على مذهبهم فأقنعوه وأصبح ألعوبة في أيديهم، ثم نصحوه أن يأخذ على أيدي الناس ويلزمهم أن يقولوا بقولهم توحيدا وإرضاء لربهم وإصلاحا لدينهم على زعمهم، وقد وقع المأمون بن هارون في شباكهم، وفرض على الناس بدعة جديدة لم تكن في أسلافهم، وهي البدعة الكبرى بدعة القول بخلق القرآن.
وقد وصل الأمر ببعضهم إلى محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بتلك الصفة فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أريدك أن تقرأ هذه الآية: } وَكَلمَ اللهُ مُوسَى تَكْليمَا { (النساء:164) بنصب لفظ الجلالة، وذلك ليكون موسى u هو المتكلم، أما الرب عنده فلا يتكلم ؛ لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه فقال أبو عمرو: هب أني وافقتك في ذلك، فماذا تفعل بقوله تعالى: } وَلمَّا جَاءَ مُوسَى لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه { (الأعراف:143) فبهت المعتزلي؟
ولما أصر أبناء الجهمية من المعتزلة على نفي صفة الكلام عن الله تبادر إلى الذهن سؤال هام وهو: إذا كان الله لا يتكلم فهذا القرآن كلام من؟ ومن الذي تكلم به؟ فقالوا تكلم به محمد، ولما كان محمد مخلوقا فكلامه إذا مخلوق، وقد خلق الله محمدا وخلق كلامه كما خلق سائر الأشياء، أما هو سبحانه فلا يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه، وقد تخبط بعضهم فمرة ينسبونه إلى جبريل ! ومرة ينسبونه إلى محمد S ! ومرة يزعمون أن الله كان ولم يكن عرب ولا كلام عربي فالله خلق القرآن كما خلق العرب ! وغير ذلك من ألوان التخبط في الأدلة والتضارب في القول، وقد عبر ابن القيم عن ذلك في نونيته، فقال عن تضاربهم وتهافت قولهم مستهزئا بعقيدتهم:


إن الذي جاء الرسول به لمخلوق ولم يسمع من الديان.



والخلف بينهم فقيل محمد أنشاه تعبيرا عن القرآن.



والآخرون أبوا وقالوا إنما جبريل أنشاه عن المنان.



وتكايست أخرى وقالت إنه نقل من اللوح الرفيع الشان.

فاللوح مبدؤه ورب اللوح قد أنشاه خلقا فيه ذا حدثان.

هذي مقالات لهم فانظر ترى في كتبهم يا من له عينان



لكن أهل الحق قالوا إنما جبريل بلغة عن الرحمن.



ألقاه مسموعا له من ربه للصادق المصدوق بالبرهان.

ولما وقع الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد في شباك المعتزلة وتبنى قولهم في خلق القرآن فرض على الناس تلك البدعة وأحدث انقساما شديدا في الأمة فصار الناس وقتها على فريقين:
الفريق الأول: فريق يتابع الخليفة المأمون على رأي المعتزلة وينفون صفة الكلام عن الله ويعتقدون أن القرآن مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو عندهم كافر مشبه وضال مضل يستوجب السيف والقتل، وهؤلاء هم أهل القوة والمكانة أتباع الخليفة فالمأمون استخدم قوة الدولة في تأييد هذا الرأي وإلزام الناس بتلك البدعة، وأصبحت آراء المعتزلة قضية على رأس القضايا في اهتمامات الدولة، بل من أولى الاهتمامات في الخلافة الإسلامية، والمسألة لم تعد كلاما فاسدا يطوف على ألسنة الناس بين متأفف منكر ومستحسن مؤيد، بل أصبح الأمر خطرا داهما يهدد كافة المسلمين في كل مكان ويواجه فيه أضعف الناس قوة الدولة والسلطان.
الفريق الثاني: فريق مستضعف يمثلهم علماء أهل السنة وعامة الناس من الضعفاء وغيرهم، وهؤلاء يقولون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويؤمنون بما ورد من صفات الله في الكتاب والسنة، من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف وهم بدافع إيمانه لا يجرؤون على تحريف الكلم عن مواضعه بالتأويلات الممقوتة التي دعاهم إليها أهل البدعة.
غير أن المواجهة قد اشتدت بين الفريقين إلى أن امتُحن فيها الناس أشد امتحان فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث، ولا مؤذن ولا معلم، إلا أخذ بالمحنة وهرب كثير من الناس فرارا بدينهم، وملئت السجون بمن أنكر على أهل البدعة من المعتزلة أتباع الخليفة، وقد وصل التحدي إلى أن أمر الخليفة المأمون، أن يكتب على أبواب المساجد: لا اله إلا الله رب القرآن وخالقه، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد من الجلوس للفتيا في المساجد أو تبليغ العلم، لأنهم صرحوا بمخالفته فاعتبر المأمون ذلك منهم معارضة لسياسة الدولة .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني



انتهت المحاضرة ولله الحمد.


البخاري في التوحيد، باب كلام الرب U يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم 6/2728 (7073).

الموضع السابق 6/2729 (7074).

الموضع السابق 6/2733 (7081).

انظر معارج القبول 1/249 بتصرف، وانظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية 6/ 522.