المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محاضرات دورة أصول العقيدة في توحيد الأسماء والصفات للشيخ الرضواني المحاضرة الثانية عشر



أهــل الحـديث
22-12-2011, 05:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




المحاضرة الثانية عشر



المحكم والمتشابه وحقيقة القول بالتفويض


· تعريف المحكم والمتشابه والتفويض لغة واصطلاحا .
المحكم لغة من الحكم والقضاء، والعلم والفقه، وهو مصدر حكم يحكم، والمحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب، فعيل بمعنى مفعل أحكم فهو محكم، وعند البخاري : (وقال ابن عباس: ثم توفي رسول الله S وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم)(4748) .
يريد المفصل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء، وقيل: هو ما لم يكن متشابها لأنه أحكم بيانه بنفسه ولم يفتقر إلى غيره .
والمتشابه لغة، الشبه ضرب من النحاس، يلقى عليه دواء فيصفر، وسمي شبها لأنه شبه بالذهب، وفي فلان شبة من فلان أي شبيهه، وتقول: شبهت هذا بهذا وأشبه فلان فلانا، وأشبه الشيء الشيء ماثله، والمشبهات من الأمور المشكلات تشابه الشيئان أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا، وشبه فلان علي إذا خلط واشتبه الأمر .
· المحكم والمتشابه في الاصطلاح:
يمكن بالتتبع والاستقراء حصر الآراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في الوجوه الآتية:
1- المحكم ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل .
2- المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما يحتمل وجوها، فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي، صار المتشابه محكما .
3- المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به .
4- المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل .
5- المحكم ما كان قائما بنفسه، لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره .
· جميع القرآن المتشابه باعتبار.
وربما يطلق المتشابه كصفة مدح لجميع القرآن ولفظ المتشابه على هذا المعنى هو الوارد في قوله تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ِ) [الزمر:23] .
أما تبيان كيف أن المتشابه بهذا الإطلاق نعت كمال لجميع القرآن، فإنه من الجلي أن صوغ مادة التشابه في هذه الآية يقضى بأن الكتاب الكريم ذو أجزاء، كلها يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعته الخلق وتناسب ألفاظه وتناسقهما في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت .
· جميع القرآن محكم باعتبار.
والتشابه بهذا المعنى الذي يعم جميع القرآن على نحو ما رأينا، لا يتنافى بحال مع وصف الإحكام المذكور في قول الله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]، والذي يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا في كتاب الله عز وجل دون أن يأتي كلام الحق في ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه، وذلك بأن التناقض إنما يلزم إذا كان بين المادتين في هاتين الآيتين تقابل التضاد، وكيف وكل منهم صفة مدح، لا يمكن أن تدل على ما يضاد الأخرى، وإنما على ما يؤيدهما ويشد من أزرهما، وبانطوائهما معا في صفته شاهد صدقه وآية تنزيل رب العالمين .
وأما الإحكام فمعناه أن أي القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل، أو جعلت حكمة، فنقول حُكِم إذا صار محكما، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية، وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم في تشابهه، متشابه في إحكامه .
· القرآن فيه المحكم والمتشابه.
وقد يرد لفظ المتشابه في القرآن مقولا على بعض منه مخصوص، مقابلا وقسيما للبعض الآخر الذي يقال عليه وصف المحكم، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان في شيء واحد، وذلك ما جاء في قوله تعالى: (هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران:7] .
وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق أو التجرد من القرينة، وإن الناظر في هذين الوصفين المتقابلين واللذين لا يصدق واحد منهما على ما يصدق عليه الآخر من القرآن، ليرى اختلافا عظيما بين العلماء في تبيان هذا المعنى، وهذا ما يهمنا في هذا البحث .
· التفويض لغة واصطلاحا:
فوض إليه الأمر صيره إليه وجعله الحاكم فيه، قال الله U: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر:44] ، أي أتكل عليه.
وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مرفوعا: (اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ) أي رددته إليك .
والتفويض في النكاح التزويج بلا مهر، وقوم فوضى مختلطون، وقيل هم الذين لا أمير لهم، ولا من يجمعهم، وصار الناس فوضى أي متفرقين، وقوم فوضى أي متساوون لا رئيس لهم، ونعام فوضى أي مختلط بعضه ببعض .
أما التفويض في الاصطلاح، فهو زعم الخلف الأشعرية أن عقيدة السلف في الصفات الإلهية هو تفويض العلم بالمعنى لا الكيفية.
فبعد موت أبى الحسن الأشعري الذي أعلن اتباعه للمنهج السلفي في كتابه الإبانة عن أصول الديانة، ظن علماء الخلف من الأشعرية كالقاضي أبى بكر الباقلاني (ت:402هـ)، وأبى إسحاق الإسفراييني (ت:418هـ)، وأبى إسحاق الشيرازي (ت:476هـ)، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت:478هـ)، وفخر الدين الرازي (ت:606هـ)، وكأبى حامد الغزالي الصوفي (ت:505هـ)، والآمدي والإيجى وابن فورك والشهرستانى، وغيرهم من علماء الخلف الأشعرية، ظن هؤلاء أن مذهب السلف الصالح هو التفويض .
والتفويض عندهم هو القول بأن معنى النص مجهول، ولا يعلمه أحد من السلف، وأنهم فوضوا العلم به إلى الله U، أو ردوا العلم بالمعنى إلى الله لعدم علمهم به كالأعجمي حين ينظر إلى القرآن، والأمر ليس كذلك، فالسلف فوضوا العلم بالكيفية الغيبية إلى الله U، أو ردوا العلم بكيفية الصفات إلى الله، أما المعنى فهو معلوم واضح من دلالة اللغة العربية التي نزل بها القرآن .
وحجتهم في ذلك اعتقادهم الخاطئ أن النصوص القرآنية والنبوية في الغيبيات أو باب والصفات موهمة للتشبيه والجسمية، ومعانيها من المتشابهات ودون المحكمات .
وقد بقى الحال على هذا الفهم عند كثير من الناس حتى الآن، فأغلبهم يخطئون في فهم عقيدة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، عندما سأله سائل وقال له: يا أبا عبد الله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]، كيف استوى ؟! فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج).
فقد ظنوا أن مالكا دعا إلى عدم التعرض للآيات بتفسير معناها، وإيجاب تفويض العلم بالألفاظ إلى الله، وأمر عقيدة السلف التي قررها الإمام مالك ليس كذلك فمعتقد الإمام مالك هو تفويض العلم بالكيفية إلى الله فقط، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد من مفهوم الآية .
وهذا واضح بيِّن في كلامه حيث قال: الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه، ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية، فهذا يجعل السلف الصالح كالأعاجم والأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، كما ورد في قول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) [البقرة:78] .
· العقيدة السلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه .
لما قال علماء الخلف من الأشعرية بأن نصوص الصفات الإلهية موهمة للتشبيه والجسمية، تغير تبعا لذلك مفهوم المحكم والمتشابه عندهم وعند أتباعهم من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة، ظاهرها مراد في حق الله، وليس كمثله شيء في حقائقها، وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات، تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار تلك النصوص نصوصا تدل على ظاهر باطل محال، يحمل التشبيه والتجسيم ويجب صرفه عن الصورة المنفرة التي صورها لربهم، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس كخيار ينسبونه لعقيدة السلف، وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية معانيها معان مجهولة أعجمية، يفوض فيها الأمر والعلم إلى الله، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التسليم وعدم الخوض في توحيد الصفات كما كان شأن السلف، ومن هنا كان لابد من تحقيق الأمر في قضية المحكم والمتشابه وتجليته بصورة جديدة تبين حقيقة الفهم السلفي الصحيح .
يذكر أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ينقسم إلى معنيين، أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض، قال الله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]. فوصف جميع القرآن في هذه الموضع بالإحكام.
وقال U: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله) [الزمر:23] .
فوصف جميعه بالمتشابه، ثم قال في موضع آخر: (هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران:7] .
فوصف بعضه هاهنا بأنه محكم وبعضه متشابه، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى: (هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ )، فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا .
ويحاول أبو بكر الجصاص في كلامه السابق أن يبلور آراء الناس في المحكم والمتشابه، لأنهم اختلفوا اختلافا عظيما في قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق الأخير، هل هو مقصور على الله تعالى، أو هو بحيث يتأتى للراسخين في العلم أيضا ؟
ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق في القرآن ما يعرف لدى علماء الخلف والمتكلمين بآيات الصفات الخبرية، أو متشابه الصفات، كالآيات التي جاء فيها ذكر صفات الذات والأفعال، مثل الوجه واليد والجنب والفوقية، والاستواء والمجيء والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات الإلهية .
ويهمنا أن نبين مقدمة هامة مبنية على ما سبق من الآراء في المحكم والمتشابه فجميع تلك الأراء في معنى المحكم والمتشابه، تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح الذي يمكن تحديده وتمييزه، كتمييز الصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها وضبط ملامحها والتمكن من وصفها، فما لا يحتمل إلا وجها واحداً يصبح معلوما مميزا كما أن المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم.
إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة:118]، أي أشبهت قلوب مشركى العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو.
إما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقول الله تعالى عن بنى إسرائيل: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ِ) [البقرة:70] .
وعلى المعنى السابق للمحكم والمتشابه سوف ننظر إلى الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل بحثنا في قضية المحكم والمتشابه وأثرها هذه الرؤية على القول بالتفويض قال تعالى: (هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [آل عمران:7].
كثير من علماء الخلف الأشعرية يعتبرون معاني نصوص الصفات الإلهية من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية، وفي هذا نظر حيث يترتب على ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله.
قال أبو محمد بن قدامة المقدسي: (وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفي عليه السلام من صفات الرحمن، وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم) لمعة الاعتقاد ص7.
وقال الشيخ أحمد الرفاعي معبرا عن فهمه في قضية المحكم والمتشابه: (فعاملوا الله بحسن النيات واتقوه في الحركات والسكنات وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة لأن ذلك من أصول الكفر، قال تعالى: (فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه) [آل عمران:7]والواجب عليكم وعلى كل مكلف في المتشابه، الإيمان بأنه من عند الله أنزله على عبده سيدنا رسول الله، وما كلفنا سبحانه وتعالى تفصيل علم تأويله، قال جلت عظمته: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران:7]، فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دل عليه ظاهره وتفويض معناه المراد منه إلى الحق تعالى وتقدس، وبهذا سلامة الدين).
فهؤلاء يدعون إلى ترك التأويل والبعد عن طريقة الخلف لعدم قناعتهم بها، لكن الطرح الذي يقدمونه لأتباعهم يزعمون فيه أن طريقة السلف هي الكف عن معاني نصوص الصفات ومنع البحث عن مدلول الآيات، ثم يجعلون ذلك سبيل المتقين ظنا منهم أن الظواهر تدل على التشبيه والمعاني الكفرية، فلا هم فهموا طريقة السلف ولا صوبوا طريقة الخلف .
وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات فهذا الظن الفاسد أوجب قولهم: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد تقولوا على طريقة السلف ولم يقتنعوا في قرارة أنفسهم بطريقة الخلف .
قال شارح الطحاوية في وصف حالهم في باب الصفات: (يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه إما أن يتأوله تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه وهو في معنى الكفر بذلك، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال الله تعالى: (مَثَلُ الذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة:5]، وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) [البقرة:78] ، أي إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به واشتبه عليه بعضه، فوكل علمه إلى الله كما أمره النبي بقوله: فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه فامتثل ما أمر به ).
وسبب ذلك كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله . مجموع الفتاوى 5/9.
· الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران يتسم بالدقة
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد لاسيما في توحيد الصفات، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية، وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية وفقوا في تفسير المحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى، وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم - على نحو ما تقدم - فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات والكيفية الغيبية فقط من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
أما إذا كان معنى النص معلوما والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم كما هو الحال في جميع آيات الأحكام ولذلك - والله أعلم - سميت نصوص التكليف بما تحويه من أحكامٍ أحكاماً، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
وإن كان المعنى معلوما والكيف مجهولا كان النص محكم المعنى متشابه الكيف وإذا قيل في عرف السلف هذا النص متشابه، فيحمل على هذا المعنى أي أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى، كما قال الإمام أحمد (ت:241هـ): (فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله U: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) [القصص:88]، ونحو هذا من متشابه القرآن) العقيدة رواية أبي بكر الخلال.
وكما روى أبو القاسم بسنده عن سليمان بن يسار، أن رجلا من بني غنيم يقال له صبيغ بن عسل، قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأله عن متشابه القرآن فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخيل، فلما دخل عليه جلس قال: من أنت؟، قال: أنا عبد الله صبيغ، قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل عن وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي .
ويقول ابن بطة العكبري (ت: 378هـ): (فالجهمي ينكر أن المؤمنين يرون ربهم في القيامة، فإذا سئل عن حجته في ذلك نزع بآيات من متشابه القرآن) .
فهؤلاء جميعا يقصدون بمتشابه القرآن، ما يؤدى الخوض فيه إلى الضلال من جهة التجهم على وصف الغيبيات وتصوير ما فيها من الكيفيات، وتمثيلها من خلال الأقيسة التي تحكم سائر المخلوقات أو القول بتعطيل الصفات، وتأويلها على غير مراد الله من الآيات، والنتيجة التي نصل إليها من هذه الرؤية أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن:(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1] ، أي أحكمت باعتبار المعنى فليس في القرآن كلام بلا معنى، أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فبعضها محكم معلوم، وبعضها متشابه مجهول، وهذا المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول )، وهو المعنى المشار إليه في قول الله تعالى:(هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران:7]،فلو سأل سائل عن استواء الله في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]، هل هو من المحكمات أم من المتشابهات ؟ قيل له: الاستواء محكم المعنى متشابه الكيف .
فما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات، والتي دلت عليها ألفاظ الآيات ككيفية أداء الصلاة والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك، فهذا محكم المعنى والكيفية، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قوله تعالى: (الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة:3] لقيل له بلسانه: الصلاة أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فيسأل عن كيفية أدائها ؟ فيقال له: أمرنا رسول الله S بأن نحاكيه تماما في الكيفية فقال مبينا ذلك في بعض الأحاديث النبوية: (وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) البخاري (602).
أما إذا كان المعنى معلوما والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا المعنى، كما في جميع الأخبار والنصوص التي وردت في وصف عالم الغيب ؛ فالجنة مثلا سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها وأخبرنا الله بذلك في كتابه وسنة نبيه S، وعلى الرغم من ذلك قال رسول الله S عن كيفية ألوان النعيم فيها:
(قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17]البخاري (3072).
فتأمل قوله: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) ماذا يعنى ؟ هل يعنى معنى الآيات والنصوص التي وردت عن وصف الجنة أم الكيفية التي دلت عليها ؟ فإن قيل المعنى: فخطأ لأننا سمعنا به في الكتاب والسنة وفهمناه، كما أن المعنى لا يرى بعين البصر وإنما يدرك بعين البصيرة، وإن قيل: الكيف فصواب لأننا لم نره ولم نر له مثيلا .
فالمتشابه كيفية الموجودات في الجنة لا المعنى الذي يدل عليها، وعلى ذلك فجميع آيات الصفات محكمة المعنى متشابهة في الكيفية فقط، فلا يدخل في المتشابه معاني الآيات التي وصف الله بها نفسه، كما اعتقد الخلف ذلك في مذهب السلف وإلا لكانت الآيات بلا معنى، وكانت ألفاظها معطلة عن الهداية والبيان، فقوله تعالى: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران:7]، أي باعتبار الكيف لا المعنى .
وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم حسب اجتهادهم في تحصيله، وعليه جاء قول عبد الله بن عباس t في آية آل عمران: (أنا من الراسخين في العلم) .
فالمتشابه هو الذي استأثر الله بعلمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو والتي أخبرنا بها في كتابه، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله معقبا على قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص:29] :
(وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر) ، وقال أيضا في قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، (فلم يستثن شيئا منه نهي عن تدبره، والله ورسوله S إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه).
وقد ذكر رحمه الله أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله أو قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين، أن في القرآن آيات لا تعلم معناها ولا يفهمها رسول الله S، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض الناس وهذا لا ريب فيه .


شكل توضيحي




اللفظ العربي أو النص



الذي نزل به القرآن



معاني الألفاظ



التي يستوعبا الذهن



الحقائق والكيفيات



التي دلت عليها الألفاظ



النص المتعلق بالمخلوق في عالم الشهادة من جهة الإحكام والتشابه



معلومة



محكمة



موجودة



معلومة محكمة



النص المتعلق بعالم الغيب وأوصاف الله من جهة الإحكام والتشابه



معلومة



محكمة



موجودة



مجهولة متشابهة


ويذكر ابن القيم أننا لو قلنا كما قال الخلف: إن قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ) [آل عمران:7]يتناول المعنى، يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان، بل يقرؤون كلاما لا يعقلون معناه، فهم متناقضون أفحش تناقض، فإنهم يقولون النصوص تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله .
وقول هؤلاء باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور، وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان.
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فإن التأويل في عرف السلف المراد به الحقيقة التي يؤول إليه الكلام، كالتأويل في مثل قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:53]، وكقوله تعالى: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) [يوسف:100]، فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه، تأويله تنفيذه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ S يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) .
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو وقوعة، وهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، ولهذا قال مالك وربيعة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول).
وفي رده على الخلف في زعمهم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، يذكر ابن القيم أن التشابه والإحكام نوعان، تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض، فإن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا وكذلك آيات الأحكام، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض، وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم، وهم لا يتنازعون في شيء منها وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم النزاع في بعضها ؟ .
والمقصود أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، و لا يجوز أن يكون الرسول S وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما ولا يعلمون الآخر .
· توجيه الوقف في الآية السابعة من آل عمران:
وعلى هذا المنهج السلفي لفهم المحكم والمتشابه يمكن تفسير آية آل عمران، بأن الله يخبر أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، سواء من جهة المعنى أو الكيفية، وهي أصل الدين وقوام العبودية وتتمثل في الأحكام الشرعية الدينية، فلا بد من وضوحها وبيان معانيها ولا بد من وصف كيفيتها لسائر الناس دون اشتباه أو التباس، فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع خصوم الباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه .
وفي هذا يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به) وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي أنهم قالوا: المحكم الذي يعمل به.
وأخر متشابهات كآيات الصفات من حيث اشتراك الألفاظ والكلمات عند تجردها عن الإضافة والتخصيص والتركيب لا من حيث المعنى المراد، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق ولهذا قال الله تعالى: (فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ )، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ِ) إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه )، أي تحريفه على ما يريدون .
روى البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنها قَالَتْ: (تَلا رَسُولُ اللهِ S هَذِهِ الآيَةَ:(هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران:7]قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ S: فَإِذَا رَأَيْتِ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكِ الذِينَ سَمَّي اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ).
وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ)يجب الوقف هاهنا إذا كان المقصود هو العلم بكيفية الحقائق الغيبية وكيفية الصفات الإلهية، فلا يعلم ذلك إلا الله، ويجوز الوقف على قوله سبحانه: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)إذا كان المقصود هو العلم بمعاني الآيات القرآنية سواء المتعلقة بالخالق أو المخلوق وكذلك كيفية أداء الأحكام الشرعية أو كيفية ما دلت عليه الآيات في الإخبار عن سائر المخلوقات في الدنيا .
قال ابن كثير: (وأما إن أريد بالتأويل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء فالوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه) .
· أمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض .
1- قال صاحب جوهرة التوحيد رحمه الله:
وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها
ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر:22] وحديث الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ S قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) يقول: فالسلف يقولون: مجيء ونزول لا نعلمه).
ادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى، وهذا باطل لأنه جعل كلام الله بلا معنى، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم الله بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها، ولا نعلم لسان أهلها، ثم نقول بعد سماعنا له: كلامك جيد، ووصفك سليم، وكلامك ليس فيه باطل، ونحن نصدق كل ما تقول !
وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام الله U ؟! فالسلف لم يقولوا: مجيء ونزول لا نعلمه، كما ادعى شارح الجوهرة، وإنما قالوا: مجيء ونزول لا نعلم كيفيته، وفرق بينهما عظيم .
2 - قال الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات: (إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى الله تعالى . فقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، يقول فيه السلف، هو مصروف عن ظاهره، ويفوضون علم المراد منه إلى الله)الفتاوى الأمينية ص97.
والسلف الصالح ما قالوا هذا، وإنما قالوا في الآية: هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح، والمجهول هو الكيف فقط، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون الظاهر من استواء بلقيس على عرشها، ولو سئل أحدهم: هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول: لا، يقال له: وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول: نعم فيقال عند ذلك: معنى استواء بلقيس معلوم، وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل، لكن إذا سئل: هل رأيت استواء الله ؟ فيقول: لا، فيقال: وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، فيقال له: كيف حكمت أن الظاهر في استواء الله يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على الله بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء الله معلوم، وهو العلو والارتفاع، وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا .
3 - ما ذكره الشيخ إبراهيم الدسوقي في مقالته عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وآراء العلماء في المتشابه إذ يقول: فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده الله تعالى، بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل .. ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة.
هؤلاء جميعا مع فضلهم وحسن ظننا بهم، ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض، وعند التحقيق نجد الأمر يمكن في إثباتهم للصفة من عدمه، فهل استواء الله علي عرشه حقيقة موجودة ولها كيفية ؟ أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟ فلا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم، في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا .
ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم، أو لا نعلمه، أو نجهله، قول باطل وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة، أو مجهولة لنا، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة .
· أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في توحيد الصفات:
نظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات لاسيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف، أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب، وهذه دعوة قديمة منذ أن ظهرت عقيدة التفويض ولم يدرك كثير من الناس ما عليه السلف.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول القائل: لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي S شيئا من صفات الإثبات أو النفي، فإن الله يوصف بالإثبات وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده، ويوصف بالنفي وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا إقرارا أو تأويلا أو غير ذلك فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ولا التأويل سائغ، ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير، وإذا التزم هو ذلك وقال لغيره التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها فإن هذا عدل، بخلاف ما إذا نهي غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قوله ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا، ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضوا ولا تكلموا فيها فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله .
وقد قيل إن مالكا لما صنف الموطأ قال: جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل .
· أسباب القول بالتفويض .
يمكن إجمال الأسباب الداعية للقول بالتفويض في الأمور التالية:
أولا: الأصول العقلية المستمدة من الفلسفة اليونانية كقولهم بنفي حلول الحوادث ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الفعلية كالاستواء والنزول والرضا والغضب، وقولهم بنفي الجسمية ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرها، وقولهم بنفي التحيز والجهة ليتوصلوا إلى تعطيل العلو والفوقية .
ثانيا: من الأسباب الرئيسية أيضا دعوى الخوف على عقائد العوام، وإلزام قطاع كبير من المسلمين بانتحال هذه المذاهب، كتبني بعض المؤسسات التعليمية لهذا الأمر، كما قال صاحب جوهرة التوحيد:


وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوِّض ورم تنزيها

فيدعى أن مذهب السلف الصالح هو التفويض، ومن ثم يشب طالب العلم من مهده على ذلك وهو لا يعرف غير هذا الاعتقاد حتى يصبح أستاذا كبيرا في الجامعة أو مدرسا في المادة يدافع عما درسه بقوة ظنا منه أنه على شيء، وإذا ظهر لهم الحق في هذا الموضوع فقل من لا تأخذه عزة المكانة، فيتراجع عن عقيدته ليلحق في ركب السلف .
ثالثا: تقليد بعض المشاهير الذين تبنوا القول بالتفويض عن حسن نية، كتبني بعض الجماعات الإسلامية لعقيدة مؤسسيها دون نظر أو تمحيص، ومحاولتهم الخلط بين قضية التفويض ومذهب السلف .
رابعا: الجهل بمذهب السلف من ناحية وانعدام القناعة بالمذهب الأشعري من ناحية أخرى، إذ أن الخلف من الأشعرية وغيرهم قاموا بلىّ أعناق النصوص بصورة لا تخفي على عاقل، فأغلبهم لا يقر في نفسه تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة، وإذا أقر به على مضد أقر به ليتملص من إثبات صفة الاستواء التي ظاهرها عنده باطل قبيح، فإذا خلا بنفسة تردد على ذهنه سؤال لا يفارقه، ومن الذي نازع الله على العرش حتى قهره واستولى عليه ؟! فلا يجد جوابا شافيا فيُرضى نفسه بالسكوت والتفويض وترك الأمر برمته مدعيا أن هذا مذهب السلف .


وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني