المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للشيخ الرضواني : كيف نفهم العقيدة ؟ المحاضرة الأولى



أهــل الحـديث
22-12-2011, 01:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




كيف نفهم العقيدة ؟



كيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟



المحاضرة الأولي

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، نحمدك اللهم حمدا يوافي نعمك ، ونطلب به رضاك ومغفرتك ، لا نحصى ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، ونستعين بك اللهم في قضاء حوائجنا وبلوغ مقاصدنا ، والثبات على كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، أما بعد ..
فموضوعنا اليوم يدور حول سؤال هام يتعلق بالمنهج السليم لفهم عقيدة أهل السنة والجماعة : كيف نفهم العقيدة ؟ كيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟ ربنا تبارك وتعالى من نعمه الظاهرة على الإنسان ، أنه لم يتركه يستهدى في الحياة بما أودعه فيه من فطرة ترغبه على الدوام في تحصيل الخيرات ، فربما تعارضت وجهات النظر بين البشر في تحديد ضوابط الخير والشر ، ومن ثم كانت معونة السماء زادا لفقر الإنسانية في علومها المحدودة ، فبعث الله رسله بمنهج النجاة ورسالة الهدى إلى عباده ، ومن وقت أن قال الله لآدم عليه السلام بعد أن أنزله إلى الأرض : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة :38) إلى أن أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (المائدة:16:15) ،ظلت الإنسانية في تطورها ورقيها ، يعاودها الوحي بما يناسبها ، ويحل مشاكلها في نطاق قوم كل رسول ، حتى تم أمرها واكتمل نضجها .
وقد أراد الله لرسالة محمد e أن تكون خاتمة الرسالات السماوية ، فأرسله الله بهذا القرآن المعجز ، الذي هيأه الله بكل سبل الإعجاز ليبقى إلى ختام البشرية ، قال تعالى : } مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا { (الأحزاب:40) ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا ، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ ، قَالَ : فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ) ، والقرآن هو كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام ، المكتوب في المصاحف ، المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته ، والمبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس ، وقد تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بحروفه وألفاظه عن رب العزة، قال الزرقانى : ( وقد زعم بعض الناس أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن ، والرسول يعبر عنها بلغة العرب وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل ، وأن الله كان يوحى إليه المعنى فقط ، وكلاهما قول باطل مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ) .
لقد كانت أشرف خصوصية للقرآن أن يكون محفوظا في صدور الناس ، وأن يعتمد في نقله على حفظ القلوب والصدور ، لا على كتابته في المصاحف والسطور فحسب ، بخلاف أهل الكتاب الذين يعتمدون في حفظ التوراة أو الإنجيل على الكتب المسطرة ، ولا يقرأونه إلا نظرا لا عن ظهر قلب ولهذا دخل إليهما التحريف والتبديل .
يقول موريس بوكأي : ( صحة النص القرآنى المنزل على محمد لا تقبل الجدل ، وتعطى النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد ، وسبب ذلك أن القرآن قد دون في عصر النبي e ، ولم يتعرض النص القرآنى لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا ) .
ومن الأسباب العظيمة لحفظ القرآن والسنة والعمل بما فيهما ، معرفة الضوابط اللازمة للاستدلال بهما ، وفهمها على النحو الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فكيف نفهم العقيدة الصحيحة ؟ أو كيف نصل قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟
فالقرآن والسنة يقاس بهما معدن كل علم من العلوم وكل طائفة من الطوائف ، فالكل يزعم أنه يعتمد على القرآن والسنة وأن الوحي معينهم ، وأنهم وضعوا عليه أساس بنيانهم ، ومن أجل ذلك كان من الضروري بيان الضوابط الأساسية أو القواعد الكلية اللازمة للقول بأن هذه عقيدة إسلامية مبنية على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة ، وأنها مبنية على أصول قرآنية ونبوية صحيحة ، لأن هذه القواعد تمثل في الحقيقة تضبط لنا فهما دقيقا واتفاقا وثيقا وتيسر لنا إيمانا عميقا ، أو بنية أساسية في لحظ اعتقاد المسلمين الذين عظموا ربهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم ، فهذه الأسس لها من الهيبة في نفس المسلم فضلا عن أهل العلم ، ما يبعث على الخوف والحذر من خدشها أو المساس بها ، ولعل ما حدث من اختلاف بين الفرق الإسلامية ، كان مرده إلى تجاوز هذه الأسس الضرورية عند الاحتجاج بالأصول القرآنية والنبوية ، فكيف نفهم العقيدة الصحيحة ؟ ، وما معنى قولهم قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ، فيه عدة حقائق تبين لنا المقصود من دعوة السلف إلى الالتزام بالقرآن والسنة على فهم سلف الأمة ، يمكن أن بيانها في القواعد التالية :
القاعدة الأولى : أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام ، ولا يقبل الله دينا سواه وأن القرآن الذي نزل على رسوله محمد e ناسخ لما سبق من الرسالات السماوية ومهيمن عليها ، لقوله سبحانه وتعالى : } إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19) ، وقال سبحانه : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) (آل عمران:85) وفي السنة عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) .
ولا يقبل تحت أي ادعاء أو حسن نية القول بعكس ذلك ، كمن قال بوحدة الأديان أو التقريب بينها أو صحح دين اليهود والنصارى ، أو أي ملة من ملل الكفر ، ومهما استند إلى القرآن واستخرج ما شاء من آياته ، أو انتقى ما شاء من كلماته ليستدل بها على جودة مطلبه ، وأصالة مذهبه ، فلن يقبل منه ، كمن زعم من الصوفية أن فلسفته الذوقية أو مواجيده الإيمانية في النظر إلى حقيقة الألوهية حكمت بوحدة الوجود ، فأداه ذلك إلى القول : عقد الخلائق في الإله عقائدا : وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه - أو كقوله : لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى : إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى - لقد صار قلبى قابلا كل صورة : فمرعى لغزلان ودير لرهبان - وبيت لأوثان وكعبة طائف : وألواح توراة ومصحف قرآن – أدين بدين الحب أنى توجهت : ركائبه فالدين ديني وإيماني .
كثير من المستشرقين من اليهود والنصارى الحاقدين حاولوا أن يقيموا دراساتهم للإسلام على أساس تمييع هذا الأصل في نفوس المسلمين ، من خلال تبنيهم لمثل هذا الفكر ونشره على الناس كدراسات بحثية مزينة بالصبغة العلمية أو مخطوطات تراثية مستخرجة من تراث الصوفية ، أو أعمال أخرى تخلط بين العقيدة الإسلامية بجوانبها الغيبية التي لا تقبل الشك والجدل ، وبين فكر الضالين من العقلانيين والكلاميين والذوقيين الذين اصطبغ فكرهم بالشطط والخلط في الدين .
فأي كلام يتمسك به المستشرقون الصليبيون وأي فكر يعتصمون به أعظم ممن ضل من المسلمين ودعي إلى الإيمان بوحدة الأديان ، وتصحيح ملة المجرمين المشركين ، المعذبين في جهنم خالدين ، يقول : فهم الكمل من الأولياء لقوله تعالى : } وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا { (مريم:86) ، هو أن المجرمين هم أهل الاستقامة على صراط رب العالمين ، يقول ابن عربي : ( والمجرمون هم الذين استحقوا مقام القرب الذي ساقهم إليه بريح الدبور والريح التي يقصدها هذا الزنديق الهواء والهوى يكون في النفس ، وريح الدبور أهلكهم عن نفوسهم فلا تأثير لهم ، فهو يأخذ بنواصيهم في العصيان ، والريح تسوقهم وهى عين الأهواء التي كانوا عليها تسوقهم إلى جهنم ، وهى البعد من الله الذي كانوا يتوهمونه في الدنيا ، فلما ساقهم إلى جهنم اكتشفوا أنهم عين القرب من الله ، فزال البعد وزال مسمى جهنم في حقهم ، ففازوا بنعيم القرب من جهة استحقاقهم العذاب لأنهم مجرمون ، فما أعطاهم الله هذا المقام الذوقى اللذيذ في جهنم من جهة المنة والفضل ، وإنما أخذوه بأعمالهم التي كانوا عليها ، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم ، لأن نواصيهم كانت بيد الله ، فما مشوا بنفوسهم ، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب من الله كما قال : } وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ { ) .
فهذا الكلام وأمثاله من تراث الصوفية عبث وخلط وتدليس ، وكفر وبهتان وتلبيس ، يعبث بالقرآن والسنة ويورد آيات الكتاب في كلامه ليوهم السذج من الصوفية بأنه ما خرج على الأصول القرآنية والنبوية ، ويوحى للآخرين بأنه عميق الفكر بعيد المنال ، ولو أنكري عليه يقول أنت من أصحاب العقول المحدودة ، فهذا ومن وافقه لو زعم آلاف المرات أنه يستند إلى الأصول القرآنية والنبوية ، فزعمه كاذب وكلامه مردود .
القاعدة الثانية : التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح ، أن جملة الرسالة التي نزلت من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تمثلت في القرآن وما ثبت في السنة المطهرة ، وقد تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي وعلى أشكاله المختلفة كما قال سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (النجم:5:1) ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الشورى:51) ، فتحددت بالآية وسائل خطاب الرسل مع ربهم .
1- الوسيلة الأولى : الوحي من خلال الرؤيا في المنام ، كما أوحى الله لإبراهيم بقتل ولده إسماعيل عليهما السلام : } فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ { (الصافات:102) ، وهذه الرؤيا للأنبياء وحى ، ولغيرهم مبشرات ، لكن لا قيمة لها في إثبات الأحكام أو إلزام النفس أو إلزام الغير بمقتضاها ، لما روى عند البخاري من حديث أبى هُرَيْرَةَ قَالَ : ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ) ، وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ 2272 من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلا رَسُولَ بَعْدِي وَلا نَبِيَّ ، قَالَ : فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : لَكِنِ الْمُبَشِّرَاتُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ : رُؤْيَا الْمُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ ) ، فمن وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي من خلال الرؤيا في المنام .
2- الوسيلة الثانية : من وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي المباشر من وراء حجاب بدون واسطة يقظة ، كما كلم الله موسى عليه السلام فقال : } وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا { (النساء:164) وقال أيضا : } وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ { (الأعراف:143) .
3- الوسيلة الثالثة : من وسائل خطاب الرسل مع ربهم الوحي عن طريق الكلام الإلهي غير المباشر بواسطة إرسال أمين الوحي جبريل ، وله في كيفية التبليغ إحدى حالتين ، وردتا عند الإمام البخاري من حديث الحارث بن هشام t لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال َ: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ _ طنين الجرس أو ما يشبه الكاست عند تشغيله بسرعة كبير _ أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّه عَنْهَا : وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ) .
ثم انقطع الوحي بعد ذلك ، فلا ينزل على أحد من البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى : } مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا { (الأحزاب:40) ، فمن ادعى الاتصال المباشر في الخطاب مع الله تحت أي تأويل أو مسمى ليجعل كلامه مقبولا بين الناس ، أو حاول أن يضفي القدسية على كلامه بادعائه أن ما يقوله أو ما يكتبه إنما تلقاه بطريق من طرق الوحي السابقة ، فقد تجاوز أصول القرآن والسنة وسعى في هدمها ، كقول القائل من الصوفية :
( أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت يقول أمثالنا : حدثني قلبي عن ربى ، وأنتم تقولون : حدثني فلان وأين هو ؟ قالوا : مات ، عن فلان ، وأين هو ؟ قالوا : مات ) ، أو كادعاء ابن عربي أن كتاب الفصوص أخذه من يد رسول الله e مكتوبا من اللوح المحفوظ ، وهو مجرد ناقل أمين بلا زيادة أو نقصان ، كما قال : ( فحققت الأمنية ، وأخلصت النية ، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب ، كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان ) .
وقوله أيضا : ( فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحِكَم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب ، فامتثلت ما رسم لي ووقفت عندما حد لي ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت ، فإن الحضرة تمنع من ذلك ) ابن عربي يشبه نفسه بالرسول صلى الله عليه وسلم في دقة البلاغ عن الله وخوفه من الوعيد الذي ورد في قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم : ( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِلأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (الحاقة:47:43) .
أو كما قال عبد الكريم الجيلى يحاكى طريقة الوحي في التجلي الصوفي : ( يتجلى الحق سبحانه وتعالى على العبد بتجل يسمع فيه صلصلة الجرس ويسمع تصادم الحقائق بعضها مع بعض ، فيجد لها أطيطا يملأ ما بين السماء والأرض ثم إذا تقوى وثبت لسماع ذلك ، يترقى ويسمع صلصلة الجرس عند رفع الستر ) ، كل ذلك وأمثاله تهوين لحرمة الدين ، وانتهاك مقبوح مشين ، انتهاك للثوابت المستقرة في اعتقاد المسلمين ، وممكن يجوزه بعض المدافعين عن الصوفية من باب المخاطبات الروحانية والمحادثات الإيمانية ، عند المكاشفات والتجليات التي تحدث لبعض الصوفية في شطحاتهم ، فنقول له : هذا باب مفتوح على مصراعيه للمغرضين والحاقدين ، ويكفي العاقل أن يقف على نظرة المستشرقين للوحي عند المسلمين ، وكيف وجدوا في مثل ذلك سبيل الخلط بين الوحي وترهات الصوفية .
القاعدة الثالثة : التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح ، أن الاحتجاج بالسنة النبوية عند السلف كالاحتجاج بالآيات القرآنية ، فالاحتجاج بالأحاديث النبوية كالاحتجاج بالآيات القرآنية سواء بسواء ، ولا خلاف بين جمهور العلماء الذين يعتد بهم في أن السنة يحتج بها ، وتستقل بتشريع الأحكام ، وأنها كالقرآن الكريم سواء بسواء في تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وأنها المصدر الثاني لمعرفة أصول الإسلام ، بعد القرآن الكريم الذي هو خير الكلام ، وأنه لا يستغنى عنها مطلقا لأنها المفصحة عن معاني القرآن ، الكاشفة عن أسراره .
ولو أغفلنا السنة في الاحتجاج فإن الأحكام التي نستخلصها بعقولنا وجهدنا من القرآن لن تعبر عن حقيقة الوحي وقد أكد القرآن بوضوح أن السنة وحى من الله يجب الإيمان به ، ويجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء ، وفي كل وقت في حياته وبعد مماته ، لأنها أصول لم تخصص بزمن دون زمن ، فيجب تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ذكره من أخبار ، وتنفيذ كل أوامره صلى الله عليه وسلم عن رضي ومحبة .
يقول ابن حزم : ( إن القرآن لما كان هو الأصل الذي يرجع إليه في معرفة الإسلام ، وجدنا فيه وجوب طاعة ما أمرنا به رسول الله e ، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله e : } وَمَا يَنطِقُ عَنِ کالْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى { (النجم:4:3) ، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله e على قسمين :
أحدهما : وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن .
والثاني : وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء ، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا ) .
ومن الأدلة القرآنية التي تقرر هذه الحقيقة بلا نزاع قوله سبحانه وتعالى : } وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { (الحشر:7) وقوله :
} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِين ) (آل عمران:31:30) وقوله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء:65) وقوله : ( فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (النور:63) وقوله : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ) (الأحزاب:36) .
وأمثال ذلك في القرآن كثير ، وكله يدل على أن السنة وحي من الله تعالى لرسوله e وأنه لا بد من اعتماد السنة في معرفة أصول الأشياء ، والإذعان لها كالقرآن سواء بسواء .
وقد ثبتت روايات كثيرة في السنة تؤكد أن الصحابة y كانوا لا يتهاونون في ذلك ، وأن النبي e حذرهم من الكذب عليه أو التكذيب بسنته ، فمن ذلك ما رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث المقدام الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ t أن النبي e قال : (4604 أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ) .
وفي رواية أخرى عند الترمذي وصححها الشيخ الألباني : (2664 أَلا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ) .
وقد روى عند البخاري ومسلم من حديث علقمة عن ابن مسعود t أنه قال : ( لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ : مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ ، قال الله عز وجل :
( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ) (الحشر:7) فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الْآنَ ، قَالَ : اذْهَبِي فَانْظُرِي ، قَالَ : فَدَخَلَتْ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ شَيْئًا ، فَقَالَ : أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نُجَامِعْهَا ) .
ومعنى لم نجامعها ، قال جماهير العلماء : معناه لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفارقها ، وقيل : يحتمل أن معناه لم أطأها ، وهذا ضعيف كما ذكره النووي ، والصحيح أن من عنده امرأة مرتكبة معصية كوصل الشعر أو ترك الصلاة أو غيرهما ينبغي له أن يطلقها .
وكلام عبد الله بن مسعود واضح في التزامة بالسنة قولا وعملا ، كالتزامه بمقتضى أحكام القرآن ، وروى أبو داود عن عمران بن حصين t أنه كان جالسا مع أصحابه ، فقال له رجل من القوم : ( يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن ، فغضب عمران وقال للرجل : أوجدتم في كل أربعين درهما درهم ، ومن كل كذا وكذا شاة شاة ، ومن كل كذا وكذا بعيرا كذا وكذا ، أوجدتم هذا في القرآن ؟ قال : لا ، قال : فعمن أخذتم هذا ؟ أخذتموه عنا ، وأخذناه عن نبي الله e وذكر أشياء نحو هذا ) .
فولا عبرة بمذهب الشيعة والخوارج في رد بعض ما ورد في السنة لأن لهم مواقف خاصة في كثير من الصحابة ، وهم رواة الحديث عن رسول الله e ، قال السيوطى في رد الشيعة لكلام النبي e : ( وأصل هذا الرأي الفاسد في عدم الاحتجاج بالسنة أن الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ، ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن ، وهم في ذلك مختلفوا المقاصد ، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى وأن جبريل أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ومنهم من أقر للنبي e بالنبوة ولكن قال : إن الخلافة كانت حقا لعلى ، فلما عدل به الصحابة عنه إلى أبى بكر y أجمعين .. كفروا الصحابة وبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها ، لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار ) .
ولا عبرة أيضا ببعض آراء المعتزلة والمتكلمين الداعية إلى عدم الاحتجاج بالسنة في الآحاد ، أو المتواتر من الروايات بحجة مخالفتها لآرائهم الكلامية كقول أبى الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة : ( إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم السلام وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفسا ، فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ) ، ويذكر عبد القادر البغدادي أن كلام العلاف تعطيل للأخبار الواردة في الأحكام الشرعية عن فوائدها وتهكم واحتقار لما خالف ذلك من روايات السنة واستهزاء بناقليها .
فينبغي قبول خبر الواحد كالمتواتر ، فلم يختلف أحد من الأمم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسولا ، رسولا واحدا إلى كل مملكة يدعوهم إلى الإسلام ، واحدا واحدا إلى كل مدينة ، وإلى كل قبيلة كصنعاء وحضرموت ونجران ، وتيماء والبحرين وعمان ، وغيرها من البلدان ، يعلمهم أحكام الدين كلها وافترض على كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم ، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود ، وجوب القول بخبر الواحد في العقيدة وسائر الأحكام .
ومن البرهان على قبول خبر الواحد قوله تعالى عن موسى عليه السلام لما قال له رجل : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (القصص:20) ، فصدقه وخرج فارا ، وكذلك تصديقه المرأة في قولها الذي ذكره القرآن : ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (القصص:25) فمضى معها وصدقها .
وجمهور العلماء على أن خبر الواحد العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا ، فلا عبرة بقول المعتزلة والخوارج : إن خبر الواحد لا يوجب علينا علما ولا عملا .
ويجدر التنبه إلى حال بعض المعاصرين ، أو الدارسين على أيدي المستشرقين في هجومهم على سنة خاتم النبيين ونفي حجيتها ، والدعوة إلى الأخذ بالقرآن فقط ، أو محاولاتهم المتكررة لتقييم السنة لا على قواعد علم الحديث ولكن على استحسان أحدهم أو ادعاءاته أن العلوم العصرية تعارض مدلول الأحاديث أو غير ذلك من الأسباب .
وينبغي أن يعلم أنه ليس في صحيح الإمام البخاري حديث واحد يخالف ما جاء في القرآن أو صحيح المنقول ، وقد تلقته سائر الأمة من وقت البخاري إلى الآن بالرضى والقبول ، حتى العامة لو أخطأ أحدهم في شيء فإنه يقول : ( ما أخطأنا في البخاري ) ولو سألته : من البخاري ؟ قال : لا أعرف ، فانظر ماذا يقول الدكتور مصطفي محمود ، انظر إلى المحسوب على علماء الإسلام ، الذي ينفي الشفاعة عن صاحب الحوض والمقام ، وهو يقول في جريدة الأهرام : ( وما يقوله البخاري مناقض للقرآن لا يلزمنا في شيء ويسأل عنه البخاري ولا نسأل نحن فيه ، ولم يكن البخاري رضي الله عنه وأرضاه هو الوحيد الذي خاض في موضوع السيرة النبوية ، لكن كتاب السير كثيرون وقد تناقضوا واختلفوا بين بعضهم البعض ، وامتلأت كتب السير بالموضوع والمدسوس من الأحاديث والعجيب والمنكر من الإسرائيليات ) ، لم يميز العالم المتبحر صاحب برنامج العلم والإيمان بين كتب السيرة وكتب الحديث ؟ قال ابن القيم رحمه الله :
( والذي يشهد الله ورسوله به أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله S تناقض كتاب الله وتخالفه البتة ، كيف ورسول الله S هو المبين لكتاب الله وعليه أنزل ، وبه هداه الله وهو مأمور باتباعه ، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده ولو ساغ رد سنن رسول الله S لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية ، فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها ، ويقول هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل ، حتى إن الخوارج ردت من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن ، وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن ) .
ثم عيب علي من يدعو الناس على شاشات التلفاز إلى العلم والإيمان عيب عليه أن يطعن في تدوين السنة وألا يعلم أن الرسول لما نهى عند تدوين السنة في عصره كان ذلك للحفاظ على القرآن وعدم اختلاط المكتوب من كلام الله بالمكتوب من كلام رسول الله S ، كما أن الصحابة كانوا يحفظون السنة ويتناقلوها فيما بينهم لا يفرقون بين العمل بمقتضى القرآن أو السنة ، ثم لما مات أكثرهم انكب التابعون وتابعوهم على جمع كلام الرسول خشية ذهابه .
والعجيب في الدكتور مصطفي محمود - الذي أنكر الشفاعة لصاحب المقام المحمود - أنه يقول بتجرئه المعهود :
( والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف ، وقال في كتابه المحكم : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (الحجر:9) ، ولم يقل لنا رب العالمين أنه حفظ كتاب البخاري أو غيره من كتب السيرة ) .
فهو يسير خلف المستشرقين وغيرهم من المنكرين والمشككين في قواعد الدين بحسن النية طبعا ، فالقول بالاكتفاء بالقرآن فقط ورد السنة بأسرها ، قول باطل بالضرورة العقلية لأنه هدم للدين وقواعده الأساسية ، وبرهان ذلك أن الله أمر في القرآن بالصلاة والزكاة في مواضع كثيرة منها : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحرُومِ ) (المعارج:25:19) .
ومعلوم أنه لم يرد في القرآن تفصيل لكيفية الصلاة وأعدادها المقبولة عند الله ، أو المقدار المحدد لفرضية الزكاة ، سواء زكاة المال أو الزروع أو عروض التجارة ، فلا بد من الأخذ بالسنة لبيان الأحكام وهذه المسألة لا يقدر أحد على النزاع فيها ، والسؤال الآن الذي يتوجه لهؤلاء : على أي ضابط أو قاعدة نعرف الصحيح من صحيح البخاري ونحكم على الضعيف كما حكمت ؟ هل عقل الدكتور مصطفي محمود هو الفاصل أو عقل الدكتور مشتهرى الذي شكك في قواعد السنة أيضا على صفحات مجلة الجيل ؟ أو ما يراه غيرهما وأمثالهما ؟
فليحاول واحد من هؤلاء أن يضع الضوابط المنطقية والقواعد الأساسية لفرز السنة دون أن يرجع في حديث واحد إلى علماء الحديث ، فهؤلاء كما ذكروا كتاب سير ولا عبرة بقواعدهم عندهم ، فنقول لمصطفي محمود : جرب أنت وغيرك ممن هو على منهجك فإن اتفقتم على الأحاديث التي يجب أن تدين بها الأمة فنحن وجميع العقلاء معكم ؟
أو اكتبوا لنا سنة جديدة نفهم بها القرآن بدلا من سنة الحبيب محمد ، وتذكروا بعد ذلك أنكم ستدعون الناس إلى سنتكم لا سنة محمد S ، وهل تبقى الأحكام معطلة حتى يمن علينا أمثال هؤلاء فيبينوا لنا أحكام القرآن ، إن السنة بفضل الله بينت ودونت ونقحت وانتشرت على يد الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وغيره من علماء الحديث بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، قاله أبو طالب المكي : ( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخير .. وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام لأن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلوا شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقلوه وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات فالكذب مردود القول في كل ما جاءوا به ) .
على العموم نواصل الحديث بإذن الله تعالى في المحاضرة القادمة ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني