المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للشيخ الرضواني : كيف نفهم العقيدة ؟ المحاضرة الثانية



أهــل الحـديث
22-12-2011, 01:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




كيف نفهم العقيدة ؟



كيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟



المحاضرة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء/1) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (الحشر/18) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) (آل عمران/102) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ..
فموضوعنا اليوم يدور حول المنهج السليم لفهم عقيدة أهل السنة والجماعة : كيف نفهم العقيدة ؟ وكيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟ وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أن فهم سلف الأمة مرتبط بعدة قواعد تبين المقصود من دعوة السلف الصالح إلى الالتزام بالقرآن والسنة على فهم سلف الأمة ، وقد تحدثنا عن القاعدة الأولى وبينا أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام ، ولا يقبل الله دينا سواه وأن القرآن الذي نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ناسخ لما سبق من الرسالات السماوية ومهيمن عليها وأن جملة الرسالة التي نزلت من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تمثلت في القرآن وما ثبت في السنة المطهرة ، وقد تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي وعلى أشكاله المختلفة كما بينا أن الاحتجاج بالسنة النبوية عند السلف كالاحتجاج بالآيات القرآنية سواء بسواء ، ولا خلاف في ذلك بين جمهور العلماء ، وأن السنة هي المصدر الثاني لمعرفة أصول الإسلام ، بعد القرآن الكريم الذي هو خير الكلام ، وقد وقفنا عند الرد على الدكتور مصطفي محمود الذي أنكر الشفاعة لصاحب المقام المحمود في قوله : ( والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف ، وقال في كتابه المحكم : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، ولم يقل لنا رب العالمين أنه حفظ كتاب البخاري أو غيره من كتب السيرة ) واليوم نستكمل الحديث فنقول لفضيلة الدكتور : حفظ دين الإسلام ليس في حفظ القرآن فقط كما أكدت في كلامك بل هو قائم على أمرين لازمين تكفل الله بهما :
الأمر الأول : حفظ دستور الإسلام على الدوام من جهتين ، الجهة الأولى حفظ القرآن بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته ، كنظم معجز يتحدى العالم أجمع ، والجهة الثانية حفظ السنة التي تميزت فيها الأمة الإسلامية عن غيرها في براعة نادرة بالأسانيد ووضع قواعدها التي تميز بين المقبول والمردود أو الصحيح والضعيف مما نسب إلى رسول الله S ، وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث ، والذي ظهر من مقالة سيادة الدكتور مدى ضعفه الشديد وبضاعته المزجاة في هذا العلم ، قال العلامة ابن مِندَه في كتابه فضل الأخبار وشرح مذهب أهل الآثار 2:29 عن فضل علماء الحديث الذين حفظوا بالأسانيد سنة النبي S : ( هم أئمة الدين وحفاظه .. وإليهم انتهى علم الأسانيد وبهم تلزم الحجة على من خالفهم ، ويقبل انفرادهم ، إذ كانوا المقدمين في عصرهم لمعرفتهم بما جاء عن الرسول ثم عن الصحابة من بعده وعن التابعين ومن بعدهم بإحسان رضي الله عنهم ) ويقول ابن حزم في الإحكام 1:95 : ( قال تعالى : ( إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) (الأنبياء:45) ، فأخبر تعالى أن كلام نبيه Sكله وحي ، والوحي بلا خوف ذكر ، والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه Sكله محفوظ بحفظ الله عز وجل ، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء ، إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء ، فهو منقول إلينا كله ) .
ونحن لو أغفلنا السنة في الاحتجاج وطعنا في قواعدها وعلومها كما يدعو فضيلة الدكتور مصطفي محمود وكما فعل أهل التشيع والخوارج وأهل الضلال من الاعتزال ، فإن الأحكام التي نستخلصها بمفردنا من القرآن دون ضوابط ستختلف من فرد إلى آخر ، وستصبح الأحكام فوضى ، كل يرى برأيه ما يحلوا له ، وكل منهم ينزع الآية من كتاب الله ليضعها على ما يوافق هواه ، كالذي يدعو إلى أن يكون الوقوف بعرفة في سائر أيام الأشهر الحرم بدلا من يوم التاسع من ذي الحجة فقط ، وآخر يريد فقها جديدا لا يرجم فيه الزاني ولا يقتل فيه المرتد ، وغير ذلك من دعاة التشويش على سنة المصطفي S، فكان لا بد لحفظ دين الإسلام من حفظ السنة وتحديد قواعدها بمنهج شامل متكامل ، وهذا بحمد الله ، منة من الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد خصها الله بأعظم علم قام به العلماء في التاريخ ، وهو ضبط السند والنقل عن الآخرين ، وهو المعروف بعلم مصطلح الحديث .
الأمر الثاني : أن الله حفظ دين الإسلام واقعا مرئيا بوجود من يطبقه على نفسه من المؤمنين ، وهؤلاء هم حجة الله على غيرهم من المنحرفين ، فقد يدعى أحدهم أن القرآن منهج مثالي لا يصلح في هذا الزمان ، أو يمكن أن يطبق في مكان دون مكان ، فقال رسول الله S فيما أخرجه مسلم عن ثوبان ، في وجود طائفة تلتزم أحكام القرآن ، في واقعية مستمرة إلى آخر الزمان ، حتى ولو كانوا قلة بين بنى الإنسان : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) (1920) .
القاعدة الرابعة : التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح ، هي التسليم بأن الطريق الوحيد في ثبوت السنة هو الالتزام بقواعد المحدثين في معرفتها ، فإذا كانت الآيات القرآنية لا تؤخذ بمعزل عن السنة وفصل أحدهما عن الآخر لا يقبل في دين الإسلام ، فإن من أعظم الأسس في الاعتماد على السنة أن نسلم بأن الطريق الوحيد في ثبوتها هو الالتزام بقواعد المحدثين في معرفتها ، وهو ما عرف عند المسلمين بعلم الحديث ، أو العلم بالأصول التي يعرف بها أحوال السند والمتن ، من حيث القبول والرد ، وذلك فيما نقل من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، وروايتها وضبطها وتحريرها وإسناد ذلك إلي من نسب إليه بتحديث أو إخبار أو عنعنة أو غير ذلك .
فليس كل ما نسب إلى النبي e يقبل بلا ضبط أو نقاش ، فلا بد من الترابط العلمي المتصل بين رواة السند بحيث يتلقى اللاحق من الرواة عن السابق ، فلا يكون بين اثنين من رواة الحديث فجوة زمنية أو مسافة مكانية يتعذر معها اللقاء أو يستحيل معها التلقي والأداء ، كما يلزم اتصاف الرواة بالعدالة وهى صفة خلقية تكتسبها النفس الإنسانية ، وتحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ، ومجانبة الفسوق والابتداع ، ولا بد أن يتصف الراوي أيضا بالتتَثَبُّت من الحفظ ، والسلامة من الخطأ ، وانعدام الوهم مع القدرة على استحضار ما حفظه ، وهذا شرط في جميع رواة الحديث الصحيح من أول السند إلى آخره ، يضاف ذلك إلى عدم مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه ، ولا يكون أيضا في روايته علة قادحة ظاهرة تؤدى إلى عدم ثبوت الحديث .
أما الحكم على ثبوت الحديث بالأصول الكلامية أو المناهج الفلسفة ، أو الأفكار العقلية أو الكشوفات الذوقية ، فلا يعد رجوعا إلى قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ، لأن الآراء العقلية متعددة ، والأذواق مختلفة ومتغيرة ، ولا يمكن ضبط هذه الأشياء ، فالحكم على أحاديث الرسول في هذه الحالة ، يحكمه الهوى ويسوقه استحسان النفس ، ومن ثم لا عبرة بقول ابن عربي : ( ربما صح عندنا من أحاديث الأحكام ما اتفق المحدثون على ضعفه وتجريح نقلته ، وقد أخذناه عن الكشف عن قائله صحيحا ، فنتعبد به أنفسنا على غير ما تقرر عند علماء الأصول ، ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه وليس بصحيح عندنا بطريقة الكشف فنترك العمل به ) .
ومعنى هذا أن الصوفية لهم حكمهم الخاص على إسناد الحديث ، فعن طريق الكشف يتصلون رأساً بالنبي eويصححون الحديث أو يضعفونه !! وبهذا الهجوم على قواعد علم الحديث تنهدم السنة ، وتبقى ألعوبة في يد هؤلاء الذين يحكمون عليها بما شاءوا ، وليس من ضابط نرجع إليه ، ولا فيصل نحتكم إليه ، ما دام أن هذا الكشف علم غيبي ، وقد يكون كشف هذا الصوفي غير كشف ذاك .
ومثل ذلك أيضا يهدم به الشعراني فهم سلف الأمة فيقول : ( قد رأينا في كلام علماء الرسوم تكفير الأولياء المحدثين لكونهم يصححون الأحاديث التي قال الحفاظ بضعفها ، وهذا عدم إنصاف منهم ) ، ويرى الشعراني أن أقل الأحوال أن ينزلوا الأولياء المكاشفين منزلة أهل الكتاب لا يصدقونهم ولا يكذبونهم .
القاعدة الخامسة : التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح : أن الدين قد كمل وتم ، فلا يحتاج إلى زيادة أو نقصان ، وإنما إلى شرح وبيان ، ودعوة ببرهان ، والقرون الأولى فيها أفضل الناس ، وأولاهم بالمتابعة ، ومن خالفهم فهو المرجوح المفضول ، فالبدعة اتهام لدين الله بالنقص ، لأنه إن ادعى صاحبها أنها واجبة أو مستحبة ، ولا يكون الدين صحيحا أو كاملا إلا بها ، يرد عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ستر شيئا مما أمر الله به المسلمين في أمر دينهم ، ولم يدع إلى هذه البدعة ، ولما قال الله تعالى :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) (المائدة/3) ، علمنا أنه إما أن يكون الله تعالى الصادق في إكمال دينه ، أو أن المبتدع هو الصادق في نقصانه ؟ ولما استحال الثاني ثبت الأول ، ولو سُأل المبتدع عن بدعته ، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها ؟ فإن ادعى علم الرسول بها ، فسيقال له : وما الدليل ؟ وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم علمها ، فإنه لم يثبت أنه دعي إليها ، بل سكت عنها ، فنحن أولى بالسكوت عنها ، وإذا قال : جهلها ادعى أنه أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينفع الناس .
ولا ينفع المبتدع في ترك السنة والتمسك بالبدعة حسن النية ، فقد ثبت أن رسول الله أنكر على المتشددين في العبادة ، فعند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
وعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) وعند مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة ، بين ظهري خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا ) .
ومن هنا فإن البدعة مرفوضة بكل سبيل ، ولا نسمى المغالين في العبادة أولياء مهما بالغوا وفعلوا ، مثلما حكى عن رويم بن أحمد البغدادي الصوفي (ت:303هـ) أنه عطش عطشا شديدا فاستسقى جارية ، فقالت : ( ويحك صوفي يشرب بالنهار فاستحى منها ونذر ألا يفطر أبدا ) ، ولا عبرة بالبدعة الكفرية تحت حسن النية والتي يراها بعض المعاصرين قمة إيمانية ، هذه البدعة يدعو فيها ابن عربي إلى ترك الذكر بحجة انعدام النسيان والاستحضار الدائم لله في القلب ، فقال : دع الذكر والتسبيح إن كنت عاشقا : فليس يديم الذكر إلا المنافق - إذا كان من تهواه في القلب حاضرا : وأنت تديم الذكر كنت منافقا – ويقول أيضا : ألا بذكر اللَّه تزداد الذنوب : وتنعكس البصائر والقلوب - وترك الذكر أفضل كل شيء : فشمس الذات ليس لها غروب .
فالله جل وعلا أمرنا في كتابه الكريم باتباع النبي الصادق الأمين ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم ، وذلك بقوله سبحانه : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر/7) وقال تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) (آل عمران/31) ، والآيات التي تحثنا على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا ، فالواجب على المسلمين أن يتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يبتدعوا في دين الله ما ليس منه ، ولا شك أن الإنسان المسلم إن اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وسار على نهجهم كان من الفائزين ، وإن خالفهم وابتعد عن طريقهم كان من الخاسرين .
وعند مسلم عن جابر رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : صَبَّحَكُم ومسَّاكم ، ويقول: بُعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين أصبعيه ، السبابة والوسطي ، ويقول : أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .
القاعدة السادسة التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح : عدم المساس بأصل الإسلام وهو التوحيد ، والمقصود به إفراد الله عمن سواه ، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية جاءت في جملتها وتفصيلها بالدعوة إلى توحيد الله ، سواء كان ذلك في توحيد الربوبية وإفراده بالخلق والأمر ، كما قال : } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالمِينَ { (الأعراف/54) ، أو كان في توحيد العبادة ، كما قال : } وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ { (البينة/5) ، فلا ينبغي الخضوع عن محبة ورغبة لأحد إلا لله وحده ، فلا شريك له في العبادة .
والدعوة إلى توحيد الله أيضا يكون في الإيمان بما أثبته اللَّه لنفسه من أنواع الكمالات في الأسماء والصفات ، فلا بد من إفراد اللَّه سبحانه وتعالى بذاته وصفاته وأفعاله ، عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم ، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { ، فبين سبحانه انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال والجلال ، وقال تعالى في أول سورة الإخلاص : } قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ { (الإخلاص/1) ، وقال في نهايتها مبينا معنى الأحدية : } وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ { (الإخلاص/4) ، أي أن الأحد هو المنفرد بأوصاف الكمال ، الذي لا مثيل له فنحكم علي كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسرى عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عما يحكم العبيد .
وقال تعالى : } هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا { (مريم/65) ، أي هل تعلم له شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه ، أو يرقى إلى سمو ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى ذلك فلا يمكن بحال من الأحوال ، أن نخضع أوصاف اللَّه لما يحكم أوصاف البشر من قوانين أو نجعل أوصاف البشر تشبه أوصاف الله عز وجل ، تحت أي ادعاء أو فكر أو ذوق أو كشف ، فالذين وحدوا ربهم اعتمدوا على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة في إثبات توحيدهم ، واعتبروا أن ما ورد في وصف الله ينفرد به ولا يشاركه غيره ، أما التوحيد الذي يجوز فيه صاحبه كفر فرعون وإبليس في عصيانهما الأمر الإلهي ، بل يرى صاحبه أن فيهما مثالا للفتوة الحقة ، فإبليس لما عصى الله بامتناعه من السجود لآدم ، إنما عصى الأمر لأنه أبى أن يسجد إلا لله ، فهو عنده من الموحدين ، الذين يتحملون نار جنهم ويسعدون بالبقاء فيها من أجل حبهم لربهم فإبليس في نظر الحسين بن منصور الحلاج كان مجيبا لله لا عاصيا ، وكان إبليس مقدسا لأمر الله معظما للآمر .
يقول الحلاج : ( فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون ، فإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه ، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يدأي ورجلأي ما رجعت عن دعواي ) ، وثبت عنه أنه قال أيضا : أنا من أهوى ومن أهوى أنا : نحن روحان حللنا بدنا - فإذا أبصرتني أبصرته : وإذا أبصرته أبصرتنا .
وقريب من فعل الحلاج ، ما يروى عن بعض الصوفية كأبي الحسين النورى في تفضيله نباح الكلب على تكبير المؤذن ، فلما سمع المؤذن دعا عليه قائلا : اللعنة عليك الموت ، ولما سمع نباح الكلاب فقال : لبيك وسعديك ، وسئل عن ذلك فقال : أما المؤذن فأنا أغار عليه أن يذكر الله ، وهو غافل يأخذ عليه الأجرة ولولا الأجرة من حطام الدنيا لما ذكر الله ، فلذلك قلت له : طعنة الموت ، وقد قال الله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (الإسراء/44) فالكلب وكل شيء يذكرون الله بلا رياء ولا سمعة ولا طلب للعوض .
وفي هذا الكلام وأمثاله ، هدم لمعاني الكتاب والسنة ، واستهزاء بتوحيد الله فالمخلوقات تسبح بالاستجابة الأولى لأمر الله ، فقد اختارت في بداية الأمر قبول الطاعة الدائمة ، كما قال تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (فصلت/11) .
أما الإنسان فهو حامل الأمانة ، مستخلف في الأرض ، مريد حر مكلف باتباع الشرع على سبيل الابتلاء ، فلا بد من السعي والمجاهدة وتنفيذ ما أمر الله به في القرآن والسنة ، وتصديق ما جاء فيها من أخبار عن الله وأوصافه وأفعاله وسائر ما ورد عن عالم الغيب ، أما خلط المسائل والتلبيس في أصول التوحيد ، فلا يجتمع أبدا مع الاعتماد على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة ، فابن عربي الصوفي يجعل تنزيه الله جهلا وسوء أدب ، يقول : ( اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي ، عين التحديد والتقييد ، فالمنزة إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ) ، ويرى في تلبيسه أن توحيد أهل الحقائق من الصوفية أن يكون تشبيها تارة ، وتنزيها تارة أخرى فقال : فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا : وإن قلت بالتشبيه كنت محددا - وإن قلت بالأمرين كنت مسددا : وكنت إماما في المعارف سيدا .
أسأل الله تبارك وتعالي أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني