المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للشيخ الرضواني : كيف نفهم العقيدة ؟ المحاضرة الثالثة



أهــل الحـديث
22-12-2011, 01:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




كيف نفهم العقيدة ؟



كيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟



المحاضرة الثالثة

الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا ، ونصب لنا الدلالة على صحته برهانا مبينا ، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقا يقينا ، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجرا عظيما ، وفرض علينا الانقياد لأحكامه والتمسك بدعائمه وأركانه ، فبه اهتدى المهتدون ، وإليه دعا الأنبياء والمرسلون ، ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون َ) (آل عمران:83) ، من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ، فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ضد له ولا ند له ، ولا صاحبة له ولا ولد له ، ولا شبيه له ولا كفؤ له ، تعالى عن بهتان المبطلين وإفك الكاذبين ، وتقدس عن شرك المشركين وأباطيل الملحدين ، ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (المؤمنون:92) .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه ، وخيرته من بريته ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، ابتعثه بخير ملة ، وأحسن شرعة ، وأظهر دلالة ، وأوضح حجة ، وأبين برهان ، أرسله إلى جميع العالمين بأنسهم وجنهم ، وعربهم وعجمهم ، وحاضرهم وباديهم ، الذي بشرت به الكتب السالفة ، وأخبرت به الرسل الماضية ، وجرى ذكره في الأعصار ، في القرى والأمصار والأمم الخالية ، أما بعد .
فموضوعنا اليوم نستكمل فيه عرض المنهج السليم لفهم عقيدة أهل السنة والجماعة ، كيف نفهم العقيدة ؟ وكيف نعتمد على قرآن وسنة بفهم سلف الأمة ؟ وقد وقفنا في المحاضرة الماضية عند القاعدة السادسة التي بينا فيها أنه لا يجوز المساس بالتوحيد الذي هو أصل الإسلام ، والمقصود بالتوحيد إفراد الله عمن سواه ، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية جاءت في جملتها وتفصيلها بالدعوة إلى توحيد الله .
أما القاعدة السابعة التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح : أنه يجب الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة الثابتة بكل ما فيهما لمعرفة الدليل على الموضوع الواحد ، وذلك لكي يكون المنهج منهجا صحيحا نابعا من القرآن والسنة بالفعل ، فالقرآن هو كلام الله تعالى إلى عباده ، الذي يمثل نورا لكل العباد ، وعباد الله متعددين في النوعية ومختلفين في العقلية ، يختلفون ويتنوعون زمانا ومكانا ، كما أن القرآن يتحدث عن كثير من الحقائق ويعرض كثيرا من الموضوعات ، لكنها ليست في خطة دراسية مكونة من أبواب وفصول ، أو مباحث جزئية أو مطالب بحثية كمباحث الماجستير والدكتوراه ، فليس فيه باب مستقل عن الصلاة ، أو فصل مختص بالزكاة ، أو غير ذلك من أحكام الله ، ولكن الموضوع الواحد قد يكون مطروحا في سور القرآن التي تضم آلاف الآيات والجمل والكلمات ، والله عز وجل ترك الاجتهاد مفتوحا لجمع المعلومات ، والنظر في الأدلة لموضوع من الموضوعات وذلك حتى يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات ، فالقرآن نور لمن نور الله بصيرته في النظر إلى الآيات ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (الشورى/52) .
فلا بد لكل مسلم أن يعلم أن القرآن يفسر بعضه بعضا ، فما أجمله في موضع أفاض فيه في موضع آخر ، فينبغي علينا حتى نتعرف على دليل من القرآن والسنة لحقيقة غيبية أو مشهودة واقعية ، أو أي موضوع من الموضوعات ، ينبغي علينا أن ننظر في جميع الآيات ، وما ثبت في السنة من الأخبار والمرويات .
وأن تكون نظرتنا للقرأن والسنة نظرة شاملة ، حتى نخرج بالحقيقة صحيحة كاملة ، ولو اقتصر الأمر على بعض الآيات دون بعض ، فسوف نصل إلى حقيقة مشوهة ناقصة ، وأدلة خاوية مفلسة ، أو سنصل إلى بعض جزء من الحقيقة في القرآن دون الأخر .
فمثلا في قوله تعالى : } فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّينَ { (الماعون/4) ، إذا وقفت عندها يصبح معناها وعيدا للمصلين ، وحجة للمفسدين ، ولو وصلتها بما بعدها ، لبان لك مراد رب العالمين ، حيث يقول تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّينَ الذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ ) (الماعون/7:4) .
فالأمر الذي وقع فيه كثير من طوائف المسلمين وفرقهم ، هو عدم أخذهم للأدلة كلها كوحدة واحدة ، في الموضوع الواحد ، وقد فعل ذلك علماء بنى إسرائيل وأحبارهم ، فعلوا ذلك في كتابهم ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، فبدلوا وغيروا وحرفوا ، تحريفا لفظيا أو تحريفا معنويا ، يقوم على إخفاء بعض الحقائق وإلغائها ، أو التغاضي عنها وتكذيبها ، أو كفر الأحكام بتغطيتها ، يقول سبحانه وتعالى عن علماء بنى إسرائيل : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (البقرة:84/85) .
فإذا كان بنو إسرائيل قد آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وسوء نية وسوء قصد ، فإن كثيرا من المتصوفة والمتكلمين أتباع الجهمية ، قد شابهوا اليهود في فعلهم ، فأخذوا ببعض ما ورد في كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وتركوا البعض ، سواء عن قصد أو غير قصد ، تركوا النظرة الشاملة الكاملة للقرآن والسنة ، فجاء اعتقادهم مشوها قاصرا ، مضطربا مختلفا باطلا .
ومثال ذلك أن بعض الصوفية بدلوا مجال الاختيار الذي ورد في الإسلام ، من اختيار بين الدنيا والآخرة أو بين الجنة والنار إلى اختيار بين الله وبين سائر المخلوقات في الدنيا والآخرة ، كما روى عن رابعة العدوية من نساء الصوفية أنها قالت : ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن حبا لذاتك ) ، فقد جعلت حب الذات ، ذات الله خيارا مطروحا في مقابل الدنيا والآخرة ، ومن ثم صرح أغلب الصوفية بأن العبد ينبغي أن يعبد الله دون انتظار للثواب أو خوف من العقاب ، بل يعبد الله حبا لذاته ، فأدى ذلك إلى أن وصلوا إلى درجة يحتقرون فيها من عبد الله انتظار لثوابه وخوفا من عقابه ، وقد وصفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار البديل ، بل غالى بعضهم فوصف هذا الفريق بأنهم عبيد السوء الذين لا يوقرون الله عز وجل لذاته ولكن لما يصلهم من نفع أو نعمة ، حتى قال أبو بكر الشبلى : ( إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) ، وقال أيضا : ( لو خطر ببالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعره لكنت مشركا ) .
ولما رجعوا إلى القرآن ، لم يرجعوا إلى القرآن الكريم كله بالتكامل مع السنة لكي يكون المنهج صحيحا والموضوع نابعا من القرآن بالفعل ، ولكنهم استدلوا ببعض وتركوا دلالة البعض الآخر معطلة ، فاستدل الكلاباذى بجزء من قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) التوبة/111 وقال معقبا : ليعبدوه بالرق لا بالطمع ، أو استدلال الآخر بقوله : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) (الإنسان/9) وقطع الآيات عن نهايتها التي لو استكملت لتغير المعنى تماما ، فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض وهو الجنة ، وعمل المؤمنين كان سببا للوصول إلى هذه الجنة وإن كان لا يزنها ، ولكن هذا لا يمنع المؤمن أن يطمع في فضل الله ورحمته فقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) (التوبة/111) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمْ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (الإنسان/12:9) .
وإذا أخذت نصوص القرآن والسنة مجتمعة ، فسوف نجد الثناء على عباد الله وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها ، والاستعاذة من النار وعذابها ، كقوله تعالى : } إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ { (الأنبياء/90) . وقال سبحانه : ] وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) (الفرقان/66:65) .
وفي الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه e قال لرجل : ( ما تقول في الصلاة ؟ فقال : أتشهد ثم أقول : اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ، أنا والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال e : حولها ندندن ) .
فالعبادة الحقة عند الصوفية هي ما كانت دون طلب العوض من الله ، وأن التطلع إلى الجنة عندهم معصية ، وطلبها نقص في حق العابد ، وري عن رابعة العدوية فقال : ( دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى ، فقالوا : ما حالك ؟ قالت : والله ما أعرف لعلتي سبباً ، غير أني عرضت على الجنة (هكذا) فملت بقلبي إليها ، فأحسب أن مولاي غار علي ، فعاتبني فله العتبى ، ومعنى هذا أن مجرد ميل القلب إلى الجنة يعتبره المتصوفة ذنباً يعاقبون عليه ، ففي سبيل هذه العقيدة حولوا معاني الآيات والأحاديث إلى ما يريدون إثباته ، فقوله تعالى :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) استدلوا بهذا المقطع من الآية فقط ، وقطعوا الآية عن نهايتها التي ترد قولهم وهي قوله تعالى : ( بأن لهم الجنة ) فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض وهو الجنة ، وعمل المؤمنين كان سببا للوصول إلى هذه الجنة وإن كان غير مكافئ لها ، ولكن لا يمنع هذا المؤمن أن يطمع في فضل الله ورحمته ودخول جنته ، وأن يسعى إلى ذلك ، بل هذا هو التعبد الصحيح .
القاعدة الثامنة التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح : أنه لا يجوز تفسير القرآن إلا بدليل لا بمجرد الرأي والهوى ، فمن المعلوم أن الله تعالى خاطب عباده بما يفهمونه ، ولذلك أرسل الرسل بلسان قومهم ، وأنزل للصحابة كتابه بلغتهم ، فالقرآن إنما أنزل بلسانهم ، ونزل على قلوبهم وأدمغتهم ، فشغلهم وأثار انتباههم ، وقلب أذهانهم منذ اللحظة الأولى لسماعه من نبيهم ، فدعاهم إلى الالتفات إلي ما جاء به من حسن التعبير والبيان ، وحارت عقولهم لما جمع من ألفاظ حسان ، فوجدنا كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى بعض الألفاظ ليفهم بها خطاب الله عز وجل ، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : ( لما نزلت : ( الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلمٍ ) (الأنعام/82) قلنا : يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ، ( َلَمْ يَلبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلمٍ ) بشرك ، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان/13) .
ففسر النبي e الظلم بالشرك من خلال تفسير القرآن بالقرآن وشرح آية لأخرى ، وكما روى البخاري أيضا عن أبى هريرة t أن رسول الله e قال : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرؤوا إن شئتم : } فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا {) .
غير أن الصحابة y كانوا يعلمون من خطاب الله ظواهر القرآن وأحكامه ، أما وأعماقه وأغواره ودقائق بيانه ، فكانت تظهر لهم بعد البحث والسؤال والاستبيان ، وكان هذا حالهم مع القرآن في أغلب الأحيان ، ولذلك لم ينقل إلينا عنهم تفسيرُ القرآن بجملته ، أو تأويل كامل لمعانيه وحكمته ، لأن إيمانهم العميق بالنبي ودعوته ، جعلهم على استعداد تام للتصديق بكل خبر ورد عن الله ، وعلى استعداد تام للانقياد والاستسلام لأمر الله ، وليس كما صورهم بعض المستشرق ، من النصارى الحاقدين ، كالمسمى جولد تسيهر ، أن أفهام الصحابة كانت في طور النمو والاكتمال ، لأن الإسلام بعد موت النبي كان طفلا يافعا ، ولم يكن كاملا ناضجا ، نقول لهؤلاء إن الصحابة كانوا أكملَ من غيرهم فهما ، وأكثرَ من غيرها علما ، وأفضلَ الناس عملا ، والله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قبل موته : ( اليَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) (المائدة/3) .
وقد دلت الآية على اكتمال الدين وتمام النعمة ، وأي تشكيك في ذلك يكشف سوء النية ، ويكشف دعاوى الحقد والجهل ، لقد كان الصحابة y يتبعون ولا يبتدعون ، ينظرون ويدققون ، وكانوا يقولون ما يفعلون ، لكنهم كانوا يسألون ، إذا غاب عنهم معنى آية في كتاب الله ، أو جهلوا حكما ذكره رسول الله ، ولذلك روى عن أبى بكر الصديق أنه سئل عن قوله تعالى :( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (عبس/31) فقال : ( أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ) ، وعند الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (عبس/31:27) قال : فكل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم نقض عصا كانت في يده ، رماها وقال : هذا لعَمرُ الله التكلف ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب .
القاعدة التاسعة : التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح ، أن التعرف على مراد الله من خطابه يكون أولا بالاعتماد على تفسير القرآن بالقرآن ، ثم تفسير القرآن بالسنة ثم بما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم ثم بقواعد اللغة ، فقد أجمع علماء التفسير على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها ، تفسير القرآن بالقرآن ، فلا أحد أعلم بكلام الله من الله عز وجل ، ولا يصح العدول عن هذا التفسير إلى غيره من الاجتهادات ، بعد ظهور مراد الله من الآيات ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (البقرة/229) ، فإن الظاهر المتبادر من الطلقتين ، أن الطلاق كله محصور في المرتين ، ولكنه تعالى بين أن المراد بالمحصور في المرتين هو الطلاق الرجعى ، أما الطلقة الثالثة فهي طلقة بائنة ، يقول تعالى : ( فَإِنْ طَلقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) (البقرة/230) .
ومن ذلك أيضا ما جاء مجملا في موضع من القرآن ، وجاء بيانه في موضع آخر ، كقوله تعالى : } أُحِلتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) (المائدة:1) ، فقد جاء تفسير قوله : إلا ما يتلى عليكم ، في آية أخرى وهى قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (المائدة:3) ، وكذلك قول الله عز وجل : ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ) (الطارق:1) جاء تفسير الطارق في نفس السورة : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِب ُ) (الطارق:3:2) ، فلا يصح العدول عن هذا التفسير ، بعد أن بينه الله عز وجل .
وكذلك قوله سبحانه وتعالى : } فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { (البقرة:37) جاء تفسير الكلمات التي تلقاها آدم u لإتمام التوبة والغفران ، في موطن آخر من القرآن ، في قوله تعالى : } قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الخَاسِرِينَ { (الأعراف:23) ، ومن الأمثلة أيضا على تفسير القرآن بالقرآن ، أن يذكر شيء في موضع من القرآن ، ثم يقع سؤال عنه وجواب في موضع آخر يفسره ، كقوله تعالى :
} الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ { (الفاتحة:1) ، فإنه لم يبين هنا ما المراد بالعالمين ؟ ولكنه وقع سؤال وجواب في موضع آخر يفسر المراد ، وهو قوله تعالى : } قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) (الشعراء:24:23) ، وسؤال فرعون وإن كان في الأصل عن الرب جل وعلا ، فقد دخل فيه الجواب عن المراد بالعالمين .
وكذلك قوله تعالى : } مالك يوم الدين { (الفاتحة:2) فإنه لم يبينه هنا ، مع أنه وقع سؤال عنه وجواب في موضع آخر وهو قوله : } وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ { (الانفطار:19:17) .
ومن الأمور الهامة أيضا أن التعرف على مراد الله من خطابه يكون بالاعتماد على تفسير القرآن بالسنة ، فقد أجمعوا على أن ذلك أيضا ، من أشرف أنواع التفسير وأجلها ، لأنه لا أحد أعلم بكلام الله ، من رسول الله e ، ولا يصح أيضا العدول عنه إلى غيره ، بعد كشف الرسول e للمراد من خطابه سبحانه وتعالى .
ومن أمثلة هذا النوع ، ما رواه البخاري من حديث عائشة زوج النبي e أنها كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه ، وأن النبي e قال :
( من حوسب عذب ،قالت عائشة : فقلت أو ليس يقول الله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) (الانشقاق:8) فقال : إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك ) .
وكذلك ما أخرجه الترمذي وصححه الشيخ الألباني في تفسير النبي e الزيادة التي وردت في قوله تعالى :} لِلذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ { (يونس:26) بالرؤية ، فمن حديث صهيب t عن النبي e أنه قال في هذه الآية : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة ، نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة ؟ قال : فيكشف الحجاب ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ) .
وكتفسيره e القوة بالرمي ، فعن عقبة بن عامر t قال : ( سمعت رسول الله e وهو على المنبر يقول : } وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ { (الأنفال:60) ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ) .
ومن الأمور الهامة أيضا أن التعرف على مراد الله من خطابه يكون بالاعتماد على ما أثر عن الصحابة y والتابعين فجمهور المفسرين يجمعون على أن التفسير بالمأثور عن الصحابة y له قيمته ، وأن تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا كان في أسباب النزول ، أو كل ما ليس للرأي فيه مجال ، أما ما يكون للرأي فيه مجال ن فهو موقوف عليه ، ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر الحافظ ابن كثير في مقدمة التفسير ، أنه إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة y ، فإنهم أدرى بذلك ، وذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا فيها بالصحبة ، ولما لهم من الفهم والعلم والعمل ، ولاسيما علماؤهم وكبراؤهم ،كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود y وغيره .
ومن الأمور الهامة أيضا أن التعرف على مراد الله من خطابه يكون بالاعتماد على قوانين اللغة العربية وأحكامها ، لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فقال تعالى : ( الر تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا أَنزَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلكُمْ تَعْقِلُونَ ) (يوسف:2:1) ، والمفسر لكتاب الله تعالى هنا ، إذا لم يجد تفسيرا للقرآن بالقرآن أو السنة ، أو المأثور المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين ، فإنه يعتمد على لغة العرب ، وأساليبهم في الكلام ، وطريقتهم في التعبير والإفهام ، ولا بد للمفسر من إلإلمام ، بالعلوم الضرورية كعلم الحديث وأصول الفقه ، والنحو والصرف ، وعلوم البلاغة والعقيدة ، ومعرفة أسباب النزول ، وغير ذلك من العلوم التي يحتاج إليها المفسر .
فلا بد للتفسير أن يكون مبنيا على أصول صحيحة ، وأسس صريحة ، قبل التصدي لبيان معانيه فالمراد من الاجتهاد تبصير العباد برسالة ربهم ، وليس المراد مجرد الرأي الهوى ، أو تفسير القرآن بحسب ما يخطر للإنسان ، من نوازع الشيطان ، يقول ابن عطية : ( يسأل الرجل على معنى في كتاب الله عز وجل ، فيتجرأ عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول ، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته ، والنحويون نحوه ، أو يفسر الفقهاء معانيه وأحكامَه ، أو يقول كل واحد باجتهاده المبنى على قوانين العلم والنظر ، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد الرأي والهوى ) ، وقال القرطبي : ( من قال في القرآن بما سنح في وهمه أو خطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول ، فهو مخطئ مذموم ن وعليه يحمل حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه ، فليتبوأ مقعده من النار ) ويعنى من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره ، فليتبوأ مقعده من النار ) .
وهذا التفسير المبنى على الاجتهاد ، وفق لغة العرب وأساليبهم في الكلام ، وطريقتهم في التعبير والإفهام ، يكون محمودا إذا كان اجتهادا صحيحا ، يظهر منه الحق ظهورا صريحا ، بعيدا عن البدعة والجهالة ، وبعيدا عن الزيغ والضلالة ، معتمدا بحق على اللغة وأساليبها ، والجمل وتراكيبها ، فمن فسر القرآن ملتزما هذه الشروط ، كان تفسيره للقرآن جائز سائغا .
القاعدة العاشرة التي نفهم من خلالها العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح أن أفهام الناس في الدين ليست من الدين ، ولا بد لجميع المسلمين من إخلاص النية وسلامة القصد ، وهذه من أهم القواعد في فهم اعتقادنا وديننا ، فأفهام الناس في الدين ليست من الدين ، وكلام العلماء حول العقيدة ليس جزءا من العقيدة ، ومن الخطأ العظيم محاكمة الدين وعقيدة المسلمين ، إلى فكر الناس وأفهامهم ، واجتهادهم وكلامهم ، لأن ذلك جهد بشرى ، يقبل النقد الموضوعي ، أما الأدلة القرآنية والنبوية ، فإنها وحى من السماء ، ورسالة نزلت على الأنبياء ، وهم معصومون في البلاغ عن الله .
وعلى ذلك فإن الإنسان مهما عَظُم بين الناس واشتهر ، وزاع صيته في الآفاق وانتشر ، فإنه لا يخدع مسلما يفهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة ، إذا كان مناقضا للعقيدة الصحيحة ، أو كانت أخطاؤه الشرعية أخطاء صريحة كما أنه ليس في الإسلام بشر مهما كان صلاحه وتقواه ، فيه معنى يستحق به أن يعبد من دون الله ، أو يطلب منه المدد والغفران ، أو يطاع في البدعة والعصيان ، فكثير من الناس لما عظموا بعض الأولياء ، تعظيما فيه غلو ومبالغة وإطراء ، واشتهر هذا التعظيم بين الناس كالوباء ، وتناقلوا أساطير الخوارق وكرامات الأولياء ، أدى ذلك إلى تسليم الأجيال المتعاقبة بواقع مرير ، لا يقبل التبديل والتغيير ، إلا بسعي خارق وجهد كبير ، وكانت النتيجة أنهم وقعوا في الشرك وتشبيه المخلوق بالخالق ، فعظموا المملوك كتعظيم المالك ، نعم ، عظموهم كتعظيم الله ، وأحبوهم كمحبة الله ، وتعلقت قلوبهم بهم ، رهبة وخوفا من غضبهم ، وقد بالغوا في تعظيمهم إلى حد قول القائل :


شيخي الرفاعى له بين الورى همم : نصالها ماضيات تشبه القدر



دخلت في ظلها أبتغى التفيؤ من : رمضاء دهري فجاء الدهر معتذرا

وهو يقصد في هذين البيتين الشركيين ، أن شيخه الرفاعى قوته في العالم تشبه قوة الله في جريان المقادير ، سبحانك ربنا أنت العلى الكبير ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وآخر يعظم البدوي الملقب عندهم بشيخ العرب ، فيقول في هذه الأبيات الشعرية ، واصفا إياه بأوصاف الربوبية ، يا من هو البحر الخضم إذا جرى : جاءت لك الزوار من أقصى القرى - كل ينادى يستغيث لما جرى : فلقد حويت الفضل يا غوث الورى .
أيها العاقل ألا ترى ؟ هل البدوي غوث الورى ؟ يأتيه الملهوف من أقصى القرى ؟ ماذا تركوا للذي ( خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفي اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (طه:8) ، كما ينبغي أيضا لكي نفهم العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلفنا الصالح ، أن تتوفر لدينا صدق النية وطلب الحق ، عند النظر في القرآن والسنة ، فالإنسان يجب أن يتنزه عن التعصب الهوى ، ويخلص للذي على العرش استوى فالحقد والحسد والهوى الكمد إذا ملأ القلب ، أصبح حاجزا بين الإنسان وبين إدراك الحقيقة المنشودة ، مهما نظر في القرآن ، أو احتج بالحجج المعهودة .
فإخلاص النية وصدقها في طلب الحق ، أمر مستقر في القلب يعلمه الحق ، وليس كل من قرأ القرآن عمل به ، بل هناك من يسمعه وهو صام أذنيه قد أغلق قلبه وإن فتح عينية ، كما قال تعالى : ( وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ) (الإسراء:46:45) وقال أيضا : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا ) (الإسراء:41) .
أي بينا الآيات والأمثال والوعد والوعيد ليتعظوا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا بعدا عن الحق ونفورا منه ، ومن ثم فليس التعامل مع القرآن والسنة من خلال القواعد العلمية فقط يؤدى إلى نتيجة فعالة ، لأن النية أو الإرادة الإنسانية المختارة ، تعتبر عاملا حاسما في قبول الحق أو رده ، يقول تعالى : } قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ { (الأنعام:33) ، فهذا يدل على أن هؤلاء المكذبين بالحق ليس لديهم نقص في العلم والمعرفة ، وإنما يكذبون جحودا وإنكارا ، وعنادا وإصرارا ، على الهوى ومتاع الدنيا .
فالعلة إذن في كفرهم وتكذيبهم هي سوء نيتهم ، وليس قصورا في إدراكهم ، فالإيمان والكفر فعلان نفسيان اختياريان إراديان ، لسائر المكلفين من بنى الإنسان ، فمن يقبل على القرآن وفي نيته طاعة الله ، يهديه إليه بقدر إخلاصه وتقواه ، كما قال الله تعالى : } وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { (البقرة:282) .
ومن يقبل عليه وفي صدره حاجة أخرى ، كالبحث عن تناقضات وهمية ، أو تدعيم لآرائه الشخصية ، أو تبرير لشبهاته الشيطانية ، أو اعتذار لشهواته الحيوانية ، فالنتيجة الحتمية أنه سيسلك مسلك اليهود ( المُقْتَسِمِينَ الذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر:91) ، فالتجرد لله بالإخلاص طلبا للعلم بأسمائه ، وصفاته وأفعاله وأحكام شرعه ، هو أول القواعد وأحقها بالالتزام .
( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِين َ) (البقرة:286) ، أحبتى في الله نلتقي معكم بإذن الله في ذكر موضوع من أهم الموضوعات في فهم عقيدة السلف الصالح ألا وهو الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل ، وسوف نتحدث عنه بالتفصيل في المحاضرة القادمة ، عصمنا الله وإياكم من الزلل ، وجمعنا وإياكم على خير الملل ، ملة التوحيد والإسلام ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني