المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شروط لا إله إلا الله الشرط الخامس



أهــل الحـديث
21-12-2011, 05:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الشرط الخامس المحبة التي تنافي البغض

الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السماوات وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ سبحانه عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمْ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتعالي عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الحَمْدُ فِي الأُولي وَالآخِرَةِ وَلهُ الحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ ، دلت على وحدانيته في الربوبية أجناس الآيات ، وشهد لكمال علمه إتقان الصنعة في المخلوقات وأظهر قدرته على بريته فيما أبدعه من أصناف المحدثات ، وأهدي برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السماوات ، لا يحصي العباد ثناء عليه لما له من أنواع الكمال في الأسماء والصفات ، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيء من الموجودات ، وهو القدوس السلام الذي لا يلحقه شيء من الآفات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته وانقاد لمحبته وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، شهادة عبد أمل في عفوه ورحمته ، وطمع في قبول توبته ، وبريء إلي الله من حوله وقوته .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وأسمعهم لديه شفاعة ، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه ، أرسله للإيمان مناديا ، وإلي الجنة داعيا ، وإلي صراطه المستقيم هاديا ، وفي مرضاته ومحبته ساعيا ، وبكل معروف آمرا ، وعن كل منكر ناهيا ، رفع ذكره ، وشرح صدره ووضع وزره ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، نبي أمي تقي قوي على المشركين ، أقسم الله بحياته في كتابه المبين ، وقرن اسمه باسم رب العالمين ، فلا يصح لأحد خطبة ولا تشهد ولا أذان ، حتى ترد على الآذان شهادتان ، شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله :


ضم الإله اسم النبي إلي اسمه : إذ قال في الخمس المؤذن أشهد



وشق له من إسمه ليجله : فذو العرش محمود وهذا محمد

أرسله على حين فترة من الرسل ، فهدي به إلي أقوم الطرق وأوضح السبل ، فلا مطمع في الفوز بجزيل الثواب أو النجاة من وبيل العقاب إلا لمن كان خلفه من السالكين ، ولا يؤمن عبد حتى يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، فصلي الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الموحدين وسائر عباده المؤمنين المتبعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل في الأبدان دليلا على صدق المحبين ، وجعل محبته في القلوب نورا للعابدين ، وسببا في منزلة أوليائه الصالحين ، جعل في القلوب وأوعية وبيوتا ، فخيرها أوعاها للخير والرشاد ، وشرها أوعاها للغي والفساد ، وما ذلك إلا لابتلاء العباد بحكمته ، ليبقي الفائزون برحمته في جنته ، ويشقي الخاسرون في العذاب بنقمته .
فالقلب وعاء قد يمتلأ بحب الله أو يمتلأ بحب غيره ، كما قال جل في علاه : } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ { (البقرة/165) فالقلب له الخيار في نوعية الحب ومقدار التعلق بالمحبوب ، والمحبة التي هي موضوع محاضرة اليوم شرط من شروط لا إله إلا الله وإقرار العبد أنه لا معبود بحق سواه ، فلا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بإفراد الله بالمحبة مع تحقيق الشروط الباقية ، فشروط لا إله إلا الله ثمانية كما قال القائل في عدها ونظما :


علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها



وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها

روي البخاري من حديث أَنَس أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، ومن رواية أبي هريرة : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ ) .
والحب شيء في القلب من علم الغيب ، يدفع النفس إلي السعي في رضا المحبوب ، والحصول على المطلوب ، والمحبة عمل من أعمال القلوب ، فقد روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال : ( قَلبُ الشَّيْخِ شَابٌّ على حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الحَيَاةِ وَحُبُّ المَال ) فنسب النبي r الحب إلي القلب ، فالحب عمل من أعمال القلوب يعرف بآثاره على اللسان أو بعلاماته في ظاهر الأبدن ، فالحب مخفي في القلب ، ولكن البدن يفضحه بآثاره وعلاماته ، والله سبحانه وتعالي أعطي بعض خلقه القدرة على قياس درجة الحب في القلب ، كيف يقوي الحب ويشتد ، ويعلو ويمتد ، فالملائكة المكرمون يدونون مقدار الأجر على حب العبد لله ومقدار الوزر على حبه لمن سواه ، وكل ذلك حسب توجيه الإله لهم ، فهم كما تعلمون لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يأمرون .
والمحبة درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب ، فمنها الهوى والغرام والشوق ، والهيام والشغف والعشق ، والوجد والكمد والحرق ، درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب ، حتى تصل المحبة إلي أعلى درجاتها ، وهي التي تسمي درجة العبادة ، فالتعبد هو غاية الحب مع غاية الذل للمحبوب ، يقال : عبَّده الحب أي ذلله ، وطريق معبد بالأقدام أي مذلل ، وكذلك المحب قد ذلله الحب ، ولا تصلح هذه المرتبة في الحب لغير الله عز وجل ، فالمحبة التي تصل إلي درجة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي حق الله على عباده ، ولا يصح فيها الشرك أبدا ، ولذا فإنه من الخطأ الجسيم والظلم العظيم أن يعبر الشخص عن حبه لغيره بقوله : أنا أعبدك ، أو هذا معبود الجماهير أو معبودة الجماهير ، أو كما يفعل الحمقى من المحبين ، المتيمين المجانين في حب النساء ، يقول الشخص لمحبوبته : أنا أ عبدها ، أو ما شابه ذلك من ألوان الشرك بالله ، فانتبه عبد الله وكن عبدا موحدا .
وفي صحيح البخاري عَنْ معَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي الله عَنْه قَال : بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ r ليْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْل فَقَال : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلتُ : لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَال : هَل تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ ؟ قُلتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قَال : حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَال : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلتُ : لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، فَقَال : هَل تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ على اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ ، قُلتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قَال : حَقُّ العِبَادِ على اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ .
وقد وصف الله رسوله r بالعبودية في أشرف المقامات ، في مقام التحدي وفي مقام الإسراء ، وفي مقام الدعوة إلي رب السماء ، فقال في مقام التحدي : } وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلنَا على عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ { (البقرة/23) وقال في مقام الإسراء : } سُبْحَانَ الذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ ليْلا مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلي المَسْجِدِ الأَقْصَي الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الإسراء/1) وقال في مقام الدعوة : } وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَليْهِ لبَدًا قُل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا { (الجن /20:18) .
وفي الصحيحين من حديث أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه أن الرسل يدفعون الشفاعة العظمي عن أنفسهم ، كل يقول لست لها : ويقول عيسي عليه السلام : ( ائْتُوا مُحَمَّدًا r عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلقُ حتى أَسْتَأْذِنَ على رَبِّي ، فَيُؤْذَنَ لي ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ يُقَالُ : ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَل تُعْطَهْ وَقُل يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلمُنِيهِ ، ثُمَّ أَشْفَعُ ، فَيَحُدُّ لي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ) .
فالنبي r نال ذلك المقام بشرف العبودية وكمالها ، ومن ثم جعله المثل الأوحد للإنسانية في تحقيقها ، فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلي الله اسم العبودية ، كما ثبت عن النبي r في حديث مسلم من حديث عبد الله بنِ عُمَرَ أن رَسُولُ اللهِ r قال : ( إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلي اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ )
وهناك درجة تفوق العبادة تسمي درجة الخلة ، ولكنها درجة خاصة لاثنين من البشر أولهما محمد r والثاني إبراهيم r ، ورسولنا يفوق إبراهيم فيها ، لما ورد عنه من التفضيل العام على سائر ولد آدم ، فمن حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عند مسلم عن رَسُول اللهِ r قال : ( أَنَا سَيِّدُ وَلدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ) ، وربما يظن بعض من لا فقه لهم بالدين ولا بإكرام سيد الأنبياء والمرسلين أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله ، وهذا جهل وتنقيص من شأن النبي r ، فان الخلة نهاية المحبة ، وقد أخبر النبي r أن الله اتخذ إبراهيم خليلا ونفي أن يكون له خليل غيرُ الله ، أي يحبه حبا يبلغ في درجاته منتهاه ، والخلة هي كمال المحبة التي تستغرق كل درجات الحب ، والتي تتخلل في أعماق القلب وتمتزج بسائر أجزاء البدن .
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النَّبِيِّ r قَال : ( لوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْل الأَرْضِ خَليلا لاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَليلا وَلكِنْ صَاحِبُكُمْ خَليلُ الله ) وفي رواية : ( أَلا إِنِّي أَبْرَأُ إِلي كُل خِلٍّ مِنْ خِلهِ وَلوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَليلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَليلا إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَليلُ الله ) فبين r أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا ، وأنه لو كان ذلك ، لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
فالخلة توحيد المحبة والخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه ، وهي رتبة لا تقبل المشاركة ، ولهذا امتحن الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ولده ، لما تعلق به قلبه ، فهو الشيخ الكبير الذي أنجب بعد عقم الطويل ، فأراد الله تعالى أن يكون الخليل خالصا بحبه لربه ، لا يكون لغيره في قلبه نصيب ، فلما أسلم لأمر الله وقدم محبته على من سواه ، فداه بذبح عظيم : } فَلمَّا بَلغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَي فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَي قَال يَا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلمَّا أَسْلمَا وَتَلهُ للجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { (الصافات/102) .
لكن ما الذي يبعث على وجود الحب في القلب ؟ المحبة باعثها في القلب جلال المحبوب ، والجلال منتهي الحسن والعظمة في الذات والأسماء والصفات ، والجلال يقوم على ركنين اثنين : الركن الأول هو الكمال ، والركن الثاني هو الجمال ، فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه ، والجمال بلوغ الحسن منتهاه ، فمتي كان المحبوب في غاية الكمال وفي غاية الجمال ، وشعر المحب بكماله وجماله حدث الحب في القلب ، وقد يكون الكمال أو الجمال ناقصا ، لكن هو في عين المحب كامل جميل ، فلا يري المحب أحدا أحسن من محبوبه على الرغم من نقصه وعيوبه ، كما يحكي أن عزة التي أحبها كثير وتغني بحبها حتى بلغ الآفاق دخلت على الحجاج فقال لها : يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير ، فقالت : أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها ، فالمحب يري قبح المحبوب في عينه جمال ، ألا تري أنه في المثل يقال ، القرد في عين أمه غزال ، وقد عبر بعضهم عن هذا فقال : والله ما أدري أزيدت ملاحة : وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل .
وقد يكون الجمال في منتهاه والكمال في أعلاه ، ولكن المحب لا يشعر بجمال محبوبه ولا بكماله فتنعدم المحبة ، ولهذا أمرت النساء بستر وجوههن عن الرجال ، فإن ظهور الوجه وخصوصا وجوه الحسان ، يدعو القلوب إلي النظر والافتتان ، ولهذا أيضا أجاز الشرع للخاطب أن ينظر إلي المخطوبة ، فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها ، ورأي الكمال في سلوكها ، كان ذلك أدعي إلي حبها والتعلق بها ، روي ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث المُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أنه قَال : ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ r فَذَكَرْتُ لهُ امْرَأَةً أَخْطُبُهَا فَقال : اذْهَبْ فَانْظُرْ إِليْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ، قَال : فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَخَطَبْتُهَا إِلي أَبَوَيْهَا وَأَخْبَرْتُهُمَا بِقَوْل رَسُول اللهِ r ، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلكَ ، قَال المُغِيرَة : فَسَمِعَتْ ذَلكَ المَرْأَةُ وَهِيَ فِي خِدْرِهَا ، فَقَالتْ : إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ r أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ وَإِلا فَإِنِّي أَنْشُدُكَ – ألا تفعل - قَال المُغِيرَة : فَنَظَرْتُ إِليْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا ) .
وإذا كانت دواعي المحبة تتمثل في كمال المحبوب وجماله ، وكان شعور المحب بجمال محبوبه وكماله باعثا على نماء الحب في القلب ، فإن الله عز وجل إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال ، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال ، وما أصدق المثل الذي يقال : الحلو ما يكمل .
فانظر إلي حكمة الله فيمن أعطاهم الكمال وسلبهم الجمال ، غني بلغ الكمال في الغني ولكنه مريض بالسكر أو قبيح في المنظر أو جاهل أكبر ، أو عقيم يشتهي الولد ويتمناه ، فهو لا يتلذذ بماله أو غناه ، ولا ينعم بما منحه الله ، إلا إذا أدرك أن الابتلاء سر الحياة ، فسلم لله وآمن بقدر الله ، أو انظر إلي امرأة لها كمال في الخلق والنسب ، والشرفِ والحسب ، وهي أبعد ما يكون عن الخيانة ، ومتصفة بالصدق والأمانة ، ولكنها في الجمال قبيحة لا تسر الناظرين ، دميمة ترعب الخاطبين ، أو انظر إلي من أعطاه الله أرضا كبيرة واسعة ، فله في الملك كمال وسعة ، لكنه يفشل في استصلاحها لأي منفعة ، وعلى العكس من ذلك انظر إلي من أعطاهم الجمال وسلبهم الكمال ، رجل عالم ذكي قوي فتي ، لكنه فقير مهان يبيت جوعان ولا يجد ما يستر الأبدان ، أو انظر إلي امرأة جمالها يتغنى به الشبان ، وقوامها لا تراه العينان ، لكنها تخون زوجها ولا تصون عرضها وهي معرة على أهلها وكل الناس يتمني موتها ، أو انظر إلي فلاح بسيط ليس له من الأرض سوي بضعة قراريط ، لكن زراعته بارعة ، وأشجاره طالعة ، وثمارها يانعة ، مناه في الحياة أن تكون أرضه واسة ، لكن الحلو لا يكمل .
فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال ، فإذا أضفت إلي ذلك ما كان من إحسانه في ملكه ، وإنعامه على خلقه ، لم يتخلف عن حبه إلا الجاحدون أصحاب القلوب والخبيثة ، والنفوس الخسيسة ، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسنين إليهم ، المتصفين بالكمال لديهم ، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها القلوب ، فمن المعلوم أن مقلب القلوب لا أحد أعظم منه إحسانا وجمالا ، أو إنعاما وكمالا ، فلا شيء أكمل من الله ، ولا شيء أجمل من الله ، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته وكمال قدرته وبديع حكمته ، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثني على نفسه ، له على خلقه وجنه وإنسه النعمة السابغة ، والحجة البالغة ، والسطوة الدامغة ، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل ، وهو المطلوب المقصود عند الإخلاص في العمل ، ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن المصلحة والحكمة ، والعدل والفضل والرحمة ، كلامه صدق ، ووعده حق ، وعدله ظاهر في سائر الخلق ، إن أعطي فبفضله ورحمته ، وكرمه ونعمته ، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته :


ما للعباد عليه حق واجب : كلا ولا سعي لديه ضائع



إن عذبوا فبعدله أو نعموا : فبفضله وهو الكريم الواسع

ومن أسمائه الحسني الجميل ، روي الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ r قَال : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال ) له جمال الذات وجمال الصافات ، وجمال الأفعال في سائر المخلوقات ، لا تقوى الأبصار في هذه الدار على النظر إلي رب العزة والجلال ، فإذا رأوه سبحانه في دار القرار ، أنستهم رؤيته ما هم فيه من نعيم جنته ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ r بِخَمْسِ كَلمَاتٍ ، فَذكر منها : حِجَابُهُ النُّورُ لوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهي إِليْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلقِه ) .
فإذا كان هذا وصف ربك ، فوجب أن تفرده بحبك ، عند قولك لا إله إلا الله ، وأن يكون حبُك لربك أعظمَ من حبك لنفسك و أعظمَ من حبك لمالك وولدك ، وأعظم من حبك لأهلكَ وعشيرتك وأعظم من حبك لكل شيء سواه ، ولهذا قال الله عز وجل : } قُل إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِليْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلهِ فَتَرَبَّصُوا حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ { (التوبة/24) فالمؤمنون أشد حبا لربهم ، وتعظيما لمعبودهم من كل شيء سواه ، وهذا شرط لا إله إلا الله ، ومقتضي الإيمان بالله ، فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تعبده القلوب بحبها ، وتخضع له العبيد عن طوعها ، تخافه وترجوه ، وفي شدائدها تدعوه ، تتوكل عليه وتلجأ إليه ، وتطمئن بذكره وتسكن إلي حبه ، وذلك ليس إلا لله وحده ، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام ، وأساس الإسلام ، ودعوة الرسل الكرام ، وهي مسك الختام ، لمن أراد أن يدخل الجنة بسلام ، كما ورد ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام : (مَنْ كَانَ آخِرُ كلامِهِ لا إِلهَ إِلا اللهُ دَخَل الجَنَّةَ ) ومن أجلها صار حزبها حزب الله ، والمنكرون لها أعداء الله ، فهي قطب الدين ورحاه ، وبها صلاح العبد في دينه ودنياه .
· والمحبة التي هي شرط من شروط لاإله إلا الله أنواع :
فمنها محبة الله عز وجل وهي أصل المحاب المحمودة في قلوب العبيد ، وأصل الإيمان بالله والتوحيد ، وأصل دعوة الرسل من أولهم الي آخرهم ، وقد ثبت عند البخاري عن أَنَسِ عن النبي r أنه : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَلدِهِ وَوَالدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وفي صحيح البخاري عن عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ قَال : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r وَهوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَر بْنِ الخَطَّابِ فَقَال لهُ عُمَرُ : يَا رَسُول اللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كُل شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي ، فَقَال النَّبِيُّ r : لا وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - لا تؤمن - حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْكَ مِنْ نَفْسِكَ ، فَقَال لهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي فَقَال النَّبِيُّ r : الآنَ يَا عُمَرُ ) فإذا كان هذا شأن محبة الرسول فما ظنك بمحبة مرسله سبحانه وتعالي .
ومن المحبة المحمودة النافعة التي أمر بها الشرع المحبة في الله ، فمحبة الرسول هي من محبة الله ، وكل حب في الله فهو حب لله ، فالمؤمنون يحبون لله ويبغضون لله ، كما ثبت عند البخاري من حديث أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ r أنه قَال :
( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمان أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِليْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا للهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) وفي سنن أبي داود 4681 وصححه الشيخ الألباني أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطَي للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ اسْتَكْمَل الإيمان ) ، وعند البخاري 660 من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ r قَال : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلهِ يَوْمَ لا ظِل إِلا ظِلُّهُ ، وذكر منهم رَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَليْهِ وَتَفَرَّقَا عَليْه ) .
ومن المحبة المحمودة أيضا محبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته وهي أيضا تابعة لمحبة الله ، فمحبة ما يحبه الله من تمام محبة الله ، وكذلك محبة كلامه وأسمائه وصفاته روي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رَضِي الله عَنْه أنه قال : ( كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَانَ كُلمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لهُمْ فِي الصَّلاةِ ، افْتَتَحَ بِقُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ حتى يَفْرُغَ مِنْهَا ، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أخرى مَعَهَا ، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلكَ فِي كُل رَكْعَةٍ فَكَلمَهُ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا : إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لا تَرَي أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حتى تَقْرَأَ بِأخرى فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأخرى ، فَقَال : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلكَ فَعَلتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ ، فَلمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ r أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ فَقَال : يَا فُلانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَل مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ على لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ ؟ فَقَال : إِنِّي أُحِبُّهَا ، فَقَال : حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلكَ الجَنَّةَ ) .
واحذر عبد الله من المحبة الضارة المذمومة التي تجلب لصاحبها الشقاءَ والحرمان ، وقد تصل عقوبتها إلي العذاب في النيران ، فمنها المحبة مع الله وهي أصل الشرك ، كمحبة الطواغيت والأنداد وتعظيمهم كتعظيم الله ومحبتهم كمحبة الله ، كما قال تعالى في وصف حالهم : } وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِين آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلوْ يَرَي الذِينَ ظَلمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ { .
وأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الله في خلق السماوات والأرض ، وإنما كان شركهم من جهة حبهم لها مع الله ، فوالوا عليها وعادوا عليها ، وعظموها تألهوها وقالوا : هم وسيلتنا إليه ، وشفعاؤنا لديه ، هذه آلهة صغار تقربنا إلي الإله الأعظم .
ومن المحبة المذمومة محبة ما يبغضه الله تعالى وهي تابعة للمحبة مع الله ، روي البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أنه قَال : ( بَعَثَ النَّبِيُّ r خَيْلا قِبَل نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِليْهِ النَّبِيُّ r فَقَال : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَال عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلنِي تَقْتُل ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَال فَسَل مِنْهُ مَا شئتَ ، فَتُرِكَ حتى كَانَ الغَدُ ، ثُمَّ قَال لهُ النَّبِيُّ r : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَال : مَا قُلتُ لكَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شَاكِرٍ ، فَتَرَكَهُ حتى كَانَ بَعْدَ الغَدِ فَقَال : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَال : عِنْدِي مَا قُلتُ لكَ ، فَقَال : أَطْلقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلقَ إِلي نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ ، موضع قريب من المسجد فيه ماء ، فَاغْتَسَل ثُمَّ دَخَل المَسْجِدَ فَقَال : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا كَانَ على الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِليَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِليَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِليَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِليَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلدٍ أَبْغَضُ إِليَّ مِنْ بَلدِكَ فَأَصْبَحَ بَلدُكَ أَحَبَّ البِلادِ إِليَّ ، وَإِنَّ خَيْلكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَي ؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ r وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلمَّا قَدِمَ مَكَّةَ ، قَال لهُ قَائِلٌ : صَبَوْتَ ؟ قَال : لا ، وَلكِنْ أَسْلمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ r وَلا وَاللهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ r ) .
وروي الإمام مسلم 2637 أن سُهَيْل بْنَ أَبِي صَالحٍ قَال : كُنَّا بِعَرَفَةَ فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَهُوَ على المَوْسِمِ أميرا ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِليْهِ ، فَقُلتُ لأَبِي : يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَي اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ قَال : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلتُ : لمَا لهُ مِنَ الحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ، فقال يا بني قَال رَسُولُ اللهِ r : ( إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَقَال : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ ، قَال : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، قَال : ثُمَّ يُوضَعُ لهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضْهُ ؟ قَال : فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاءِ : إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضُوهُ ، قَال : فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ ) .
وهنا سؤال هام في تحقيق شرط المحبة : كيف يعرف العبد أنه يحب الله تعالى ويحب رسوله r ؟ وأنه حقق المحبة التي هي من شروط لا إله إلا الله ؟ أو ما هي الدلائل التي نتعرف من خلالها على وجود الحب في القلب ؟
من العجيب أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل في الأبدان دليلا على صدق المحبين ، علامات تظهر بالضرورة على الأبدان لا تخفي على الناظرين ، تلك العلامات مفصحة عن الحب ، فاضحة لوجوده في القلب ، لا يستطيع الإنسان دفعها مهما قاوم أو حاول :
(1) - منها إدمان النظر إلي المحبوب وإقبال البصر عليه ، فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن أفكاره والكاشفة عن أسراره ، وهي أبلغ في ذلك من كلام اللسان ومن حركة الأبدان ، فتري نظر المحب يدور مع محبوبه كيف ما دار ، يتابعه أينما سار ، بل ربما يعز على بعض المحبين أن يحرك رموش العين حتى لا يغيبَ المحبوبُ عن بصره لمحات ، أو يخفي جمال محبوبه لحظات ، فالمحب نظره متعلق بمحبوبه إذا رآه ، وإذا غاب عنه قال : أريد أن أراه .
هذه فطرة في العباد وهي حجة ظاهرة على أهل الفساد ، إذا كانت هذه العلامات تظهر عليهم في محبتهم لغير الله ، ألا تظهر عليهم هذه العلامات في ادعائهم لحب الله ، فحري بك إن كنت صادقا في محبتك لله ، أن تعبد الله كأنك تراه وتنعم بأنسه في الصلاة والمناجاة ، وتتطلع إلي أن ينعم عليك برؤياه ، وهذا هو السر الذي طلب به موسي عليه السلام رؤية الله ، طلبها بباعث الحب وظهور علاماته ، وفهمه لأسمائه وصفاته } وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنْ انظُرْ إِلي الجَبَل فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلمَّا تَجَلي رَبُّهُ للجَبَل جَعَلهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَي صَعِقًا { (الأعراف/143) .
طلب موسي الرؤية شوقا وعبادة ، ولم يطلبها تكذيبا وعنادا ، كما طلبها قومه فقالوا لموسي : } لنْ نُؤْمِنَ لكَ حتى نَرَي اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ { (البقرة/55) ولكن موسي طلب رؤية الله طاعة وقربا ، ورغبة وحبا ، ولهذا كانت أعظم نعمة ينالها المسلم في الدنيا ، نعمة المراقبة لله ، وأن يعبد الله كأنه يراه ، وكذلك فإن النظر إلي الله عند لقياه ، أعظمُ نعمة يوم القيامة ينعم بها الموحدون ، فالمؤمنون يتلذذون بالنظر إلي وجهه الكريم ، وهم في جنات النعيم ، وقد كان من دعائه r : ( وَأَسْأَلُكَ لذَّةَ النَّظَرِ إِلي وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلي لقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلةٍ اللهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيمان وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ) وهو حديث إسناده قوي رواه النسائي وابن حبان في صحيحه .
وقال تعالى في شأن أوليائه وأحبائه عند لقائه : } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { (القيامة/23:22) وروي البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال : ( كُنَّا جُلُوسًا ليْلةً مَعَ النَّبِيِّ r فَنَظَرَ إِلي القَمَرِ ليْلةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَال : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلبُوا على صَلاةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ، ثُمَّ قَرَأَ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الغُرُوبِ ) ، وفي سنن الترمذي عن صهيب الرومي رضي الله عنه أنه قَال : ( تَلا رَسُولُ اللهِ r هَذِهِ الآيَةَ : ( للذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَي وَزِيَادَةٌ ) وَقَال : إِذَا دَخَل أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، نَادَي مُنَادٍ : يَا أَهْل الجَنَّةِ ، إِنَّ لكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ ، فَيَقُولُونَ : وَمَا هُوَ ؟ أَلمْ يُثَقِّل اللهُ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلنَا الجَنَّةَ وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَال : فَيَكْشِفُ الحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِليْهِ فَوَاللهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِليْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِليْهِ وَلا أَقَرَّ لأَعْيُنِهِمْ ) .
(2) - ومن علامات المحبة التي تدل على صدق المحب في دعواه أنه لا إله إلا الله ، غض الطرف عند نظر المحبوب إليه ، وخفض البصر بين يديه ، وذلك من مهابته وعظمته ، وخشيته في صدره وتواضعه لقدره ، فإذا كان ملوك الأرض يستهجنون من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم ويستقبحون من يكلمهم بغير التواضع إليهم ، فما بالنا بملك الملوك من فوق عرشه وهو مطلع على خلقه ، إذا وقفت بين يديه فليكن الخشوع كساءا لتواضعك ، ولتكن المهابة دليلا على صدق محبتك ، ولهذا اشتد نهي النبي أن يرفع المصلي بصره إلي السماء ، وتوعدهم على ذلك بالبلاء ، فينبغي أن تقف بين يدي الله وأن في الصلاة ناكس الرأس مطرقا ، تتلو آياته وذكره مدققا ، روي البخاري عن أَنَس بْن مَالكٍ عن النَّبِيُّ r أنه قال : ( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلي السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ ، - يقول أنس - فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلكَ حتى قَال : ليَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلكَ أَوْ لتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ ) .
وانظر إلي كمال أدب رسول الله في ليلة الإسراء لما عرج به إلي السماء : } فَأَوْحَي إِلي عَبْدِهِ مَا أَوْحَي قال تعالى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَي { (النجم/18:11) وهذا غاية الأدب فإن البصر ما طغي ، ولا طمع ولا بغي ، فلم يتجاوزا إلي غير ما هو رائيه ، ولم يقبل على غير ما هو فيه ، ولذلك فإن رسول الله r لما سأله أبو ذر رضي الله عنه هل رأيت ربك يا رسول الله ؟ قال : ( نُورٌ أَنَّي أَرَاه ) رواه مسلم 178.
(3) - ومن علامات المحبة الغيرة للمحبوب ، فالغيرة للمحبوب أن يكره ما يكرهه المحبوب ويغار إذا عصي في كل مطلوبه ، فيغار العبد لربه إذا انتهكت حرماته ، وضيعت كلماته ، فهذه غيرة المحب على معبوده حقا ، ودين الله يندرج تحتها صدقا ، فأقوي الناس دينا أعظمهم غيرة لله ، روي البخاري 7416 بسنده أن سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قال : ( لوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِي لضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ ، فَبَلغَ ذَلكَ رَسُول اللهِ r فَقَال : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، وَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي ، وَمِنْ أَجْل غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) .
فمن قال لا إله إلا الله بحق وأحب الله ورسوله بصدق ، يغار لله ويغار لرسوله على قدر محبته وإجلاله ، وإذا انعدمت الغيرة لله ولرسوله من القلب انعدم الحب فيه ، وإن زعم أنه من المحبين فهو كاذب ، فإذا كان من ادعي محبة إنسان ورأي غيره منتهكا لحرمته ويسعى في أذيته ويخوض في عرضه وذمته ، وهو ساكن لا يتحرك ، قلبه قلب بارد لا يغار لصديقه ومحبوبه ، فإنه عند الجميع كاذب في حبه منافق في ادعاء قربه ، لعلمهم أن الغيرة للمحبوب من علامات المحبة الصادقة ، فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ، ولا لحقوقه إذا ضيعت ، فأضعف الإيمان أن يغار لله من هواه الداعي إلي الشهوة ، ومن شيطانه وطغيانه الداعي إلي الشبهة ، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه ، وارتكابه لمعصيته ، وإذا ذهبت هذه الغيرة من القلب ذهب منه الحب وسقط شرط من شروط لا إله إلا الله بل ذهب منه الدين وأصوله وإن بقيت آثاره وأطلاله .
وهذه الغيرة هي أصل الجهاد الأكبر ، وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن خلت هذه الغيرة من القلب لم يجاهد الإنسان ولم يأمر بالطاعة والإيمان ولم ينه عن المنكر والعصيان ، يقول الله تعالى : } يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلةٍ على المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللهِ وَلا يَخَافُونَ لوْمَةَ لائِمٍ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ { (المائدة/54) .
وأما الغيرة على المحبوب كغيرة الإنسان على زوجته ، وغيرته على أمته وابنته ، فيغار أن يتعرض أحد لذكرهن أو المساس بعرضهن ، فإن هذه الغيرة تختص بالمخلوق ، ولا يجوز تصورها في حق الخالق ، لأن المحب الصادق ، يحب أن الناس كلهم يحبون الله ويذكرونه ويعبدونه ، ويحمدونه ويشكرونه ، ولا شيء أقر لعين المؤمن من ذلك ، بل هو يدعو إلي ذلك بقوله وعمله ، وكثير من الصوفية لم يفرقوا بين الغيرة لله والغيرة على الله ، فضلوا وشبهوا غيرتهم على الله بغيرتهم على نسائهم ، حتى وقع في كلامهم غلط عظيم ، وبهتان جسيم ، وكان بعض جهلتهم إذا رأي من يذكر الله أو يحبه ، يغار منه ، وربما أسكته إن أمكنه ، ويقول : غيرة حبي على ربي تحملني على هذا ، وإنما ذلك حسد وعصيان وبغي وعدوان ونوع معادة للرحمن أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة المخلوقين .
(4) - ومن علامات المحبة بذل المحب كل ما في وسعه وطاقته لرضا لمحبوبه ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يدافعون عن رسول الله r في الحرب بنفوسهم ، حتى ولو أدي ذلك لهلاكهم ومصرعهم ، وذلك من فرط حبهم له r ، ومعلوم أن من آثر محبوبه بنفسه ، بذل ما في وسعه من ماله وملكه ، والصحابة رضي الله عنهم سلموا أنفسهم وأموالهم لرسول الله r ، فقالوا هذه أموالنا نقدمها إليك ، وهذه نفوسنا بين يديك ، فاحكم فيها بما شئت يا رسول الله ، لو خضت بنا البحر لخضناه معك يا رسول الله ، نقاتل بين يديك ، ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ، روي البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، أن المِقْدَادُ بن الأسود قال يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُول اللهِ إِنَّا لا نَقُولُ لكَ كَمَا قَالتْ بَنُو إِسْرَائِيل لمُوسَي : } فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ { (المائدة/24) وَلكِنِ امْضِ يَا رَسُول اللهِ وَنَحْنُ مَعَكَ مقاتلون ) .
أراد رجل أن يختبر امرأته في حبها وحسن تصرفها ، فنظر إليها وهي صاعدة على درجات السلم ، فقال لها أنت طالق إن صعدت وطالق إن نزلت وطالق إن وقفت ، فرمت نفسها على الأرض ، فقال لها فداك أبي وأمي ، والله إن مات الإمام مالك ، احتاج إليك أهل المدينة في التعرف على أحكامهم .
(5)- ومن علامات المحبة التي تكشف مقدار الحب في القلب ، سرور المحب بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفس الإنسان ، فيكون عنده بمنزلة الدواء ، يحبه لما فيه من الشفاء ، وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضيه على أي حال ، وري الإمام مسلم 125 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لمَّا نَزَلتْ على رَسُول اللهِ r : } للهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ { ، اشْتَدَّ ذَلكَ على أَصْحَابِ رَسُول اللهِ r ، فَأَتَوْا رَسُول اللهِ r ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُول اللهِ كُلفْنَا مِنَ الأَعْمَال مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلتْ عَليْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا ، قَال رَسُولُ اللهِ r : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَال أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَل قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ، وكأن الرسول يقول لهم : افعلوا ذلك محبة لربكم وإن كان شاقا على نفوسكم ، فقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ، فَأَنْزَل اللهُ فِي إِثْرِهَا : } آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ { فَلمَّا فَعَلُوا ذَلكَ نَسَخَهَا اللهُ تعالى فقال : } لا يُكَلفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لهَا مَا كَسَبَتْ وَعَليْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا { ، فهؤلاء أصحاب رسول الله r لما ابتلاهم الله بمراده كائنا ما كان ، وإن كرهته نفس الإنسان ، رفع الحرج عنهم وغفر ما كان منهم ، أما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من الرخص في الأحكام ، متتبعا لفتاوى أهل الكلام ، فليست محبته لله محبة صادقة ، بل هي محبة عليلة ناقصة .
(6) - ومن علامات المحبة كثرة ذكر المحبوب والاستمتاع بحديثه ، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره واطمئن إليه بقلبه ، وشتان بين أن تذكر الله لأنك مطر إلي ذكره وحياتك قائمة على أمره ، وبين من يكثر من ذكره رغبة في حبه وقربه ، ولهذا أمر الله عباده بذكره على جميع الأحوال ، وأمرهم بذكره حتى وهم عند القتال فقال : } يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذَا لقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ { (الأنفال/45) وأمرهم بذكره بعد الصلاة على كل حال فقال : } فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ { (الجمعة/10) وقال : } يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا { (الأحزاب/42:41) ومدح سبحانه الذاكرين الله كثيرا والذاكرات فقال : } وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا { (الأحزاب/35) وذم الشعراء واستثني المؤمنين الذاكرين فقال : } وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الغَاوُونَ أَلمْ تَرَي أَنَّهُمْ فِي كُل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا { (الشعراء/277) .
(7) _ ومن علامات الحبة الصادقة النظر إلي أفعال المحبوب فإن كانت نقصا سترها وإن كانت كمالا أذاعها ونشرها ، ألا تري الوالد مع ولده ، من محبته يرفع من شأنه ودرجته ، ويهون من نقصه وعيبته ، فما بالنا إذا كان ربنا ومحبوبنا ، أفعاله كمال من كل وجه ولا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ألا يحتم ذلك علينا مدحَه والنظرَ في صنعه والمدوامةَ على شكره وذكره ، ومن هنا وبدافع الحب الذي هيمن على القلب أراد إبراهيم عليه السلام مزيدا من القرب ، برؤيته لفعل الله في إحياء موتاه فقال :
} رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { (البقرة/260) .
قال المفسرون : أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة ، ثم قال له : أوثقهن واذبحهن وقطعهن ، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن وجعل على كل جبل منهن جزءا ، وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن ، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش ، والدم يجتمع على الدم والعظم يلتحم بالعظم ، واللحم يلتصق باللحم ، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم ، حتى اكتمل البدن وتم ، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه ، ويرغب في التحامها بجسمه ، إذا قدم له غير رأسه يأباه ، فسبحان من خلقها وسواها ، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته ، ويتعجب من حكمته وقوته ، فآيات الله في خلقه تدعوا المحبين إلي التفكر في الآثار ، والنظر والاعتبار : } إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { (آل عمران/191) .
(8) _ ومن العلامات الدالة على صدق المحبة في القلب أن ينام المحب على ذكر محبوبه ، يذكره بلسانه عند نيامه وقيامه ، ولذلك كان رسول الله r ينام وآخر كلامه ذكر الله ، ويقوم وأول كلامه ذكر الله ، وروي البخاري 6324 عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أنه قَال : ( كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَال : بِاسْمِكَ اللهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَال الحَمْدُ للهِ الذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِليْهِ النُّشُورُ ) وروي البخاري 6320 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النَّبِيُّ r أنه قال : ( إِذَا أَوَي أَحَدُكُمْ إِلي فِرَاشِهِ فَليَنْفُضْ فِرَاشَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالحِينَ ) .
(9) - ومن أهم علامات المحبة التي هي شرط من شروط لا إله إلا الله ، طاعة المحبوب ، والانقياد لأمره ، والتصديق بخبره ، وهذا يحصل فقط بكمال المتابعة لنبيه r} قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ { (آل عمران/31) فجعل سبحانه وتعالي متابعة رسوله r سببا لمحبتهم وغفران ذلتهم ، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل :


تعصي الإله وأنت تزعم حبه : هذا محال في القياس بديع



لو كان حبك صادقا لأطعته : إن المحب لمن أحب مطيع

(10) - ومن علامات المحبة ترديد كلام المحبوب والإقبال على حديثه وإلقاء السمع إليه ، 5050خ فمن حديث عَبْد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ في الصحيحين قَال : قَال لي النَّبِيُّ r : اقْرَأْ على القرآن ، قُلتُ : يَا رَسُول اللهِ آقْرَأُ عَليْكَ وَعَليْكَ أُنْزِل ؟ قَال : نَعَمْ ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حتى أَتَيْتُ إِلي قوله : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدًا ، قَال : حَسْبُكَ الآنَ فَالتَفَتُّ إِليْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ) وفي سنن أبي داود 1469 عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري أن رَسُولُ اللهِ r قال : ( ليْسَ مِنَّا مَنْ لمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ ) .
(11)- ومن علامات المحبة محبة بيت المحبوب ، وانشراح الصدر لرؤيته ، وشد الرحال لزيارته ، وهذا هو السر الذي من أجله تعلقت القلوب بالبيت الحرام وكعبته ، حتى هجروا الأوطان من أجل محبتة ، وتحملوا السفر بمشقته ، طمعا في حب الله وعبادته ، ركبوا الأخطار ، وجابوا المفاوز والقفار ، واحتملوا في الوصول إلي البيت مشقة الأسفار ، وسر هذه المحبة هي إضافة البيت إلي نفسه سبحانه وتعالي : } وَعَهِدْنَا إِلي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ { (البقرة/128:125) .
(12) - ومن علامات المحبة توافق المحب مع محبوبه في المنطق والكلام ، والتحية والسلام ، فتتوافق السلامات بينهما في نفس الأوقات ، وتتوافق الكلمات بينهما في إخراج العبارات انظر إلي التوافق العجيب بين الحبيب محمد r وحبيبه أبي بكر الصديق ، في ردهما على عمر بن الخطاب ، فقد روي البخاري 2734 أن قريشا في صلح الحديبة ألزمت رسول الله r بأشياء لم يرغب فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقَال عمر للنبي r :
أَلسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلسْتُ أَعْصِيهِ يا عمر وَهُوَ نَاصِرِي ، قُلتُ : أَوَليْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي ، لكن هل أَخْبَرْتُكَ أَنَّا سنَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ فقَال عمر : لا ، فحثه الرسول على الصبر وقَال مبشرا له : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَال عمر بن الخطاب : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَليْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا فقَال أبو بكر : بَلي ، قال عمر : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لرَسُولُ اللهِ r وَليْسَ يعصى رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللهِ إِنَّهُ على الحقِّ قُلتُ : أَليْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ ستَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهـ) فأجاب أبو بكر عمر بجواب رسول الله r حرفا بحرف ، توافقا بين المحب ومحبوبه .
(13) - ومن علامات المحبة بكاء المحب من شدة الفرح بمحبوبه فقد روي مسلم عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللهِ r قَال لأُبَيٍّ : ( إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَليْكَ القرآن قَال : آللهُ سَمَّانِي لكَ ؟ قَال : اللهُ سَمَّاكَ لي ، فَجَعَل أُبَيٌّ يَبْكِي من شدة الفرح ) وفي رواية أحمد : ( لما نزلت سورة البينة لمْ يَكُنْ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الكِتَابِ ، قال جبريل عليه السلام : يا محمد إن ربك يأمرك أن تقرئ هذه السورة أبي بن كعب ، فقال النبي r: يا أبي إن ربي عز وجل أمرني أن أقرئك هذه السورة قَال : آللهُ سَمَّانِي لكَ ؟ قَال : نَعَمْ قَال : قَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالمِينَ ؟ قَال نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاه ) وبكي أبي بن كعب فرحا وسروا ، فالمحبة شجرة في القلب ، عروقها الذل للمحبوب وساقها معرفته ، وأغصانها خشيته وورقها الحياء منه ، وثمرتها طاعته ، وماء سقياها ذكره ، فمتي خلا الحب عن شيء من ذلك كان حبا ناقصا لم يحقق شرط لا إله إلا الله على الوجه المطلوب ، أكتفي بذلك وأقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني