المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شروط لا إله إلا الله الشرط السادس



أهــل الحـديث
21-12-2011, 05:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




الشرط السادس الانقياد المنافي للترك

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدي ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شىء قدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أرسله إلي الناس كافة ، رحمة لهم ورأفة بهم ، والناس يومها على شر حال ، في ظلمات الجاهلية يتقلبون ، وفي الشرك والوثنية غارقون ، دينهم بدعة ، ودعوتهم فرية ، فأعز الله الدين بمحمد صلي الله عليه وسلم ، وألف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، فأطيعوا الله عباد الله واستنوا بسنة نبيه صلي الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل قال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80) ، أما بعد ..
فمن شروط لا إله إلا الله الانقياد المنافي للترك ، شروط لا إله إلا الله جمعها الناظم في قوله رحمه الله :


علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها



وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها

وحديثنا إن شاء الله يدور حول الشرط السادس من هذه الشروط ، وهو الانقياد المنافي للترك ، فمن شروط لا إله إلا الله الانقياد لما دلت عليه كلمة التوحيد ، الانقياد المنافي للترك ، قال الله عز وجل : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) النساء/521 ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يُسْلمْ وَجْهَهُ إِلي اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَي وَإِلي اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُور ِ) لقمان/22 أي بلا إله إلا الله ، وتسليم وجهه لربه يعني أن ينقاد لأمره ، وهو محسن أي موحد يعبد الله كأنه يراه ، فمن لم يسلم وجهه لله ، فإنه لم يستمسك بلا إله إلا الله ، لم يستمسك بالعروة الوثقي ، لأن الله قال بعد ذلك : ( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِليْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَليلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلي عَذَابٍ غَليظٍ ) لقمان/24:23 وفي الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وهذا هو تمام الانقياد والغاية من خلق العباد .
وإذا كان اليقين متعلقا بباب الخبر وتصديقه ، فإن الانقياد متعلق بباب الأمر وتنفيذه ، ذلك لأن الانقياد يتطلب من العباد العبادة ، وهي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل ، وهذا هو الإسلام وتوحيد العبودية ، فتوحيد العبودية هو توحيد الألوهية ، وتوحيد الألوهية في مفهوم السلف يعني أنه لا إله إلا الله ، ولا معبود بحق سواه ، من أجل ذلك دعت الرسل سائر العباد إلي توحيد الطاعة والانقياد ، كما قال سبحانه وتعالي : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (لأعراف:65) ، فأجابوا منكرين توحيد الألوهية وإفرادَ الله بالعبودية ، قائلين : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (الأعراف:70) ، وقال تعالى في بيان أن هذا المنهج هو ما دعا إليه المرسلون أجمعون : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ) (الأنبياء/25) ، فالإله بمعني المألوه الذي يستحق العبادة والانقياد والانصياع ، وليس الإله بمعني القادر على الخلق والاختراع ، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين ، فلو أقر الإنسان بما يستحقه رب العالمين ، من الأسماء والصفات ، ونزهه عن كل العيوب والآفات ، وأقر بأن الله وحده هو خالق الموجودات ، لم يكن مسلما موحدا حتى يشهد بكلمة التوحيد ، ويحقق شروطها ويستوفي أركانها والتي من ضمنها ، الانقياد لرب العباد ، فإن المشركين في الجاهلية كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ، ولكن إشكالهم أنهم كانوا يوحدون الله في الدعاء عند الشدائد والنقمة ، ويشركون به عند الرخاء والنعمة ، يقول تعالى : ( وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَهُمْ ليَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُونَ ) الزخرف/87 ، ( وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ليَقُولُنَّ اللهُ قُل أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِي اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَل هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُل حَسْبِي اللهُ عَليْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُون ) الزمر/38 ، روي النسائي في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ ، أن رسول الله يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَال : اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُموهُمْ مُتَعَلقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ ، فكان منهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل ، بعد أن علم أن النبي rأباح دمه ركب عكرمة البَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عاصفة شديدة أيقنوا أنها ستغرق سفينتهم -– فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا - ، أي وحدوا ربكم في الدعاء والاستغاثة وقد كانوا كما تعلمون يلجئون في الرخاء إلي اللات والعزي ومناة الثالثة الأخرى وعند الشدائد يوحدون -– فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا فَإِنَّ آلهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا فَقَال عِكْرِمَةُ : وَاللهِ لئِنْ لمْ يُنَجِّنِي مِنَ البَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ لا يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرُهُ ، فعاد عكرمة إلي عقله وفطرته، وقال معلنا للتوحيد عند نجاته وعودته - اللهُمَّ إِنَّ لكَ على عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ حتى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلاجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا - وبالفعل وفي بوعده - جَاءَ فَأَسْلمَ ومات عكرمة بفضل الله على كمة التوحيد .
فلا إله إلا الله ، أو قضية الألوهية ، لم تكن مثار جدل بين المشركين ورسلهم ، إلا لأنها مبنية على توحيد العبودية وإفراد العباد ربهم بالطاعة والانقياد .
إذا علمت ذلك فاعلم الانقياد لرب العباد ، يتمثل في امتثالك لأحكام العبودية وتنفيذ الأوامر الشرعية ، فالعبادة طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل ، وما أمر الله به على ألسنة الرسل ، يطلق عليه الإرادة الشرعية أو الهداية الدينية ، أو ما أراده الله من المكلفين ، وما أمر به على ألسنة المرسلين ، ليحقق معني العبودية وصلاح البشرية ، والأمر الصادر من الله للعباد ، وكلفهم فيه بالطاعة والانقياد ، له خمس درجات متنوعة :
1- الحكم الأول أو الدرجة الأولي درجة الإلزام ، وهو التي تسمي في الأحكام بالواجب أو الفرض ، فالله عز وجل إذا أمر عباده بأمر ، فإن هذا الأمر ملزم للمسلمين ، ويتحتم عليهم الانقياد له محبين خاضعين ، لأن الإنسان في الأصل عبدُ خلقه الله ، ويلزم من كونه عبدا أن يطيع سيده ومولاه ، فإذا أمرنا الله بأمر فهو على سبيل الحتم والإلزام ، وإذا امتنع العبد عن تنفيده وقع في الحرام ، واستوجب الحساب والعقاب ، والواجب هو الفرض عند جمهور العلماء ، ولا فرق بينهما إلا من جهة الأسماء ، وقد عرفوه بقولهم : هو ما أمر الله به أمرا ملزما يترتب على تركه العقاب ، وقد أمرنا الله في كتابه وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم ، بأن ننقاد لأمره إذا كان مجردا عن قرينة الاختيار ، وليس للعبد في تركه مجال ، فقال سبحانه وتعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( النور: من الآية63) ، فحذر الله المخالفين لرسول الله من الفتنة والعذاب ، فدل هذا العقاب على أن الأمر الذي خالفوه واجب مفروض ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) ، فبين الله تعالى أنه لا اختيار للعباد إذا أمرهم سوي التنفيذ والانقياد ، وهذا يعني أن الأمر المطلوب حكمه الفرض والوجوب ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33) ، فالانقياد شرط لصحة الأعمال وكمالها ، وعدم الانقياد يؤدي إلي إحباط الأعمال وبطلانها .
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالتْ : قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ فَدَخَل على وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلتُ مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُول اللهِ أَدْخَلهُ اللهُ النَّارَ قَال أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ ، وفي رواية ابن ماجة عن البراء بن عاذب أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلي عمرة ، فردوا عليه القول ، فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان ، فقالت : من أغضبك أغضبه الله ؟ فقال : ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ) ، فالحديث دليل على أن أمره صلي الله عليه وسلم ينبغي أن ينفذ بلا عصيان ، ولولا أن أمره للوجوب ما دخل على عائشة غضبان .
وقد ثبت عند البخاري 4875 أن بريرة كانت أمة متزوجة من عبد يقال مغيث وأنجبت له ولدا ، فأعتقتها عائشة رضي الله عنها فخيرها رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أن تبقي زوجة للعبد أو تنفصل عنه وتنعم بحريتها ، فاختار حريتها وفضلتها على البقاء مع زوجها وَقَالتْ : لوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا بقيتُ مَعَهُ ، فكان يمشي خلفها ويطوف حولها ، ويبكي حتى تَسِيل دُمُوعُهُ على لحْيَتِهِ ويقول بعبرته : عودي إلي يا بريرة ، فتأبي عليه ، فكان رسول الله يقول للعَبَّاسِ بن عبد المطلب : يَا عَبَّاسُ أَلا تَعْجَبْ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ، فَقَال لهَا النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : يا بريرة لوْ رَاجَعْتِيهِ ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلدِكِ ؟ قَالتْ : يَا رَسُول اللهِ أَتَأْمُرُنِي ؟ قَال : إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ ، قَالتْ : فَلا حَاجَةَ لي فِيهِ .
والشاهد من الحديث في الانقياد لأمر الله ، أن شفاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم في رجوعها إلي زوجها ليست لازمة ولكنها علمت أنه لو أمرها بالرجوع لزوجها للزمها ذلك ، فإن أمره صلي الله عليه وسلم للوجوب ويلزمها الانقياد والطاعة .
وكل فعل أمر ورد في القران أو السنة ، وفيه إلزام بتنفيذ المطلوب ، فإن الحكم فيه يدل على الوجوب كما في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا ) المزمل/****20 ، ففعل الأمر أقيموا يدل على أن إقامة الصلاة فرض عين على المسلمين ، وكذلك الأمر في قوله وآتوا الزكاة يدل على أن الزكاة واجب على الأغنياء للفقراء والمساكين ، ولو رأيت الفعل مقترنا بلام الأمر ، فاعلم أن الأمر المطلوب يدل على الوجوب ، ومثاله في قوله تعالى : ( ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ وَليَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ ) الحج/29 ، فالفعل المضارع يقضوا ويوفوا وكذلك يطوفوا ، اقترنا الأمر فيهما باللام ، فدل الأمر على الحتم والإ لزام ، وهذا يعني أن الوفاء بالنذر والطواف بالبيت حكمهما المطلوب هو الفرض والوجوب .
وإذا وردت آية فيها لفظ كتب عليكم أو كتبنا عليهم ، فإن الحكم فيها الوجوب كقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَليْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة/183 ، ولو ردت آية أو حديث صرح بلفظ فرض أو وجب ، علمنا أيضا أن درجة الحكم هي الوجوب والفرضية ، كما قَال عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ في الحديث الذي رواه أبو داود : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : خَمْسُ صَلوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ تعالى ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاهُنَّ لوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لهُ على اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ له ) ، وكما جاء في حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : إِذَا جَلسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغَسْلُ ) .
فالغسل من الجماع حكمه الوجوب لتصريح النبي بذلك ، وكذلك إذا كانت الصيغة التي تدل على طلب الفعل مقترنة بوعيد وتهديد ، كعذاب أو لعن على ترك الفعل أو غضب على عدم امتثال الأمر ، دل ذلك على أن الحكم هو الوجوب ومثال ذلك في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْه قَال : لعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال ) فترك الرجال التشبه بالنساء أمر ملزم ، وتشبه النساء بالرجال فعل محرم ، ومصدر هذا الإلزام بالوجوب أو الحرام ، هو قرينة اللعن المترتبة على الفعل .
2- الحكم الثاني من أحكام العبودية ، هو المندوب أو المستحب ، فقد تقدم أن الأمر الملزم يسمي بالواجب أو الفرض ، وهو الحكم الأول من أحكام العبودية أو الدرجة الأولي من الأحكام الشرعية ، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد ، ولكن قد يأمر الله بأمر ولا يريد الإلزام والوجوب ، وإنما يريد أمرا فعله محبوب مندوب ، وهو المسمي في أحكام الإسلام بالمستحب ، فالمستحب هو ما أمر به الشرع لا على وجه الحتم والإلزام ، أو ما ندب الشرع إلي فعله دون إلزام ، أولوم أو لعن أو عقاب ، بل بحث على الطاعة واستحباب ، فيثاب المسلم على فعله ولا يعاقب على تركه ، ومثاله في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلي أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَليَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْل) البقرة/282 ، فالأمر في الآية بكتابة الدين قد يدل على أنه للوجوب ، ولكن ليس هذا بمقصود ولا مطلوب ، وإنما الحكم أن الأمر بكتابة الدين محبوب مندوب ، ولا يريد الله من أمره لنا الفرض والوجوب ، لأنه قال بعد ذلك : (وَإِنْ كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَليُؤَدِّ الذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَليَتَّقِ اللهَ رَبَّهـ) البقرة/183 ، وهذا ما ذهب إليه الشعبي والحسنُ البصري ومالكٌ والشافعي أن كتابة الدين على الندب والإرشاد لا على الفرض وإلزام العباد .
ومن أمثلة ما استحبه الشرع دون إلزام ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، بصلاة ركعتين قبل صلاة المغرب ، فقد روي البخاري من حديث عَبْد اللهِ المُزَنِيّ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أنه قَال : صَلُّوا قَبْل صَلاةِ المَغْرِبِ قَال فِي الثَّالثَةِ لمَنْ شَاءَ ) ، ولا يقصد فيه النبي صلي الله عليه وسلم إلا الندب والاستحباب ، كما ذكر ذلك العلماء ، فقوله لمن شاء دليل على صرف الأمر من الوجوب إلي المندوب .
بالإضافة إلي أنه صلي الله عليه وسلم بين الصلاة المفروضة على المسلم ، ففي الصحيح عَنْ طَلحَةَ بْنِ عُبَيْد الله أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَال يَا رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الصَّلاةِ فَقَال الصَّلوَاتِ الخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا فَقَال أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الصِّيَامِ فَقَال شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا فَقَال أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الزَّكَاةِ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَال وَالذِي أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللهُ على شَيْئًا فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَفْلحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَل الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ ، فوضح النبي صلي الله عليه وسلم الصلاة التي حكمها الوجوب ، وبين أن ما عدا ذلك فهو مستحب ومندوب .
ومن أمثلة المستحب أيضا ما ورد عند مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنه قال : (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ) فالأمر بالوضوء بعد تناول الطعام الذي مسته النار يدل على الوجوب ، ولكن فعله صلي الله عليه وسلم صرف الأمر من الوجوب إلي المندوب ، فقد روي البخاري عن عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عن أبيه : أَنَّهُ رَأي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلي الصَّلاةِ فَأَلقَي السِّكِّينَ فَصَلي وَلمْ يَتَوَضَّأْ ) .
3- أما الحكم الثالث من أحكام العبودية فهو المحرم ومعناه في اللغة الممنوع ، ويقصد به في الأحكام ما نهي عنه الشرع بإلزام ، فإذا ورد النص في الكتاب والسنة بالنهي عن بعض الأشياء ، علمنا أن الله حرم هذه الأشياء كما قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (الاسراء:32/33) .
ويعرَفُ الحرام من الأحكام أيضا ، بورود النص بلفظ التحريم كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (المائدة:3) ، وقال تعالى : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النور:3) ، فهذا التحريم تكليف من الله للعباد ، يتطلب الامتثال والانقياد ، ويعرف الحرام أيضا بأن تكون الصيغة التي تدل على ترك الفعل مقترنة بوعيد وعقاب أو الحرمانِ من الجنة ودخول العذاب ، أو اللعن أو الغضب أو الذم ، ومثال ذلك ما روي من حديث ابن عباس قال :
( مر رسول الله صلي الله عليه وسلم على قبرين فقال : إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من يوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ) ، فقرينة العقاب ، والوعيد بالعذاب دلت على أن الطهارة من البول واجبة ، وأن الغيبة والنميمة محرمة ، وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) ، فالوعيد بالمنع من دخول الجنة دليل على تحريم قطيعة الأرحام ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام من حديث أَبِي جُحَيْفَةَ عند البخاري : ( وَلعَنَ الوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِل الرِّبَا وَمُوكِلهُ وَلعَنَ المُصَوِّرَ ) فاللعن دليل على حرمة الربا ، وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ( ليْسَ مِنَّا مَنْ لطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِليَّةِ ) فقوله ليس منا ، دليل على أن لطم الخدود وشق الجيوب ودعوة الجاهلية أفعال محرمة في الأحكام الشرعية .
4- أما الحكم الرابع من أحكام العبودية فهو المكروه ، والمكروه هو ما نهي عنه الشرع بغير إلزام ، فهو أقل من درجة الحرام ، فالمكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ، ومن أمثلة المكروه ، التثاؤب في الصلاة ، فقد كرهه رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَحَقٌّ على كُل مُسْلمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَليَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَال هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ) وسبب كراهة التثاؤب ، أن التثاؤب يكون من الشبع وامتلاء البطون ، فينشأ عنه الكسل والفتور والخمول ، ويؤدي في النهاية إلي ثقل الأبدان ، فإذا صلي الإنسان ضحك على صلاته الشيطان ، ومن ثم كان في دفعه ثواب وليس في فعله عذاب ولا عقاب ، ومن أمثلة المكروه في الأحكام ، صبغ الشعر باللون الأسود ، كما ورد في صحيح مسلم أن كما قال النيي صلي الله عليه وسلم عن الشيب :
( غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَاد َ) ، فالشيب أو بياض شعر الرأس واللحية وقار ، والمعهود في السنة أن يصبغ بلون فيه حمرة أو اصفرار ، ومثال المكروه أيضا مباشرة الرجل لزوجته وهي حائض ، بدون ثوب أو حفائض ، وذلك حتى لا تجد النفس ذريعة إلي جماعها والوقاع بها ، فيقع في الحرام ، والأصل في الأحكام أنه يحل له منها كل شيئ إلا الجماع ، وأما فيما دون الفرج فهو مباح له في وقت الحيض ، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أدب المؤمنين ، وسد عليهم أبواب العصيان ، وأغلق لهم أسباب الافتتان ، فعن ميمونة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلي أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به ) .
5- أما الخامس من أحكام العبودية فهو المباح ، والمباح هو ما خيرنا الشرع في فعله أو تركه ، فلا يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه ، ويسمي المباح أيضا بالحلال أو الجائز ، كقوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )(المائدة: من الآية1) ، فحرم الله الاصطياد على المسلمين أثناء حجهم أو عمرتهم ، لكن بعد أن يتحللوا من إحرامهم ، أباح لهم الاصطياد ، يصطادوا أو لا يصطادوا فالأمر مباح لهم على وجه التخيير وحرية التدبير ، فقال تعالى : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (المائدة: من الآية2) وكذلك الأمر في قوله تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10) ، فالأمر في قوله تعالى فانتشروا للتخيير وإباحة البيع ، لأنه كان محرما وقت صلاة الجمعة ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ) (الجمعة:9) ، وذلك لأنهم قاموا إلي التجارة والبيع أثناء الخطبة والنبي صلي الله عليه وسلم على المنبر ، فحرم الله عليهم البيع والشراء تحريما مؤقتا أثناء الصلاة ، ثم أباحه لهم إذا قضيت الصلاة وأن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضل الله .
فهذه أحكام العبودية التي اشتملت على الأوامر التكليفية ، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد ، والناس فيها على نوعين ، وتنفيذهم لها على مرتبتين ، مرتبة أصحاب اليمين ، ومرتبة السابقين المقربين ، فأما مرتبة أصحاب اليمين ، فأداء الواجبات وترك المحرمات ، مع ارتكاب بعض المكروهات وترك المستحبات ، والتوسع في بعض المباحات ، وأما مرتبة المقربين ، فهي القيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم يوم الممات ، متورعين عن بعض المباحات ، خوفا من ربهم حتى صارت المباحات في حقهم طاعاتٍ وقربات بصدق النية وكمال الانقياد في العبادات ، فهذا انقياد الموحدين ، السابقين المقربين ، كان الشخص منهم إذا رفع صوته في حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم أحس كأن مصيبة حلت بقلبه ، وكأن النار أحرقته بذنبه ، روي الإمام مسلم 119 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال : ( لمَّا نَزَل قول الله تعالى :
} يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لهُ بِالقَوْل كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ { (الحجرات/2) جَلسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ – وكان صوته مرتفعا في حضرة النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ - جَلسَ وَقَال : أَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَل النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَال ؟ يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَي ؟
قَال سَعْدٌ : إِنَّهُ لجَارِي يا رسول الله ، وَمَا عَلمْتُ لهُ بِشَكْوَى قَال : فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لهُ قَوْل رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال ثَابِتٌ : أُنْزِلتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلقَدْ عَلمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا على رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ ، فَذَكَرَ ذَلكَ سَعْدٌ للنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : بَل هُوَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ، فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ) .
وإذا كان الشخص عاملا في مصنع وينقاد لصاحبه أتم انقياد حرصا على وظيفته ، وطمعا في قربه ومحبته ، أليس من الأولي أن ينقاد لربه وخالقه وأن يسلم أمره لمعبوده ومالكه ، انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق وطاعة الأمراء للملوك ، لما بلغ أميرُ المؤمنين عبدُ الملك بن مروان اضطرابُ أهل العراق وكثرة التمرد والنفاق ، جمع أهل بيته وأولي النجدة من جنده ، وقال أيها الناس إن العراق تكدر ماؤها ، وكثر غوغاؤها ، وأملولح عذبها ، وعظم خطبها وظهر ضرامها ، وعسر إخماد نيرانها ، فهل من ممهد لهم بسيف قاطع ، وذهن جامع ، وقلبٍ ذكي وأنفٍ حمي فيخمد نيرانها ويردع غيلانَها وينصِف مظلومها ويداوي الجرح حتى يندمل ، فتصفو البلادُ ويأمن العباد ، فسكت القوم ولم يتكلم أحد ، فقام الحجاج وقال يا أمير المؤمنين : أنا للعراق قال من أنت لله أبوك ، قال أنا الليث الضمضام والهزبر الهشام أنا الحجاج بن يوسف الثقفي قال ومن أين قال من ثقيف كهوف الضيوف ومستعملوا السيوف قال أجلس لا أم لك فلست لها ثم قال أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان : مالي أري الرؤوس مطرقة والوجوه ممزقة ، فلم يجبه أحد فقام إليه الحجاج وقال أنا مجندل الفساق ومطفيء نار النفاق .
قال ومن أنت قال أنا قاصم الظلمة ومعدن الحكمة الحجاج بن يوسف ، معدن العفو والعقوبة وآفة الكفر والريبة قال إليك عني فلست لها ، ثم قال من للعراق فسكت القوم وقام الحجاج وقال أنا للعراق فقال إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وإن لكل شيء يا ابن يوسف آيةً وعلامة ، فما آيتك وما علامتك ؟
انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق ، وانقياد الحجاج للملوك ، قال الحجاج آيتي وعلامتي : العقوبة والعفو والاقتدار والبسط والازورار والادناء والابعاد والجفاء والبر والتأهب والحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب فمن جادلني قطعته ومن نازعني قصمته ومن خالفني نزعته ومن دنا مني أكرمته ومن طلب الأمان أعطيته ومن سارع إلي الطاعة بجلته فهذه آيتي وعلامتي وما عليك يا أمير المؤمنين إلا أن تبلوني في الانقياد ، فان لم أكن للاعناق قطاعا وللأموال جماعا وللأرواح نزاعا فاستبدلني يا أمير المؤمنين ، فان الناس كثير ومن يقوم بهذا الأمر عدد قليل قليل ، فقال عبد الملك أنت لها فما الذي تحتاج إليه قال قليل من الجند والمال ، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال هيىء له من الجند شهوته ، وألزِمْهُم طاعتَه وحذِّرْهم مخالفته ثم دعا الخازن فأمره بمثل ذلك .
فخرج الحجاج قاصدا نحو العراق فصعد المنبر ونهض قائما فكان أول شيء نطق به أن قال والله إني لأري رؤسا قد أينعت وحان وقت قطافها وإني لصاحبها ، وإني لأري الدماء تترقرق بين العمائم واللحي ، ثم قال : يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلي من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم ، فلم يرد أحد من الجالسين فقال الحجاج أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون ، أهذا أدبكم الذي تأدبتم به أما والله لأودبنكم أدبا غير هذا الأدب ، اقرأ يا غلام فقرأ حتى بلغ قوله سلام عليكم فلم يبق أحد إلا قال وعلى أمير المؤمنين السلام .
فهذا انقياد المخلوق للملوك فأولي بالمسلم العاقل أن ينقاد لملك الملوك ، ويكفينا ما رواه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلا مَنْ أبي قَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَمَنْ يَأبي قَال مَنْ أَطَاعَنِي دَخَل الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبي ) .
واعلم أن الانقياد المنافي للترك يُلزِمُكَ باتباع السنة ويمنعك من إظهار البدعة ، فإن الله عز وجل قال : ( لقَدْ مَنَّ اللهُ على المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَليْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) آل عمران /164 ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُوْلي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلي اللهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل ) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وقد سمي الإسلام إسلاما لأن من دخل فيه استسلم لله وأحسن الانقياد وأسلم وجهه لرب العباد ، واتبع كل ما جاء عن الله ورسوله من أحكام , وقد كان السلف الصالح يتبعون السنة ويجتنبون البدعة ، ويعذر بعضهم بعضا ، أما الآن فإلي الله المشتكي من تغير الزمان وانتكاسه ، وتقلبه وانعكاسه ، ودثور السنة وخمولها ، وظهور البدعة وشمولها ، وما يحدث بين الإخوان والجماعات من التناكر والتحاسد ، والتدابر والتباعد ، وما يقارب هذه الأفعال ويدانيها ، ويناسبها ويضاهيها ، فإنها مصيبة ظهرت في سائر الأقطار وبلية انتشرت في سائر القرى والأمصار ، فنسأل الله للجميع الهداية ، ونسأله الحماية من هوى النفس الذي يزيغ بقلب الإنسان ، ونعوذ به من وسواس الشيطان .
ومن حديث العرباض بن سارية قال صلي بنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد فإنه من يعيش منكم فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها ) .
فعليك بالانقياد للسنة وترك البدعة فإن البدعة هي كل ما أحدث على غير مثال سابق ، فالبدعة التي تتعلق بالمعاملات وشؤون الدنيا كاختراع الآلات ووسائل النقل والمواصلات ، كالطائرات والسيارات ، وأدوات الطهي وغيرها من الأجهزة والمصنوعات ، إلي غير ذلك مما يرجع إلي مصالح الفرد والجماعات ، فهذه في نفسها لا حرج فيها ولا إثم في اختراعها ، أما بالنسبة للمقصد من اختراعها وما تستعمل فيه ، فإن استعملت في الخير فهي خير ونعماء ، وإن قصد بها شر فهي شر وبلاء ، وقد تكون البدعة في الدين بدعة عقائدية أو بدعة في منهج العبودية ، سواء كانت البدعة قولية أو فعلية ، كبدعة نفي التقدير وما سبق في أم الكتاب من أنواع التدبير ، وكبدعة بناء المساجد على القبور ، وإقامةِ القباب على المقبور ، وقراءةِ القرآن على الأموات ، والتباهي بإقامة السُّرَادِقَات ، والاحتفال بالموالد والمزارات ، وإحياءِ ذكري الصالحين والوجهاء ، والاستغاثة بهم في المدد والدعاء ، فهذه وأمثالها كلها ضلال لقول النبي صلي الله عليه وسلم إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام ، كالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه ، والذبحِ لغير الله وتقديمِ النذر إليه ، إلي أمثال ذلك مما هو عبادة مختصة بالله ، ومنها ما هو ذريعة إلي الشرك بالله ، كالتوسل إلي الله بجاه الصالحين والحلفِ بسيد الأنبياء والمرسلين ، وقول الشخص ما شاء الله وشئت ، ما لي إلا الله وأنت ، وغير ذلك من الألفاظ الشركية والأمور البدعية .
واعلم أيها المسلم أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلي زيادة أو نقصان ، وإنما يحتاج إلي شرحٍ وبيان وفتوةٍ ببرهان ، والقرون الفاضلة هم خير الناس وأفضل الناس وأولاهم بالمتابعة ، والبدعة اتهام لدين الله بالنقص والمذمة ، لأنه إن ادعي صاحبُها أنها واجبة أو مستحبة ، فلا يكون الدين صحيحا أو كاملا إلا بها ، فالرسول صلي الله عليه وسلم ما ستر شيئا مما أمر الله به المسلمين في أمور الدين ، ولم يدع إلي تلك البدعة ، ولما قال تعالى : ( اليَوْمَ أَكْمَلتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكُمْ الإِسْلامَ دِينَا ) (المائدة/3) علمنا أنه إما أن يكون الله تعالى هو الصادق في إكمال دينه أو أن المبتدع هو الصادق في نقصانه ؟
ولما استحال الأمر الثاني ثبت الأمر الأول ، ولو سُئل المبتدع عن بدعته ، هل علمها رسول الله أم جهلها ؟ فإن ادعي علم الرسول بها ، فسيقال : إذا علمها ولم يثبت أنه دعي إليها بل سكت عنها ، فنحن أولي بالسكوت عنها ، وإذا قال : جهلها ادعي أنه أعلمُ من رسول الله صلي الله عليه وسلم بما ينفع الناس ، ولا ينفع المبتدعَ في ترك السنة والتمسكَ بالبدعة حسنُ النية ، فقد ثبت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنكر على المتشددين في العبادة ، فعند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
( جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَلمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَال أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلّي الليْل أَبَدًا ، وَقَال آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ ، وَقَال آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم إِليْهِمْ ، فَقَال : أَنْتُمُ الذِينَ قُلتُمْ كَذَا وَكَذَا ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لهُ لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَليْسَ مِنِّي ) ، وعند البخاري أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا ليْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ) .
ومن هنا فإن البدعة مرفوضة بكل سبيل ، مهما بالغ صاحبها في التحليل والتعليل ، فلا بد في كل طاعة من قيام الدليل ، ولا يمكن التأخي بين الأمور البدعية وبين الأدلة القرآنية والنبوية ، فالسلف اتخذوا كتاب الله إماما وآياته فرقانا ، ونصبوا الحق بين أعينهم عيانا ، وسنن رسول الله صلي الله عليه وسلم جنة وسلاحا ، واتخذوا طريق الحق منهاجا ، وجعلوه نورا وبرهانا .
وهذه وصية الخطاب بن المعلى لولده يعظه فيها باتباع السنة والعمل بالأحكام ، وهي وصية نافعة جامعة في معاني الإسلام ، فقال : يا بني عليك بتقوى الله وطاعته ، واجتناب محارمه ، باتباع سنته ومعالمه ، حتى تصحَ عيوبُك ، وتقرَّ عينُك ، فانها لا تخفي على الله خافيه ، إياك وهذر الكلام ، وكثرة الضحكك والمزاح ، ومهازلة الإخوان ، فإن ذلك يذهب البهاء ، ويوقع الشحناء ، وينمي الخيلاء ، وعليك بالرزانة والوقار ، من غير علو أو استكبار ، وقابل صديقك وعدوك بوجه الرضي ، وكَفِّ الأذي ، من غير ذلة لهم ، ولا هيبة منهم ، وكن في جميع أمورك في أوسطها ، فإن خير الأمور أوسطها ، وقلل الكلام وأفش السلام ، ولا تكثر المراء ، ولا تنازع السفهاء ، فإن تكلمت فاختصر ، وإن مزحت فاقتصر ، وغض الطرف عن الفكاهات وأنواع المضاحكات وطول الحكايات ، ولا تحدث الناس عن إعجابك بولدك ولا جاريتك ، ولا عن فرسك ولا عن سفيك ، ولا تُعْلمْ أهلك وولدَك فضلا عن غيرهم عدد مالك ، فإنهم إن رأوه قليلا هنت عليهم ، وإن كان كثيرا لم تبلغ به رضاهم ، وأخفهم من غير عنف ، ولن لهم من غير ضعف .
وإذا وعدت فحقق وإذا حدثت فاصدق ، وتخير محاسن القول بالحديث المقبول وإذا حدثت بسماع ، فانسبه إلي أهله ، ولا تمسك في الإنفاق إمساك المثبور ، ولا تبذر تبذير السفيه المغرور ، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ، يحزنون من صادقهم ، قربهم أعدي من الجرب ورفضهم استكمال للأدب ، والإخوان إثنان فمحافظ عليك عند البلاء ، وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلاء وتجنب صديق العافية ، فإنهم أعدي الأعداء ، وذَمُّ الجاهل إياك أفضلُ من ثنائه عليك ، وعليك بمعرفة الحق من أخلاق الصدق ، واعلم أن السماجة سفاهة ، وأن السكران شيطان ، وكلامُه هذيان ، والشعر من السحر والتهديد من الهجر ، والشح شقاء والشجاعة بقاء .
يا بني إن زوجة الرجل سكن له ، ولا عيش له مع منازعتها ، فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الطيبة ، واعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فمنهن المعجبة بنفسها ، ومنهن المزرية ببعلها ، إن أكرمهتا نسبت الفضل لنفسها ، لا تشكر على جميل ، ولا ترضي منه بقليل ، لسانها عليه سيف صقيل ، قد كشفت ستر الحياء عن وجهها ، فلا تستحي من عيوبها ، وجه زوجها مكلوم ، وعِرضُه مشتوم ، يصبح كئيبا ويمسي كئيبا ، شرابه مر وطعامه مر ، نهاره ليل ، وليله ويل ، تلدغه مثلُ الحية العقارة ، وتلسعه مثلُ العقرب الجرارة ، إن قال زوجها لا قالت نعم ، وإن قال نعم قالت لا ، كأنها مولدة لمخازيه ، محتقرة لما هو فيه ، ومنهن الورهاء الحمقاء ، الماضغة للسانها ، الآخذة في غير شأنها ، قد قنعت بحبه ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت ، ولم يكنس لها بيت ، طعامها بائت وعجينها حامض وماؤها فاتر ، ومتاعها مزروع وماعونها ممنوع وخادمها مضروب وجارها مغلوب ، ومنهن العطوف الودود المباركة الولود ، المحبوبة في جيرانها ، المحمودة في سرها وإعلانها ، كريمة التبعل كثيرة التفضل ، خافضة صوتها ، نظيفة في بيتها ، خيرها دائم وزوجها ناعم ، محبوبة مألوفه ، وبالعفاف موصوفة ، جوهرة مثمرة ، وذكرها مفخرة ، حريصة على عرضها ، أمينة على بيتها ، تحفظ زوجها في غيبته ويأنس بها في حضرته ، فلتكن زوجتك من هذا الصنف تسعد بها في دنياك وأخراك .
فاللهم اسقنا من حوض نبيك المورود وشرفنا بلوائه المعقود وشفعه فينا في اليوم المشهود وارحمنا به إذا صرنا تحت أطباق اللحود عباد الله : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني