المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتـــــــــــــــــــاب القـــــــــــــدر



أثيــره
10-01-2010, 02:52 AM
كتاب القدر
فصــل في قدرة الرب عز وجل اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شىء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا‏.‏ وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على ‏[‏الأربعين‏]‏، و‏[‏المحصل‏]‏ وفي شرح ‏[‏الأصبهانية‏]‏ وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره في ‏[‏مسألة كون الرب قادرًا مختارًا‏]‏، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه0
والمقصود هنا‏:‏ الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول‏:‏ هنا مسائل‏:‏
المسألة الأولى‏:‏ قد أخبر الله أنه على كل شىء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال‏:‏
طائفة تقول‏:‏ هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم0
وطائفة تقول‏:‏ هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ0
والصواب‏:‏ هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو‏:‏ أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، و إن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال‏:‏ قد تجتمع الحركة والسكون في الشىء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون‏؟‏ فيقال‏:‏ هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشىء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 2‏]‏0
المسألة الثانية‏:‏ أن المعدوم ليس بشىء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب0
وقد يطلقون أن الشىء هو الموجود، فيقال على هذا‏:‏ فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا‏:‏ لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام‏.‏ والذين قالوا‏:‏ إن الشىء هو الموجود ـ من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما ـ يقولون‏:‏ إنه قادر على الموجود، فيقال‏:‏ إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا‏:‏ هو قادر على الموجود والمعدوم0
والتحقيق‏:‏ أن الشىء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شىء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكنشيئًا في الخارج‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، ولفظ الشىء في الآية يتناول هذا وهذا، فهو على كل شىء ما وجد وكل ما تصوره الذهن موجودًا، إن تصور أن يكون موجودًا قديرًا، لا يستثنى من ذلك شىء، ولا يزاد عليه شىء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏‏.‏ فلما نزل‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ الآية قال‏:‏ ‏[‏هاتان أهون‏]‏‏.‏ فهو قادر على الأولتين وإن لم يفعلهما، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏0
قال المفسرون‏:‏ لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم‏.‏ ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 68-82‏]‏، وهذا يدل على أنه قادر على ما لا يفعله‏.‏ فإنه أخبر أنه لو شاء جعل الماء أجاجًا وهو لم يفعله، ومثل هذا‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏0 ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏، ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، فإنه أخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أشياء وهو لم يفعلها، فلو لم يكن قادرًا عليها؛ لكان إذا شاءها لم يمكن فعلها0
المسألة الثالثة‏:‏ أنه على كل شىء قدير، فيدخل في ذلك أفعال العباد وغير أفعال العباد‏.‏ وأكثر المعتزلة يقولون‏:‏ إن أفعال العبد غير مقدورة0
المسألة الرابعة‏:‏ أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏، ‏{‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏ ونظائره كثيرة0
والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏، ‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏، وجاءت منصوصًا عليها في الكتاب والسنة0 أما الكتاب فقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 41‏]‏، فبين أنه ـ سبحانه ـ يقدر عليهم أنفسهم، وهذا نص في قدرته على الأعيان المفعولة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، و‏{‏لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ وهو يدل بمفهومه على أن الرب هو الجبار عليهم المسيطر، وذلك يستلزم قدرته عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ ـ على قول الحسن وغيره من السلف ممن جعله من القدرة ـ دليل على أن الله قادر عليه وعلى أمثاله، وكذلك قول الموصى لأهله‏:‏ لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏.‏ فلما حرقوه أعاده الله ـ تعالى ـ وقال له‏:‏ ‏(‏ما حملك على ما صنعت‏؟‏‏)‏ـ قال‏:‏ خشيتك يا رب‏!‏ فغفر له، وهو كان مخطئًا في قوله‏:‏ لئن قدر الله علي ليعذبني كما يدل عليه الحديث، وإن الله قدر عليه، لكن لخشيته وإيمانه غفر الله له هذا الجهل والخطأ الذي وقع منه0
وقد يستدل بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 20ـ 23‏]‏ على قول من جعله من القدرة، فإنه يتناول القدرة على المخلوقين وإن كان ـ سبحانه ـ قادرًا ـ أيضًا ـ على خلقه، فالقدرة على خلقه قدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على خلقه، وجاء ـ أيضًا ـ الحديث منصوصًا في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود لما رآه يضرب عبده‏:‏ ‏(‏لله أقدر عليك منك على هذا‏)‏0 فهذا فيه بيان قدرة الرب على عين العبد، وأنه أقدر عليه منه على عبده، وفيه إثبات قدرة العبد0
وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة‏:‏ كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب‏.‏ وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبِكَ‏)‏‏(‏2‏)‏0
وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا‏}‏ إلى ‏{‏قَدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ ‏.‏20ـ21‏]‏، فدل على أنهم قدروا على الأول، وهذه يمكن أن يقدروا عليها وقتًا آخر‏.‏ وهذه قدرة على الأعيان، وقوله‏:‏ ‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا‏}‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏ 25ـ32‏]‏0
قال أبو الفرج‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏قّادٌرٌينّ‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة‏.‏ قلت‏:‏ وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما‏.‏ قال مجاهد‏:‏ قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي‏:‏ قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال‏:‏ غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم0
قال أبو الفرج‏:‏ والثاني‏:‏ قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي‏:‏ على منعهم‏.‏ وقيل‏:‏ على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم0
والثالث‏:‏ غدوا وهم قادرين، أى‏:‏ واجدون، قاله ابن قتيبة0
قلت‏:‏ الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم‏.‏ وقول من قال‏:‏ قادرين عند أنفسهم، أى‏:‏ ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم0
قال البغوي‏:‏ الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب‏.‏ قال الحسن وقتادة وأبو العالية‏:‏ على جد وجهد‏.‏ وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة‏:‏ على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم‏.‏ قال‏:‏ وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشىء جاد مجمع على الأمر‏.‏ وقال أبو عبيدة والقُتَيبي‏:‏ غدوا من أنفسهم على حرد‏:‏ على منع المساكين، يقول‏:‏ حاردت السَّنَةُ‏:‏ إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ‏:‏ إذا لم يكن لها لبن‏.‏ وقال الشعبي وسفيان‏:‏ على حنق وغضب من المساكين‏.‏ وفي تفسير الوالبي‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ على قدرة0
قلت‏:‏ الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل‏:‏ الحرد‏:‏ هو الغيظ والغضب، والله أعلم0
ونظير هذا ـ وهو صريح في المطلوب ـ أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ‏}‏ الآية‏:‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، يبين أنه لولا الجائحة لكان ظنهم صادقًا، وكانوا قادرين عليها، لكن لما أتاها أمر الله تبين خطأ الظن، ولو لم يكونوا قادرين عليها لا في حال سلامتها ولا في حال عطبها، لم يكن الله أبطل ظنهم بما أحدثه من الإهلاك، وهؤلاء لم يكونوا ذهبوا ليحصدوا، بل سلبوا القدرة عليها ـ وهي القدرة التامة ـ فانتفت لانتفاء المحل القابل؛ لا لضعف من الفاعل، وفي تلك قال‏:‏ ‏{‏عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 25‏]‏، ولم يقل‏:‏ قادرين عند أنفسهم، فإن كان كما قاله من قال‏:‏ عند أنفسهم فالمعنى واحد، وإن أريد بكونهم قادرين، أي‏:‏ ليس في أنفسهم ما ينافى القدرة؛ كالمرض والضعف، ولكن بطل محل القدرة كالذي يقدر على النقد والرزق ولا شىء عنده0
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏، فهم في هذه الحال لا يقدرون مما كسبوا على شىء، فدل على أنهم في غير هذا يقدرون على ما كسبوا، وكذلك غيرهم يقدر على ما كسب، فالمراد بالمكسوب المال المكسوب0
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 75‏]‏، فلما ذكر في المملوك أنه لا يقدر على شىء، ومقصوده أن الآخر ليس كذلك، بل هو قادر على ما لا يقدر عليه هذا، وهو إثبات الرزق الحسن مقدورًا لصاحبه، وصاحبه قادر عليه، و بهذا ينطق عامة العقلاء يقولون‏:‏ فلان يقدر على كذا وكذا، وفلان يقدر على كذا وكذا، ومقدرة هذا دون مقدرة هذا0
ومما يبين ذلك‏:‏ أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏، لما كان قادرًا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ أي‏:‏ مطيقين، فدل على أنهم صاروا مقرنين مطيقين لما سخرها لهم، فهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فّهٍمً لّهّا مّالٌكٍونّ‏}‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 97‏]‏، فدل على أنهم لو نقبوا ذلك لكانوا قد استطاعوا النقب، والنقب ليس هو حركة أيديهم، بل هو جعل الشىء منقوبًا، فدل على أن ذلك النقب مقدور للعباد0
وأيضًا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول‏:‏ ليس شىء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، و هذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح‏:‏ ‏{‏وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37، 38‏]‏، وقد أخبر أن الفلك مخلوقة مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها من آياته، فقال‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏، ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏.‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95، 96‏]‏0
فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن ‏[‏ما‏]‏ هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد‏.‏ وأما قول من قال‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ مصدرية، فضعيف جدًا0
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، وإنما دمر ما بنوه وعرشوه، فأما الأعراض التي قامت بهم، فتلك فنيت قبل أن يغرقوا، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ دليل على أن العروش مفعول لهم، هم فعلوا العرش الذي فيه، وهو التأليف، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏، يدل على أن المبني هم بنوه، حيث قال‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ‏}‏‏؟‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149‏]‏، هو كقوله‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 9‏]‏، دل على أنهم جابوا الصخر، أي‏:‏ قطعوه0

جميل الثبيتي
10-01-2010, 09:08 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيرا ونفع بكم كنت اتمنى فقط ذكر المصدر لأهمية وعمق الطرح

حتى يتبين لنا المنهج وفقكم الله

أثيــره
10-01-2010, 03:20 PM
وعليكم السلام والرحمه

مصدره من مكتبة الشيخ بن تيمية

واتمنى الاستفاده مما طرحت

شقاوي 2008
10-01-2010, 03:30 PM
جزاك الله خير ونفع بك

أثيــره
10-01-2010, 04:06 PM
جزاك الله خير ونفع بك



ويجزايج الخير يارب

اشكر مرورج

اسيرالصمت
10-01-2010, 04:34 PM
جزاك الله خير ونفع بك

أثيــره
10-01-2010, 09:23 PM
جزاك الله خير ونفع بك


ويجزاك خير يارب

تسلم على المرور

حاملة المسـك
13-01-2010, 04:51 PM
سبحـان الله العظيـم

وفقك الله اخيتي الغاليه ونفع بك ,,, تقبلي مروري

أثيــره
14-01-2010, 12:12 AM
تسلمين يالغلا على المرور الرائع