المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة



دفء البوح
17-02-2009, 02:36 PM
المؤلف / الدكتور - عمر بن سليمان الأشقر

العقيدة في ضوء الكتاب والسنة
الجنة والنار
الدكتور عمر سليمان الأشقر


الجنة تعريف وبيان
الجنة هي الجزاء العظيم ، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته ،وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحير العقل ويذهله ، لأن تصور عظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه.
استمع إلى قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر" ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " اقرؤوا إن شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [السجدة:17]". (1)
وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا ، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يساوي شيئاً. ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ". (2)
ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم ، والفوز الكبير، والنجاة العظمى قال تعالى: ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) [ آل عمران:185]، وقال: ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة:72]، وقال أيضا : ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) [ النساء:13].
--------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في كتاب: بدء الخلق ، باب: ما جاء في صفة النار. فتح الباري: (6/318).ورقم الحديث : 3244.
(2) صحيح البخاري: 3250.
الجنة والنار مخلوقتان
(1/1)
________________________________________
قال الطحاوي في العقيدة السلفية التي تنسب إليه المعروفة بالعقيدة الطحاوية : " والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد ".
وقال محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية في شرحه لهذا النص:
" أما قوله : "إن الجنة والنار مخلوقتان"، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا. وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة. وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث، لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة . فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم".
ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أنهما مخلوقتان، "فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى عن الجنة : ) أعدت للمتقين ( [آل عمران: 133]، ) أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ( [الحديد: 21]، وعن النار ) أعدت للكافرين ) [ آل عمران : 131]، ( إن جهنم كانت مرصاداً * للطغين مئاباً ) [ النبأ: 21 – 22]. وقال تعالى: ( ولقد رءاه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى ) [ النجم: 13– 15] .
(1/2)
________________________________________
وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهي، ورأى عندها جنة المأوى. كما في "الصحيحين"، من حديث أنس رضي الله عنه، في قصة الإسراء، وفي آخره: " ثم انطلق بي جبرائيل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال : ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ".
وفي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ". (1)
وحديث البراء بن عازب وفيه : " ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ".
وفي "صحيح مسلم" ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم. ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت ". (2)
وفي " الصحيحين " واللفظ للبخاري، عن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ، ثم رأيناك كعكعت ؟ فقال: " أني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً ، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء " ، قالوا: بم ، يا رسول الله ؟ قال : "بكفرهن" قيل : يكفرن بالله ؟ قال: " يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط " . (3)
(1/3)
________________________________________
وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة السابق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعد الصلاة: " لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ، ولضحكتم قليلاً ". (4)
وفي "الموطأ والسنن" ، من حديث كعب بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما نسمة المؤمن طيرٌ تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة " . (5) وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة.
وفي "صحيح مسلم والسنن والمسند" ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة، فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، ثم رجع فقال :وعزتك، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد .
قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً ، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها ". ونظائر ذلك في السنة كثيرة . (6)
(1/4)
________________________________________
وقد عقد البخاري في صحيحه باباً قال فيه : "باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (7) وساق في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أن الجنة مخلوقة، منها الحديث الذي ينص على أن الله يُري الميت عندما يوضع في قبره مقعده من الجنة والنار، وحديث إطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجنة والنار، وحديث رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقصر عمر بن الخطاب في الجنة، وغير ذلك من الأحاديث، وقد كان ابن حجر مصيباً عندما قال: " وأصرح مما ذكره البخاري في ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد قوي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها ". (8)
شبهة من قال النار لم تخلق بعد :
وقد ناقش شارح الطحاوية شبهة الذين قالوا : لم تخلق النار بعد ، ورد عليها فقال:
"وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي: أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت، لقوله تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه( [ القصص : 88] ، و ( كل نفس ذائقة الموت ) [ آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في جامعه، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر " (9) . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: " من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة " (10) ، قال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى . قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت:
(1/5)
________________________________________
( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) [ التحريم : 11].
فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يُحدث فيها شيئاً يعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث فيها عند دخولهم أموراً أخر – فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر.
وأما احتجاجكم بقوله تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88] ، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن – نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام. فمن كلامهم : أن المراد ( كل شيء ) مما كتب الله عليه الفناء والهلاك ( هالك ) ، والجنة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش، فإنه سقف الجنة.
وقيل : المراد إلا مُلْكَه. وقيل : إلا ما أريد به وجهه. وقيل : إن الله تعالى أنزل: ( كل من عليها فان ) [ الرحمن : 26]، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88] لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة، الدالة على بقاء الجنة، وعلى بقاء النار أيضاً، على ما يُذْكَر عن قريب، إن شاء الله تعالى" . (11)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري 1379. وصحيح مسلم : 2866.
(2) صحيح مسلم : 901.
(3) صحيح البخاري: 1052، 5197. وصحيح مسلم : 907.
(4) صحيح مسلم : 901
(5) قال الألباني في تحقيقه للطحاوية: صحيح .
(6) شرح الطحاوية : 476 – 478 .
(7) في كتاب بدء الخلق، انظر فتح الباري : (6/317)
(1/6)
________________________________________
(8) فتح الباري :( 6/320).
(9) سنن الترمذي : 3462. وقال الشيخ ناصر في تعليقه على شرح الطحاوية ص : 106 وهو مخرج في الصحيحة.
(10) وقال أيضاً في هذا الحديث: صحيح، وهو مخرج في المصدر السابق : 64. وهو في سنن الترمذي برقم : 3464.
(11) شرح الطحاوية: ص 479/ وراجع في هذه الموضوع: (بقظة أولى الاعتبار لصديق حسن خان ص : 37، وعقيدة السفاريني : (2/230).
دخول الجنة
لا شك أن سعادة المؤمنين لا تعادلها سعادة عندما يساقون معززين مكرمين زمراً إلى جنات النعيم ، حتى إذا ما وصلوا إليها فتحت أبوابها ، واستقبلتهم الملائكة الكرام يهنئونهم بسلامة الوصول، بعدما عانوه من الكربات ، وشاهدوه من الأهوال ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) [ الزمر:73]، أي طابت أعمالكم وأقوالكم وعقائدكم، فأصبحت نفوسكم زاكية ، وقلوبكم طاهرة، فبذلك استحققتم الجنات.
المبحث الأول
الشفاعة في دخول الجنة
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين عندما يطول عليهم الموقف في يوم الجزاء يطلبون من الأنبياء أن يستفتحوا لهم باب الجنة ، فكلهم يمتنع ويتأبى ، ويقول: لست لها حتى يبلغ الأمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في ذلك ، فيُشفّع ، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس ، فيقوم المؤمنون، حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون : يا أبانا ، استفتح لنا الجنة ، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ، لست بصاحب ذلك.. ". الحديث. (1)
وذكر فيه تدافع الأنبياء لها ، حتى يأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيؤذن لهم.
--------------------------------
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة:(4/186)، ورقمه:195.
تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل الدخول
(1/7)
________________________________________
بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً ، ليس لأحد عند الآخر مظلمة ، ولا يطلب بعضهم بعضاً بشيء.
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة منه بمنزلة كان في الدنيا ". (1)
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو أول من يستفتح الجنة بعد أن يأبى أبو البشر آدم وأولوا العزم من الرسل التعرض لهذه المهمة.
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب القصاص يوم القيامة ، فتح الباري: (11/395).
الأوائل في دخول الجنة
أول البشر دخولاً الجنة على الإطلاق هو رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأول الأمم دخولاً الجنة أمته ، وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في ذلك (1) . فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أول من يقرع " أي : باب الجنة. وفيه أيضاً: " أنا أول شفيع في الجنة ". (2)
وروى مسلم عن أنس أيضاً ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " آتي باب الجنة فأستفتح ، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد ، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ". (3)
وثبت في الصحيحين وسنن النسائي، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة ". (4)
(1/8)
________________________________________
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل ، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي " فقال أبو بكر: يا رسول الله ، وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي ". (5)
--------------------------------
(1) النهاية لابن كثير: (2/213).
(2) صحيح مسلم: 197.
(3) صحيح مسلم : 197.
(4) رواه البخاري في مواضع من صحيحه: 238 ، 876 ، 896 ،2956 . ومسلم : 855.
(5) سنن أبي داود: 4652. وأورده الألباني في ضعيف أبي داود.
الذين يدخلون الجنة بغير حساب
أول زمرة تدخل من هذه الأمة الجنة هي القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق ، يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب ، أمشاطهم من الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً ". (1)
وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف – لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". (2)
(1/9)
________________________________________
وقد صح أن الله أعطى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع كل واحد من السبعين هؤلاء سبعين ألفاً ، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل ، فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً ". (3)
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان عن أبي أمامة بإسناد صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب ، مع كل ألف سبعون ، وثلاث حثيات من حثيات ربي ". (4) فذكر هذا الحديث زياد ثلاث حثيات.
وقد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - السبعين ألفاً الأوائل وبيَّن علاماتهم ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عُرضت عليّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة ،والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة ، والنبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال : لا ، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير . قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت : ولم ؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم . قال : اللهم اجعله منهم. ثم قال إليه رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة ". (5)
ولعل هؤلاء هم الذين سماهم الحق بالمقربين ، وهم السابقون ، ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم ) [الواقعة:10-12]، وهؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ) [ الواقعة: 13-14].
--------------------------------
(1/10)
________________________________________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، فتح الباري :(6/318) ، ورواه مسلم: 2834، والترمذي وغيرهما .
(2) المصدر السابق ، فتح الباري : (6/319).
(3) صحيح الجامع : (1/350) ،ورقمه 1068.
(4) صحيح الجامع: (6/108)، ورقمه: 6988.
(5) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري : (11/450).
الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة ٍإلى الجنة بأربعين خريفاً ". (1)
وروى الترمذي عن أبي سعيد ، وأحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة ". (2)
وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه ، هذا مع جهادهم وفضلهم، أخرج الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: فقراء المهاجرين ، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة : أو قد حوسبتم ؟ فيقولون : بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم ، فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس ". (3)
وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار " (4) . وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين.
(1/11)
________________________________________
وقد وقع في الأحاديث السابقة أن الفقراء يسبقون الأغنياء بأربعين خريفاً ، وجاء في حديث آخر بخمسمائة عام ، ووجه التوفيق بين الحديثين أن الفقراء مختلفو الحال ، وكذلك الأغنياء – كما يقول القرطبي- (5) . فالفقراء متفاوتون في قوة إيمانهم وتقدمهم ، والأغنياء كذلك، فإذا كان الحساب باعتبار أول الفقراء دخولاً الجنة وآخر الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة خمسمائة عام، أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخولاً الجنة وأول الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة أربعين خريفاً، باعتبار أول الفقراء وآخر الأغنياء والله أعلم". (6)
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح:(2/663)، ورقمه: 5235. وهو في مسلم برقم: 2979.
(2) صحيح الجامع: (4/90) ورقمه:4104. وهو في سنن الترمذي برقم: 2351 .
(3) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/532)، ورقمه: 853، وقد قال الشيخ ناصر فيه :أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، أقول (الشيخ ناصر) : إنما هو على شرط مسلم فقط.
(4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق ، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري:(2/345).
(5) التذكرة ، للقرطبي : ص470 .
(6) النهاية لابن كثير:(2/345).
أول ثلاثة يدخلون الجنة
روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عُرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة : " شهيد ، وعفيف متعفف ، وعبد أحسن عبادة الله ، ونصح مواليه" . (1)
--------------------------------
(1) جامع الأصول :(20/535). وعزاه محقق الجامع إلى أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن.وهو في سنن الترمذي برقم : 1642 . وقال الترمذي فيه هذا حديث حسن وأورده الألباني في ضعيف الترمذي.
دخول عصاة المؤمنين الجنة
المطلب الأول
إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة بالشفاعة
(1/12)
________________________________________
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن (1) ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتتهم إماتة ، حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر (2) ، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". (3)
ولمسلم من حديث جابر بن عبد الله يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أقواماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم ، حتى يدخلون الجنة ". (4)
وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة يسميهم أهل الجنة بالجهنميين ، ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فيدخلون الجنة ، يسمون الجهنميين ". (5)
وفي الصحيح أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج (6) من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير، قلت : وما الثعارير؟ قال: الضغابيس ". (7)
وروى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج قوم من النار بعدما مسهم منها سفع ، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين". (8)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة الطويل في وصف الآخرة: " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله ، فيعرفونهم في النار ، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا)، فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون منه ، كما تنبت الحبة في حميل السيل ". (9)
(1/13)
________________________________________
وقد ورد في أكثر من حديث أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار أو نصف دينار أو مثقال ذرة من إيمان، بل يخرج أقواماً لم يعملوا خيرا ً قط، ففي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يدخل الله أهل الجنة الجنة ،يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار ، ثم يقول: " انظروا من وجدتم في قلبه حبة من خردل من إيمان فأخرجوه.. ". (10)
وفي حديث جابر بن عبد الله في ورود النار: " ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير مثقال شعيرة ، فيجعلون بفناء الجنة ، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء ، حتى ينبتوا نبات الشيء في حميل السيل. ويذهب حراقه (11) ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها". (12)
وفي حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن الذرة". (13)
المطلب الثاني
موقف الفِرَق من الشفاعة
أنكرت الخوارج والمعتزلة (14) شفاعة الشافعين في أهل الكبائر والذين أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها،والذين دخلوها أن دخلوها أن يخرجوا منها، قال القرطبي: " وهذه الشفاعة أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح " . (15)
(1/14)
________________________________________
وهذه المقولة المضادة للأحاديث الصحيحة المتواترة برزت والصحابة أحياء ، روى مسلم في صحيحه عن يزيد الفقير، قال: " كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ، ثم نخرج على الناس ، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم، جالس إلى سارية ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو ذكر الجهنميين ، قال: فقلت له : يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون به والله يقول: ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) [ آل عمران:192] ، و ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) [ السجدة:20]؟ فما هذا الذي تقولون: قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت : نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام(يعني الذي يبعثه الله فيه)؟ قلت: نعم ، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج، قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه ، فيخرجون كأنهم القراطيس (16) ، فرجعنا قلنا: ويحكم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فرجعنا. فلا والله ، ما خرج منا غير رجل واحد". (17)
(1/15)
________________________________________
والخوارج والمعتزلة تطرفوا في هذه المسألة إذ زعموا أن أهل الكبائر لا يخرجون من النار،ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، كما أن المرجئة تطرفوا في الجانب المقابل حيث لم يقطعوا بدخول أحد من أهل الكبائر النار ، ويزعمون أن أهل الكبائر جميعاً في الجنة من غير عذاب، وكلا الفريقين مخالف للسنة المتواترة الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم مخالفون لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وقد هدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، حيث ذهبوا إلى أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله ، إن شاء غفر لهم برحمته، وإن شاء عذبهم بذنوبهم، ثم أدخلهم الجنة برحمته، ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء:48] وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) [ الزمر:53] فالشرك لا يغفره الله ، وما دونه تحت المشيئة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له . وحجة الخوارج في نفي هذه الشفاعة الآيات الواردة في نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك ، فأهل الشرك يعتقدون أن الشفاعة عند الله كالشفاعة في الدنيا ، يشفع الشافع عند غيره بدون إذن منه، ويشفع الشافع عند غيره وإن لم يرض عن المشفوع له، وهذا لا يكون عند الله تبارك وتعالى، وقد جاءت النصوص بإبطال هذا النوع من الشفاعة، كما قال تعالى: ( واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ) [ البقرة:48]، وقال : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) [المدثر:48]، وقال: ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) [ غافر:18]، وقد جاءت النصوص مبينة أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا بعد أن يرضى عن الشافع والمشفوع له: ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [البقرة:255] وقال: ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء:28]، وقال : ( وكم من ملك في السماوات لا
(1/16)
________________________________________
تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) [ النجم:26]، وقال عن الملائكة أيضاً: ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) [الأنبياء:28]، وقال: ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [ سبأ:23].
فهذه النصوص تنفي الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين وتبطلها، وتثبت الشفاعة التي تكون بإذن الله ورضاه عن الشافع والمشفوع ، والله لا يرضى عن الكفرة المشركين، أما عصاة أهل التوحيد ، فيشفع فيهم الشافعون، ولا يشفعون لمشرك. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال: " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قِبل نفسه ". (18)
--------------------------------
(1) لكن هنا مخففة مهملة لا تعمل .
(2) جماعات جماعات .
(3) رواه مسلم، كتاب الإيمان ، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، (1/172). رقم : 185.
(4) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة، (1/178) ، ودارات وجوههم: ما يحيط بالوجه من جوانبه.
(5) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/418) ولهم ذكر في حديث جابر عند مسلم : (1/179).
(6) أي أقوام .
(7) رواه البخاري ، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/416) والثعايير: قثاء صغار ، والضغبوس: نبت يخرج قدر شبر في دقة الأصبع لا ورق له، فيه حموضة . والمقصود (وصفهم بالبياض والدقة ).
(8) المصدر السباق ، فتح الباري: (11/416).
(9) صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، باب الرؤية: (1/299) ،حديث رقم : (182).
(10) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين: (1/172).
(1/17)
________________________________________
(11) حراقة : معناه أثر النار ، والضمير في (حراقه) يعود على المخرجين .
(12) صحيح مسلم ، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (1/178).
(13) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (1/182). والأحاديث في هذا كثيرة.
(14) الخوارج فرقة خرجت بعد معركة صفين كفّرت علياً ومعاوية، ومن معهما، وزعمت أن أهل المعاصي مخلدون في النار، والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء ذهبوا مذهب المعتزلة ، في القول بتخليد أصحاب الكبائر في النار، وتوقفوا في أمرهم في الدنيا .
(15) التذكرة للقرطبي: ص249.
(16) الصحف التي يكتب فيها .
(17) صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة،(1/179)، ورقمه:191.
(18) رواه البخاري ، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري:(11/418).
آخر من يدخل الجنة
حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة ، وما جرى من حوار بينه وبين ربه ، وما أعطاه الله من الكرامة العظيمة التي لم يُصدّق أن الله أكرمه بها لعظمها، وقد جمع ابن الأثير روايات هذا الحديث في جامع الأصول ، ومنه نقلنا هذه الأحاديث (1) :
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها ، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة : رجل يخرج من النار حبواً ، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب ، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا ، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك ؟ قال : فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه ، فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة " أخرجه البخاري ومسلم.
(1/18)
________________________________________
ولمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار : رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب فيدخل الجنة ، فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول : نعم ، فيقال له : تمنَّ ، فيتمنى فيقال له : لك الذي تمنيت ، وعشرة أضعاف الدنيا ، فيقول : أتسخر بي وأنت الملك ؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه " وفي رواية الترمذي مثل هذه التي لمسلم. (2)
(1/19)
________________________________________
2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " آخر من يدخل الجنة رجل ، فهو يمشي مرة ، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها ، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة ، فيقول: يا رب ، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها ،وأشرب من مائها ، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا ، يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال : وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ،ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول: أي رب ، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها ، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم ، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول: لعلي أن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره ، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها ، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها – وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها ، فيقول: يا ابن آدم ، ما يصريني منك (4) ، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ قال : يا رب ، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فضحك ابن مسعود ، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين ، حين قال : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ، ولكني على ما أشاء قادر " أخرجه مسلم .
(1/20)
________________________________________
(5)
وهذا الحديث هكذا أخرجه الحميدي وحده في أفراد مسلم، والذي قبله في المتفق عليه ، وقال: إنما أفردناه للزيادة التي فيه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أدنى أهل الجنة منزلة: رجل صرف الله وجهه عن النار قِبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل ، فقال : أي رب ، قربني من هذه الشجرة لأكون في ظلها .. وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود، ولم يذكر: فيقول: يا ابن آدم ، ما يصريني منك ؟ .. إلى آخر الحديث ".
وزاد فيه : " ويذكره الله ، سل كذا وكذا ، فإذا انقطعت به الأماني، قال الله : هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخل بيته ، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا ، وأحيانا لك، قال:" فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت " أخرجه مسلم هكذا عقيب حديث ابن مسعود. (6)
--------------------------------
(1) جامع الأصول:(10/553) .
(2) رواه البخاري:(11/386) في الرقاق، باب في صفة الجنة والنار،وفي التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم رقم : 186 في الإيمان ، باب آخر أهل النار خروجاً ، والترمذي رقم : 2598 في صفة جهنم، باب رقم 10.
(4) أي ما الذي يرضيك ، ويقطع مسألتك وأصل التصرية: القطع والجمع، ومنه الشاة المصراة: وهي التي جمع لبنها وقطع حلبه .
(5) رقم: 187 في الإيمان ، باب آخر أهل النار خروجاً.
(6) رواه مسلم رقم : 188 في الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها .
الذين دخلوا الجنة قبل يوم القيامة
(1/21)
________________________________________
أول من دخل الجنة من البشر هو أبو البشر آدم ( وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ) [ البقرة:35]، وقال : ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) [ الأعراف: 19]، ولكن آدم عصى ربه بأكله من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فأهبطه الله من الجنة إلى دار الشقاء : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً* وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى* فقلنا يا آدم هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى* إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى* فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى* فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى* ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى* قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو ) [ طه : 115-123].
وقد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجنة ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ". (1)
(1/22)
________________________________________
ومن الذين يدخلون الجنة قبل يوم القيامة الشهداء، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران :169]. قال: " إنا قد سألنا عن ذلك فقال:" أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففل بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا: قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ". (2)
ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة والنار بالغداة والعشي، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ". (3)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، فتح الباري: (6/318).
(2) مشكاة المصابيح: (2/351)، ورقمه:3804.
(3) رواه مسلم في صحيحه ، انظر مسلم بشرح النووي: (17: 300).
الجنة خالدة وأهلها خالدون
النصوص الدالة على ذلك
الجنة خالدة لا تفنى ولا تبيد،وأهلها فيها خالدون ، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يموتون ، ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ) [ الدخان:56]، ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ) [ الكهف:107-108].
(1/23)
________________________________________
وقد سقنا عند الحديث عن خلود النار – الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذبح الموت بين الجنة والنار، ثم يقال لأهل الجنة ولأهل النار : " يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ".
إن مقتضى النصوص الدالة أن الجنة تخلق خلقاً غير قابل للفناء، وكذلك أهلها ، ففي الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من يدخل الجنة ينعم ، لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ". (1)
واستمع إلى النداء العلوي الرباني الذي ينادي به أهل الجنة بعد دخولهم الجنة : " إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً ، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبتئسوا أبدا ، فذلك قوله عز وجل : ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) [ الأعراف:43]. (2)
--------------------------------
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة ، باب في دوام نعيم الجنة، (4/2181)، ورقمه:2836 .
(2) صحيح مسلم ، كتاب الجنة ، باب دوام نعيم الجنة:(4/2183)، ورقمه :2837.
القائلون بفناء الجنة
قال بفناء الجنة كما قال بفناء النار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، و لا من أهل السنة ، وأنكره عليه عامة أهل السنة .
(1/24)
________________________________________
وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة قال بفناء حركات أهل الجنة والنار، بحيث يصيرون إلى سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة (1). وكل هذا باطل ، قال شارح الطحاوية : " فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، قال تعالى: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) [هود:108]، أي غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله : ( إلا ما شاء ربك ) [ هود:108] " (2) وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف السلف في هذا الاستثناء فقال: " واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها، لا لكلهم .وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف . وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف . وقيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. وقيل: " إلا " بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف.وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعاً ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : ( عطاء غير مجذوذ ) [ هود:108]، قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي سوى ما شئت، ولكن ما شئت من الزيادة عليه . وقيل : الاستثناء لإعلامهم بأنهم – مع خلودهم – في مشيئة الله ، لأنهم لا يخرجون عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ) [ الإسراء:86]، وقوله تعالى : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) [الشورى:24]، وقوله : (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) [يونس:16]، ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.
(1/25)
________________________________________
وقيل : إن " ما " بمعنى " من " أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء . وقيل غير ذلك.
وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: ( عطاء غير مجذوذ ) [ هود:108]. وكذلك قوله تعالى : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ص:54]. وقوله : ( أكلها دائم وظلها ) [ الرعد:35].وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [الدخان:56].وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى : (إلا ما شاء ربك ) [هود:108]، - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها ". (3)
--------------------------------
(1) راجع شرح الطحاوية: ص480 .
(2) شرح الطحاوية:481.
(3) شرح العقيدة الطحاوية: 481.
صفة الجنة
الجنة لا مثل لها
نعيم الجنة يفوق الوصف ، ويقصر دونه الخيال، ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا، ومهما ترقى الناس في دنياهم ، فسيبقى ما يبلغونه أمراً هيناً بالنسبة لنعيم الآخرة، فالجنة كما ورد في بعض الآثار لا مثل لها، " هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد، ونهر مطرد وفاكهة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة ، في مقام أبداً، في حبرة ونضرة ، في دور عالية سليمة بهية ". (1)
(1/26)
________________________________________
وقد سأل الصحابة الرسول عن بناء الجنة ، فأسمعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإجابة وصفاً عجباً، يقول عليه السلام في صفة بنائها: " لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر (2)، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس ، ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابها ، ولا يفنى شبابهم "(3). وصدق الله حيث يقول : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ) [الإنسان:20].
وما أخفاه الله عنا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة:17] ، وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [السجدة:17](4). ورواه مسلم من عدة طرق عن أبي هريرة وجاء في بعض طرقه : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً ، بلْه (5) ما أطلعكم الله عليه، ثم قرأ : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) . [ السجدة:17]" (6). ورواه مسلم عن سهل بن سعد الساعدي قال: شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديثه:" فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ هذه الآية : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة: 16-17](7) .
--------------------------------
(1/27)
________________________________________
(1) هذا نص حديث أورده ابن ماجة في سننه ، في كتاب الزهد، باب صفة الجنة،(2/1448)، ورقمه: 4332 ، ولم ننسبه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن في إسناده مقالاً ، وإن كان ابن حبان أورده في صحيحه، ومعناه جميل تشهد له النصوص من الكتاب والسنة.
(2) الملاط: المادة التي توضع بين اللبنتين .
(3) رواه أحمد والترمذي والدارمي، انظر مشكاة المصابيح: (3/89)، وهو صحيح بطرقه كما أشار إلى ذلك محقق المشكاة.
(4) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري:(6/318).
(5) بله: بفتح الباء وسكون اللام ، ومعناها: دع ما أطلعكم الله عليه ، فالذي لم يطلعكم عليه أعظم، وكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يطلع عليه، أفاده النووي في شرحه على مسلم (17/166) .
(6) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها: (2/2174)،ورقم الحديث:2824 .
(7) رواه مسلم ، حديث رقم:2824.
أبواب الجنة
للجنة أبواب يدخل منها المؤمنون كما يدخل منها الملائكة ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) [ ص:50]، ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد:23]، وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن هذه الأبواب تفتح عندما يصل المؤمنون إليها، وتستقبلهم الملائكة محيية بسلامة الوصول : ( حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) [الزمر:73].
وأخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن أبواب الجنة تفتح في كل عام في رمضان، فعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ". (1)
(1/28)
________________________________________
وعدد أبواب الجنة ثمانية، وأحد هذه الأبواب يسمى الريّان وهو خاص بالصائمين ففي الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم". (2)
وهناك باب للمكثرين من الصلاة ،وباب للمتصدقين، وباب للمجاهدين ، بالإضافة إلى باب الصائمين المسمى بالريّان، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله، دُعي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ". فقال أبو بكر : والله ما على أحد من ضرر دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال: نعم ، وأرجو أن تكون منهم". (3)
وسؤال أبي بكر يريد به شخصاً اجتمعت فيه خصال الخير، من صلاة، وصيام ، وصدقة وجهاد ونحو ذلك ، بحيث يدعي من جميع تلك الأبواب ، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ينفق زوجين في سبيل الله يدعى من أبواب الجنة الثمانية ، وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يتوضأ فيحسن الوضوء ، ثم يرفع بصره إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء.
فقد روى مسلم في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ (أبو يسبغ) الوضوء ، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمداً عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء ". (4)
(1/29)
________________________________________
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن خص الذين لا حساب عليهم بباب خاص بهم دون غيرهم وهو باب الجنة الأيمن ، وبقيتهم يشاركون بقية الأمم في الأبواب الأخرى، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة في حديث الشفاعة " فيقول الله : يا محمد : أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخرى " ثم بين في هذا الحديث سعة أبواب الجنة ، وأن ما بين جانبي الباب كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى، ففي الحديث السابق المتفق عليه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفس محمد بيده: إن بين المصراعين من مصاريع الجنة ، أو ما بين عضادتي الباب، كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى ". (5)
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أبواب الجنة تفتح في رمضان ، ففي الصحيحين ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وفي رواية: " فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار " . (6)
وورد في بعض الأحاديث أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة ، فقد روى أحمد في "مسنده" وأبو نعيم في " الحلية" عن حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة ، وليأتين عليه يوم، وإنه لكظيظ " وإسناده صحيح.
ورواه مسلم وأحمد عن عتبة بن غزوان قال: " لقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين نسة ،وليأتين عليه يوم ،وإنه لكظيظ من الزحام ".
ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن سلام: " إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة، يزاحم عليه كازدحام الإبل وردت لخمس ظما ". (7)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري : 1898. وصحيح مسلم: 1079.
(2) النهاية لابن كثير(2/214).
(3) النهاية لابن كثير : (2/214).
(1/30)
________________________________________
(4) صحيح مسلم:234.
(5) النهاية لابن كثير :(2/221).
(6) مشكاة المصابيح:(1/612).
(7) هذا التحقيق أخذناه بشيء من الاختصار من سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني: (4/273)، ورقم الحديث: 1698.
درجات الجنة
المطلب الأول
الأدلة على أن الجنة درجات، وأهلها متفاوتون في الرفعة
الجنة درجات بعضها فوق بعض ، وأهلها متفاضلون فيها بحسب منازلهم فيها ، قال الله تعالى : ( ومن يأتيه مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) [ طه:75].
ومن الذين وضحوا هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: " والجنة درجات متفاضلة تفاضلاً عظيماً ، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم. قال تبارك وتعالى : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ) [ الإسراء: 18-21].
فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه ،وأن عطاءه ما كان محظوراً من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى : ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) [ الإسراء:21]. فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا . وتفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين. فقال تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) [ البقرة: 253]، وقال تعالى : ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً ) [ الإسراء:55].
(1/31)
________________________________________
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ". وقد قال الله تعالى: ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الدين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [الحديد:10]وقال تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً* درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً ) [النساء: 95-96].
وقال تعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم ) [التوبة: 19-22] وقال تعالى: ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) [ الزمر:9]، وقال تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ) [ المجادلة:11] ". (1)
(1/32)
________________________________________
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، جاهد في سبيل ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نبشر الناس ؟ قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله ، فاسألوه الفروس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، أراه قال: وفوقه عرش الرحمن – ومنه تفجر أنهار الجنة ". (2)
وثبت في الصحيح أيضاً عن أنس أن أم حارثة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد هلك حارثة يوم بدر، أصابه سهم غرب، فقالت: يا رسول الله، قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا سوف ترى ما أصنع، فقال لها: " أجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى ". (3)
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة متفاضلون في الجنة بحسب منازلهم فيها ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر (4) في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". (5)
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة وصحي ابن حبان عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل الدرجات العلى يراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ". (6)
(1/33)
________________________________________
قال القرطبي: " اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو والصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال ، فبعضها أعلى من بعض وأرفع.. وقوله " والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ولم يذكر عملاً ، ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ لتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة ، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات ، وأرفع الدرجات، وهذا محال، وقد قال الله تعالى : (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ) [ الفرقان:75]، والصبر بذل النفس والثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية وهذه صفة المقربين.
وقال في آية أخرى : ( ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ) [ سبأ:37]، فذكر شأن الغرفة ، وأنها لا تنال بالأموال والأولاد ، وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، ثم بين أن لهم جزاء الضعف، وأن محلهم الغرفات ، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة وتعلق قلب به ، مطمئناً به في كل ما نابه ، وبجميع أموره وأحكامه ، فإذا عمل عملاً صالحاً، فلا يخلطه بضده ، وهو الفاسد ، فلا يكون العمل الصالح الذ ي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا، فلهذا كانت منزلته دون غيره". (7)
وأهل الدرجات العاليات يكونون في نعيم أرقى من الذين دونهم، فقد ذكر الله أنه أعد للذين يخافونه جنتين ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن:46]، ووصفهما ، ثم قال : ( ومن دونهما جنتان ) [الرحمن:62]، أي دون تلك الجنتين في المقام والمرتبة، من تأمل صفات الجنتين اللتين ذكرهما الله آخراً علم أنهما دون الأوليين في الفضل، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين ، كما قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري. (8)
(1/34)
________________________________________
قال القرطبي: " لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين: ( فيهما عينان تجريان ) [ الرحمن:50] ، وقال في الأخريين : ( فيهما عينان نضاختان ) [الرحمن:66]، أي فوارتان بالماء، ولكنهما ليستا كالجاريتين ، لأن النضخ دون الجري ، وقال في الأوليين: ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) [ الرحمن:52]، معروف وغريب، رطب ويابس، فعم ولم يخص ، وفي الأخريين: ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) [الرحمن:68]، ولم يقل من كل فاكهة زوجان، وقال في الأوليين : ( متكئين على فرش بطائنها من استبرق ) [ الرحمن:54]، وهو الديباج، وفي الأخريين: ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) [الرحمن:76]، والعبقري الوشي ، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخبا ، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من الخبا.
وقال في الأوليين في صفة الحور العين: ( كأنهن الياقوت والمرجان ) [الرحمن:58]، وفي الأخريين: ( فيهن خيرات حسان ) [الرحمن:70]، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان، وقال في الأوليين : ( ذواتا أفنان ) [الرحمن:48]، وفي الأخيرتين : (مدهامتان ) [الرحمن:64]، أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والآخرتين بالخضرة وحدها". (9)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " (10) ، وفي رواية الترمذي:" إن في الجنة جنتين من فضة .. "وذكر الحديث . (11)
(1/35)
________________________________________
وذكر الحق تبارك وتعالى أن الأبرار يشربون كأساً ممزوجة بالكافور : ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) [الإنسان:5]، وقال في موضع آخر : ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) [الإنسان:17] ، ويبدو أن هذا – والعلم عند الله – لأهل اليمين، وقال في موضع آخر: ( ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون ) [المطففين:28-28]، فأهل اليمين يشربون شراباً ممزوجاً من تسنيم ، وهي عين في الجنة ، والمقربون يشربون من تسنيم صرفاً غير ممزوج .
المطلب الثاني
أعلى أهل الجنة وأدناهم منزلة
روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – قال : " سأل موسى ربه :ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة . فيقول: أي رب كيف ؟ وقد نزل الناس منازلهم ، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب ، فيقول : لك ذلك ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله. فقال في الخامسة: رضيت، رب. فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك. فيقول: رضيت رب .
قال: رب . فأعلاهم منزلة ؟ قال:" أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ،ولم تسمع أذن،ولم يخطر على قلب بشر " قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ السجدة:17] ". (12)
المطلب الثالث
المنزلة العليا في الجنة
(1/36)
________________________________________
أعلى منزلة في الجنة ينالها شخص واحد تسمى الوسيلة ، وسينالها- إن شاء الله – النبي المصطفى المختار خيرة الله من خلقه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن كثير النهاية: " ذكر أعلى منزلة في الجنة وهي الوسيلة، فيها مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محمودا الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة ". (13)
وساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم في صحيحه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإن من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة، فإن من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ". (14)
وقد سأل الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلين : " وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو " رواه أحمد عن أبي هريرة، وفي المسند عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الوسيلة درجة عند الله ،ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة ". (15)
المطلب الرابع
الذين ينزلون الدرجات العاليات
من الذين يحلون الدرجات العاليات في الجنة الشهداء ، وأفضلهم الذين يقاتلون في الصفوف الأولى لا يلتفون حتى يقتلوا ، ففي مسند أحمد ومعجم الطبراني عن نعيم بن همار (16) بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربهم ، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه ". (17)
(1/37)
________________________________________
والساعي على الأرملة والمسكين له منزلة المجاهد في سبيل الله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الساعي على الأرملة والمسكين ، كالمجاهد في سبيل الله – وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر ، وكالصائم لا يفطر ". (18)
ومنزلة كافل اليتيم قريبة من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة " وأشار مالك بالسبابة والوسطى . (19)
ويرفع الله درجة الآباء ببركة دعاء الأبناء، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك".
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة،ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ". (20)
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (11/188).
(2) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الجهاد ، باب درجات المجاهدين في سبيل الله : فتح الباري : (6/11).
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/418).
(4) الغابر : الذاهب أو الباقي ، فإنّ غبر من الأضداد ، يقال : غبر إذا ذهب ، وغبر إذا بقي ، ويعني به أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيراً لبعده .
(5) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (6/220) وصحيح مسلم ، كتاب الجنة ، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، (4/2177)، ورقمه:2831.
(6) صحيح الجامع الصغير، (2/187)، ورقمه: 2026.
(7) التذكرة للقرطبي : ص464.
(8) التذكرة للقرطبي : ص440.
(1/38)
________________________________________
(9) التذكرة للقرطبي : ص440.
(10) جامع الأصول: (10/498)، ورقمه:8029.
(11) المصدر السابق.
(12) صحيح مسلم:189.
(13) صحيح البخاري :614.
(14) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها: (1/176) ورقمه:189.
(15) انظر هذه الأحاديث في (النهاية) لابن كثير:(2/2332).
(16) قال ابن حجر في (تقريب التهذيب) :(نعيم بن همّار ، بتشديد الميم ، أو هبار ، أو خمّار، بالمعجمة أوالمهملة ، الغطفاني ، صحابي ، ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار .
(17) مسند أحمد : (5/287). صحيح الجامع الصغير: (1/363) ، ورقمه: 1118.
(18) صحيح مسلم ، كتاب الزهد. باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم:(2/2286)، ورقم الحديث:2982.
(19) المصدر السابق، وقوله:( له أو لغيره) أي سواء أكفله من ماله، أو من اليتيم بولاية شرعية.
(20) النهاية لابن كثير: (2/340).
تربة الجنة
ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك عن أبي ذر في حديث المعراج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك ".
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي سعيد أن ابن صياد سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تربة الجنة ، فقال : " هي درمكة (1) بيضاء مسك خالص " وفي مسند أحمد عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليهود: " إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي درمكة بيضاء، فسألهم، فقالوا: هي خبزة يا أبا القاسم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الخبز من الدرمك ". (2)
وروى أحمد والترمذي والدارمي عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله، مم خلق الخلق ؟ قال:ٍ" من ماء". قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال : " لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وملاطها المسك الأظفر، وحصباؤها الدر والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ، ولا يبأس، ويخلد ولا يموت ، ولا يبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم ". (3)
(1/39)
________________________________________
--------------------------------
(1) الدرمكة : واحدة الدرمك ، وهو الدقيق الحواري الخالص البياض .
(2) انظر هذه الأحاديث في النهاية لابن كثير: (2/242).
(3) مشكاة المصابيح: (3/89)، ورقمة : 5630، وقال محقق المشكاة: وله طرق وشواهد، وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
أنهار الجنة
أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن الجنة تجري من تحتها الأنهار، ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) [ البقرة:25]وأحيانا يقول : تجري تحتهم الأنهار: ( أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ) [ الكهف:31].
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنهار الجنة حديثا واضحاً بينا ، ففي إسرائه صلوات الله وسلامه عليه:" رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها (1) نهران ظاهران ونهران باطنان ، فقلت: يا جبريل ، ما هذه الأنهار ؟ قال : ٍأما النهران الباطنان : فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات " . (2)
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رفعت لي السدرة ،فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ، ونهران باطنان، فأما الظاهران : فالنيل والفرات ، وأما الباطنان: فنهران في الجنة". (3)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ". (4)
" ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة ،فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه ، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها ". (5)
وقال القاري: " إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها ". (6)
(1/40)
________________________________________
ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا أعطيناك الكوثر ) [ الكوثر:1]، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا عنه ، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ، فإذا طيبه- أو طينه – مسك أذفر" شك هُدْبة. (7)
وقد فسر ابن عباس الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بشر لسعيد بن جبير راوي هذا التفسير عن ابن عباس: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. (8)
وقد جمع الحافظ بن كثير الأحاديث التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها عن الكوثر ، فمن هذه الأحاديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت عليه ( إنا أعطيناك الكوثر ) [ الكوثر:1] قال: " أتدرون ما الكوثر ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هو نهر وعدنيه الله عز وجل ، عليه خير كثير".
وساق حديث أنس عند أحمد في مسنده عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت الكوثر ، فإذا نهر يجري على ظهر الأرض ، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفاً ، فضربت بيدي إلى تربته ، فإذا تربته مسك أذفر ، وحصباؤه اللؤلؤ ".
وفي رواية أخرى في المسند عن أنس يرفعه: " هو نهر أعطانيه الله في الجنة ، ترابه مسك ، ماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور".
وقد ساق الحافظ ابن كثير روايات أخرى كثيرة في الموضوع فارجع إليه إن شئت المزيد. (9)
وأنهار الجنة ليست ماء فحسب ، بل منها الماء ، ومنها اللبن ، ومنها الخمر ، ومنها العسل المصفى .
(1/41)
________________________________________
قال تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) [ محمد:15].
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن حكيم بن معاوية ( وهو جد بهز بن حكيم ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة بحر العسل ، وبحر الخمر ، وبحر اللبن ، وبحر الماء ، ثم تنشق الأنهار بعد ". (10)
فأنهار الجنة تنشق من تلك البحار التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نهر يسمى بارق يكون على باب الجنة، ويكون الشهداء في البرزخ عند هذا النهر، ففي مسند أحمد، ومعجم الطبراني، ومستدرك الحاكم عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء ،يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً ". (11)
--------------------------------
(1) الضمير عائد إلى سدرة المنتهى،كما دل على ذلك سياق بعض الأحاديث .
(2) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان، باب الإسراء (1/150)، ورقم الحديث :164.
(3) جامع الأصول : (10/507)،وقال المحقق: رواه البخاري تعليقا في الأشربة ، قال الحافظ في الفتح : وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في (الصغير) من طريقه.
(4) صحيح مسلم، كتاب الجنة ، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة، (4/2183)، ورقم الحديث 2839 وعزاه الشيخ ناصر في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/6) إلى مسلم وأحمد والآجري والخطيب.
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة(1/18).
(6) نقله عن الشيخ ناصر في تعليقه على مشكاة المصابيح : (3/80).
(7) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب في الحوض ، فتح الباري: (11/464) ، وهدبة أحد رواة الحديث .
(8) صحيح البخاري ،كتاب الرقاق،باب في الحوض، فتح الباري : (11/463).
(9) النهاية لابن كثير: (2/246).
(1/42)
________________________________________
(10) جامع الأصول : (10/507)، وقال المحقق: رواه الترمذي في صفة أنهار الجنة،ورواه أيضاً الدارمي ،وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(11) صحيح الجامع الصغير :(3/235) ،ورقمه: 3636.
عيون الجنة
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب ( إن المتقين في جنات وعيون ) [ الحجر:45]، ( إن المتقين في ظلال وعيون ) [المرسلات:41]، وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه ( فيهما عينان تجريان ) [ الرحمن:50]. وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما ( فيهما عينان نضاختان ) [ الرحمن: 66].
وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءها صرفاً غير مخلوط ، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره.
العين الأولى : عين الكافور قال تعالى : ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً* عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) [الإنسان : 5-6]. فقد أخبر أن الأبرار يشربون شرابهم ممزوجاً من عين الكافور ، بينما عباد الله يشربونها خالصاً.
العين الثانية : عين التسنيم ، قال تعالىٍ : ( إن الأبرار لفي نعيم* على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم* عيناً يشرب بها المقربون ) [المطففين:22-28].
ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل ، قال تعالى : ( ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلاً ) [الإنسان:17-18]. ولعل هذه هي العين الأولى نفسها.
قصور الجنة وخيامها
(1/43)
________________________________________
يبني الله لأهل الجنة في الجنة مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: ( ومساكن طيبة في جنات عدن ) [التوبة:72]. وقد سمى الله في مواضع من كتابه هذه المساكن بالغرفات ، قال تعالى: ( وهم في الغرفات آمنون ) [سبأ:37]، وقال في جزاء عباد الرحمن : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ) [الفرقان:75]، وقال تعالى واصفاً هذه الغرفات : ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ) [الزمر:20].
قال ابن كثير: " أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة ، ( من فوقها غرف مبنية ) [الزمر: 20]، طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات.
وقد وصف لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القصور ، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن أبي مالك الأشعري والترمذي عن عليٍّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ،أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام ". (1)
وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن في الجنة خياماً ، قال تعالى: ( حور مقصورات في الخيام ) [ الرحمن:72].
وهذه الخيام خيام عجيبة، فهي من لؤلؤ، بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة ،طولها في السماء ستون ميلاً ، وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن قيس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون"، قال أبو عبد الصمد والحارث عن أبي عمران :"ستون ميلاً ". (2)
(1/44)
________________________________________
ورواه مسلم عن عبد الله بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلاً ٍ،للمؤمن فيها أهلون ، يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضاً ".
وفي رواية عند مسلم : " في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمن" . (3)
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صفات قصور بعض أزواجه وبعض أصحابه ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة،قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:" يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معا إناء فيه إدام وطعام ، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب". (4)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة ، فقلت: من هذا ؟ فقال: هذا بلال ، ورأيت قصراً بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا؟ فقالوا : لعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك " ، فقال عمر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله : أعليك أغار؟ ". (5)
وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطريق الذي يحصل به المؤمن على مزيد من البيوت في الجنة ، فالذي يبني لله مسجداً يبني الله له بيتاً في الجنة، ففي مسند أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من بنى لله مسجداً ، ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة ". (6)
وفي مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بنى مسجداً ،يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في الجنة ". (7)
(1/45)
________________________________________
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود ، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة عن أم حبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بنى الله له بيتاً في الجنة ". (8)
--------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير: (2/220) ،ورقمه: 2119.
(2) صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة الجنة ، فتح الباري :(6/318).
(3) رواه مسلم كتاب الجنة ، باب في صفة خيام الجنة:(4/2182) ورقمه: 2838.
(4) مشكاة المصابيح: (3/266).
(5) مشكاة المصابيح : (3/226).
(6) صحيح الجامع الصغير: (5/265)، ورقم الحديث: 6005.
(7) صحيح الجامع :(5/316) ، ورقمه 6234 .
(8) صحيح الجامع : ( 5/316)، ورقمه : 6234.
نور الجنة
قال القرطبي: " قال العلماء : ليس في الجنة ليل ونهار ، وإنما هم في نور دائم أبداً ، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ، ذكره أبو الفرج بن الجوزي . (1)
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:) ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ([مريم:62-63]: " أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات ، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في ٍأوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ". (2)
ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع:" والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار ، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قِبل العرش ". (3)
--------------------------------
(1) التذكرة للقرطبي : ص504 .
(2) تفسير ابن كثير: (4/471).
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ٍ(4/312).
ريح الجنة
(1/46)
________________________________________
للجنة رائحة عبقية زكية تملأ جنباتها ،وهذه الرائحة يجدها المؤمنون من مسافات شاسعة ، ففي مسند أحمد وسنن النسائي وابن ماجة ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة ،وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً ". (1)
وفي صحيح البخاري ومسند أحمد ،وسنن النسائي،وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً ". (2)
--------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير: (5/335)،ورقم الحديث : 6324.
(2) صحيح الجامع:( 5/337) ،ورقم الحديث : 6333. وهو في صحيح البخاري برقم : 3166 .
أشجار الجنة وثمارها
المطلب الأول
أشجارها وثمارها كثيرة متنوعة دائمة
أشجار الجنة كثيرة طيبة متنوعة ،وقد أخبرنا الحق أن في الجنة أشجار العنب والنخل والرمان ، كما فيها أشجار السدر والطلح، ( إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً ) [النبأ:31-32] ، ( فيها فاكهة ونخل ورمان ) [ الرحمن ٍ:68]، ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين* في سدر مخضود *وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة ) [الواقعة:27-32] ، و السدر هو شجر النبق الشائك ، ولكنه في الجنة مخضود شوكه ، أي منزوع. والطلح: شجر من شجر الحجاز من نوع العضاه فيه شوك، ولكنه في الجنة منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة .
(1/47)
________________________________________
وهذا الذي ذكره القرآن من أشجار الجنان شيء قليل مما تحويه تلك الجنان ، ولذا قال الحق : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) [الرحمن: 52]، ولكثرتها فإن أهلها يدعون منها بما يريدون، ويتخيرون منها ما يشتهون ( يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ) [ص:51]، ( وفاكهة مما يتخيرون ) [ الواقعة:20]، ( إن المتقين في ظلال وعيون* وفواكه مما يشتهون ) [ المرسلات:41-42]، وبالجملة فإن في الجنة من أنواع الثمار والنعيم كل ما تشتهيه النفوس وتلذه العيون ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف:71].
وقال ابن كثير كلاماً لطيفاً دلل فيه على عظيم ثمار الجنة ، إذ استنتج أن الله نبه بالقليل على الكثير ، والهين على العظيم عندما ذكر السدر والطلح ، قال: " وإذا كان السدر الذي في الدنيا لا يثمر إلا ثمرة ضعيفة وهو النبق، وشوكه كثير، والطلح الذي لا يراد منه في الدنيا إلا الظل ، يكونان في الجنة في غاية من كثرة الثمار وحسنها، حتى إن الثمرة الواحدة منها تتفتق عن سبعين نوعاً من الطعوم، والألوان، التي يشبه بعضها بعضاً ، فما ظنك بثمار الأشجار، التي تكون في الدنيا حسنة الثمار ، كالتفاح، والنخل ، والعنب ، وغير ذلك؟ وما ظنك بأنواع الرياحين، والأزاهير؟ وبالجملة فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله منها من فضله ". (1)
(1/48)
________________________________________
وأشجار الجنة دائمة العطاء ،فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت ، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها ) [ الرعد: 35] ( وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة ) [الواقعة:32-33].أي دائمة مستمرة ، وهي مع دوامها لا يمنع عنها أهل الجنة . ومن لطائف ما يجده أهل الجنة عندما تأتيهم ثمارها أنهم يجدونها تتشابه في المظهر، ولكنها تختلف في المخبر، ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا به من قبل وأتوا به متشابهاً ) [ البقرة:25].
وأشجار الجنة ذات فروع وأغصان باسقة نامية ( ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * ذواتا أفنان ) [ الرحمن:46-48]، وهي شديدة الخضرة : ( ومن دونهما جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان* مدهامتان ) [ الرحمن :62-64]، ولا توصف الجنة بأنها مدهامة إلا إذا كانت أشجارها مائلة إلى السواد من شدة خضرتها، واشتباك أشجارها.
أما ثمار تلك الأشجار فإنها قريبة دانية مذللة ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة ، ( متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان ) [الرحمن:54]، ( وذللت قطوفها تذليلاً ) [الإنسان:14].
أما ظلها فكما قال تعالى: ( وندخلهم ظلاً ظليلاً ) [النساء:57]، و ( وظل ممدود ) [الواقعة:30]، ( إن المتقين في ظلال وعيون ) [المرسلات:41].
المطلب الثاني
وصف بعض شجر الجنة
حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض شجر الجنة حديثاً عجباً ينبيك عن خلق بديع هائل يسبح الخيال في تقديره والتعرف عليه طويلاً، ونحن نسوق لك بعض ما حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - به .
1- الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام :
(1/49)
________________________________________
هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها ، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " إن في الجنة لشجرة (2) يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها ". (3)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، واقرؤوا إن شئتم : ( وظل ممدود ) [الواقعة : 30] ". (4)
ورواه مسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال :" إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها ". (5)
2- سدرة المنتهى :
وهذه الشجرة ذكرها الحق في محكم التنزيل ، وأخبر الحق أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها ، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى ، كما أعلمنا أنه قد غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( ولقد رآها نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وما طغى ) [النجم:13-17].
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الشجرة بشيء مما رآه " ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: (أي جبريل) هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار،نهران باطنان، ونهران ظاهران، قلت : ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ". رواه البخاري ومسلم. (6)
(1/50)
________________________________________
وفي الصحيحين أيضاً: " ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ونبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ،فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك ". (7)
3- شجرة طوبى :
وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة ، ففي مسند أحمد، وتفسير ابن جرير ،وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " طوبى شجرة في الجنة ، مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ". (8)
وقد دل على أن ثياب أهل الجنة تشقق عنها ثمار الجنة – الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تخلق ، أمن نسجاً تنسج؟ فضحك بعض القوم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" ومم تضحكون ، من جاهل سأل عالماً؟ ثم أكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أين السائل؟ قال : هو ذا أنا يا رسول الله ، قال: " لا بل تشقق عنها ثمر الجنة ، ثلاث مرات ". (9)
المطلب الثالث
سيد ريحان الجنة
أخبرنا الله أن في الجنة ريحاناً ( فأما إن كان من المقربين* فروح وريحان وجنة نعيم ) [ الواقعة:88-89] ، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيد ريحان أهل الجنة الحناء ، ففي معجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيد ريحان الجنة الحناء ". (10)
المطلب الرابع
سيقان أشجار الجنة من ذهب
ومن عجب ما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيقان أشجار الجنة من ذهب ، ففي سنن الترمذي ،وصحيح ابن حبان ، سنن البيهقي ، بإسناد صحيح ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب ". (11)
المطلب الخامس
(1/51)
________________________________________
كيف يكثر المؤمن حظه من أشجار الجنة ؟
طلب خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء أن يبلغ أمته السلام وأن يخبرهم بالطريقة التي يستطيعون بها تكثير حظهم من أشجار الجنة ، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال: يا محمد ، أقرئ أمتك أن الجنة أرض طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ،وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ". (12)
--------------------------------
(1) النهاية لابن كثير: (2/262) .
(2) في صحيح مسلم : شجرة .
(3) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة ، فتح الباري : (11/416)، ورواه مسلم في كتاب الجنة باب إن في الجنة شجرة: (2/2176)، ورقم الحديث:2828 .
(4) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، فتح الباري : (6/319) .
(5) رواه مسلم في كتاب الجنة ، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام (2/2175) ، ورقم الحديث : 2826 ، 2827 .
(6) صحيح الجامع الصغير: (3/18)، ورقمة:2861، وعزاه إلى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.
(7) صحيح الجامع الصغير: (4/82)، وعزاه إلى البخاري ومسلم ورقمه: 4075 .
(8) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/639)، ورقم الحديث : 1985، والحديث إسناده حسن.
(9) المصدر السابق : (4/640).
(10) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/407)، ورقمه: 1420 .
(11) صحيح الجامع الصغير: (5/150)، قال ابن كثير في النهاية: (2/254)،رواه الترمذي:وقال: حسن صحيح.
(12) صحيح الجامع الصغير: (5/34) ، ورقم الحديث : 5028.
دواب الجنة وطورها
(1/52)
________________________________________
في الجنة من الطيور والدواب مالا يعلمه إلا الله تعالى ، قال تعالى فيما يناله أهل الجنة من النعيم ( ولحم طير مما يشتهون * وحور عين ) [الواقعة : 21-22]، وفي سنن الترمذي عن أنس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر ؟ قال : "ذاك نهر أعطانيه الله – يعني في الجنة – أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر (1) ". قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكلتها أنعم منها ". (2)
وأخرج أبو نعيم في الحلية، والحاكم في مستدركه عن ابن مسعود قال: "جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه الناقة في سبيل الله. فقال: " لك بها سبعمائة ناقة مخطومة (3) في الجنة ". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ووافقهما الشيخ ناصر الدين الألباني (4) . ورواه مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ". (5)
--------------------------------
(1) الجزر :الجمال .
(2) مشكاة المصابيح : (2/91)، قال المحقق: رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، قلت (الشيخ ناصر): سنده حسن.
(3) مخطومة : فيها خطام وهو قريب من الزمام.
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/228)، ورقم الحديث : 634.
(5) صحيح مسلم : 1892.
أصحاب الجنة
الأعمال التي التحقوا بها الجنة
أصحاب الجنة هم المؤمنون الموحدون، فكل من أشرك بالله أو كفر به، أو كذب بأصل من أصول الإيمان فإنه يحرم من الجنان، ويكون في النيران.
والقرآن يذكر كثيراً أن أصحاب الجنة هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفي بعض الأحيان يفصل الأعمال الصالحة التي يستحق بها صاجها الجنة.
(1/53)
________________________________________
ومن المواضع التي نص القرآن على استحقاق أهل الجنة الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة قوله تعالى: ( وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنت تجرى من تحتها الأنهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خالدون ) [البقرة : 25]. وقوله : ( والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزوج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلا ) [النساء: 57]، وقوله : ( والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) [الأعراف : 42] ، وقوله: ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72] ، وقوله : ( إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [يونس : 9-10].
وقوله تعالى: ( أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) [الكهف : 31].
وقوله تعالى : ( ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) [طه : 75-86].
وفي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة لتحقيقهم أمراً من أمور الإيمان أو عملاً صالحاً، وقد يفصل في الأعمال الصالحة، ويطيل في ذلك.
ففي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة بالإيمان والإسلام ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين ءامنوا بئاياتنا وكانوا مسلمين * أدخلوا الجنة أنتم وأزوجكم تحبرون ) [الزخرف:68-70].
(1/54)
________________________________________
وأحياناً يذكر أنهم استحقوها لأنهم أخلصوا دينهم لله : ( إلا عباد الله المخلصين * أولئك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * في جنات النعيم ) [ الصافات : 40-43].
وأحياناً يذكر استحقاقهم لها لقوة ارتباطهم بالله ورغبتهم إليه وعبادتهم له ( إنما يؤمن بئاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [السجدة : 15-18] .
ومن الأعمال الصبر والتوكل : ( والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) [ العنكبوت : 58-59].
ومنها الاستقامة على الإيمان : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) [ الأحقاف : 13-14]، ومنها الإخبات إلى الله تعالى : ( إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خلدون ) [ هود : 23]، ومن ذلك الخوف من الله: ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46]. ومن ذلك بغض الكفرة المشركين، وعدم موادتهم ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخونهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ المجادلة : 22].
(1/55)
________________________________________
وفي بعض الأحيان تفصل الآيات في ذكر الأعمال الصالحة التي يستحق بها أصحابها الجنة تفصيلاً كثيراً، فذكر في سورة الرعد أنهم استحقوها باعتقادهم أن ما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وبوفائهم بالعهود، وعدم نقضهم الميثاق، ووصلهم ما أمر الله بوصله، وخشيتهم لله، وخوفهم من سوء الحساب، وصبرهم لله ، وإقام الصلاة، والإنفاق سراً وعلانية، ودرئهم بالحسنة السيئة ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يذكر أولوا الألباب* الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق* والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنت عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم و أزواجهم وذريتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد: 19-24]
وفي مطلع سورة المؤمنين حكم أن الفلاح إنما هو للمؤمنين ، ثم بين الأعمال التي تؤهلهم للفلاح ، وأعلمنا أن فلاحهم إنما يكون بإدخالهم الفردوس خالدين فيها أبداً. ( قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأمنتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خلدون ) [المؤمنون: 1 – 11].
(1/56)
________________________________________
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أعمال عظيمة يستحق بها أصحابها الجنة ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته : "... وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال ". (1)
--------------------------------
(1) رواه مسلم، انظر شرح النووي على مسلم : (17/198).
طريق الجنة شاق
الجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير، وطريق الجنة فيه مخالفة لأهواء النفوس ومحبوباتها، وهذا يحتاج إلى عزيمة ماضية، وإرادة قوية، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره " ولمسلم حفت بدل حجبت . (1)
وفي سنن النسائي والترمذي وأبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ". (2)
وقد علق النووي في " شرحه على مسلم " على الحديث الأول قائلاً: "هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادة، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء ، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك ". (3)
--------------------------------
(1/57)
________________________________________
(1) جامع الأصول: (10/521) ورقمه : 8069 .
(2) جامع الأصول : (10/520) ، ورقمه : 8068 ، وقال الترمذي فيه: حديث حسن صحيح غريب.
(3) شرح النووي على مسلم : (17/165).
أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة
جعل الله لكل واحد من بني آدم منزلين: منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، ثم إن من كتب له الشقاوة من أهل الكفر والشرك يرثون منازل أهل الجنة التي كانت لهم في النار، والذين كتب لهم السعادة من أهل الجنة يرثون منازل أهل النار التي كانت لهم في الجنة، قال تعالى في حق المؤمنين المفلحين بعد أن ذكر أعمالهم التي تدخلهم الجنة: ( أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خلدون ) [ المؤمنون : 10-11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " قال ابن أبي حاتم – وساق الإسناد إلى أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار ".
(1/58)
________________________________________
وروى عن سعيد بن جبير نحو ذلك، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار، لأنهم خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، فلما قام هؤلاء بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل ، بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى" وفي لفظ له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقال: هذا فكاكك من النار" . وهذا الحديث كقوله تعلى: ( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ) [مريم: 63]، وقوله : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) [الزخرف: 72]. فهم يرثون نصيب الكفار في الجنان . (1)
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير : (5/10).
الضعفاء أكثر أهل الجنة
أكثر من يدخل الجنة الضعفاء الذين لا يأبه الناس لهم، ولكنهم عند الله عظماء، لإخباتهم لربهم، وتذللهم له، وقيامهم بحق العبودية لله، روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا : بلي ، قال : كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره ". (1)
قال النووي في شرحه للحديث: " ومعناه يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجبرون عليه، لضعف حاله في الدنيا، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء ... وليس المراد الاستيعاب ". (2)
وفي الصحيحين ومسند أحمد عن أسامة بن زيد، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ". (3)
(1/59)
________________________________________
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اطلعت في الجنة ، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ". (4)
--------------------------------
(1) جامع الأصول: (10/535).
(2) النووي على مسلم: (17/187) .
(3) مشكاة المصابيح : (2/663)، ورقمه : 5233.
(4) مشكاة المصابيح ) 2/663)، ورقمه : 5234.
هل الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟
تخاصم الرجال والنساء في هذا والصحابة أحياء ، ففي صحيح مسلم عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء: أيهم أكثر في الجنة ؟ وفي رواية : إما تفاخروا ، وإما تذاكروا : الرجال في الجنة أكثر أم النساء ؟ فسألوا أبا هريرة ، فاحتج أبو هريرة على أن النساء في الجنة أكثر بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم ، وما في الجنة أعزب ". (1)
والحديث واضح الدلالة على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، وقد احتج بعضهم على أن الرجال أكثر بحديث: "رأيتكن أكثر أهل النار ". والجواب أنه لا يلزم من كونهن أكثر أهل النار أن يكن أقل ساكني الجنة كما يقول ابن حجر العسقلاني (2) ، فيكون الجمع بين الحديثين أن النساء أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة، وبذلك يكن أكثر من الرجال وجوداً في الخلق . ويمكن أن يقال: إن حديث أبي هريرة يدل على أن نوع النساء في الجنة أكثر سواء كن من نساء الدنيا أو من الحور العين، والسؤال هو : أيهما أكثر في الجنة : رجال أهل الدنيا أم نساؤها ؟ وقد وفق القرطبي بين النصين بأن النساء يكن أكثر أهل النار قبل الشفاعة وخروج عصاة الموحدين من النار، فإذا خرجوا منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين كن أكثر أهل الجنة . (3)
(1/60)
________________________________________
ويدل على قلة النساء في الجنة ما رواه أحمد وأبو يعلى عن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشعب إذ قال: انظروا هل ترون شيئا؟ فقلنا: نرى غرباناً فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان ". (4)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنة باب أول زمرة تدخل الجنة (4/2179)، ورقم الحديث: 2834.
(2) فتح الباري : (6/325).
(3) راجع التذكرة للقرطبي : ص 475 .
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (4/466)، ورقمه : 1851، وصحح الشيخ ناصر إسناده.
الذين توفوا قبل التكليف
المطلب الأول
أطفال المؤمنين
أطفال المؤمنين الذين لم يبلغوا الحلم هم في الجنة إن شاء الله تعالى بفضل الله ورحمته. قال تعالى : ( والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ) [الطور : 21].
واستدل علي بن أبي طالب بقوله تعالى: ( كل نفس بما كسبت رهينة ) [المدثر : 38] . على أن أطفال المؤمنين في الجنة، لأنهم لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم . (1)
وقد عقد البخاري في صحيحه باباً عنون له بقوله: " باب فضل من مات له ولد فاحتسب ". وساق فيه حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما من الناس مسلم يتوفي له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ". وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا يوماً، فوعظهن، وقال:" أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجاباً من النار. قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان ". (2)
(1/61)
________________________________________
وعقد باباً آخر عنوانه : " باب ما قيل في أولاد المشركين " وساق فيه حديث أنس السابق، وحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجاباً من النار أو دخل الجنة ". وحديث البراء رضي الله عنه قال: " لما توفى إبراهيم عليه السلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن له مرضعاً في الجنة ". (3)
ووجه الدلالة في الأحاديث التي ساقها البخاري على أن أطفال المؤمنين في الجنة – كما يقول – ابن حجر - : " إن من يكون سبباً في حجب النار عن أبوبه أولى بأن يحجب هو. لأنه أصل الرحمة وسببها ". (4)
وقد جاءت نصوص صريحة في إدخال ذرية المؤمنين الجنة، فمن ذلك حديث علي مرفوعاً عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند : " إن المسلمين وأولادهم في الجنة ". (5)
وحديث أبي هريرة عند أحمد في مسنده مرفوعاً: " ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة ". (6)
وروى مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صغارهم دعاميص (7) الجنة، يتلقى أحدهم أباه أو قال: أبويه، فيأخذ بثوبه، أو قال بيده، كما آخذ أنا بصنفه ثوبك هذا ، فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وإياه الجنة ". (8)
وروى الإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ". (9)
وروى أبو نعيم في أخبار أصبهان، والديلمي، وابن عساكر عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أطفال المؤمنين في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة، حتى يدفعوهم إلى آبائهم يوم القيامة ". (10)
وقد نقل النووي إجماع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين في الجنة، ونقل عنه أنه توقف بعضهم في ذلك . (11)
(1/62)
________________________________________
وحكى القرطبي التوقف عن حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وإسحاق ابن راهويه . (12)
قال النووي: "توقف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: " توفي صبي من الأنصار، فقلت: طوبى له لم يعمل سوءاً ولم يدركه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أغير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً...".
قال : " والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل ، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة ". (13)
أقول: لعل الصواب أن الحديث يسير إلى أنه لا يجوز أن نجزم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، وإن كنا نشهد لهم مطلقاً بالجنة. والأمر الثاني هو عدم الهجوم على ذلك كي لا يتجرأ الناس على مثل هذا كما هو حاصل في زماننا، إذ يزعم نعاة الموتى أن ميتهم في الجنة، وإن كان أفسق الناس.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " لا يشهد لكل معين من أطفال المؤمنين بأنه في الجنة، وإن شهد لهم مطلقاً ". (14)
المطلب الثاني
أطفال المشركين
بوب البخاري في صحيحه باباً بعنوان "باب ما قيل في أولاد المشركين" وأورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين".
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين ".
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء ". (15)
(1/63)
________________________________________
والبخاري رحمه الله تعالى – كما يقول ابن حجر – أشعر بهذه الترجمة أنه كان متوقفاً في أولاد المشركين، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم من صحيحه بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة ، وقد رتب أيضاً أحاديث هذا الباب ترتيباً يشير إلى المذهب المختار ، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة ، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك في قوله في سياقه: " وأما الصبيان حوله فأولاد الناس " قد أخرجه البخاري في التعبير بلفظ: " وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة ، فقال بعض المسلمين : وأولاد المشركين ؟ فقال : وأولاد المشركين ". (16)
قال ابن حجر : ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعاً " سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم" إسناده حسن ، وورد تفسير " اللاهين " بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار. وأخرج أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: " قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال : النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة ". وإسناده حسن . (17)
واحتجوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أطفال المشركين خدم أهل الجنة " رواه ابن منده في المعرفة، وأبو نعيم في الحلية، وأبو يعلى في مسنده، وحكم عليه الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة بمجموع طرقه . (18)
والقول بأنهم في الجنة هو قول جمع من أهل العلم، وهو اختيار أبي الفرج بن الجوزي (19) ، وقال النووي في هذا المذهب: "وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء: 15)، واحتج بالأدلة التي ساقها البخاري وغيره ". (20)
(1/64)
________________________________________
وأقول: وهذا القول هو الذي رجحه القرطبي أيضاً وقد وفق القرطبي بين النصوص التي يظهر منها التعارض في هذا الموضوع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : قال في أول الأمر هم مع آبائهم أي في النار، ثم حصل منه توقف في ذلك، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم أوحى إليه أنه لا يعذب أحد بذنب غيره ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [الإسراء: 15]، فحكم بأنهم في الجنة (21) ، وذكر في ذلك حديثاً رواه عبد الرزاق، ولكن الحديث ضعيف كما قال ابن حجر العسقلاني . (22)
ويشكل على هذا التوفيق الذي ذكره ابن حجر أن المسألة ليست من مسائل النظر والاجتهاد ، ولكنها مسألة غيبية لا يتكلم فيها إلا بوحي ، والله أعلم .
وقد يشكل على القول بأن أولاد المؤمنين والمشركين في الجنة ما ورد من نصوص دالة علي أن الله علم أهل الجنة والنار أزلاً، وأن الملك عندما يزور الرحم يكتب رزق الجنين وأجله وشقاءه وسعادته، وقد يقال في الجواب: إن من مات صغيراً قبل الاكتساب فإنه يكون مكتوباً من السعداء وهو في بطن أمه، والله أعلم بالصواب.
وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنهم في مشيئة الله تعالى، وهذا منقول عن حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق ، ونقله البيهقي في " الاعتقاد " عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذا شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث: " الله أعلم بما كانوا عاملين ". (23)
(1/65)
________________________________________
وهذا القول حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة (24) ، وهو اختيار شيخ الإسلام، فقد اختار أن أطفال المشركين في مشيئة الله ، وأنهم يمتحنون في يوم القيامة، وعزا القول بذلك إلى أبي الحسن الأشعري والإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: "والصواب أن يقال فيهم: الله أعلم بما كانوا عاملين، ولا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار، وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات القيامة يؤمرون وينهون، فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وهذا هو الذي ذكره أبو المحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة . (25)
وقال في موضع آخر : "أطفال المشركين الذين لم يكلفوا في الدنيا يكلفون في الآخرة، كما وردت بذلك أحاديث متعددة، وهو القول الذي حكاه أبو الحسن الأشعري في أطفال المشركين، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه سئل عنهم فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين ". (26)
وقد ذكر ابن حجر أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى عذب ، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في " كتاب الاعتقاد " أنه المذهب الصحيح . (27)
ويدل لصحة هذا القول ما ورد في محكم القرآن في قصة العبد الصالح الذي رحل نبي الله موسى إلى لقائه في مجمع البحرين، فإنه قال مبيناً السر في قتله الغلام: ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيناً وكفرا ) [ الكهف : 80]، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : في الغلام الذي قتله الخضر: " طبع يوم طبع كافراً، ولو ترك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً " قال ابن تيمية معقباً على الحديث: " يعني طبعه الله في أم الكتاب، أي أثبته وكتبه كافراً، أي أنه إن عاش كفر بالفعل ".
(1/66)
________________________________________
وقد ضعف القرطبي هذا المذهب محتجاً بأن الآخرة دار جزاء لا ابتلاء، ففي " التذكرة " قال المؤلف (يعني نفسه): "ويضعفه (القول بامتحانهم في عرصات القيامة) من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف، وإنما هي دار جزاء: ثواب ، وقال الحليمي: وهذا الحديث ليس بثابت، وهو مخالف لأصول المسلمين، لأن الآخرة ليست بدار امتحان، فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة، ولا محنة مع الضرورة ". (28)
وهذا الذي اعترض به من أن التكليف ينقطع بالموت غير صحيح، وقد رد على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: " التكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار، وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ ، فيقال لأحدهم : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك ؟ وقال تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : 42] ، وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يتجلى الله لعباده في الموقف، إذا قيل ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، فيتبع المشركون آلهتهم، ويبقى المؤمنون، فيتجلى لهم الرب الحق في غير الصورة التي كانوا يعرفون، فينكرونه، ثم يتجلى لهم في الصورة التي يعرفون، فيسجد له المؤمنون، وتبقى ظهور المنافقين كقرون البقر، فيريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، وذلك لقوله : ( يوم يكشف عن ساق ) [القلم : 42] . (29)
فالمحنة لا تتوقف إلا بدخول الجنة والنار، وما ذكره القرطبي من أن المعرفة بالله في ذلك اليوم ضرورية صحيح، إلا أن المحنة تكون بالأمر والنهي كما ورد في بعض النصوص أن الله يكلفهم في ذلك اليوم بالدخول في النار، فالذي يطيع يكون من أهل السعادة ، والذي يعصي يكون من أهل الشقاء .
--------------------------------
(1) التذكرة للقرطبي ص : 511، وعزاه إلى أبي عمر في التمهيد والاستذكار وأبي عبد الله الترمذي في نوادر الأصول.
(1/67)
________________________________________
(2) صحبح البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب، فتح الباري: (3/118).
(3) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، فتح الباري: (3/244) وحديث أبي هريرة رواه معلقاً.
(4) فتح الباري : (3/244).
(5) فتح الباري :( 3/245)
(6) فتح الباري : (3/245).
(7) يراد بالدعموص هنا: الآذن على الملوك المتصرف بين أيديهم .
(8) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/174)، ورقم الحديث : 432.
(9) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/156) ، ورقم الحديث : 603، وذكر المحقق أن الحاكم صحح إسناده ووافقه الذهين، إلا أن الشيخ ناصر قال: هو حسن فقط.
(10) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/451) ، ورقمه : 1468.
(11) فتح الباري: (3/244).
(12) التذكرة للقرطبي : (ص 511).
(13) فتح الباري : (3/244)
(14) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام: (4/281).
(15) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، فتح الباري: (3/246).
(16) فتح الباري : (3/246).
(17) فتح الباري: (3/246)
(18) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/452)، ورقمه : 1468.
(19) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (24/372).
(20) فتح الباري : (3/247).
(21) التذكرة للقرطبي : ص 515.
(22) فتح الباري: (3/247).
(23) فتح الباري : (3/246)
(24) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/281 – 404)، (24/372).
(25) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/281 – 404)، (24/372).
(26) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : ( 4/281).
(27) فتح الباري: (3/246).
(28) التذكرة : ص 514.
(29) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (24/372)، وانظر : (17/309).
مقدار ما يدخل الجنة من هذه الأمة
(1/68)
________________________________________
يدخل من هذه الأمة الجنة جموع كثيرة الله أعلم بعددهم، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: حدثني ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عرضت على الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب ". (1)
والسواد الأول الذي ظنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته هم بنو إسرائيل ، كما في بعض الروايات في الصحيح " فرجوت أن تكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه ". (2)
ولا شك أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني إسرائيل ، ففي الحديث : " فإذا سواد كثير " قال ابن حجر " في رواية سعيد بن منصور " عظيم " وزاد " فقيل لي : انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر مثله "، وفي رواية ابن فضيل : " فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا في آفاق السماء " وفي حديث ابن مسعود: " فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال "، وفي لفظ لأحمد: " فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم"، فقيل: أرضيت يا محمد ؟ قلت: نعم يا رب ". (3)
وقد ورد في بعض الأحاديث أن مع كل ألف من السبعين ألفاً سبعين ألفاً ، وثلاث حثيات من حثيات الله، ففي مسند أحمد، وسنن الترمذي وابن ماجة عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب ، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي " (4) ، ولا شك أن الثلاث حثيات تدخل الجنة خلقاً كثيراً.
(1/69)
________________________________________
وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن تكون هذه الأمة نصف أهل الجنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذكر بعث النار، قال صلوات الله وسلامه عليه في آخره: " والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة "، فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبرنا. قال: " ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود ". (5)
بل ورد في بعض الأحاديث أن هذه الأمة تبلغ ثلثي أهل الجنة، ففي سنن الترمذي بإسناد حسن، وسنن الدارمي، و " البعث والنشور" للبيهقي عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم ". (6)
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما صدقة من أمته إلا رجل واحد ". (7)
والسر في كثرة من آمن من هذه الأمة أن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكبرى كانت وحياً متلواً يخاطب العقول والقلوب، وهي معجزة باقية محفوظة إلى قيام الساعة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلىَّ ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ". (8)
--------------------------------
(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً، فتح الباري: (11/406) .
(2) فتح الباري: (11/407) .
(3) فتح الباري: (11/408) .
(4) مشكاة المصابيح : (3/64) ، ورقمه : 5556 ، وقد حسنه الترمذي وصحح الشيخ ناصر إسناده .
(1/70)
________________________________________
(5) مشكاة المصابيح : (3/58) ، ورقم الحديث : 5541 .
(6) مشكاة المصابيح : (3/92) ، ورقم الحديث : 5644 .
(7) مشكاة المصابيح : (3/124) ، ورقم الحديث : 5744 .
(8) مشكاة المصابيح : (3/124) ، ورقم الحديث : 5746 .
سادة أهل الجنة
المطلب الأول
سيد كهول أهل الجنة
روى جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبو جحيفة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ".
وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه في كتب السنة، وقال في خاتمة تخريجه للحديث: "وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه صحيح بلا ريب، لأن بعض طرقه حسن لذاته، وبعضه يستشهد به .." . (1)
المطلب الثاني
سيدا شباب أهل الجنة
أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثبت ذلك من طرق كثيرة تبلغ درجة التواتر، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرق الحديث في كتابه القيم: " سلسلة الأحاديث الصحيحة ".
فقد رواه الترمذي والحاكم والطبراني وأحمد وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ".
ورواه الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني وغيرهم عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصليت معه المغرب، ثم قام يصلي حتى العشاء، ثم خرج، فاتبعته، فقال: " عرض لي ملك استأذن ربه أن يسلم عليّ ويبشرني في أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ".
وأخرجه الحاكم وابن عساكر عن عبد الله بن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابناي هذان سيدا شباب أهل الجنة ". (2)
المطلب الثالث
سيدات نساء أهل الجنة
(1/71)
________________________________________
السيد الحق هو الذي يثني عليه ربه ويشهد له، والسيدة الفاضلة هي التي يرضى عنها ربها، ويتقبلها بقبول حسن، وأفضل النساء هن اللواتي يحزن جنات النعيم، ونساء أهل الجنة يتفاضلن، وسيدات نساء أهل الجنة: خديجة ، وفاطمة ، ومريم وآسية ، ففي مسند أحمد ، ومشكل الآثار للطحاوي ، ومستدرك الحاكم ، بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة أخطط، ثم قال: " تدرون ما هذا ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم . قال: " أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، فاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ". (3)
ومريم وخديجة أفضل الأربع، ففي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خير نسائها مريم ، وخير نسائها خديجة ". (4)
ومريم هي سيدة النساء الأولى وأفضل النساء على الإطلاق، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم ابنة عمران: فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون " (5) . وكونها أفضل النساء على الإطلاق صرح به القرآن: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهراك واصطفاك على نساء العالمين ) [آل عمران: 42]، وكيف لا تكون كذلك وقد صرح الحق بأنه تقبلها ( بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسنا ) [ آل عمران : 37].
وهؤلاء الأربع نماذج رائعة للنساء الكاملات الصالحات، فمريم ابنة عمران أثنى عليها ربها في قوله: ( أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) [التحريم:12] .
(1/72)
________________________________________
وخديجة الصديقة التي آمنت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردد، وثبتته، وواسته بنفسها ومالها، وقد بشرها ربها في حياتها بقصر في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أتي جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب ". (6)
وآسية امرأة فرعون هان عليها ملك الدنيا ونعيمها، فكفرت بفرعون وألوهيته، فعذبها زوجها فصبرت حتى خرجت روحها إلى بارئها (وضرب الله مثلاً للذين ءامنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنى من فرعون وعمله، ونجنى من القوم الظالمين ) [التحريم : 11].
وفاطمة الزهراء ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصابرة المحتسبة التقية الورعة فرع الشجرة الطاهرة ، وتربية معلم البشرية.
--------------------------------
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (12/487)، ورقمه : 824.
(2) وإن أحببت أن تقف على رواته، ومخرجيه من كتب السنة، فارجع إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/438)، ورقم الحديث : 797.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/13)، ورقمه : 1508.
(4) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها، فتح الباري: (7/133).
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/410)ن ورقمه : 1424.
(6) رواه البخاري في كتاب المناقب، باب تزويج النبي r خديجة وفضلها، فتح الباري: (7/133) والحديث مروى في هذا الباب م طرق أخرى عن عائشة وعبد الله بن أبي أوفي .
العشرة المبشرون بالجنة
(1/73)
________________________________________
نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصاً صريحاً على أن عشرة من أصحابه من أهل الجنة، ففي مسند أحمد عن سعيد بن زيد، وسنن الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ". وإسناده صحيح . (1)
وروى الحديث الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والضياء في المختارة عن سعيد بن زيد بلفظ فيه شيء من الاختلاف عن سابقه، ولفظه: " عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة " وإسناده صحيح . (2)
وتذكر لنا كتب السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً جالساً على بئر أريس وأبو موسى الأشعري بواب له، فجاء أبو بكر الصديق فاستأذن، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " ائذن له وبشره بالجنة " ثم جاء عمر فقال: " ائذن له، وبشره بالجنة " ثم جاء عثمان، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ". (3)
وروى ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " القائم بعدي في الجنة ، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث والرابع في الجنة "(4) . ومراده بالقائم بعده : الذي يلي الحكم بعد موته، وهؤلاء الأربعة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً.
وروى الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: " أنت عتيق من النار ". (5)
--------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير: (1/70) ، ورقمه : 50.
(2) صحيح الجامع الصغير: (4/34)، ورقمه: 3905.
(1/74)
________________________________________
(3) رواه البخاري ومسلم والنرمذي، جامع الأصول (8/562)، ورقمه: 6372، والحديث طويل، وقد اقتصرنا منه على موضع الشاهد فحسب.
(4) صحيح الجامع الصغير: (4/149)، ورقمه : 4311.
(5) صحيح الجامع الصغير: (2/24)، ورقمه : 1494.
بعض من نص على أنهم في الجنة غير من ذكر
1- 2 - جعفر بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب :
من الذين أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم في الجنة جعفر وحمزة ، ففي سنن الترمذي ، ومسند أبي يعلى ، ومستدرك الحاكم وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة بجناحين ". (1)
وروى الطبراني، وابن عدي، والحاكم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير ". وإسناده صحيح. (2)
وقد صح أن الرسول قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب " . (3)
3- عبد الله بن سلام :
روى أحمد والطبراني والحاكم بإسناد صحيح عن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عبد الله بن سلام عاشر عشرة في الجنة ". (4)
4- زيد بن حارثة :
روى الروياني والضياء عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت الجنة، فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة ". (5)
5- زيد بن عمرو بن نفيل :
روى ابن عساكر بإسناد حسن عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دخلت الجنة، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين ". (6)
وزيد هذا كان يدعو إلى التوحيد في الجاهلية، وكان على الحنيفية ملة إبراهيم .
6- حارثة بن النعمان :
وروى الترمذي والحاكم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " دخلت الجنة، فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا ؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر ". (7)
7- بلال بن رباح :
(1/75)
________________________________________
روى الطبراني وابن عدي بإسناد صحيح عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دخلت الجنة، فسمعت خَشفة بين يدي، قلت: ما هذه الخشفة ؟ فقيل : هذا بلال يمشي أمامك ". (8)
وفي المسند بإسناد صحيح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت الجنة ليلة أسري بي، فسمعت من جانبها وجساً، فقلت: يا جبريل ما هذا ؟ قال: بلال المؤذن ". (9)
8 – أبو الدحداح :
روى مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كم من عذق معلق لأبي الدحداح في الجنة ". (10)
وأبو الدحداح هذا هو الذي تصدق ببستانه : بيرحاء ، أفضل بساتين المدينة عندما سمع الله يقول: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) [البقرة: 245].
9- ورقة بن نوفل :
روى الحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني قد رأيت له جنة أو جنتين ". (11)
وورقة آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءته خديجة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة ، وتمنى على الله أن يدرك ظهور أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينصره .
--------------------------------
(1) قال الشيخ ناصر في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/226)، حديث رقم : 1226: (حديث صحيح جاء من طرق عن أبي هريرة، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وأبي عامر والبراء) وقد ساق طرقه .
(2) صحيح الجامع : (3/140)، ورقمه : 3358.
(3) صحيح الجامع: (3/129)، ورقمه : 3569 .
(4) صحيح الجامع الصغير: (4/25) ورقمه : 3870.
(5) صحيح الجامع (3/141)، ورقمه : 3361 .
(6) صحيح الجامع الصغير: (3/141)، ورقمه : 3362 .
(7) صحيح الجامع الصغير: (3/141)، ورقمه: 3366 .
(8) صحيح الجامع الصغير : (3/141)، ورقمه : 3364 .
(1/76)
________________________________________
(9) صحيح الجامع الصغير (3/141)، ورقمه : 3367 .
(10) صحيح الجامع الصغير : (4/185)، ورقمه : 4450 .
(11) صحيح الجامع الصغير : (6/153)، ورقمه : 7197 .
الجنة ليست ثمناً للعمل
الجنة شيء عظيم ، لا يمكن أن يناله المرء بأعماله التي عملها، وإنما تنال برحمة الله وفضله، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل أحد منكم عمله الجنة " قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة ". (1)
وقد يشكل على هذا النصوص التي تشعر بأن الجنة ثمن للعمل ، كقوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [السجدة : 17]، وقوله: ( تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) [الأعراف : 43].
ولا تعارض بين الآيات وما دل عليه الحديث ، فإن الآيات تدل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وليست ثمناً لها. والحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة. وقد ضل في هذا فرقتان: الجبرية التي استدلت بالحديث على أن الجزاء غير مرتب على الأعمال، لأنه لا صنع للعبد في عمله، والقدرية استدلوا بالآيات، وقالوا: إنها تدل على أن الجنة ثمن للعمل، وأن العبد مستحق دخول الجنة على ربه بعمله.
يقول شارح الطحاوية في هذه المسالة :
(1/77)
________________________________________
"وأما ترتب الجزاء على الأعمال، فقد ضل فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات. فالمنفى في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل الجنة أحد بعمله " – باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمه الله وفضله. والباء التي في قوله: ( جزاء بما كانوا يعملون ) [السجدة: 17] وغيرها باء السبب، أي بسبب عملكم، والله تعالى هو خلق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته". (2)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : (4/2170) ورقم الحديث : 2816 .
(2) شرح الطحاوية: 495 .
صفة أهل الجنة ونعيمهم فيها
يدخل أهل الجنة الجنة على أكمل صورة وأجملها، على صورة أبيهم آدم عليه السلام، فلا أكمل ولا أتم من تلك الصورة والخلقة التي خلق الله عليها أبا البشر آدم، فقد خلقه الله تعالى بيده فأتم خلقه، وأحسن تصويره، وكل من يدخل الجنة على صورة آدم وخلقته، وقد خلقه الله طوالاً كالنخلة السحوق، طوله في السماء ستون ذراعاً، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : " خلق الله عز وجل آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً .. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده ". (1)
وإذا كان خلقهم الظاهري متفق، فكذلك خلقهم في باطنهم واحد، نفوسهم صافية، وأرواحهم طاهرة زكية، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة في الحديث الذي يصف فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخول أهل الجنة ومنهم الزمرة الذين يدخلون الجنة نورهم كالبدر قال: " أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ". (2)
(1/78)
________________________________________
ومن جمال صورتهم أنهم يكونون جرداً مرداً كأنهم مكحلون، وكلهم يدخل الجنة في عمر القوة والفتوة والشباب أبناء ثلاث وثلاثين، ففي مسند أحمد وسنن الترمذي عن معاذ بن جبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل أهل الجنة جرداً مرداً، كأنهم مكحلون، أبناء ثلاث وثلاثين ". (3)
وأهل الجنة – كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين – " لا يبصقون، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون ". (4)
وأهل الجنة لا ينامون، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله، وعبد الله ابن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة". (5)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنة ، باب يدخل الجنة أقواما أفئدتهم مثل أفئدة الطير، (4/2183)، ورقمه : 2841 .
(2) صحيح مسلم ، كتاب الجنة، باب أول زمرة يدخلون الجنة، (4/2179) ورقم الحديث: 2834 .
(3) صحيح الجامع : (6/337)، ورقمه: 7928، وقال الشيخ ناصر فيه: صحيح.
(4) هذا جزء من حديث طويل سقناه بكامله في ( دخول الجنة ) .
(5) أورد الشيخ ناصر الدين الألباني هذا الحديث في "سلسلة الأحاديث الصحيحة": (3/74) ورقمه: 1087، وقد ذكر هناك أنه أخرجه كثير من كتب الحديث منها الكامل لابن عدي، والحلية لأبي نعيم، تاريخ أصبان له، وقد جمع الشيخ ناصر طرق الحديث، وختم الكلام على الحديث قائلاً: "وبالجملة فالحديث صحيح من بعض طرقه عن جابر".
نعيم أهل الجنة
فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا
(1/79)
________________________________________
متاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق تبارك وتعالى بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها.
وتجد ذم الدنيا ومدح نعيم الآخرة، وتفضيل ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خيرٌ للأبرار ) [ آل عمران : 198]، وقوله : (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى ) [ طه : 131].
وقال في موضع ثالث : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والنساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزوج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) [ آل عمران : 14-15].
ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة :
أولاً : متاع الدنيا قليل ، قال تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) [ النساء : 77].
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: " والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه – وأشار بالسبابة – في اليم، فلينظر بم ترجع "(1). ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم ، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة .
(1/80)
________________________________________
ولما كان متاع الدنيا قليلاً ، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة ( يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) [ التوبة : 38].
الثاني : هو أفضل من حيث النوع ، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم – أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها "(2). وفي الحديث الآخر الذي يرويه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس " (3) . وقارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا ، ففي صحيح البخاري عن أنس ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " (4) .
(1/81)
________________________________________
الثالث : الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها ، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول ، والروائح الكريهة ، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها ( بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 46-47] وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه ( أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ) [ محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى: ( ولهم فيها أزوج مطهرة ) [ البقرة : 25].
وقلوب أهل الجنة صافيه ، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) [ الطور: 23]، ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا ( لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا ) [ النبأ : 35]، ( لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما ) [مريم : 62]، ( لا تسمع فيها لاغية ) [الغاشية : 11]، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأوشاب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم ( لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاما ) [ الواقعة : 25-26].
(1/82)
________________________________________
ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب ، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي الصحيحين في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة " لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً " (5). وصدق الله إذ يقول: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ) [ الحجر : 47 ].
والغل : الحقد ، وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل ، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم. ولعلهم استفادوا هذا من قوله تعالى: ( وسقاهم ربهم شراباً طهورا ) [ الإنسان: 21]. (6)
(1/83)
________________________________________
الرابع : نعيم الدنيا زائل ، ونعيم الآخرة باق دائم ، ولذلك سمى الحق تبارك وتعالى ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول ، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد ، ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) [النحل : 96] ، ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ ص : 54]، ( أكلها دائم وظلها ) [ الرعد : 35]، وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا ) [الكهف : 45 – 46]. فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوى ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع ... كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوى ويذهب ، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً ، والأموال والأولاد قد يذهبون ، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله ، أما الآخرة فلا رحيل ، ولا فناء ، ولا زوال ( ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار ) [ النحل : 30-31].
الخامس : العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) [آل عمران : 185].
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : (4/2193). ورقم الحديث : 2858 .
(2) مشكاة المصابيح : (3/85) ورقم الحديث : 5613 .
(3) مشكاة المصابيح : (3/85). ورقم الحديث : 5615 والقدر: الموضع والمقدار .
(1/84)
________________________________________
(4) مشكاة المصابيح : (3/85). ورقم الحديث : 5614 والنصيف: الخمار .
(5) رواه البخاري عن أبي هريرة، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة ، فتح الباري: (6/318) .
(6) التذكرة ، للقرطبي : ص 499 .
طعام أهل الجنة وشرابهم
سبق أن تحدثنا عن أشجار الجنة وثمارها، وقطوفها الدانية المذللة تذليلاً، واختيار أهل الجنة من ثمارها ما يريدون ويشتهون، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب ، ( وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون ) [ الوقعة : 20 – 21]، ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71]، وقد أباح الله لهم أن يتناولوا من خيراتها وألوان طعامها وشرابها ما يشتهون ( كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ) [الحاقة: 24].
وذكرنا أيضاً فيما سبق أن في الجنة بحر الماء ، وبحر الخمر ، وبحر اللبن ، وبحر العسل ، وأن أنهار الجنة تنشق من هذه البحار. وفي الجنة عيون كثيرة ، وأهل الجنة يشربون من تلك البحار والأنهار والعيون .
قال تعالى: ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً * عيناً بشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) [ الإنسان : 5 – 6].
وقال : ( ويسقون فيها كأساً كان من مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلا ) [الإنسان : 17-18] ، وقال : ( ومزاجه من تسنيم * عيناً يشرب بها المقربون ) [المطففين: 27-28].
المطلب الأول
خمر أهل الجنة
من الشراب الذي يتفضل الله على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالي من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا ، فخمر الدنيا تذهب العقول ، وتصدع الرؤوس ، وتوجع البطون ، وتمرض الأبدان ، وتجلب الأسقام ، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك ، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله ، جميلة صافية رائقة ، ( يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 45-47].
(1/85)
________________________________________
لقد وصف الله جمال لونها ( بيضاء ) ثم بين أنها تلذ شاربها من غير اغتيال لعقله، كما قال: ( وأنهار من خمر لذة للشاربين ) [محمد:18] ، ثم إن شاربها لا يمل من شربها ( ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 47] ، وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: (يطوف عليهم ولدن مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) [ الواقعة : 17-19].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات : " لا تصدع رؤوسهم ، ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة ، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : في الخمر أربع خصال: السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فذكر الله خمر الجنة ، ونزهها عن هذه الخصال ". (1)
وقال الحق في موضع ثالث : ( يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك ) [ المطففين: 25-26]، والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين : الأول أنه مختوم ، أي موضوع عليه خاتم . الأمر الثاني : أنهم إذا شربوه وجدوا في ختام شربهم له رائحة المسك.
المطلب الثاني
أول طعام أهل الجنة
أول طعام يُتحِف الله به أهل الجنة زيادة كبد الحوت ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده ، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة " فأتى رجل من اليهود ، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة ؟ قال: " بلى " قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: " ألا أخبرك بإدامهم ؟ بالام والنون. قالوا: وما هذا ؟ قال : ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً ". (2)
(1/86)
________________________________________
قال النووي في شرح الحديث ما ملخصه: " النزل: ما يعد للضيف عند نزوله، ويتكفأها بيده ، أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي ، لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها، ومعنى الحديث: أن الله تعالى يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون طعاماً ونزلاً لأهل الجنة ، والنون: الثور، والـ (بلام): لفظة عبرانية، معناها: ثور، وزائدة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد، وهي أطيبها ". (3)
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أول قدومه المدينة أسئلة منها: " ما أول شيء يأكله أهل الجنة ؟ فقال: زيادة كبد الحوت ". (4)
وفي صحيح مسلم عن ثوبان أن يهودياً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ " قال : زيادة كبد الحوت ". قال: " فما غذاؤهم على إثرها ؟ قال : ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها ". قال: " فما شرابهم عليه؟ " قال: " من عين تسمى سلسبيلا " قال: صدقت . (5)
المطلب الثالث
طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه
قد يتبادر إلى الذهن أن الطعام والشراب في الجنة ينتج عنه ما ينتج عن طعام أهل الدنيا وشرابهم من البول والغائط والمخاط والبزاق ونحو ذلك، والأمر ليس كذلك ، فالجنة دار خالصة من الأذى ، وأهلها مطهرون من أوشاب أهل الدنيا، ففي الحديث الذي يرويه صاحبا الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نافياً هذا الظن: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها ". (6)
(1/87)
________________________________________
وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل من يدخل الجنة ، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل ، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يبزقون ". (7)
فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لا يتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون.
وقد يقال: فأين تذهب فضلات الطعام والشراب، وقد وجه هذا السؤال إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل أصحابه ، فأفاد أن بقايا الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه أيضاً إلى جشاء، ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة ، ففي صحيح مسلم عن جارب عبد الله ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول : " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يتبولون ، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون" ، قالوا: فما بال الطعام ؟ قال: جشاء كجشاء المسك ". (8)
المطلب الرابع
لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون ؟
إذا كان أهل الجنة فيها خالدون، وكانت خالية من الآلام والأوجاع والأمراض، لا جوع فيها ولا عطش، ولا قاذورات ولا أوساخ، فلماذا يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولماذا يتطيبون ويمتشطون ؟
(1/88)
________________________________________
أجاب القرطبي في التذكرة عن هذا السؤال قائلاً : " نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وإنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) [ طه : 118-119]. وحكمة ذلك أن الله تعالى عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل ". (9)
المطلب الخامس
آنية طعام أهل الجنة وشرابهم
آنية طعام أهل الجنة ، التي يأكلون ويشربون بها من الذهب والفضة، قال تعالى: ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ) [الزخرف: 71] ، أي وأكواب من ذهب ، وقال : ( ويطاف عليهم بئانية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا ) [الإنسان: 15-16]، أي اجتمع فيها صفاء القوارير وبياض الفضة.
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة .. وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ". (10)
ومن الآنية التي يشربون بها الأكواب والأباريق والكؤوس ( يطوف عليهم ولدن مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [الواقعة : 17]، والكوب : ما لا أذن له ولا عروة ولا خرطوم ، والأباريق : ذوات الآذان والعرا ، والكأس القدح الذي فيه الشراب.
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير: 6/514 .
(2) مشكاة المصابيح : (3/56) .
(3) شرح النووي على مسلم: (17/136) .
(4) النهاية لابن كثير : (2/270) .
(5) النهاية لابن كثير : (2/270) .
(6) رواه البخاري، كتاب بد الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/317)، ورواه مسلم في كتاب الجنة، باب أول زمرة تدخل الجنة، (4/2178)، حديث رقم : 2834 .
(1/89)
________________________________________
(7) رواه مسلم، كتاب الجنة، باب أول زمرة تدخل الجنة ، (4/2188)، ورقم الحديث : 2834 .
(8) رواه مسلم في صحيحه : (4/2180) ورقم الحديث : 2835 .
(9) التذكرة للقرطبي: ص 475، وانظر فتح الباري : (6/325) .
(10) أي : وللمؤمن جنتان .
لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس ، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ ، فمن لباسهم الحرير، ومن حلاهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ : قال تعالى: ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ) [ الإنسان : 12]، ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ) [ الحج : 23]، ( جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ) [فاطر: 33]، ( وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا ) [الإنسان:21].
وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والإستبرق ( يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) [ الكهف : 31]، ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة ) [ الإنسان: 21].
ولباسهم أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان ، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا ". (1)
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الذين يدخلون الجنة: " آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوّة – قال أبو اليمان: عود الطيب – ورشحهم المسك ". (2)
(1/90)
________________________________________
ومن حليهم التيجان ، ففي سنن الترمذي ابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الخصال التي يُعطاها الشهيد: " ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ". (3)
وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه " . (4)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة والنار، فتح الباري : (6/319) .
(2) المصدر السابق .
(3) مشكاة المصابيح: (3/358)، ورقمه : 3834، وصحح الشيخ ناصر إسناده .
(4) صحيح مسلم، كتاب الجنة ، باب في دوام نعيم الجنة ، (4/2181) ، ورقم الحديث : 2836 .
فرش أهل الجنة
أعدت قصور الجنة ، وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك ، فالسرر كثيرة راقية والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسر الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل ، قال تعالى: ( فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابى مبثوثة ) [ الغاشية : 13-16] ، ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) [الرحمن : 54]، ( متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ) [ الطور: 20]، ( ثلة من الأولين * وقليل من الأخرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين ) [الواقعة: 13-16].
(1/91)
________________________________________
واتكاؤهم عليها على هذا النحو نوع من النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة حين يجتمعون كما أخبر الله تعالى: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ) [ الحجر : 47] وقال: ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) [الرحمن: 76]، (متكئين فيها على الأرائك ) [ الكهف: 31]. والمراد بالنمارق : المخاد ، والوسائد: المساند ، والزرابي : البسط ، والعبقري : البسط الجياد. والرفرف: رياض الجنة. وقيل: نوع من الثياب، والأرائك: السرر.
خدم أهل الجنة
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال والكمال، كما قال تعالى: ( يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [الواقعة: 17-18]، وقال في موضع آخر : ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا ) [ الإنسان: 19].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة ( مخلدون ) أي : على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير. وقوله تعالى: ( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا ) [الإنسان: 19]، أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلواً منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن". (1)
(1/92)
________________________________________
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هؤلاء الولدان هم الذين يموتون صغاراً من أبناء المؤمنين أو المشركين، وقد رد العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا القول ، وبين أن الولدان المخلدون هم خلق من خلق الجنة قال: " والولدان الذين يطوفون على أهل الجنة : خلق من خلق الجنة ليسوا من أبناء الدنيا ، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة، على صورة أبيهم آدم ". (2)
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير: 7/183 .
(2) مجموع الفتاوى : (4/279)، وانظر: (4/311) .
سوق أهل الجنة
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة لسوقاً ، يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم، والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ". (1)
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: " المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق ، ومعنى يأتونها كل جمعة، أي في مقدار كل جمعة، أي أسبوع، وليس هناك حقيقة أسبوع، لفقد الشمس والليل والنهار ، ...... وخص ريح الجنة بالشمال، لأنها ريح المطر عند العرب ، كانت تهب من جهة الشام ، وبها يأتي سحاب المطر ، وكانوا يرجون السحابة الشامية ، وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة ، أي المحركة ، لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها ". (2)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب في سوق الجنة، (4/2178)، ورقمه: 2833 .
(2) النووي على مسلم : (17/170) .
اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم
(1/93)
________________________________________
أهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون، ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ) [ الحجر: 47]، وأخبرنا الله بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون بها في مجتمعاتهم ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقنا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البرّ الرحيم ) [ الطور : 25-27].
ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان، ويدعونهم إلى الكفران، ( فاقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول إءنك لمن المصدقين * إءذا متنا وكنا تراباً وعظماً أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون ) [الصافات : 50-61].
أماني أهل الجنة
يتمنى بعض أهل الجنة فيها أماني تتحقق على نحو عجيب، لا تشبه حال ما يحدث في الدنيا ، وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض هذه الأماني وكيفية تحققها.
(1/94)
________________________________________
فهذا واحد من أهل الجنة يستأذن ربه في الزرع، فيأذن له، فما يكاد يلقي البذر، حتى يضرب بجذوره في الأرض، ثم ينمو، ويكتمل، وينضج في نفس الوقت، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدث – وعنده رجل من أهل البادية - : " إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ (1). قال: بلى ، ولكن أحب الزرع ، فبذر، فبادر الطرف نباته (2). واستواؤه، واستحصاده، فكان أمثال الجبال ، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم ، فإنه لا يشبعك شيء " فقال الأعرابي : " والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب الزرع ، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ". (3)
وهذا آخر يتمنى الولد ، فيحقق الله له أمنيته في ساعة واحدة ، حيث تحمل وتضع في ساعة واحدة .
وروى الترمذي في سننه، وأحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي ". (4)
--------------------------------
(1) أي فيما شئت من أنواع النعيم وألوان الطعام والشراب.
(2) سابق النظر .
(3) مشكاة المصابيح: (3/95)، ورقم الحديث : 5653 .
(4) صحيح الجامع : (6/5) ، ورقم الحديث : 6525 .
نساء أهل الجنة
المطلب الأول
زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة
إذا دخل المؤمن الجنة، فإن كانت زوجته صالحة، فإنها تكون زوجته في الجنة أيضاً: ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم ) [ الرعد : 23]، وهم في الجنات منعمون مع الأزواج ، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين ( هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ) [يس : 56]، ( أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ) [الزخرف: 70].
المطلب الثاني
المرأة لآخر أزواجها
(1/95)
________________________________________
روى أبو على الحراني في " تاريخ الرقة " عن ميمون بن مهران قال : خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أم الدرداء، فأبت أن تتزوجه، وقالت: سمعت أن أبا الدرداء يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر أزواجها " ورجال هذا الإسناد موثقون غير العباس بن صالح فليس له ترجمة، ورواه أبو الشيخ في التاريخ بإسناد صحيح مقتصراً منه على المرفوع، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد ضعيف، ولكنه بمجموع الطريقين قوي، والمرفوع منه صحيح، وله شاهدان موقوفان: الأول يرويه ابن عساكر عن عكرمة " إن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديداً عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة ".
ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالاً لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر إلا أن يكون تلقاه عن أسماء .
والآخر أخرجه البيهقي في السنن أن حذيفة قال لزوجته: " إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة ، فلا تزوجي بعدي ، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا " (1). فلذلك حرم الله على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكحن من بعده ، لأنهن أزواجه في الآخرة .
المطلب الثالث
الحور العين
يزوج الله المؤمنين في الجنة بزوجات جميلات غير زوجاتهم اللواتي في الدنيا، كما قال تعالى: ( كذالك وزوجناهم بحور عين ) [الدخان: 54]. والحور: جمع حوراء، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد. والعين : جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين.
(1/96)
________________________________________
وقد وصف القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب، قال تعالى: ( إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً * وكواعب أترابا ) [النبأ: 31-33]. والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثدياها، والأتراب المتقاربات في السن . والحور العين من خلق الله في الجنة ، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهنّ أبكاراً، عرباً أتراباً ( إنا أنشأنهن إنشاء * فجعلنهن أبكاراً * عرباً أترابا ) [ الواقعة : 35-37] وكونهن أبكاراً يقضي أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى: ( لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان ) [ الرحمن : 56]، وهذا ينفي قول من قال : إن المراد بالزوجات اللواتي ينشئهن الله في الجنة زوجاتهم في الدنيا إذ يعيدهن شباباً بعد الكهولة والهرم، وهذا المعنى صحيح ، فالله يدخل المؤمنات الجنة في سن الشباب، ولكنهن لسن الحور العين اللواتي ينشئهن الله إنشاء.
والمراد بالعُرُب : الغنجات المتحببات لأزواجهنّ .
وقد حدثنا القرآن عن جمال نساء الجنة فقال: ( وحورٌ عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون ) [ الواقعة : 22 – 23] والمراد بالمكنون: المخفي المصان ، الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس، ولا عبث الأيدي، وشبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان ( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان * فبأى ءالاء ربكما تكذبان * كأنهن الياقوت والمرجان ) الرحمن : 56-58] ، والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال ، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحرور العين بأنهن قاصرات الطرف، وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وقد شهد الله لحور الجنة بالحسن والجمال، وحسبك أن الله شهد بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال ( فيهن خيرات حسان * فبأى ءالآء ربكما تكذبان * حور مقصورات في الخيام ) [ الرحمن : 70-72].
(1/97)
________________________________________
ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط والبول والغائط ، وهذا مقتضى قوله تعالى: ( ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خالدون ) [ البقرة: 25].
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جمال نساء أهل الجنة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون، ولا يمتخطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن ". (2)
وانظر إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجد له نظيراً مما تعرف؟ " ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " رواه البخاري . (3)
وتحديد عدد زوجات كل شخص في الجنة باثنين يبدو أنه أقل عدد، فقد ورد أن الشهيد يزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ففي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة. بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "للشهيد عند الله ثلاث خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه ". (4)
غناء الحور العين
(1/98)
________________________________________
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين في الجنان يغنين بأصوات جميلة عذبة ، ففي معجم " الطبراني الأوسط" بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط . إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنّه ". (5)
وروى سموية في " فوائده " عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الحور العين لتغنين في الجنة، يقلن: نحن الحور الحسان، خبئنا لأزواج كرام ". (6)
غيرة الحور العين على أزواجهنّ في الدنيا :
أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين يغرن على أزواجهن في الدنيا إذا آذى الواحد زوجته في الدنيا ، ففي مسند أحمد، وسنن الترمذي بإسناد صحيح عن معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا ، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله ، فإنما هو دخيل عندك ، يوشك أن يفارقك إلينا ". (7)
المطلب الرابع
يُعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل
عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا من الجماع ". قيل : يا رسول الله ، أو يطيق ذلك؟ قال: " يعطى قوة مائة رجل " رواه الترمذي . (8)
--------------------------------
(1) هذا التحقيق أخذناه بشيء من الاختصار من (سلسلة الأحاديث الصحيحة) للشيخ ناصر: (3/275) ورقم الحديث : 1281 .
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/318)، ورواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة: (4/2178) ورقمه: 2834 .
(3) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الجهاد، باب وزوجناهم بحور عين، فتح الباري: (6/15)، والنصيف: الخمار.
(1/99)
________________________________________
(4) مشكاة المصابيح : (3/358)، ورقمه: 3834 .
(5) صحيح الجامع الصغير: (2/48)، ورقم الحديث: 1557، وعزاه الشيخ ناصر أيضاً إلى الطبراني في الأوسط، وإلى أبي نعيم، والضياء في صفة الجنة.
(6) صحيح الجامع: (2/58)، ورقمه: 1598 .
(7) صحيح الجامع الصغير : (6/125)، ورقم الحديث: 7069 .
(8) مشكاة المصابيح: (3/90)، ورقمه: 5636، وقال محقق المشكاة : (قال الترمذي : حديث صحيح غريب) قلت (المحقق): وإسناده حسن، بل هو صحيح ، لأنه له شواهد منها عن زيد بن أرقم عند الدارمي بسند صحيح) .
ضحك أهل الجنة من أهل النار
بعد أن يدخل الله أهل الجنة الجنة ينادون خصومهم من الكفار أهل النار مبكتين ومؤنبين ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنه الله على الظالمين ) [ الأعراف : 44].
لقد كان الكفار في الدنيا يخاصمون المؤمنين، ويسخرون منهم، ويهزؤون بهم، وفي ذلك اليوم ينتصر المؤمنون، فإذا بهم وهم في النعيم المقيم، ينظرون إلى المجرمين، فيسخرون منهم، ويهزؤون بهم، ( إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عيناً يشرب بها المقربون * إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين* وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) [المطففين : 22-36].
(1/100)
________________________________________
نعم ، والله لقد جوزي الكفار بمثل ما كانوا يفعلون، والجزاء من جنس العمل، ويتذكر المؤمن في جنات النعيم ذلك القرين أو الصديق الذي كان يزين له الكفر في الدنيا، وكان يدعوه إلى تلك المبادئ الضالة التي تجعله في صف الكافرين أعداء الله ، فيحدّث إخوانه عن ذلك القرين، ويدعوهم للنظر إليه في مقره الذي يعذب فيه، فعندما يرى ما يعاينه من العذاب – يعلم مدى نعمة الله عليه ، وكيف خلصه من حاله، ثم يتوجه إليه باللوم والتأنيب ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا تراباً وعظماً أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين* ولولا نعمه ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم ) [الصافات: 50-60].
التسبيح والتكبير من نعيم أهل الجنة
الجنة دار جزاء وإنعام، لا دار تكليف واختبار، وقد يشكل على هذا ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة أول زمرة تدخل الجنة، قال في آخره : " يسبحون الله بكرة وعشياً " (1). ولا إشكال في ذلك إن شاء الله تعالى ، لأن هذا ليس من باب التكليف، قال ابن حجر في شرحه للحديث : " قال القرطبي: هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام ! ، وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله: " يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس "، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد منه، فجعل تنفسهم تسبيحاً ، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ". (2)
وقد قرر شيخ الإسلام أن هذا التسبيح والتكبير لون من ألوان النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، قال: " هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به ". (3)
(1/101)
________________________________________
--------------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب بده الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/318) .
(2) فتح الباري : (6/326) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/330) .
أفضل ما يُعطاه أهل الجنة
رضوان الله والنظر إلى وجهه الكريم
عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " ، متفق عليه. (1)
وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم ، يقول ابن الأثير: " رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو ". (2)
وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22-23] ، والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين:15]، وقد روى مسلم في صحيحه والترمذي في سننه عن صهيب الرومي – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا دخل أهل الجنة ، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى "، زاد في رواية: " ثم تلا هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [يونس : 26] ". (3)
(1/102)
________________________________________
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها – وفي رواية طولها – ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ". (4)
والنظر إلى وجه الله تعالى هو من المزيد الذي وعد الله به المحسنين ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) [ ق: 35]، ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26]، وقد فسرت الحسنى بالجنة ، والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، يشير إلى هذا الحديث الذي رواه مسلم وذكرناه قيل قليل .
ورؤية الله رؤية حقيقية، لا كما تزعم بعض الفرق التي نفت رؤية الله تعالى بمقاييس عقلية باطلة ، وتحريفات لفظية جائرة ، وقد سئل الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن قوله تعالى: ( إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 23]، فقيل : إن قوماً يقولون : إلى ثوابه. فقال مالك: كذبوا ، فأين هم عن قوله تعالى: ( إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [المطففين: 15]؟ قال مالك: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعبر الله عن الكفار بالحجاب، فقال: ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين : 15] ، رواه في " شرح السنة" . (5)
(1/103)
________________________________________
ومن الذين نصوا على رؤية المؤمنين ربهم في الجنات الطحاوي في العقيدة المشهورة باسم " العقيدة الطحاوية " ، قال : " والرؤية حق لأهل الجنة ، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22-23] ، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه ، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على ما أراد ، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه ". (6)
وقال شارح الطحاوية مبيناً مذاهب الفرق الضالة في هذه المسألة ومذهب أهل الحق :
" المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية . وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة ، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون ، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين ، وأهل الحديث ، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة ".
ثم بين أهمية هذه المسألة فقال :
" وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها ، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون ، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون ، وعن بابه مردودن ".
ثم بين أن بين أن قوله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) [ القيامة: 22-23]. من أظهر الأدلة على هذه المسألة ، وأما الذين أبوا إلا تحريفها بما يسمونه تأويلاً : فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب ، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل . ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص وبحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
(1/104)
________________________________________
وبين خطورة التأويل : " وهذا الذي أفسد الدنيا والدين. وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية. فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد ؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين ، والحرة ؟ وهل خرجت الخوارج ، واعتزلت المعتزلة ، ورفضت الروافض ، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، إلا بالتأويل الفاسد "!؟ .
ثم بين أن دلالة الآية على الرؤية من جانبين : الأول فقه النص . والثاني : فقه علماء السلف لهذا النص . ففي الأول قال: " وإضافة النظر إلى الوجه، والذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة " إلى " الصريحة في نظر العين ، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه – حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله.
فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه: فإن عدي بنفسه فمعناه : التوقف والانتظار: ( انظرونا نقتبس من نوركم ) [ الحديد : 13]. وإن عدي بـ " في" فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: ( أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) [ الأعراف: 185]. وإن عدي بـ " إلى" فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر ) [ الأنعام: 99] . فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر ؟
(1/105)
________________________________________
وساق في الثاني عدة نصوص عن السلف تبين فقههم للآية، فعن " الحسن قال: نظرت إلى ربها فنضرت بنوره ، وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، ( إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 23] . قال : تنظر إلى وجه ربها عز وجل. وقال عكرمة: ( وجوه يومئذ ناضرة ) [القيامة : 22]. قال : من النعيم، ( إلى ربها ناظرة ) [القيامة : 23] ، قال : تنظر إلى ربها نظراً، ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث. وقال تعالى: ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) [ق: 35] . قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل .
ثم ذكر معنى الزيادة في قوله تعالى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [يونس : 26]، وأنها النظر إلى وجه الله الكريم وساق في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب، قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [يونس : 26] ، قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيقولون: ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة ".
ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر ، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل . وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم . روى ابن جرير ذلك عن جماعة، منهم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس، رضي الله عنهم.
ومن الأدلة على هذه المسألة قوله تعالى: ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين : 15].
(1/106)
________________________________________
وذكر المصنف أن الشافعي – رحمه الله – وغيره من الأئمة احتجوا بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي ، وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [المطففين : 15]. فقال الشافعي : لما أن حجب هؤلاء في السخط ، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا .
ثم تعرض لاستدلال المعتزلة بقوله تعالى: ( لن تراني ) [ الأعراف : 143]. وبقوله تعالى: ( لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام: 103]، وذكر أن الآيتين دليل عليهم ، فالآية الأولى : تدل على ثبوت رؤيته من وجوه :
أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) [هود:46] .
الثالث : أنه تعالى قال: ( لن تراني ) ، ولم يقل : إني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى.
الرابع : يوضح الوجه الثالث قوله تعالى: ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) [ الأعراف : 143]. فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خُلق من ضعف ؟ .
الخامس : أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء .
(1/107)
________________________________________
السادس : قوله تعالى: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) [الأعراف: 143]، فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف .
السابع : أن الله كلم موسى ، وناداه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما .
ثم أجاب على دعواهم أن " لن " تفيد التأبيد وتدل على نفس الرؤية في الآخرة، وبيّن الشيخ أنها لو قيدت بالتأبيد فلا تدل على دوام التفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت ؟ ولهذا نظائر في القرآن ، قال تعالى: ( ولن يتمنوه أبدا ) [ البقرة: 95]، مع قوله: ( ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ) [ الزخرف : 77]. ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك ، قال تعالى: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى ) [ يوسف : 80].
فثبت أن ( لن ) لا تقتضي النفي المؤبد .
قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله :
ومن رأى النفي بلن مؤبداً ××× فقوله اردد وسواه فاعضدا
وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو: أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنة والنوم، المتضمن كمال القيومية، وفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء، المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير، المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الظلم، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه، المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل، المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
(1/108)
________________________________________
ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً ، فإن المعدم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإن المعنى: إنه يُرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: ( لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن " الإدراك " هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: ( فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا ) [ الشعراء: 61-62]. فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية. بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه.
ثم ذكر الشيخ أن " الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ، الدالة على الرؤية متواترة ، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن . فمنها: حديث أبي هريرة: " أن ناساً قالوا: يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل تُضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا :لا يا رسول الله، قال:هل تُضارّون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا ، قال فإنكم ترونه كذلك "، الحديث، أخرجاه في "الصحيحين" بطوله.
وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في "الصحيحين" نظيره. وحديث جرير بن عبد الله البجلي، قال: " كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا ، لا تضامون في رؤيته ". الحديث أخرجاه في "الصحيحين".
(1/109)
________________________________________
وحديث صهيب المتقدم، رواه مسلم وغيره. وحديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن "، أخرجاه في "الصحيحين". ومن حديث عدي بن حاتم: " ولَيَلقَينّ الله أحدكم يوم يلقاه ، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له ، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك ؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك ؟ فيقول : بلى يا رب " (7) . أخرجه البخاري في "صحيحه".
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح : (3/88) .
(2) جامع الأصل : (10/557) .
(3) جامع الأصول: (10/560) .
(4) مشكاة المصابيح: (10/86)، ورقمه : 5616 .
(5) مشكاة المصابيح : (3/100)، ورقمه : 5663 .
(6) شرح الطحاوية : 203 .
(7) راجع شرح الطحاوية : 204-210 .
الفوز بنعيم الجنة لا يستلزم ترك متاع الدنيا
ظن الرهبان وكثير من عباد هذه الأمة أن نعيم الآخرة لا يمكن أن ينال إلا إذا رفض العبد طيبات الدنيا وملاذها، ولذلك ترى هؤلاء يعذبون أجسادهم، ويشقون على أنفسهم فيديمون الصيام والقيام، وقد يحرم بعضهم الطيبات من الطعام والشراب واللباس، وقد يتركون العمل والزواج وهذه فكرة خاطئة، فإن الله خلق الطيبات للمؤمنين، وذم من حرم زينة الله التي أخرج لعباده : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) [ الأعراف : 32].
والدنيا تذم إذا كانت شاغلاً عن الآخرة، أما إذا جعلها العبد معبراً ومدخلاً لنيل الآخرة، فالأمر ليس كما يظن بعض الناس.
آخر دعواهم
(1/110)
________________________________________
يمر المؤمنون في الموقف العظيم بأهوال عظام، ثم يمرون على الصراط فيشاهدون هولاً ورعباً، ثم يدخلهم الله جنات النعيم بعد أن أذهب عنهم الحزن، فيرون ما أعد الله لهم فيها من خيرات عظام، فترتفع ألسنتهم تسبح ربهم وتقدسه، فقد أذهب عنهم الحزن، وصدقهم وعده، وأورثهم الجنة ( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصبٌ ولا يمسنا فيها لغوب ) [فاطر: 34-35]. ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ) ] الزمر : 74].
وآخر دعواهم في جنات النعيم : الحمد لله رب العالمين ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10].
أصحاب الأعراف
أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن قوم يكونون في يوم القيامة على الأعراف ، والأعراف هو السور الحاجز بين الجنة والنار .
وعلى هذا السور يحبس أقوام بين الجنة والنار، ومنه يشرفون على أهل الجنة وعلى أهل النار.
وأصحاب الأعراف – كما يقول ابن كثير – قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، ذلك أن الله أخبرنا أن من ثقلت موازينه، فهو من أهل الجنة المفلحين، ومن خفت موازينه، فهو من أهل النار الخاسرين ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ) [المؤمنون: 102-103] وسكت النص عمن استوت حسناته وسيئاته.
(1/111)
________________________________________
وفي أصحاب الأعراف يقول رب العزة: ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصرهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) [الأعراف : 46-49].
والتمعن في هذه الآيات يدل على ما يأتي :
1- أن أهل الأعراف ليسوا بكفار قطعاً، لأن الكفار يدخلون النار لا شك في ذلك ، إذ مصير الكفار النار.
2- أنهم يطمعون في دخول الجنة، وهم يدعون ربهم أن لا يجعلهم مع القوم الظالمين أهل النار.
3- أنهم ينادون أصحاب الجنة مسلمين عليهم طامعين في صحبتهم، ومنادين أهل النار مبكتيهم ذاميهم.
4- أن الموقع الذي هم فيه موقع مشرف، يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار، ومن هنا سمي الموضع الذي هم فيه بالأعراف، فالأعراف جمع عرف، والعرب تسمي كل مرتفع من الأرض عرفاً، ومنه قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه.
5- أهل الأعراف أحسن حالاً من بعض المؤمنين الذين خفت موازينهم، فأدخلوا النار بذوبهم ، ثم يخرجهم الله من النار بإيمانهم وتوحيدهم، فأهل الأعراف لا يدخلون النار، وإن تأخر دخولهم الجنة.
المحاجة بين الجنة والنار
(1/112)
________________________________________
أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة والنار تحاجتا عند ربهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ - زاد في رواية : وغرتهم – فقال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحمن بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية : حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول : قط قط قط ، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً " أخرجه البخاري ومسلم.
وللبخاري قال: " اختصمت الجنة والنار ( إلى ربهما )، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ وقالت النار (1)، فقال (الله) للجنة : أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار (2) . من يشاء، فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ؟ ويلقون فيها، فتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ ، ويزوى بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط قط ".
وله في أخرى : - وكان كثيراً ما يقفه أبو سفيان الحميري، أحد رواته، قال : " يقال لجهنم، هل امتلأت ؟ وتقول: هل من مزيد ؟ فيضع الرب قدمه عليها، فتقول : قط قط ".
ولمسلم بنحو الأولى ، وانتهى عند قوله : " ولكل واحدة منهما ملؤها ".
وقال في رواية : " فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (3) وغرتهم ؟ " وفي آخره: " فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع قدمه عليها، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض " وأخرجه الترمذي نحو الأولى (4) (5) .
--------------------------------
(1/113)
________________________________________
(1) قال محقق جامع الأصل: كذا في الأصول المخطوطة. وفي النسخ المطبوعة: يعني: أوثرت بالمتكبرين، قال الحافظ في (الفتح): كذا وقع هنا مختصراً، قال ابن بطال: سقط قول النار هنا من جميع النسخ، وهو محفوظ في الحديث وانظر (الفتح) (13/434).
(2) جزم غير واحد من أهل العلم أن هذا خطأ من بعض الرواة، وصوابه ينشئ للجنة .
(3) السّقط: المزدرى به ، ومنه السَّقط: لرديء المتاع. وغرتهم: الغرّ الذي لم يجرب الأمور، فهو قليل الشر منقاد.
(4) رواه البخاري (8/458) في تفسير سورة (ق) ، باب قوله تعالى : ( وتقول هل من مزيد ) [ق: 30] وفي التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: ( إن رحمت الله قريب من المحسنين ) [الأعراف : 56 ]، ومسلم رقم (2846) في الجنة ، باب النار ويدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، والترمذي رقم (2564) في صفة الجنة ، باب ما جاء في احتجاج الجنة والنار.
(5) جامع الأصول: (10/544-547) .
النار تعريف وبيان
النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به ، المتمردين على شرعه ، المكذبين لرسله ، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه ، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين .
وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم ، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه ، ) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظلمين من أنصار( [ آل عمران : 192] ، ) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له ، نار جهنم خلداً فيها ذلك الخزى العظيم( [التوبة: 63]، وقال: ) إن الخاسرين الذي خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين( [ الزمر : 15].
(1/114)
________________________________________
وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا ، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار ) إنها سآءت مستقراً ومقاماً ) [ الفرقان : 66] ، (هذا وإن للطغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبئس المهاد )[ص: 55 – 56].
الجنة والنار مخلوقتان
قال الطحاوي في العقيدة السلفية التي تنسب إليه المعروفة بالعقيدة الطحاوية : " والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد ".
وقال محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية في شرحه لهذا النص :
" أما قوله : "إن الجنة والنار مخلوقتان"، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا. وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة. وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث، لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة . فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم".
(1/115)
________________________________________
ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أنهما مخلوقتان، "فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى عن الجنة : ) أعدت للمتقين ( [آل عمران: 133]، ) أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ( [الحديد: 21]، وعن النار ) أعدت للكافرين ) [ آل عمران : 131]، ( إن جهنم كانت مرصاداً * للطغين مئاباً ) [ النبأ: 21 – 22]. وقال تعالى: ( ولقد رءاه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى ) [ النجم: 13– 15] .
وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهي، ورأى عندها جنة المأوى. كما في "الصحيحين"، من حديث أنس رضي الله عنه، في قصة الإسراء، وفي آخره: " ثم انطلق بي جبرائيل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال : ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ".
وفي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ". (1)
وحديث البراء بن عازب وفيه : " ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ".
وفي "صحيح مسلم" ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم. ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت ". (2)
(1/116)
________________________________________
وفي " الصحيحين " واللفظ للبخاري، عن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ، ثم رأيناك كعكعت ؟ فقال: " أني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً ، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء " ، قالوا: بم ، يا رسول الله ؟ قال : "بكفرهن" قيل : يكفرن بالله ؟ قال: " يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط " . (3)
وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة السابق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعد الصلاة: " لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ، ولضحكتم قليلاً ". (4)
وفي "الموطأ والسنن" ، من حديث كعب بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما نسمة المؤمن طيرٌ تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة " . (5) وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة.
وفي "صحيح مسلم والسنن والمسند" ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة، فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، ثم رجع فقال :وعزتك، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد .
(1/117)
________________________________________
قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً ، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها ". ونظائر ذلك في السنة كثيرة . (6)
وقد عقد البخاري في صحيحه باباً قال فيه : "باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (7) وساق في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أن الجنة مخلوقة، منها الحديث الذي ينص على أن الله يُري الميت عندما يوضع في قبره مقعده من الجنة والنار، وحديث إطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الجنة والنار، وحديث رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقصر عمر بن الخطاب في الجنة، وغير ذلك من الأحاديث، وقد كان ابن حجر مصيباً عندما قال: " وأصرح مما ذكره البخاري في ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد قوي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها ". (8)
شبهة من قال النار لم تخلق بعد :
وقد ناقش شارح الطحاوية شبهة الذين قالوا : لم تخلق النار بعد ، ورد عليها فقال:
(1/118)
________________________________________
"وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي: أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت، لقوله تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه( [ القصص : 88] ، و ( كل نفس ذائقة الموت ) [ آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في جامعه، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر " (9) . قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: " من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة " (10) ، قال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى . قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت:
( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) [ التحريم : 11].
فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يُحدث فيها شيئاً يعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث فيها عند دخولهم أموراً أخر – فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر.
(1/119)
________________________________________
وأما احتجاجكم بقوله تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88] ، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن – نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام. فمن كلامهم : أن المراد ( كل شيء ) مما كتب الله عليه الفناء والهلاك ( هالك ) ، والجنة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش، فإنه سقف الجنة.
وقيل : المراد إلا مُلْكَه. وقيل : إلا ما أريد به وجهه. وقيل : إن الله تعالى أنزل: ( كل من عليها فان ) [ الرحمن : 26]، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88] لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة، الدالة على بقاء الجنة، وعلى بقاء النار أيضاً، على ما يُذْكَر عن قريب، إن شاء الله تعالى" . (11)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري 1379. وصحيح مسلم : 2866.
(2) صحيح مسلم : 901.
(3) صحيح البخاري: 1052، 5197. وصحيح مسلم : 907.
(4) صحيح مسلم : 901
(5) قال الألباني في تحقيقه للطحاوية: صحيح .
(6) شرح الطحاوية : 476 – 478 .
(7) في كتاب بدء الخلق، انظر فتح الباري : (6/317)
(8) فتح الباري :( 6/320).
(9) سنن الترمذي : 3462. وقال الشيخ ناصر في تعليقه على شرح الطحاوية ص : 106 وهو مخرج في الصحيحة.
(10) وقال أيضاً في هذا الحديث: صحيح، وهو مخرج في المصدر السابق : 64. وهو في سنن الترمذي برقم : 3464.
(11) شرح الطحاوية: ص 479/ وراجع في هذه الموضوع: (بقظة أولى الاعتبار لصديق حسن خان ص : 37، وعقيدة السفاريني : (2/230).
خزنة النار
(1/120)
________________________________________
يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم : 6].
وعدتهم تسعة عشر ملكاً ، كما قال تعالى: ( سأصليه سقر*وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر*لواحةٌ للبشر*عليها تسعة عشر )
[ المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) [ المدثر: 31].
قال ابن رجب: " والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته" (1) . وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله "بخزنة جهنم" في قوله: ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ) [ غافر: 49].
--------------------------------
(1) التخويف من النار: ص 174.
مكان النار
اختلف العلماء في موقع النار الآن فقال بعضهم: هي في الأرض السفلى، وقال آخرون: هي في السماء، وقال آخرون بالتوقف في ذلك، وهو الصواب، لعدم ورود نص صريح صحيح يحدد موقعها، ومن الذين توقفوا في هذا ، الحافظ السيوطي قال: " وتَقِفُ عن النار، أي : تَقُُولُ فيها بالوقف ، أي محلها ، حيث لا يعلمه إلا الله ، فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك " . (1)
(1/121)
________________________________________
وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في عقيدته : "ولم يصرح نص في تعيين مكانهما (أي الجنة والنار)، بل حيث شاء الله تعالى، إذ لا إحاطة لنا بخلق الله وعوالمه " (2) ، وقال صديق حسن خان عقب إيراده لقول الدهلوي هذا: " أقول : وهذا القول أرجح الأقوال وأحوطها إن شاء الله تعالى " . (3)
--------------------------------
(1) يقظة أولي الاعتبار، لصديق حسن خان: ص 47 .
(2) المصدر السابق: ص 47.
(3) المصدر السابق.
سعة النار وبعد قعرها
النار شاسعة واسعة، بعيد قعرها، مترامية أطرافها، يدلنا على هذا أمور :
الأول : الذين يدخلون النار أعداد لا تحصى، ومع كثرة عددهم فإن خلق الواحد فيهم يضخم حتى يكون ضرسه في النار مثل جبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، ومع ذلك فإنها تستوعب هذه الأعداد الهائلة التي وجدت على امتداد الحياة الدنيا من الكفرة المجرمين على عظم خلقهم، ويبقى فيها متسع لغيرهم وقد أخبرنا الله بهذه الحقيقة في سورة ق فقال: ( ويوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) [ ق: 30].
إن النار تشبه الطاحونة التي ينحدر إليها ألوف وألوف من أطنان الحبوب فتدور بذلك كله لا تكل ولا تمل ، وينتهي الحب والطاحونة تدور انتظاراً للمزيد. وقد جاء في حديث احتجاج الجنة والنار أن الله يقول للنار: " إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول : قط قط قط ، فهنالك تمتلئ ، ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً " رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة . (1)
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول: قط ، قط ، بعزتك وكرمك " متفق عليه . (2)
(1/122)
________________________________________
الثاني : يدل على بعد قعرها أيضاً أن الحجر إذا ألقي من أعلاها احتاج إلى آماد طويلة حتى يبلغ قعرها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ سمع وَجْبَة (3) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تدرون ما هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم . قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار إلى الآن " . (4)
وروى الحاكم عن أبي هريرة، والطبراني عن معاذ وأبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو أن حجراً مثل سبع خلفات، ألقي من شفير جهنم هوى فيها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها " . (5)
الثالث : كثرة العدد الذي يأتي بالنار من الملائكة في يوم القيامة، فقد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجيء النار في يوم القيامة، الذي يقول الله فيه: ( وجاىء يومئذ بجهنم ) [ الفجر: 23]، فقال: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك " رواه مسلم عن عبد الله ابن مسعود (6) . ولك أن تتخيل عظم هذا المخلوق الرهيب الذي احتاج إلى هذا العدد الهائل من الملائكة الأشداء الأقوياء الذين لا يعلم مدى قوتهم إلا الله تبارك وتعالى .
الرابع : ومما يدل على هول النار وكبرها أن مخلوقين عظيمين كالشمس والقمر يكونان ثورين مكورين في النار، ففي "مشكل الآثار" للطحاوي عن سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة ". ورواه البيهقي في كتاب "البعث والنشور" وكذا البزار والإسماعيلي والخطابي، بإسناد صحيح، على شرط البخاري، وقد أخرجه في صحيحه مختصراً بلفظ: " الشمس والقمر مكوران في النار " . (7)
--------------------------------
(1) جامع الأصول : (10/544) وهو في البخاري يرقم : 4850 . وفي مسلم : 2846.
(1/123)
________________________________________
(2) مشكاة المصابيح : (3/109) وهو في البخاري برقم : 6661. وفي مسلم : 2848. واللفظ لمسلم.
(3) أي سقطة.
(4) رواه مسلم ، كتاب الجنة ، باب في شدة حر النار، (4/2184)، ورقمه (2844).
(5) صحيح الجامع الصغير: (5/58)، ورقمه (5214)، وإسناده صحيح.
(6) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، باب في شدة حر جهنم (4/2184)، ورقم الحديث: (2842) .
(7) أورده الشيخ ناصر الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/32)، ورقم الحديث : 124، وقد نقلنا تحقيقه للحديث مختصراً.
دركات النار
النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء : 145]. والعرب تطلق: " الدرك " على كل ما تسافل، كما تطلق: " الدرج " على كل ما تعالى ، فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها (1) ، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب ، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار.
وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: ( ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا ) [ الأنعام: 132]، وقال: ( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير* هم درجاتٌ عند الله..) [ آل عمران : 162 - 163]، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً " (2) . وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى ، ويكون في الدرك الثاني اليهود ، وفي الدرك الثالث النصارى ، وفي الدرك الرابع الصائبون ، وفي الخامس المجوس ، وفي السادس مشركوا العرب ، وفي السابع المنافقون (3) . ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم ، والسابع الهاوية .
(1/124)
________________________________________
ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه ، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها : جهنم، لظى ، الحطمة ... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء ، وصح أن الناس متفاوتون على قدر كفرهم وذنوبهم .
--------------------------------
(1) راجع تذكرة القرطبي: ص 382، والتخويف من النار ، لابن رجب : ص 50 .
(2) التخويف من النار ، لابن رجب : ص 50 .
(3) إذا كان هذا التقسيم اجتهادي بحسب فقهنا للنصوص الدالة على شدة جرم الفرق المختلفة ، فإن هذا الترتيب الذي ذكروه يحتاج إلى إعادة نظر ، فالمجوس عباد النيران ليسوا بأقل جرماً من مشركي العرب ، والأولى أن نسكت فيما سكتت عنه النصوص .
أبواب النار
أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين* لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ) [ الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: " أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله " ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب : " إن أبواب جهنم هكذا – قال أبو هارون – أطباقاً بعضها فوق بعض " ونُقل عنه أيضاً قوله: " أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني ، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها " . (1)
(1/125)
________________________________________
وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ) [ الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: ( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ) [ الزمر: 72] ، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: ( والذين كفروا بئاياتنا هم أصحاب المشئمة*عليهم نار مؤصدة ) [ البلد : 19 - 20].
قال ابن عباس: ( مؤصدة ) مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه . (2)
وقال الحق في سورة الهمزة: ( ويل لكل همزة لمزة*الذي جمع مالاً وعدده*يحسب أن ماله أخلده* كلا لينبذن في الحطمة* وما أدراك ما الحطمة* نار الله الموقدة*التي تطلع على الأفئدة* إنها عليهم مؤصدة* في عمد ممدة ) [الهمزة : 1 - 9] .
فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: ( في عمد ممدده ) يعني الأبواب هي الممددة ، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة (3) ، وقال عطية العوفي : هي عمد من حديد ، وقال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: ( ممددة ) صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير . (4)
وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن " . (5)
(1/126)
________________________________________
وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب " . (6)
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير : ( 4/164).
(2) تفسير ابن كثير : ( 7/ 298) .
(3) تفسير ابن كثير : (7/368).
(4) التخويف من النار، لابن رجب ، ص 61.
(5) صحيح البخاري: 1898، 1899 ومسلم : 1079 واللفظ لمسلم.
(6) سنن الترمذي : 682، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي : 549.
وقود النار
وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم: 6] ، وقال : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) [ البقرة: 24] .
والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبد الله بن مسعود : هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين ، رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في المستدرك . وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج . (1)
(1/127)
________________________________________
وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنأخذ به، ولا نجادل فيه ، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم ، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً . والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار ، يقول ابن رجب : " وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار . ويقال : إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها : سرعة الإيقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت " (2) . وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا.
ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون* لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكلٌ فيها خالدون ) [الأنبياء : 98 – 99 ].
وحصبها : وقودها وحطبها ، وقال الجوهري : " كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها " ، وقال أبو عبيدة: " كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به " . (3)
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير : ( 1/107).
(2) التخويف من النار ، لابن رجب : ص 107.
(3) يقظة أو لي الاعتبار : ص 61.
شدة حرها وعظم دخانها وشرارها
قال الله تعالى : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال*في سموم وحميم*وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم ) [الواقعة : 41 - 44 ] ، وقد تضمنت هذه الآية ذكر ما يتبرد به الناس من الكرب والحر وهو ثلاثة : الماء والهواء والظل ، وذكرت الآية أن هذه لا تغني عن أهل النار شيئاً ، فهواء جهنم : السموم ، وهو الريح الحارة الشديدة الحر ، وماؤها : الحميم الذي قد اشتد حره ، وظلها : اليحموم وهو قطع دخانها . (1)
(1/128)
________________________________________
وكما هوّل في هذه الآية أمر أصحاب الشمال أهل النار ، هوّل في آية أخرى أمر النار فقال: ( وأما من خفت موازينه* فأمه هاوية* وما أدراك ما هيه * نار حامية ) [القارعة : 8 - 11 ].
والظل الذي أشارت إليه الآية ( وظل من يحموم ) [الواقعة : 43 ] ، هو ظل دخان النار ، والظل يشعر عادة بالنداوة والبرودة ، كما أن النفس تحبه وتستريح إليه، أما هذا الظل فإنه ليس ببارد المدخل ولا بكريم المنظر، إنه ظل من يحموم .
وقد حدثنا القرآن عن هذا الظل الذي هو دخان جهنم الذي يعلو النار، فقال: ( انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب* لا ظليل ولا يغني من اللهب* إنها ترمي بشرر كالقصر *كأنه جملت صفر ) [ المرسلات: 30-33 ]. فالآية تقرر أن الدخان الذي يتصاعد من هذه النار لضخامته ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهو يلقي ظلالاً ولكنها غير ظليلة، ولا تقي من اللهب المشتعل، أما شرار هذه النار المتطاير منها فإنه يشبه الحصون الضخمة، كما يشبه هذا الشرار الجمالة الصفر، أي الإبل السود.
وقال الحق مبيناً قوة هذه النار، ومدى تأثيرها في المعذبين : ( سأصليه سقر*وما أدراك ما سقر*لا تبقي ولا تذر*لواحة للبشر ) [المدثر: 26-29 ] ، إنها تأكل كل شيء ، وتدمر كل شيء ، لا تبقي ولا تذر ، تحرق الجلود ، وتصل إلى العظام ، وتصهر ما في البطون ، وتطلع على الأفئدة .
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن " نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم "، قيل : يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: " فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها " . رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري ، وفي لفظ مسلم: " ناركم التي يوقد ابن آدم.." . (2)
(1/129)
________________________________________
وهذه النار لا يخبو أوارها مع تطاول الزمان، ومرور الأيام ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً ) [النبأ: 30 ]، ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) [الإسراء : 97 ]، ولذلك لا يجد الكفار طعم الراحة، ولا يخفف عنهم العذاب مهما طال العذاب : ( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) [البقرة: 86 ]. والنار تسعر كل يوم كما في الحديث عند مسلم عن عمرو ابن عبسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة، حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصلِّ " . (3)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم " . (4)
وتُسعرُ النار في يوم القيامة عندما تستقبل أهلها ( وإذا الجحيم سعرت *وإذا الجنة أزلفت ( [التكوير: 12-13 ]، ومعنى سُعِّرت : أوقدت، وأحميت .
--------------------------------
(1) التخويف من النار: ص 85 .
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار ، فتح الباري: (6/330)، ورواه مسلم في كتاب الجنة، باب شدة حر النار : ( 4/2184).
(3) صحيح مسلم : 832 .
(4) صحيح البخاري: 536. ومسلم : 615.
النار تتكلم وتبصر
الذي يقرأ النصوص من الكتاب والسنة التي تصف النار يجدها مخلوقاً يبصر، ويتكلم، ويشتكي، ففي الكتاب العزيز أن النار ترى أهلها وهم قادمون إليها من بعيد، فعند ذلك تطلق الأصوات المرعبة الدالة على مدى حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين، قال تعالى: ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيرا ) [الفرقان : 12 ].
(1/130)
________________________________________
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : " إن الرجل ليجر إلى النار، فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه يستجير مني، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك، فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف " . (1)
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق ، تقول: إني وُكّلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين " وصححه الترمذي . (2)
--------------------------------
(1) ساق ابن كثير هذا الحديث في (النهاية) (2/21) وقال: ( إسناده صحيح ) . وانظره في تفسير ابن جرير: 18/187.
(2) التخويف من النار، ص 179، وانظر جامع الأصول: ( 10/518)، وقال المحقق: إسناده حسن ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .
رؤيا ابن عمر للنار
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن عمر أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد ، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد ، قالوا : لن تُرع . نعم الرجل أنت ، لو كنت تكثر الصلاة ، قال : فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم ، فإن هي مطوية كطي البئر ، له قرون كقرن البئر ، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد ، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل ، رؤوسهم أسفلهم ، عرفت فيها رجالاً من قريش ، فانصرفوا بي عن ذات اليمين ، فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن عبد الله رجل صالح " . (1)
--------------------------------
(1) صحيح البخاري: 7028، 7029 . ومسلم : 2479.
(1/131)
________________________________________
هل يرى أحد النار قبل يوم القيامة عياناً ؟
الذي نعلمه أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قد رأى النار كما رأى الجنة في حياته، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس في صلاة الخسوف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني رأيت الجنة ، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء " . (1)
وفي صحيح البخاري عن أسماء أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " قد دنت مني الجنة، حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حتى قلت: أي رب وأنا معهم ؟ فإذا امرأة – حسبت أنه قال – تخدشها هرة. قلت: ما شأن هذه ؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل – قال نافع: حسبت أنه قال: - من خشيش أو خشاش الأرض " . (2)
وفي مسند أحمد عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن النار أدنيت منى حتى نفخت حرها عن وجهي، فرأيت فيها صاحب المحجن، والذي بحر البحيرة، وصاحب حمير، وصاحبة الهرة " . (3)
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرضت عليّ الجنة، حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته، ( أو قال: تناولت منها قطفاُ، فقصرت يدي عنه)، وعرضت عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت عمرو بن مالك يجرُّه قصبه في النار " . (4)
وبعد أن يموت العباد تعرض عليهم في البرزخ مقاعدهم في الجنة إن كانوا مؤمنين ، ومقاعدهم في النار إن كانوا كافرين .
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح : ( 1/ 407) ، وانظر البخاري : 1052. ومسلم : 907.
(2) صحيح الجامع : ( 4/ 133)، ورقم الحديث : 4247. انظر صحيح البخاري : 745، 2364.
(3) صحيح الجامع : ( 2/171)، ورقمه : 1968.
(4) صحيح مسلم : 904.
(1/132)
________________________________________
تأثير النار على الدنيا وأهلها
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " اشتكت النار إلى ربها، فقالت رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لنا بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير ".
وروى البخاري أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم " . (1)
--------------------------------
(1) انظر هذين الحديثين في صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، فتح الباري: (6/330)، ورقمهما: 3258، 5259، 3260. وانظرهما في مسلم برقم : 616، 617.
النار خالدة لا تبيد
النار خالدة لا تفنى ولا تبيد، كما قال الطحاوي في عقيدته: " والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولا تبيدان " (1) ، ونقل ابن حزم اتفاق الأمة على ذلك ، فقد جاء في كتابه " الملل والنحل " قوله: " اتفقت فرق الأمة كلها على أن لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان " . (2)
وجاء في كتابه " مراتب الإجماع" قوله: "...وأن النار حق، وأنها دار عذاب لا تفنى ، ولا يفنى أهلها بلا نهاية " (3) . والنصوص الدالة على خلود النار كثيرة ، وحسبك أن الله سماها " دار الخلد ".
هذا مذهب أهل السنة والجماعة أن النار خالدة لا تبيد، وأهلها فيها خالدون، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين، أما الكفرة والمشركون فهم فيها خالدون.
القائلون بفناء النار
والمخالفون لمذهب أهل الحق في هذه المسألة سبع فرق :
1- الجهمية : القائلون بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتاب " الرد على الزنادقة " مذهب الجهمية بأن النار والجنة تفنيان ، ورد عليهم ذاكراً النصوص الدالة على عدم فنائهما .
(1/133)
________________________________________
2- الخوارج والمعتزلة : يقولون بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، وسر هذا القول أن الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب، فكل من ارتكب ذنباً، فإنه كافر خالد مخلد في نار جهنم، والمعتزلة يرون أن من ارتكب ذنباً في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وقد سقنا كثيراً من النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار .
3- اليهود : الذين يزعمون أنهم يعذبون في النار وقتاً محدوداً، ثم يخلفهم غيرهم فيها، وقد أكذبهم الله في زعمهم، ورد عليهم مقالتهم ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [البقرة: 80 - 81 ]. ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون*ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ) [آل عمران : 23 - 24 ] .
ونقل ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية البقرة: " قال أعداء الله اليهود: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوماُ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب " .
وذكر ابن حرير عن السدي قوله: " قالت اليهود : إن الله يدخلنا النار أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل ، فلذلك أمرنا أن نختن ، قالوا : فلا يدعون منا في النار أحداً إلا أخرجوه " . (4)
(1/134)
________________________________________
وذكر أيضاً ابن عباس قال: " ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوياً : إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهي إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم، وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياماً معدودة ".
قال ابن جرير: "وإنما يعني بذلك يعني بذلك المسير الذي ينتهي في أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل ، فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ) [البقرة:80 ]. يعنون بذلك الأجل ، فقال ابن عباس : " لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر : زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، فقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون " . (5)
4- قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي ، فإنه زعم أن أهلها يعذبون فيها مدة، ثم تنقلب طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، قال ابن حجر في الفتح: "وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة " . (6)
5- قول من زعم أن أهلها يخرجون منها ، وتبقى على حالها خالدة لا تبيد .
6- قول أبي هذيل العلاف من أئمة المعتزلة الذاهب إلى أن حياة أهل النار تفنى، ويصيرون جماداً لا يتحركون ، ولا يحسون بألم، قال بذلك لأنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها، فخالف الأدلة الصريحة القطيعة الثبوت بمقاييس عقلية باطلة.
7- قول من قال: إن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في الأحاديث ، ثم يبقيها شيئاً ، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه . (7)
والقول الأخير مال إليه البحر العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغفر له ، كما ذهب تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.
(1/135)
________________________________________
وقد تتابع العلماء في التأليف لبيان خطأ هذا المذهب، يقول ابن حجر العسقلاني بعد حكايته لهذا القول: "وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد " (8) ، وهذا الكتاب الذي أشار إليه هو "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة 756.
وقال صديق حسن خان: "وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها: " توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين " ، وفي الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير ، ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني ، حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما " . (9)
وهنا أمور نحب بيانها :
الأول : أن هذا القول قول باطل وإن ذهب إليه علمان من أعلام الإسلام، فقد علمنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم أن حب الحق ينبغي أن يكون مقدماً على حب الرجال. وأدلة بطلانه النصوص الكثيرة الدالة على خلود النار، وهي نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وقد ذكرنا قول من نقل الإجماع على خلود النار .
(1/136)
________________________________________
الثاني : أنه لا يجوز بحال من الأحوال ذم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بسبب هذه المقالة ، فقد كفرهما قوم ، وفسقهما قوم بسبب ذلك، وكل هذا ليس بصواب، فإنهما مجتهدان مأجوران مثابان، ولو علما الحق في خلاف قولهما لاتبعاه ، ودعوى أن المخالف في مثل هذا يكفر قائله يوصل القائلين بهذا إلى تكفير أئمة هذه الأمة الذين لا يُمارى في إمامتهم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يذهب إلى أن المسافر إذا لم يجد الماء لا يتيمم ولا يصلي، وقد اتفقت الأمة على خلاف هذا ، والإمام مالك كان يرى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية من كتاب الله ، وقد أجمعت الأمة على أن مابين الدفتين قرآن، وقال أقوام بعدم زيادة الإيمان ونقصانه مع كونه مثبت بالكتاب والسنة صريح فيهما، والإجماع منعقد عليه.
الثالث : ينبغي أن ننبه أن لابن تيمية وابن القيم قولاً بعدم فناء النار، جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام قوله في إجابة سؤال: " وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وجماع سلف الأمة وأئمتها " . (10)
وإذا كان الأمر كذلك، أي لهما قولان، فلا يجوز أن نجزم بأن القول بفناء النار هو قولهما ما لم يعلم أنه القول الأخير ، وإذا لم يعلم القول الأخير فالأولى التوقف في نسبة أحد المذهبين إليهما.
(1/137)
________________________________________
الرابع : الأدلة التي احتج بها شيخ الإسلام وابن القيم على فناء النار، بعضها غير صحيح، والصحيح منها غير صريح، بل يمكن حمله على غير فناء النار، بل على فناء النار التي يكون فيها عصاة الموحدين. وقد ناقش الصنعاني في رسالته التي يرد فيها على ابن تيمية وابن القيم هذه الأدلة، وبين عدم نهوضها على ما ذهبا إليه. وهذه الرسالة هي المسماة " برفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " . (11)
ومن الذين تعرضوا لهذه المسألة القرطبي في " التذكرة "، فقد ساق النصوص الدالة على خلود الجنة والنار، والمخبرة بأن الموت يذبح بين الجنة والنار ثم يقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قال: " هذه الأحاديث مع صحتها في خلود أهل الدارين فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة " . (12)
ورد القرطبي على الذين قالوا بفناء النار، وبين أن الذي يفنى إنما هو النار التي يدخلها عصاة الموحدين، قال: " فمن قال : إنهم يخرجون منها، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول .. وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العلية التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها الجرجير " . (13)
(1/138)
________________________________________
ونقل القرطبي عن فضل بن صالح المعافري قال: " كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا: انصرفوا، فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا، لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم ؟ فقلت له : لا بأس به (14) . فقال: أستودعك الله ، وأقرأ عليك السلام، ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله ، وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد، يعني من الموحدين ، هكذا رواه موقوفاً عن عبد الله بن عمرو، وليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثله لا يقال من جهة الرأي ، فهو مرفوع " . (15)
--------------------------------
(1) شرح الطحاوية: ص 476 .
(2) الملل والنحل : لابن حزم: ( 4/83).
(3) مراتب الإجماع : 173.
(4) تفسير ابن جرير : (1/381).
(5) تفسير ابن جرير: (1/381) .
(6) فتح الباري : (11/421).
(7) راجع في هذا المبحث المصادر التالية: شرح الطحاوية : ص483، شرح عقيدة السفاريني ( 2/234)، بقظة أولي الاعتبار لصديق حسن خان: ص41، فتح الباري: (11/421) .
(8) فتح الباري : (11/422) .
(9) يقظة أولي الاعتبار، لصديق حسن خان: ص 42، ورسالة الصنعاني طبعها المكتب الإسلامي بييروت، وقد حققها وكتب لها مقدمة ضافية الشيخ ناصر الدين الألباني فأجاد .
(10) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 18/307).
(11) طبعها المكتب الإسلامي / بيروت .
(12) التذكرة للقرطبي : ص 436.
(13) هذا القول لا يصح فيه خبر ثابت، وكأن قائله أراد منه خمود النار التي يكون فيها عصاة الموحدين حتى ينبت النبات على حوافها .
(14) هذه القصة إن كانت صحيحة فقد تكلف هذا السائل في سفره لتبين أمر هو في غاية الوضوح .
(15) التذكرة للقرطبي : ص 437.
أهلها المخلدون فيها
(1/139)
________________________________________
المطلب الأول
التعريف بهم
أهل النار الخالدون فيها الذين لا يرحلون ولا يبيدون – هم الكفرة والمشركون. قال تعالى : ( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [الأعراف : 36 ]، وقال : ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) [الأنبياء: 99 ]، وقال: ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ) [الزخرف : 74 ]، وقال : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) [فاطر: 36 ]. وقال: ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [البقرة: 39 ]، وقال: ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين*خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) [البقرة:160-161].
وقال: ( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم ) [التوبة : 63 ]، وقال : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ) [التوبة : 17].
ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف الحق عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، كما أضافه إلى الخلد، قال تعالى : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) [المائدة:37] وقال : ( ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) [يونس: 52 ].
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود " (1) . وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت " . (2)
(1/140)
________________________________________
وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم " . (3)
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار،فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون:نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) [مريم : 39 ] . (4)
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح ، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار " قال: حديث حسن صحيح . (5)
المطلب الثاني
النار مسكن الكفرة المشركين
لما كان الكفرة المشركون خالدين في النار فإن النار تعتبر بالنسبة لهم سكناً ومأوى، كما أن الجنة مسكن المؤمنين، ( ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) [آل عمران: 151 ] ، ( أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) [يونس: 8 ] ، ( أليس في جهنم مثوى للكافرين ) [العنكبوت: 68 ]. وهي مأواهم تتولى أمرهم ( مأواكم النار هي مولاكم ) [الحديد: 15 ].
وهي بئس المسكن والمثوى ، ( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) [البقرة: 206 ]، ( وإن للطاغين لشر مئاب*جهنم يصلونها فبئس المهاد ) [ص:55-56 ].
(1/141)
________________________________________
المطلب الثالث
الدعاة إلى النار
أصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، الدعاة المؤمنون بباطلهم هم دعاة النار، ( أولئك يدعون إلى النار ) [البقرة: 221 ]، ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) [القصص:41]، ومن هؤلاء الشيطان ( أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) [لقمان: 21]، ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [فاطر: 6 ].
وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة ، ففرعون مثلاً: ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) [هود:98 ]. وكل قادة الشر الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق الإيمان ( ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) [غافر: 41 ]، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به .
ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) [البقرة: 221 ].
المطلب الرابع
أعظم جرائم الخالدين في النار
لقد أطال القرآن في تبيان جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النيران ، ونحن نذكر هنا أهمها :
(1/142)
________________________________________
1- الكفر والشرك : فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الذين كفروا يُنادَون عندما يكونون في النار. فيقال لهم: إن مقت الله لكم أعظم من مقتكم أنفسكم بسبب كفركم بالإيمان، ثم بين أن خلودهم في النار إنما هو بسبب كفرهم وشركهم ( إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون*قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل*ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ) [غافر: 10 ].
وحدثنا الحق تبارك وتعالى أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: ( أولم تكُ تأتيكم رسلكم بالبينات ) [غافر: 50 ]، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين ، وما جاؤوا به ( قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ) [الملك: 9 ].
وقال في المكذبين بالكتاب: ( وقد آتيناك من لدنا ذكرا*من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيها وساء لهم يوم القيامة حملا ) [طه:99-101 ].
وقال في المكذبين بالكتاب المشركين بالله : ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون*إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون* ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون* من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً كذلك يضل الله الكافرين* ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون* ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ) [غافر: 70-76 ].
وقال في الكفرة المشركين المسوين آلهتم برب العالمين ( فكبكبوا فيها هم والغاوون* وجنود إبليس أجمعون* قالوا وهم فيها يختصمون*تالله إن كنا لفي ضلال مبين* إذ نسويكم برب العالمين ) [الشعراء: 94-98 ].
(1/143)
________________________________________
وقال في حق المكذبين بيوم الدين: ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) [ الفرقان:11] ،( وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا تراباً أءنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [الرعد: 5 ]. وقال: ( مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا*ذلك بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أءذا كنا عظاماً ورفاتاً أءنا لمبعوثون خلقاً جديدا )[الإسراء: 97-98 ].
2- عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية ، فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: ( ما سلككم في صقر ) [المدثر: 42 ]، فيجيبون قائلين: ( لم نك من المصلين*ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين*وكنا نكذب بيوم الدين*حتى أتانا اليقين ) [المدثر: 43-47 ].
3- طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين . قال تعالى في هؤلاء: ( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين*وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون* فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً ولنجزينهم أسوأ الذين كانوا يعملون* ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ) [فصلت: 25-28 ].
وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً*خالدين فيها أبداً لا يجدون وليا ولا نصيرا* يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا* وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) [الأحزاب : 64-67 ].
(1/144)
________________________________________
4- النفاق : وعد الله المنافقين النار، وهو وعد قطعه على نفسه لا يخلفه: ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) [التوبة: 68 ]، وأخبرنا أن موقع المنافقين في النار هو دركاتها السفلى، وهي أشدها حراً، وأكثرها إيلاماً ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [النساء: 145 ].
5- الكبر : وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: ( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [الأعراف: 36 ].
وقد عقد مسلم في صحيحه باباً عنون له يقوله: " باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء " وذكر فيه احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله لهما، وساق فيه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه أن النار قالت : "يدخلني الجبارون والمتكبرون" وفي رواية قالت: " أوثرت بالمتكبرين والجبارين ". وقال الله لها: " أنت عذابي أعذب بك من أشاء " . (6)
وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر " (7) ، وفي رواية لمسلم: " كل جواظ زنيم متكبر " . (8)
ومصداق هذا في كتاب الله تبارك وتعالى: ( أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ) [الزمر:60 ]، وقوله : ( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ) [الأحقاف: 20 ]، وقوله: ( فأما من طغى*وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى ) [النازعات : 37 ].
المطلب الخامس
جملة الجرائم التي تدخل النار
(1/145)
________________________________________
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، وما عمل أهل الجنة ؟ فأجاب :" عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب ، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة ، أي اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، واستهزاء بآيات الله ، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . (9)
وقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - جماع الذنوب التي تدخل النار، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة له طويلة: " وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له (10) ، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلا ولا مالاً ، والخائن الذي لا يخفى له طمع (11) ، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل، والكذب ، والشنظير(12) ، الفحاش " . (13)
المطلب السادس
أشخاص بأعيانهم في النار
الكفار المشركون في النار لا شك في ذلك، وقد أخبرنا القرآن الكريم ، كما أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أشخاصاً بأعيانهم في النار، فمن هؤلاء فرعون موسى، ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) [هود: 98].
(1/146)
________________________________________
ومنهم امرأة نوح وامرأة لوط ، ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) [التحريم : 10 ].
ومنهم أبو لهب وامرأته ( تبت يدا أبي لهب وتب*ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى ناراً ذات لهب* وامرأته حمالة الحطب* في جيدها حبل من مسد ) [المسد ] ومنهم عمرو بن عامر الخزاعي، فقد رآه الرسول يجر أمعاءه في النار (14) ، ومنهم الذي قتل عمار وسلبه، ففي معجم الطبراني بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص وعن ابنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قاتل عمار وسالبه في النار " . (15)
المطلب السابع
كفرة الجن في النار
كفرة الجن يدخلون النار كما يدخلها كفرة الإنس، فالجن مكلفون كالإنس ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات: 56 ].
وفي يوم القيامة يحشر الجن والإنس على حد سواء: ( ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) [الأنعام: 128 ]، ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا* ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا*ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ) [مريم : 68-70 ] ثم يقال للكفرة منهم: ( ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) [الأعراف: 38 ]، وعند ذلك يكبكبون في النار: ( فكبكبوا فيها هم والغاوون*وجنود إبليس أجمعون ) [الشعراء: 94-95 ]، وبذلك تتم كلمة الله القاضية بملء النار من كفرة الجن والإنس ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [هود : 119 ] ( وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ) [فصلت : 25 ].
--------------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري: (11/406).
(2) المصدر السابق .
(1/147)
________________________________________
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار ، فتح الباري: (11/415).
(4) صحبح مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها: ( 4/2188).
(5) سنن الترمذي : 2558.
(6) صحيح مسلم : (4/2186) ورقم الحديث : 2846.
(7) جامع الأصول : (10/547) ورقم الحديث : 8111
(8) انظر الحديث ورواياته في (صحيح مسلم) كتاب الجنة (باب النار يدخلها الجبارون): (4/2190) ورقمه 2853، والمتل: الغليظ الجافي الذي لا يتقاد للخير، والزنيم: الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، أو هو اللثيم في أخلاق الناس، والجواظ: الذي جمع ومنع.
(9) يقظة أولي الاعتبار ، ص 222.
(10) أي لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي، وقيل: هو الذي لا مال له .
(11) أي لا يظهر له.
(12) هو الفحاش كما هو مفسر في الحديث.
(13) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: (4/2197). ورقمه : 2865.
(14) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد ، وقد ذكرنا نص الحديث في موضع آخر.
(15) صحيح الجامع: (4/110) ورقمه : 4170.
الذين لا يخلدون في النار
المطلب الأول
التعريف بهم
الذين يدخلون النار ، ثم يخرجون منها هم أهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً ، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت حسناتهم ، فخفت موازينهم ، فهؤلاء يدخلون النار مدداً يعلمها الله تبارك وتعالى ، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين ، ويخرج الله برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط .
المطلب الثاني
الذنوب المتوعد عليها بالنار
سنذكر هنا بعض الذنوب التي جاءت النصوص مخبرة أن أهلها يعذبون بسببها في النار :
1- الفرق المخالفة للسنة :
(1/148)
________________________________________
روى أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم وغيرهم عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ".
وهذا حديث صحيح. قال فيه الحاكم بعد سياقه لأسانيده: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح الحديث". ووافقه الذهبي . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: " هو حديث صحيح مشهور ". وصححه الشاطبي في " الاعتصام "، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه وتكلم على أسانيده ، وبين أنه حديث صحيح لا شك في صحته . (1)
وقد ذهب صديق حسن خان إلى أن الزيادة التي في الحديث وهي " كلها هالكة إلا واحدة " ومثلها: " ثنتان وسبعون في النار " زيادة ضعيفة . ونقل تضعيف ذلك عن شيخه الشوكاني ومن قبله عن ابن الوزير ومن قبله عن ابن حزم . وقد استحسن قول من قال: " إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة ، فإن فيها التفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه " . (2)
وقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني على من ضعّف هذه الزيادة من وجهين :
الأول : أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها .
الثاني : أن الذين صححوها أكثر وأعلم من ابن حزم ، لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده بالنقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف .
وأما ابن الوزير فإنه يرد الزيادة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، وقد تكلم على هذا صديق حسن خان في "يقظة أولى الاعتبار" مبيناً أن مقتضى الزيادة أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل ، والنصوص الصحيحة الثابتة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير كثير، يبلغون نصف أهل الجنة . (3)
والرد على هذا من عدة وجوه :
(1/149)
________________________________________
الأول : ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار، لأن أكثر الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، والذين افترقوا وقعّدوا وأصّلوا مخالفين السنة قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله.
الثاني : ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من مسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها، تركوا من أجلها كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة.
أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون فرقة من الفرق.
الثالث : الزيادة دلت على أن الفرق في النار، ولكنها لم توجب لهم الخلود في النار.
ومن المعلوم أن بعض أهل هذه الفرق كفرة خالدون في النار، كغلاة الباطنية الذين يُظِهرون الإيمان ويُبطنون الكفر كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم.
ومنهم الذين خالفوا أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة، ولكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، ولكنهم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذبهم، وقد تكون لهم أعمال صالحة عظيمة تنجيهم من النار، وقد ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار، ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين.
2- الممتنعون من الهجرة :
(1/150)
________________________________________
لا يجوز للمسلم أن يقيم في ديار الكفر إذا وجدت ديار الإسلام خاصة إذا كان مكثه في ديار الكفر يعرضه للفتنة، ولم يقبل الله الذين تخلفوا عن الهجرة، فقد أخبرنا الحق أن الملائكة تُبَكّت هذا الصنف من الناس حال الموت، ولا تعذرهم عندما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تك أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) [النساء: 97 - 98]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى ديار الإسلام .
3- الجائرون في الحكم :
أنزل الله الشريعة ليقوم الناس بالقسط، وأمر الله عباده بالعدل ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) [النحل: 90 ]، وفرض على الحكام والقضاة الحكم بالعدل وعدم الجور ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [النساء: 58 ]، وقد تهدد الحق الذين لا يحكمون بالحق بالنار، فقد روى بريدة بن الحصيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " القضاة ثلاثة : واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار" أخرجه أبو داود . (4)
4- الكذب على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
عقد ابن الأثير في كتابه الكبير: " جامع الأصول فصلاً ساق فيه كثيراً من الأحاديث التي تحذر من الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فمنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن على بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تكذبوا على، فإنه من كذب علي يلج النار ".
(1/151)
________________________________________
ومنها ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من تقول عليّ ما لم أقل (5) ، فليتبوأ مقعده في النار " . (6)
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه عن عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي معتمداً فليتبوأ مقعده من النار " . (7)
5- الكبر :
من الذنوب الكبار الكبر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار " وفي رواية " أذقته النار " رواه مسلم.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ، قال: " إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق، وغمط الناس " رواه مسلم . (8)
6- قاتل النفس بغير حق :
قال تعالى: ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما ) [النساء: 93 ].
فلا يجوز في دين الله قتل النفس المسلمة إلا بإحدى ثلاث كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والمارق من الدين ، التارك للجماعة " . (9)
(1/152)
________________________________________
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ". قال ابن عمر: " إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله " (10) . وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً ، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار ، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت، أو قيل : يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (11) . ولذا فإن العبد الصالح أبى أن يقاتل أخاه ، خشية أن يكون من أهل النار ، فباء القاتل بإثمه وإثم أخيه ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين*لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقلتك إني أخاف الله رب العالمين* إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ) [المائدة: 27 - 29 ].
7- أكلة الربا :
من الذنوب التي توبق صاحبها الربا ، وقد قال الحق في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له : ( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [البقرة: 275 ]، وقال: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) [آل عمران : 130-131 ] .
(1/153)
________________________________________
وقد عده الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه واحداً من سبعة ذنوب توبق صاحبها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قالوا : يا رسول الله وما هنّ ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " . (12)
8- أكلة أموال الناس بالباطل :
من الظلم العظيم الذي يستحق به صاحبه النار أكل أموال الناس بالباطل ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما* ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً ( [النساء: 29-30 ].
ومن أكل أموال الناس بالباطل أكل أموال اليتامى ظلماً، وقد خص الحق أموالهم بالذكر لضعفهم وسهولة أكل أموالهم، ولشناعة هذه الجريمة ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا ) [النساء: 10 ].
9- المصورون :
أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهئون خلق الله، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون " . (13)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم " متفق عليه . (14)
وعن عائشة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في النمرقة التي فيها تصاوير: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم " متفق عليه . (15)
(1/154)
________________________________________
وعن عائشة أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أشدّ الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله " متفق عليه . (16)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال عزّ وجلّ : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة " متفق عليه . (17)
10 – الركون إلى الظالمين :
من الأسباب التي تدخل النار الركون إلى الظالمين أعداء الله وموالاتهم ، ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) [هود:113 ].
11 – الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس :
من الأصناف التي تصلى النار الفاسقات المتبرجات اللواتي يفتن عباد الله، ولا يستقمن على طاعة الله، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا " أخرجه مسلم ، والبيهقي ، وأحمد . (18)
قال القرطبي في الذين معهم سياط كأذناب البقر: "وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن " قال صديق حسن خان معقباً على قول القرطبي: " بل هو مشاهد في كل مكان وزمان، ويزداد يوماً فيوماً عند الأمراء والأعيان ، فنعوذ بالله من جميع ما كرهه الله " (19) . أقول : ولا زلنا نرى هذا الصنف من الناس في كثير من الديار يجلدون أبشار الناس ، فتبّاً لهؤلاء وأمثالهم .
والكاسيات العاريات كثيرات في زماننا، ولعله لم يسبق أن انتشرت فتنتهن كما انتشرت في زماننا، وهن على النعت الذي وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت .
12- الذين يعذبون الحيوان :
(1/155)
________________________________________
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عُرضَت عليّ النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعذّب في هرة لها، ربطتها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ، حتى ماتت جوعاً " . (20)
إذا كان هذا حال من يعذب هرة ، فكيف من يتفنن في تعذيب العباد ؟ فكيف إذا كان التعذيب للصالحين منهم بسبب إيمانهم وإسلامهم ؟
13 – عدم الإخلاص في طلب العلم :
ساق الحافظ المنذري كثيراً من الأحاديث التي ترهب من تعلّم العلم لغير الله ، منها: عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " يعنى ريحها . رواه أبو داود وابن ماجة ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم . (21)
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار " رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي . (22)
وعن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تعلم علماً لغير الله ، أو أراد به غير الله ، فليتبوأ مقعده من النار". رواه الترمذي وابن ماجة كلاهما عن خالد بن دريك عن ابن عمر، ولم يسمع منه . ورجال إسنادهما ثقات . (23)
14- الذين يشربون في آنية الذهب والفضة :
روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجر في بطنه نار جهنم ". وفي رواية لمسلم: " إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب ..." . (24)
(1/156)
________________________________________
وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة " متفق عليه . (25)
15- الذي يقطع السدر الذي يظل الناس :
عن عبد الله بن حبيش قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار " رواه أبو داود . (26)
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على رؤوسهم صباً " . (27)
16- جزاء الانتحار :
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه، فهو في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً " . (28)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار " . (29)
--------------------------------
(1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحيث : (204).
(2) يقظة أولي الاعتبار: ص 206.
(3) انظر كلام الشيخ في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) حديث رقم (204)، و (بقظة أولي الاعتبار). ص207.
(4) جامع الأصول : (10/167)، وقال محقق الكتاب، وهو حديث صحيح.
(5) تقول عليه: إذا قال عنه ما لم يقله.
(6) التبوؤ : اتخاذ المنزل، لأن المباءة المنزل.
(7) جامع الأصول: (10/611)، وقد ساق روايات أخرى فارجع إليه إن أحببت الاطلاع على جميع ما ساقه.
(8) انظر هذين الحديثين وأحاديث أخرى في ذم الكبر والترهيب منه في (مشكاة المصابيح) (3/634-635). وهو في مسلم برقم : 91.
(1/157)
________________________________________
(9) تفسير ابن كثير : (2/355) . وهو في البخاري برفم : 6878. وفي مسلم برقم : 1676.
(10) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى : [ ومن يقتل مؤمنا متعمد] ، فتح الباري : (12/187).
(11) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما: (4/2213).
(12) صحيح البخاري: 2766. وصحيح مسلم : 89.
(13) صحيح البخاري: 5950، وصحيح مسلم : 2109.
(14) صحيح مسلم: 2110. ورواه البخاري بألفاظ مقاربة: 2225، 5963.
(15) صحيح البخاري: 5957. وصحيح مسلم: 2107.
(16) صحيح البخاري : 5954. وصحيح مسلم : 2107.
(17) صحيح البخاري : 5953، وصحيح مسلم: 2111. واللفظ لمسلم .
(18) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/316) ورقم الحديث : 1326.
(19) يقظة أولي الاعتبار: ص 113.
(20) مشكاة المصابيح : (3/688).
(21) وهو في سنن أبي داود: 3664. وأورده الألباني في صحيح أبي داود: 3112، وصحيح ابن ماجه: 252، وقال: صحيح.
(22) أورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه : 254. وقال فيه: صحيح.
(23) انظر هذه الأحاديث وتخريجها في : (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري: (1/91).
(24) مشكاة المصابيح: (2/462). صحيح مسلم : 2065. ورواه البخاري: 5634 بلفظ "الذي يشرب في إناء الفضة ... ".
(25) صحيح البخاري: 5426. وصحيح مسلم : 2067.
(26) مشكاة المصابيح : (2/125)، وأورده الشيخ ناصر في (صحيح الجامع): (5/341)، ورقم الحديث : (6352) وعزاه إلى أبي داود والضياء في ( المختارة) وقال: صحيح.
وهو في سنن أبي داود برقم : 5239. وبعد رواية الحديث جاء ما يلي : سئل أبو داود معنى هذا الحديث ، فقال : هذا الحديث مختصر ، يعني : من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم ، عبثاً وظلماً بغير حق له فيها، صوب الله رأسه في النار .
(27) عزاه في (صحيح الجامع) (2/88) إلى البيهقي في (السنن) وقال فيه: صحيح.
(28) صحيح البخاري: 5778. وصحيح مسلم : 109 واللفظ لمسلم.
(1/158)
________________________________________
(29) صحيح البخاري : 1365.
كثرة أهل النار
النصوص الدالة على ذلك
جاءت النصوص كثيرة وافرة دالة على كثرة من يدخل النار من بني آدم ، وقلة من يدخل الجنة منهم .
قال تعالى: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [يوسف: 103 ]، وقال: ( ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) [سبأ: 20 ] . وقال الحق تبارك وتعالى لإبليس: ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) [ص: 85 ]. فكل من كفر فهو من أهل النار على كثرة من كفر من بني آدم .
ويدلك على كثرة الكفرة المشركين الذين رفضوا دعوة الرسل أن النبي بأتي في يوم القيامة ومعه الرهط، وهم جماعة دون العشرة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، بل إن بعض الأنبياء يأتي وحيداً لم يؤمن به أحد، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد .." . (1)
وجاءت نصوص كثيرة تدل على أنه يدخل في النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف ، وواحد فقط هو الذي يدخل الجنة . فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله : يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، ثم يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكرى وما هم بسكرى، ولكن عذاب الله شديد . فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل ؟ قال: أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل . ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قال: فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار " . (2)
(1/159)
________________________________________
وروى عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) [الحج: 1-2 ]، فلما سمع أصحابه ذلك حثوا المطي ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما دنوا حوله قال : " أتدرون أي يوم ذاك ؟ قال : ذاك يوم يُنادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول : يا آدم ابعث بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة ". قال: فأبلس أصحابه، حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: " أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه : يأجوج يأجوج ، ومن هلك من بنى آدم وبني إبليس " قال: فسري عنهم ، ثم قال : " اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة " رواه أحمد والترمذي والنسائي في كتاب التفسير في سننهما، وقال الترمذي : حسن صحيح . (3)
(1/160)
________________________________________
وروى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما نزلت ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) [الحج: 1 ]، قال: نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر، فقال: " أتدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة "، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قاربوا وسددوا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت، وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم ومثل الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير "، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا "، ثم قال: ولا أدري أقال: الثلثين أم لا. وكذا رواه الإمام أحمد، وقال الترمذي فيه: هذا حديث حسن صحيح . (4)
وقد يقال كيف تجمع بين هذه الأحاديث وبين ما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أخرج ؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائه تسعة وتسعون، فما يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود " . (5)
والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف الروايات الأخرى الصحيحة التي سقناها من قبل، فإن ذلك العدد باعتبار معين ، وهذا العدد باعتبار آخر .
(1/161)
________________________________________
فالأحاديث التي تجعل النسبة تسعمائة وتسعة وتسعين يمكن تحمل على جميع ذرية أدم، وحديث البخاري الذي يجعلها تسعة وتسعين تحمل على جميع ذريته ما عدا يأجوج ومأجوج، ويقرب هذا الجمع – كما يقول ابن حجر – أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ، ويمكن أن يقال : إن الأحاديث الأولى تتعلق بالخلق أجمعين ، فإذا جعلت نسبة من يدخل النار إلى من يدخل الجنة باعتبار الأمم جميعاً تكون النسبة (999) ، ويكون حديث البخاري الأخير مبيناً نسبة من يدخل النار من هذه الأمة دون سواها، قال ابن حجر: " ويُقربه – أي هذا القول – قولهم في حديث أبى هريرة " إذا أخذ منا "، ثم قال: " ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة ، فيكون من كل ألف واحد إلى الجنة ، ومرة من هذه الأمة ، فيكون من كل ألف عشرة " . (6)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : (1/198). ورقم الحديث : 220.
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول الله عز وجل : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم) فتح الباري: (11/388).
(3) تفسير ابن كثير: (4/610). وهو في مسند أحمد (4/435). سنن الترمذي : 3169.
(4) تفسير ابن كثير : (4/610). وهو في سنن الترمذي : 3168.
(5) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الحشر، فتح الباري : (11/378).
(6) فتح الباري: (11/390)، وقد ساق أقوالاً أخرى، فارجع إليه إن أحببت الاطلاع على المزيد.
السر في كثرة أهل النار
ليس السبب في كثرة أهل النار هو عدم بلوغ الحق إلى البشر على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم، فإن الله لا يؤاخذ العباد إذا لم تبلغهم دعوته، ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [الإسراء: 15 ]، ولذلك فإن الله أرسل في كل أمة نذيراً، ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [فاطر : 24 ] .
(1/162)
________________________________________
ولكن السبب وراء ذلك يعود إلى قلة الذين استجابوا للرسل وكثرة الذين كفروا بهم ، وكثير من الذين استجابوا لم يكن إيمانهم خالصاً نقياً.
وقد تعرض ابن رجب في كتابه " التخويف من النار " إلى السبب في قلة أهل الجنة ، وكثرة أهل النار فقال : " فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار ، وتدل أيضاً على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم ، وغير أتباع الرسل كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيه من الاختلاف ، والمنتسبون إلى أتباع الرسل كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاًَ من أهل النار كما قال تعالى: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [هود: 17 ] .
وأما المنتسبون إلى الكتاب المحكم والشريعة المؤيدة والدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إليه ظاهراً وباطناً فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال، وقد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وكثير منها أيضاً فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار – وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها – فلم ينج من الوعيد بالنار، ولم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة، وهو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ظاهراً وباطناً، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جداً لا سيما في الأزمان المتأخرة " . (1)
ولعل السبب الأعظم هو اتباع الشهوات ، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) [آل عمران: 14 ] .
(1/163)
________________________________________
وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات عن الطريق التي تهواها نفسه ويحبها قلبه، ولا يراعي في ذلك شرع الله المنزل، أضف إلى هذا تمسك الأبناء بميراث الآباء المناقض لشرع الله ( ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) [الزخرف: 23-24] .
وإلف ما كان عليه الآباء وتقديسه داء ابتليت به الأمم ، لا يقل أثره عن الشهوات المغروسة في أعماق الإنسان ، إن لم يكن هو شهوة في ذاته .
وقد روى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها". أخرجه الترمذي وأبو داود، وزاد النسائي: بعد قوله: "اذهب فانظر إليها"، "وإلى ما أعددت لأهلها فيها " . (2)
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره ". أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم " حفت " بدل: " حجبت " . (3)
قال صديق حسن خان: "والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها " (4) ، وقال القرطبي: " الشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها ، وتدعو إليه ، ويوافقها ، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به ، الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى " . (5)
--------------------------------
(1) التخويف من النار ، لابن رجب ، ص 214 .
(2) جامع الأصول: (10/520)، ورقمه : 8068، وقال المحقق: قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) المصدر السابق : (10/520)، ورقمه : 8069.
(4) يقظة أو لي الاعتبار: ص 220.
(1/164)
________________________________________
(5) المصدر السابق.
أكثر من يدخل النار النساء
أكثر من يدخل النار من عصاة الموحدين النساء، كما في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إنه قال في خطبة الكسوف " أريت النار، فلم أر منظر كاليوم أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء " . (1)
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقلن: ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن المشير " . (2)
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد: " وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ".
وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أقل ساكني الجنة النساء " . (3)
وهذا لا ينافي أن كل واحد من أهل الجنة له أكثر من زوجة، فإن المراد بالنساء اللواتي هن أكثر أهل النار من كان منهن من ذرية آدم، أما زوجات أهل الجنة الكثيرات فهن من الحور العين .
" وإنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا، لنقصان عقولهن أن تنفذ بصائرها إلى الآخرى ، فيضعفهن عن عمل الآخرة والتأهب لها ، ولميلهن إلى الدنيا والتزين لها ، ومع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الآخرة ، لما فيهن من الهوى والميل لهن ، فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن ، سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى، وأعمالها من المتقين " (4) . ومع ذلك ففيهن صالحات كثير، يقمن حدود الله، ويلتزمن شريعته ويطعن الله ورسوله، ويدخل منهن الجنة خلق كثير، وفيهن من يسبقن كثيراً من الرجال بإيمانهن وأعمالهن الصالحة.
--------------------------------
(1) صحيح البخاري : 1052. وصحيح مسلم: 907.
(2) صحيح البخاري: 1462، وصحيح مسلم : 79، 80
(3) صحيح البخاري: 2546، وصحيح مسلم : 2736.
(1/165)
________________________________________
(4) التذكرة للقرطبي : (1/369).
عظم خلق أهل النار
يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم، ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع " رواه مسلم (1) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث " . (2)
وقال زيد بن أرقم: " إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار، حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد ". رواه أحمد وهو مرفوع، ولكن زيداً لم يصرح برفعه . (3)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة " رواه الترمذي . (4)
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاً ، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة " أخرجه الحاكم وأحمد . (5)
وهذا التعظيم لجسد الكافر ليزداد عذابه وآلامه، يقول النووي في شرحه لأحاديث مسلم في هذا الباب: " هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الإيمان به لإخبار الصادق به " (6) . وقال ابن كثير معلقاً على ما أورده من هذه الأحاديث : "ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم، كما قال شديد العقاب : ( ليذوقوا العذاب ) [النساء: 56 ] . (7)
--------------------------------
(1) صحيح مسلم ، كتاب الجنة، باب يدخلها الجبارون: (4/2190).
(2) صحيح مسلم ، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون: (4/2189)، وعزاه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/132) إلى مسلم والترمذي والحاكم وابن حبان وأحمد.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/131)، وقال فيه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(1/166)
________________________________________
(4) مشكاة المصابيح: (3/103)، وقال محقق المشكاة: "رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وسنده صحيح" .
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/94)، ونسب إلى الحاكم والذهبي تصحيح الحديث ووافقهما عل ذلك على ضعف في أحد رواة الحديث وهو ابن إسحاق، وقد ساق المؤلف كثيراً من المتابعات والشواهد للحديث. والبيضاء اسم جبل. أو يعني بها المدينة المعروفة بالمغرب.
(6) شرح النووي على مسلم: (17/186).
(7) النهاية لابن كثير: (2/139).
طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم
طعام أهل النار الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق، قال تعالى: ( ليس لهم طعام إلا من ضريع* لا يسمن ولا يغني من جوع ) [الغاشية: 6-7 ]، والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق. وعن ابن عباس : الشبرق : نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعاً . وقال قتادة : من أضرع الطعام وأبشعه (1) . وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم ، فلا يجدون لذة ، ولا تنتفع به أجسادهم ، فأكلهم له نوع من أنواع العذاب .
وقال تعالى: ( إن شجرت الزقوم*طعام الأثيم*كالمهل يغلي في البطون* كغلي الحميم ) [ الدخان: 43-46] وقد وصف شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: ( أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم* إنا جعلناها فتنة للظالمين* إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم*طلعها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لأكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم* ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ) [الصافات: 62-68 ].
وقال في موضع آخر: ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون* لأكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون* فشاربون عليه من الحميم* فشاربون شرب الهيم* هذا نزلهم يوم الدين ) [الواقعة: 51-56 ].
(1/167)
________________________________________
ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك الآماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم ( وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ]. هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم ، أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه.
وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً* وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليما ) [المزمل : 12-13 ]، والطعام ذو الغصة هو الذي يغص به آكله، إذ يقف في حلقه.
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - شناعة الزقوم وفظاعته، فقال: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه " رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح . (2)
ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: ( فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون )[الحاقة: 35-37 ]، وقال تعالى : ( هذا فليذوقوه حميم وغساق* وآخر من شكله أزواج ) [ص : 57-58 ] .
والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد ، وقيل : ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبى : هو عصارة أهل النار . (3)
(1/168)
________________________________________
وقد أخبر الحق أن الغسلين واحد من أنواع كثيرة تشبه هذا النوع في فظاعته وشناعته.
أما شرابهم فهو الحميم، قال تعالى: ( وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ) [محمد: 15 ]، وقال : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) [الكهف: 29 ]، وقال : ( ويسقى من ماء صديد* يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) [إبراهيم:16-17]، وقاا : ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) [ص: 57 ].
وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار :
الأول : الحميم ، وهو الماء الحار الذي تناهي حره، كما قال تعالى: ( يطوفون بينهم وبين حميم آن ) [الرحمن : 44 ]، والـ ( آن ): هو الذي انتهى حره، وقال: ( تسقى من عين آنية ) [الغاشية:5 ]، وهي التي انتهى حرها فليس بعدها حر.
النوع الثاني : الغساق ، وقد مضى الحديث عنه ، فإنه يذكر في مأكول أهل النار ومشروبهم .
النوع الثالث : الصديد ، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده ، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه طينة الخبال . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار ".
الرابع : المهل . وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " كعكر الزيت، فإذا قرب وجهه سقطت فروة وجهه فيه ".
وقال ابن عباس: في تفسير المهل : " غليظ كدردي الزيت ".
أكلهم النار :
من أصحاب الذنوب من يطعمه الله جمر جهنم جزاء وفاقاً، ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ) [ النساء: 10 ].
وقال: ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) [البقرة:174 ].
(1/169)
________________________________________
أما لباس أهل النار فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه يُفصّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) [ الحج: 19 ]. وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: سبحان من خلق من النار ثياباً . (4)
وقال تعالى: ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد* سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) [ إبراهيم: 49]. والقطران: هو النحاس المذاب . وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الاشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليه سربال من قطران ودرع من جرب ".
وخرجه ابن ماجه ولفظه: " النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من جرب ".
--------------------------------
(1) التخويف من النار، لابن رجب : ص 115 .
(2) مشكاة المصابيح : (3/105)، وراوي الحديث هو ابن عباس.
(3) يقظة أولي الاعتبار: ص 86 .
(4) التخويف من النار : ص 126.
عذاب أهل النار
شدة ما يكابده أهل النار من عذاب
النار عذابها شديد ، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ) [آل عمران: 91 ]، وقال الحق في هذا المعنى: ( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثلهم معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبل منهم ولهم عذاب أليم ) [المائدة: 36 ].
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب " . (1)
إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء .
(1/170)
________________________________________
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله – تبارك وتعالى – لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول : نعم . فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال :) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك " . (2)
إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: ( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤيه* ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه* كلا إنها لظى * نزاعة للشوى ) [المعارج: 11-16 ] .
وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.
--------------------------------
(1) روه مسلم : 2807.
(2) رواه البخاري : صحيح البخاري : 3334، ورواه مسلم: 2805. المصابيح: (3/102).
صور من عذابهم ( الجزء الأول )
المطلب الأول
تفاوت عذاب أهل النار
لما كانت النار دركات بعضها أشد عذاباً وهولاً من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أهل النار : " إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته " وفي رواية " إلى عنقه ". (1)
وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أخف أهل النار عذاباً، ففي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه ". وفي رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً عن النعمان بن بشير: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم ". (2)
(1/171)
________________________________________
وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم : " إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار ، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً ". (3)
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه ". (4)
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه ". (5)
وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء:145] ، وقوله: ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر:46]، وقوله : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) [ النحل: 88].
يقول القرطبي في هذا الموضوع: " هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط ، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة،ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر ،مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين ، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ضحضاح لنصرته إياه ، وذبّه عنه وإحسانه إليه ؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب ، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين " . (6)
(1/172)
________________________________________
وقال ابن رجب : " واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار " ثم ساق الأدلة الدالة على ذلك، وساق قول ابن عباس : " ليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك" ثم قال ابن رجب : " وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم ، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أهل الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرى له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار " . (7)
المطلب الثاني
إنضاج الجلود
إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار ، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق ، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد ، وهكذا دواليك، ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) [ النساء: 56].
المطلب الثالث
الصهر
من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره ، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما بطونهم والجلود ) [الحج:19-20] .
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الحميم ليصب على رؤوسهم ، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعود كما كان "، وقال: حسن غريب صحيح. (8)
المطلب الرابع
اللفح
(1/173)
________________________________________
أكرم ما في الإنسان وجهه ،ولذلك نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه ، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصما وبكماً ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء:97]، ويلقون في النار على وجوههم ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) [ النمل:90].
وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ) [ الأنبياء:39]، ( تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ) [المؤمنون:104]، ( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) [ إبراهيم:50]، ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ) [الزمر:24]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) [ الأحزاب: 66]، أرأيت كيف يقلب اللحم على النار، والسمك في المقلى ، كذلك تقلب وجوههم في النار ، نعوذ بالله من عذاب أهل النار .
المطلب الخامس
السحب
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم ( إن المجرمين في ضلال وسعر* يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) [ القمر:47-48]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل ( فسوف يعلمون* إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون ) [ غافر:70-72]، قال قتادة : يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة . (9)
المطلب السادس
تسويد الوجوه
(1/174)
________________________________________
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) [ آل عمران:106]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ يونس: 27].
--------------------------------
(1) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب شدة حر النار ، (4/2185).
(2) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الرقاق ، باب صفة الجنة والنار ، فتح الباري (11/417) ، ورواه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان : (1/196)، ورقمه 363 ، واللفظ للبخاري .
(3) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان : (1/196) ، ورقم الحديث (364).
(4) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ( 1/195) ، ورقم الحديث(361).
(5) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري (11/417) ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب ، (1/195)، وحديث رقم (360) ، وساق فيه عدة أحاديث أخرى.
(6) التذكرة للقرطبي:ص409.
(7) التخويف من النار : ص142 – 143 .
(8) التخويف من النار لابن رجب :145، جامع الأصول:(10/540). وهو في الترمذي برقم: 2582.
(9) التخويف من النار لابن رجب:147.
صور من عذابهم ( الجزء الثاني )
المطلب السابع
إحاطة النار بالكفار
(1/175)
________________________________________
أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم ، فلم تبق لهم حسنة ، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة:81]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: " المراد بالسيئة هنا الجنس ، ولابد أن يكون سببها محيطاً بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة ، وسدت عليها مسالك النجاة ، والخلود في النار هو للكفار والمشركين ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ". (1)
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى : ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف:41]. والمهاد ما يكون من تحتهم ، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، كما قال تعالى : ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجهلم ) [ العنكبوت:55]، وقال في موضع آخر : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) [ الزمر:16]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) [ التوبة:49]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش ، والغواش باللحف . (2)
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى : ( إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) [ الكهف:29]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها.
المطلب الثامن
إطلاع النار على الأفئدة
(1/176)
________________________________________
ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئاً عظيماً، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم ( سأصليه سقر* وما أدراك ما سقر* لا تبقي ولا تذر* لواحة للبشر ) [ المدثر:26-29]، قال بعض السلف في قوله: ( لا تبقي ولا تذر ) ، قال: " تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك ". (3)
وقال الحق تبارك وتعالى: ( كلا لينبذن في الحطمة* وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة ) [ الهمزة:4-7].
قال محمد بن كعب القرظي: " تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه ". وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: " تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي ". (4)
المطلب التاسع
اندلاق الأمعاء في النار
في الصحيحين عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ". (5)
ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب ، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب " . (6)
المطلب العاشر
قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم
(1/177)
________________________________________
أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالاً وقيوداً ومطارق ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا ) [ الإنسان:4]، ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً ) [ المزمل:12-13]، والأغلال توضع في الأعناق ( وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ سبأ:33]، ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ) [غافر:71]، والأنكال : القيود ، سميت أنكالاً لأن الله يعذبهم وينكل بهم بها ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً ) [ المزمل:12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم ( خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ) [ الحاقة:30-32].
وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد ، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، ( ولهم مقامع من حديد* كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ) [ الحج:21-22] .
المطلب الحادي عشر
قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار
كان الكفار والمشركون يعظمون الآلهة التي يبعدونها من دون الله ، ويدافعون عنها، ويبذلون في سبيل ذلك النفس والمال، وفي يوم القيامة يدخل الحق تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله النار إهانة لعابديها وإذلالاً لهم ، ليعلموا أنهم كانوا ضالين، يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ( إنكم وما تعبدون من دون حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) [ الأنبياء:98-99].
(1/178)
________________________________________
يقول ابن رجب: " لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله ، وتقربهم إليه ، عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً ، ونكاية لهم وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته ". (7)
ومن أجل ذلك يقذف في يوم القيامة بالشمس والقمر في النار، ليكونا مما توقد به النار ، تبكيتاً للظالمين الذين كانوا يعبدونها من دون الله، ففي الحديث : " الشمس والقمر مكوران في النار ". (8)
يقول القرطبي: " وإنما يجمعان في جهنم ، لأنهما قد عُبداً من دون الله لا تكون النار عذاباً لهم، لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم ، هكذا قال بعض أهل العلم ". (9)
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشد لعذابهم: ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون* حتى إذا جاءنا قال يا ليت بين وبينك بعد المشرقين فبئس القرين* ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) [الزخرف:36-39].
المطلب الثاني عشر
حسرتهم وندمهم ودعاؤهم
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم ،ولات ساعة مندم ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) [يونس:54] . ، وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار ، فإنه يدعو بالثبور والهلاك ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبوراً *ويصلى سعيراً ) [ الانشقاق : 10-12].
(1/179)
________________________________________
ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويصلون حرها ( وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً* لا تدعوا اليوم ثبوراً واحدة وادعوا ثبوراً كثيراً ) [ الفرقان:13-14]. وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم ،ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار ، ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ) [فاطر:37]، وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [الملك:10]، ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) [ غافر:11].
ولكن طلبهم يرفض بشدة ، ويجابون بما تستحق أن تجاب به الأنعام ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين* ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون* قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون:106-108].
لقد حق عليهم القول ، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون* ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) [ السجدة:12-14].
ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئاً مما يعانونه ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب* قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) [غافر:49-50].
عند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) [الزخرف:77].
(1/180)
________________________________________
إنه الرفض لكل ما يطلبون، لا خروج من النار ،ولا تخفيف من عذابها ، ولا إهلاك ، بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم، ويقال لهم آن ذاك : ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) [الطور:16].
هناك يشتد نحيبهم ،وتفيض دموعهم، ويطول بكاؤهم ( فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ) [ التوبة:82]، إنهم يبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون دماً ، وتؤثر دموعهم في وجوههم كما يؤثر السيل في الصخر، ففي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل النار ليبكون ، حتى لو أجريت السفن في دموعهم، لجرت وإنهم ليبكون الدم – يعني – مكان الدمع ".
وعن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ : " يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود ، لو أرسلت فيه السفن لجرت ". (10)
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول *وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ) [ الأحزاب:66-68].
وتأمل قوله تعالى يصف حالهم ، ونعوذ بالله من حالهم ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق* خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) [ هود:106]، قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً . وقيل : الزفير : ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع ، والشهيق النفس الطويل الممتد ، أو رد النفس إلى الصدر ، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه.
(1/181)
________________________________________
وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس . (11)
--------------------------------
(1) يقظة أولي الاعتبار:ص67.
(2) تفسير ابن كثير: (3/168).
(3) التخويف من النار لابن رجب:146.
(4) التخويف من النار لابن رجب : 146.
(5) صحيح البخاري:3267، 7098، ومسلم : 2989.
(6) صحيح البخاري:3521. وصحيح مسلم: 2856 ، تسييب السوائب: تشريع سنة عمرو للعرب حرم فيه ما أحل الله تعالى ، فقد حرم أنواعاً من الأنعام بأسباب لم ينزل الله بها من سلطان ، كأن يمنع ذبح تلك الحيوانات وحلبها والركوب عليها. قال سعيد بن المسيب فيما رواه عنه البخاري ومسلم في روايتهما للحديث السابق:" البحيرة التي يمنع درها للطواغيت، ولا يحلبها أحد من الناس " .
(7) التخويف من النار:ص105.
(8) رواه البيهقي في (شعب الإيمان)، والبزاز والإسماعيلي والخطابي ، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة : (1/32).
(9) التذكرة للقرطبي: ص392.
(10) أورد الشيخ ناصر الحديثين في سلسلة الأحاديث الصحيحة : (4/245) حديث رقم : 1679، وعزا الحديث الأول منهما إلى الحاكم في مستدركه ، وقد قال فيه الحاكم: (حديث صحيح الإسناد) .ووافقه الذهبي: قال الشيخ ناصر: وحقه أن يزيد: على شرط الشيخين(فإن رجاله كلهم من رجالهما ، وذكر أن أحد رجاله وهو أبو النعمان ويلقب ( بعارم) كان قد اختلط، وساق الشيخ ناصر الحديث الثاني شاهداً للأول، وعزاه إلى ابن ماجة وابن أبي الدنيا ، ويزيد الرقاشي أحد رواته ضعيف، وباقي رجاله رجال الشيخين.
(11) يقظة أولي الاعتبار، لصديق حسن خان ص72.
المحاجة بين الجنة والنار
(1/182)
________________________________________
أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة والنار تحاجتا عند ربهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ - زاد في رواية : وغرتهم – فقال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحمن بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية : حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول : قط قط قط ، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً " أخرجه البخاري ومسلم.
وللبخاري قال: " اختصمت الجنة والنار ( إلى ربهما )، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ وقالت النار (1)، فقال (الله) للجنة : أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار (2) . من يشاء، فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ؟ ويلقون فيها، فتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ ، ويزوى بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط قط ".
وله في أخرى: - وكان كثيراً ما يقفه أبو سفيان الحميري، أحد رواته، قال : " يقال لجهنم، هل امتلأت ؟ وتقول: هل من مزيد ؟ فيضع الرب قدمه عليها، فتقول : قط قط ".
ولمسلم بنحو الأولى ، وانتهى عند قوله : " ولكل واحدة منهما ملؤها ".
وقال في رواية: " فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (3) وغرتهم ؟ " وفي آخره: " فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع قدمه عليها، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض " وأخرجه الترمذي نحو الأولى (4) (5) .
--------------------------------
(1/183)
________________________________________
(1) قال محقق جامع الأصل: كذا في الأصول المخطوطة. وفي النسخ المطبوعة: يعني: أوثرت بالمتكبرين، قال الحافظ في (الفتح): كذا وقع هنا مختصراً، قال ابن بطال: سقط قول النار هنا من جميع النسخ، وهو محفوظ في الحديث وانظر (الفتح) (13/434).
(2) جزم غير واحد من أهل العلم أن هذا خطأ من بعض الرواة، وصوابه ينشئ للجنة .
(3) السّقط: المزدرى به ، ومنه السَّقط: لرديء المتاع. وغرتهم: الغرّ الذي لم يجرب الأمور، فهو قليل الشر منقاد.
(4) رواه البخاري (8/458) في تفسير سورة (ق) ، باب قوله تعالى : ( وتقول هل من مزيد ) [ق: 30] وفي التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: ( إن رحمت الله قريب من المحسنين ) [الأعراف : 56 ]، ومسلم رقم (2846) في الجنة ، باب النار ويدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، والترمذي رقم (2564) في صفة الجنة ، باب ما جاء في احتجاج الجنة والنار.
(5) جامع الأصول: (10/544-547) .
كيف يتقي الإنسان نار الله ؟
لما كان الكفر هو السبب في الخلود في النار فإن النجاة من النار تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولذا فإن المسلمين يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم كي يخلصهم من النار ، ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) [ آل عمران:16]، ( ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار* ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار* ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) [آل عمران:191-194].
وقد فصلت النصوص هذا الموضوع فبينت الأعمال التي تقي النار فمن ذلك محبة الله ، ففي مستدرك الحاكم ومسند أحمد عن أنس بن مالك ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يلقي الله حبيبه في النار ". (1)
(1/184)
________________________________________
والصيام جنة من النار ، ففي مسند أحمد ، والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله تعالى : الصيام جنة يستجن بها من النار ". (2)
وعند البيهقي في الشعب من حديث عثمان بن أبي العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصوم جنة من عذاب الله " ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزمية وإسناده صحيح . (3)
أما إذا كان الصوم في حال جهاد الأعداء فذاك الفوز العظيم، فعن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ". رواه أحمد ، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. (4)
ومما ينجي من النار مخافة الله ، والجهاد في سبيل الله ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن:46]، وروى الترمذي والنسائي في سننهما عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ". (5)
وفي صحيح البخاري عن ابن عبس وهو عبد الرحمن بن جبر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله ، فتمسه النار " (6) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً " . (7)
ومما يقي العبد من النار استجارة العبد بالله من النار، ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً* إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) [ الفرقان:65-66] ، وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما سأل أحد الله الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ، ولا استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: اللهم أجره مني". (8)
(1/185)
________________________________________
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر وفيه : " أن الله عز وجل يسألهم وهو أعلم بهم ، فيقول: " فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار ، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً ،وأشد مخافة ، فأشهدكم أني قد غفرت لهم ". (9)
--------------------------------
(1) حديث صحيح ، انظر صحيح الجامع (6/104)،ورقم الحديث:(6/104).
(2) صحيح الجامع:(4/114) .
(3) صحيح الجامع: (3/264).
(4) صحيح الجامع: (5/310).وفي صحيح البخاري:2840.وصحيح مسلم: 1153.
(5) مشكاة المصابيح: (2/356)، حديث رقم: 3828،وقال المحقق في إسناده: صحيح . انظره في سنن الترمذي: 1633 ، 2311. وقال الترمذي فيه: هذا حديث حسن صحيح.
(6) مشكاة المصابيح : (2/349)، ورقمه:3794.وهو في صحيح البخاري برقم : 2811.
(7) مشكاة المصابيح: (2/349)، ورقمه: 3795. وهو في صحيح مسلم برقم : 1891.
(8) صحيح الجامع : (5/145)، ورقمه: 5506.
(9) صحيح الجامع :(2/233) ،ورقمه: 2169، وعزاه إلى البخاري ومسلم وأحمد.
(1/186)
________________________________________

العقيدة في ضوء الكتاب والسنة
الرسل والرسالات
الدكتور عمر سليمان الأشقر

التعريف بالنبي والرسول والفرق بينهما
المطلب الأول
تعريف النبي (1)
النبي – في لغة العرب – مشتق من النبأ وهو الخبر ، قال تعالى : ( عمَّ يتساءلون – عن النبإِ العظيم ) [ النبأ : 1-2 ] .
وإنّما سمّي النبيُّ نبيّاً لأنه مُخْبرٌ مُخْبَر ، فهو مُخْبَر ، أي : أنَّ الله أخبره ، وأوحى إليه ( قالت من أنبأك هذا قال نَبَّأَنِيَ العليم الخبير ) [ التحريم : 3 ] ، وهو مُخْبرٌ عن الله تعالى أمره ووحيه ( نَبِّئْ عبادي أنّي أنا الغفور الرَّحيم ) [ الحجر : 49 ] ( وَنَبِّئْهُمْ عن ضيف إبراهيم ) [ الحجر : 51 ] .
وقيل : النبوة مشتقة من النَّبْوَة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، وتطلق العرب لفظ النبيّ على علم من أعلام الأرض التي يهتدى بها ، والمناسبة بين لفظ النبي والمعنى اللغوي ، أنَّ النبيَّ ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة ، فالأنبياء هم أشرف الخلق ، وهم الأعلام التي يهتدي بها الناس فتصلح دنياهم وأخراهم .
المطلب الثاني
تعريف الرسول (2)
الإرسال في اللغة التوجيه ، فإذا بعثت شخصاً في مهمة فهو رسولك ، قال تعالى حاكياً قول ملكة سبأ : ( وإني مرسلة إليهم بهديَّةٍ فناظرة بم يرجع المرسلون ) [ النمل : 35 ] ، وقد يريدون بالرسول ذلك الشخص الذي يتابع أخبار الذي بعثه ، أخذاً من قول العرب : " جاءت الإبلُ رَسَلاً " أي : متتابعة .
وعلى ذلك فالرُّسل إنّما سمّوا بذلك لأنَّهم وُجّهوا من قبل الله تعالى : ( ثُمَّ أرسلنا رسلنا تتراً ) [ المؤمنون : 44 ] ، وهم مبعوثون برسالة معينة مُكلَّفون بحملها وتبليغها ومتابعتها .
المطلب الثالث
الفرق بين الرسول والنبيّ
(1/1)
________________________________________
لا يصحُّ قول من ذهب إلى أنه لا فرق بين الرسول والنبيّ ، ويدلُّ على بطلان هذا القول ما ورد في عدة الأنبياء والرسل ، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، وعدَّة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً (3) ، ويدلّ على الفرق أيضاً ما ورد في كتاب الله من عطف النبيِّ على الرسول ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلاَّ إذا تمنَّى ألقى الشَّيطان في أُمنيَّته ) [ الحج : 52 ] ، ووصف بعض رسله بالنبوة والرسالة مما يدُل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة، كقوله في حقِّ موسى عليه السلام : ( واذكر في الكتاب موسى إنَّه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيَّاً ) [ مريم : 51 ] .
والشائع عند العلماء أنَّ النبي أعم من الرسول ، فالرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه ، والنبيُّ من أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ ، وعلى ذلك فكلُّ رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً (4) .
وهذا الذي ذكروه هنا بعيد لأمور :
الأول : أن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي ... ) [ الحج: 52 ] ، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبيّ البلاغ .
الثاني : أنَّ ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى ، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس ، ثمَّ يموت هذا العلم بموته .
الثالث : قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس : " عرضت عليَّ الأمم ، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد " (5) .
فدلّ هذا على أنَّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ ، وأنَّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم .
والتعريف المختار أنَّ " الرسولَ مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد ، والنبيَّ هو المبعوث لتقرير شرع من قبله " (6) .
وقد " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ " .
(1/2)
________________________________________
كما ثبت في الحديث (7) ، وأنبياء بني إسرائيل كلّهم مبعوثون بشريعة موسى : التوراة وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحي الله إليهم ( ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لَّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاَّ تقاتلوا ... ) [ البقرة : 246 ] فالنبي كما يظهر من الآية يُوحَى إليه شيء يوجب على قومه أمراً ، وهذا لا يكون إلا مع وجوب التبليغ .
واعتبر في هذا بحال داود وسليمان وزكريا ويحي فهؤلاء جميعاً أنبياء ، وقد كانوا يقومون بسياسة بني إسرائيل ، والحكم بينهم وإبلاغهم الحق ، والله أعلم بالصواب .
--------------------------------
(1) راجع في هذه المسألة : لسان العرب : 3/561 ، 573 ، بصائر ذوي التمييز : 5/14 ، لوامع الأنوار البهية : 1/49 ، 2/265 .
(2) راجع في هذه المسألة : لسان العرب : (2/1166-1167 ) ، المصباح المنير : ص266 .
(3) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده حديث رقم : (21546 ، 21552) طبعة الرسالة .
(4) شرح العقيدة الطحاوية :(167)، لوامع الأنوار البهية : (1/49)، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على أسانيده في سلسلة الصحيحة : 2668 .
(5) رواه البخاري : 5752 ، ومسلم : 220 ، واللفظ للبخاري .
(6) تفسير الآلوسي : (7/157) .
(7) رواه البخاري عن أبي هريرة : 3455 .
أهمية الإيمان بالرّسل
المطلب الأول
الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان
الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان ، قال تعالى : ( قل آمنَّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وَالنَّبِيُّونَ من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) [ آل عمران : 84 ] .
ومن لم يؤمن بالرسل ضل ضلالاً بعيداً ، وخسر خسراناً مبيناً ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً ) [ النساء : 136 ] .
المطلب الثاني
(1/3)
________________________________________
الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل والرسالات
الذين يزعمون أنَّهم مؤمنون بالله ولكنّهم يكفرون بالرسل والكتب هؤلاء لا يقدرون الله حقَّ قدره ، ( وما قدروا الله حقَّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ ) [ الأنعام : 91 ] . فالذين يقدرون الله حقَّ قدره ، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بدَّ أن يوقنوا بأنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب ، لأن هذا مقتضى صفاته ، فهو لم يخلق الخلق عبثاً ، ( أيحسب الإنسان أن يترك سُدًى ) [ القيامة : 36 ] .
ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنَّه يؤمن بالله فهو عند الله كافر لا ينفعه إيمانه ، قال تعالى : ( إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً – أولئك هم الكافرون حقّاً ) [النساء : 150-151] .
فقد نصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل ( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ) ، يقول القرطبي في هذه الآية : " نصّ سبحانه على أنَّ التفريق بين الله ورسله كفر ، وإنَّما كان كفراً لأنَّ الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل ، فإذا جحدوا الرسل ردّوا عليهم شرائعهم ، ولم يقبلوها منهم ، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمروا بالتزامها ، فكان كجحد الصانع سبحانه ، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية ، وكذلك التفريق بين الله ورسله " (1) .
المطلب الثالث
وجوب الإيمان بجميع الرسل
(1/4)
________________________________________
الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل ، قال تعالى : ( كذَّبت قوم نوحٍ المرسلين ) [ الشعراء : 105 ] ، وقال : ( كذَّبت عاد المرسلين ) [ الشعراء : 123 ] ، وقال : ( كذَّبت ثمود المرسلين ) [ الشعراء : 141 ] ، وقال : ( كذَّبت قوم لوطٍ المرسلين ) [الشعراء : 160] ، ومن المعروف أنَّ كلَّ أمةٍ كذَّبت رسولها ، إلا أن التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيباً بالرسل كلِّهم ، ذلك أنَّ الرسل حملة رسالة واحدة ، ودعاة دين واحد، ومرسلهم واحد ، فهم وحدة ، يبشر المتقدم منهم بالمتأخر ، ويصدق المتأخر المتقدم .
ومن هنا كان الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض كفراً بهم جميعاً ، وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر ( إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً – أولئك هم الكافرون حقّاً ) [ النساء : 150-151 ] ، وقد أمرنا الله بعدم التفريق بين الرسل والإيمان بهم جميعاً ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيُّون من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) [ البقرة : 136 ] ، ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ) [ البقرة : 137 ] ، والذي يخالفه فقد ضلَّ وغوى ( وَّإن تولَّوا فإنَّما هم في شقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وهو السَّميع العليم ) [ البقرة : 137 ] .
وقد مدح الله رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه لإيمانهم بالرسل كلهم ، ولعدم تفريقهم بينهم ، قال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من رَّبه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رُّسله ) [ البقرة : 285 ] .
(1/5)
________________________________________
ووعد الله الذين لم يفرقوا بين الرسل بالمثوبة والأجر الكريم ( والَّذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رَّحيماً ) [ النساء : 152 ] .
وقد ذم الله أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وَرَاءهُ وهو الحقُّ مصدقاً لما معهم ) [البقرة : 91] .
فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد ، والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم .
--------------------------------
(1) تفسير القرطبي: (6/5) .
عدد الأنبياء والطريق إلى معرفتهم
المطلب الأول
الأنبياء والرسل جمّ غفير
اقتضت حكمة الله – تعالى – في الأمم قبل هذه الأمّة أن يرسل في كلّ منها نذيراً ، ولم يرسل رسولاً للبشرية كلّها إلاّ محمداً صلى الله عليه وسلم ، واقتضى عدله ألاّ يعذب أحداً من الخلق إلاّ بعد أن تقوم عليه الحجة : ( وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً ) [الإسراء : 15] . من هنا كثر الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة ، قال تعالى : ( وإن من أمَّةٍ إلاَّ خلا فيها نذيرٌ ) [ فاطر : 24 ] .
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدّة الأنبياء والمرسلين ، فعن أبي ذرّ قال: قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون ؟ قال : " ثلاثمائة وبضعة عشر جمّاً غفيراً " وقال مرة : " خمسة عشر " ، وفي رواية أبي أمامة ، قال أبو ذر : قلت : يا رسول الله ، كم وفاء عدة الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرُّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً " (1) .
من الأنبياء والرسل من لم يقصصهم الله علينا :
(1/6)
________________________________________
وهذا العدد الكبير للأنبياء والرسل يدلنا على أنَّ الذين نعرف أسماءهم من الرسل والأنبياء قليل ، وأنَّ هناك أعداداً كثيرة لا نعرفها ، وقد صرّح القرآن بذلك في أكثر من موضع ، قال تعالى : ( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك ) [ النساء : 164 ] ، وقال : ( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم مَّن قصصنا عليك ومنهم من لَّم نقصص عليك ) [ غافر : 78 ] .
فالذين أخبرنا الله بأسمائهم في كتابه أو أخبرنا بهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا يجوز أنّ نكذّبَ بهم ، ومع ذلك فنؤمن أنَّ لله رسلاً وأنبياء لا نعلمهم .
المطلب الثاني
الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن
ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبياً ورسولاً ، فذكر في مواضع متفرقة آدم وهوداً وصالحاً وشعيباً وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ومحمداً عليهم السلام .
قال تعالى : ( إنَّ الله اصطفى آدم ... ) [ آل عمران : 33 ] ، وقال : ( وإلى عادٍ أخاهم هوداً ) [ هود : 50 ] ، ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ) [ هود : 61 ] ، ( وإلى مدين أخاهم شعيباً ) [ هود : 84 ] ، ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصَّابرين ) [ الأنبياء : 85 ] ( مُّحمَّدٌ رَّسول الله ... ) [ الفتح : 29 ] .
وذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد في سورة الأنعام ( وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نشاء إنَّ ربَّك حكيم عليمٌ – ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذُريَّته داود وسليمان وأيُّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين – وزكريَّا ويحى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصَّالحين – وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضَّلنا على العالمين ) [ الأنعام : 83-86 ] .
أربعة من العرب :
من هؤلاء الخمسة والعشرين أربعة من العرب ، فقد جاء في حديث أبي ذر في ذكر الأنبياء والمرسلين : " منهم أربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر" (2) .
(1/7)
________________________________________
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل : العرب العاربة ، وأمّا العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل (3) ، وهود وصالح كانا من العرب العاربة .
الأسباط :
الأنبياء الذين سبق ذكرهم مذكورون في القرآن بأسمائهم ، وهنا بعض الأنبياء أشار القرآن إلى نبوتهم ، ولكننا لا نعرف أسماءهم ، وهم الأسباط ، والأسباط هم أولاد يعقوب ، وقد كانوا اثني عشر رجلاً عرّفنا القرآن باسم واحد منهم وهو يوسف ، والباقي وعددهم أحد عشر رجلاً لم يعرفنا الله بأسمائهم ، ولكنه أخبرنا بأنّه أوحى إليهم ، قال تعالى : ( قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) [ البقرة : 136 ] .
وقال : ( أم تقولون إنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى .. ) [ البقرة : 140 ] .
المطلب الثالث
أنبياء عرفناهم من السنّة
هناك أنبياء عرفناهم من السنة ، ولم ينصّ القرآن على أسمائهم ، وهم :
1- شيث :
يقول ابن كثير : " وكان نبيّاً بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة " (4) .
2- يوشع بن نون :
روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غزا نبيٌّ من الأنبياء ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبني بها ، ولمّا يبنِ ، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها ، قال : فغزا ، فأدنى للقرية حين صلاةِ العصر ، أو قريباً من ذلك ، فقال للشمس: أنت مأمورة ، وأنا مأمور ، اللهمَّ احبسها عليَّ شيئاً ، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه " (5) .
والدليل على أنَّ هذا النبيّ هو يوشع قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " (6) .
المطلب الرابع
صالحون مشكوكٌ في نبوتهم
1- ذو القرنين :
(1/8)
________________________________________
ذكر الله خبر ذي القرنين في آخر سورة الكهف ، ومما أخبر الله به عنه أنه خاطبه ( قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً ) [ الكهف : 86 ] .
فهل كان هذا الخطاب بواسطة نبيّ كان معه ، أو كان هو نبيّاً ؟ جزم الفخر الرازي بنبوته (7) ، وقال ابن حجر : " وهذا مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو ، وعليه ظاهر القرآن " (8) ومن الذين نفوا نبوته عليُّ بن أبي طالب (9) .
2- تبع :
ورد ذكر تبع في القرآن الكريم ، قال تعالى : ( أهم خير أم قوم تُبَّعٍ والَّذين من قبلهم أهلكناهم إنَّهم كانوا مجرمين ) [ الدخان : 37 ] ، وقال : ( كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرَّس وثمود – وعادٌ وفرعون وإخوان لوطٍ – وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّعٍ كلٌّ كذَّب الرُّسل فحقَّ وعيد ) [ ق : 12-14 ] ، فهل كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه فكذبوه فأهلكهم الله ؟ الله أعلم بذلك .
الأفضل التوقف في أمر ذي القرنين وتُبّع :
والأفضل أن يتوقف في إثبات النبوة لهذين ، لأنه صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أدري أتُبّع نبيّاً أم لا ، وما أدري ذا القرين نبياً أم لا " (10) . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري ، فنحن أحرى بأن لا ندري .
3- الخضر :
الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علماً ، وقد حدثنا الله عن خبرهما في سورة الكهف .
وسياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه (11) :
أحدها : قوله تعالى : ( فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلَّمناه من لَّدُنَّا علماً ) [ الكهف : 65 ] ، والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمة النبوة ، وهذا العلم هو ما يوحى إليه به من قبل الله .
(1/9)
________________________________________
الثاني : قول موسى له : ( هل أتَّبعك على أن تعلمن ممَّا عُلمت رُشداً – قال إنَّك لن تستطيع معي صبراً – وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً – قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى لك أمراً – قال فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتَّى أُحدث لك منه ذكراً ) [ الكهف : 66-70 ] فلو كان غير نبيّ لم يكون معصوماً ، ولم يكن لموسى – وهو نبيٌّ عظيم ، ورسول كريم ، واجب العصمة – كبيرُ رغبةٍ ، ولا عظيم طلبة في علم وَليَّ غير واجب العصمة ، ولما عزم على الذهاب إليه ، والتفتيش عنه ، ولو أنَّه يمضي حقباً من الزمان ، قيل : ثمانين سنة ، ثمَّ لما اجتمع به ، تواضع له ، وعظّمه ، واتبعه في صورة مستفيد منه ، دلّ على أنه نبيٌّ مثله ، يوحى إليه كما يوحى إليه ، وقد خصّ من العلوم اللدنيَّة والأسرار النبويَّة بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم ، نبيّ بني إسرائيل الكريم .
الثالث : أنّ الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام ، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام ، وهذا دليل مستقلٌّ على نبوتَّه ، وبرهان ظاهر على عصمته (12) ، لأنَّ الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده ، لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة ، إذ يجوز الخطأ عليه بالاتفاق ، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علماً منه بأنّه إذا بلغ يكفر ، ويحمل أبويه على الكفر لشّدة محبتهما له ، فيتابعانه عليه ، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دلّ ذلك على نبوته وأنّه مؤيد من الله بعصمته .
الرابع : أنّه لمَّا فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى ، ووضح له عن حقيقة أمره وجلاَّه ، قال بعد ذلك كلّه : ( رحمةً من رَّبك وما فعلته عن أمري ) [ الكهف : 82 ] ، يعني ما فعلته من تلقاء نفسي ، بل أمرت به ، وأوحي إليّ فيه (13) .
المطلب الخامس
لا نثبت النبوة لأحد إلاّ بدليل
(1/10)
________________________________________
يذكر علماء التفسير والسير أسماء كثير من الأنبياء نقلاً عن بني إسرائيل ، أو اعتماداً على أقوال لم تثبت صحتها ، فإن خالفت هذه النقول شيئاً مما ثبت عندنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم رفضناها ، كقول الذين قالوا : " إنَّ الرسل ثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى ، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى " (14) .
نردّ هذّا كله ، لأنَّه ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى ابن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ (15) . ، فالرسل المذكورون في آية سورة يس إما رسل بعثوا قبل عيسى ، وهذا هو الراجح ، أو هم – كما يقول بعض المفسرين – مبعوثون من قبل عيسى وهذا بعيد ، لأ، الله أخبر أنّه مرسلهم ، والرسول عند الإطلاق ينصرف إلى الاصطلاح المعروف ، وما ورد من أنَّ خالد بن سنان نبي عربي ضيعه قومه فهو حديث لا يصحُّ ، وهو مخالف لحديث صحيح أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنَّ عدد الأنبياء الذين من العرب أربعة (16) .
أما ما ورد عن بني إسرائيل من أخبار بتسمية بعض الأنبياء مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة ، فلا نكذَّبه ، ولا نصدّق به ، لأنَّ خبرهم يحتمل الصدق والكذب .
--------------------------------
(1/11)
________________________________________
(1) عزاه التبريزي في مشكاة المصابيح : (3/122) إلى أحمد في مسنده ، وقد حكم الألباني عليه بالصحة ، وقد أطال الشيخ الألباني الكلام في تخريجه من كتب السنة ، وبيان أسانيده في كتب السنن وأقوال العلماء فيه في ( سلسلة الصحيحة : ورقمها فيها (2668) وقال مجملاً القول فيه : " وجملة القول : إن عدد الرسل المذكورين في حديث الترجمة صحيح لذاته ، وأن عدد الأنبياء المذكورين في أحد طرقه ، وفي حديث أبي ذر من ثلاث طرق ، فهو صحيح لغيره " وانظر الحديث في مسند أحمد برقم : (21546 ، 21552 ، 22288) طبعة مؤسسة الرسالة ، فقد حكم الشيخ شعيب الأرنؤوط على طرقه وأسانيده بالضعف .
(2) رواه ابن حبان في صحيحه : 2/76 (361) ، وقال الشيخ شعيب : إسناده ضعيف جداً " صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان " طبعة مؤسسة الرسالة ، البداية والنهاية : (1/120) .
(3) البداية والنهاية : (1/119-120) .
(4) البداية والنهاية : (1/99) .
(5) رواه البخاري : 3124 ، ومسلم : 1747 ، واللفظ لمسلم .
(6) قال ابن كثير في البداية والنهاية : (1/323) انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري . وهو في " مسند أحمد" 14/65(8315) طبعة مؤسسة الرسالة .
(7) فتح الباري : (6/382) .
(8) المصدر السابق .
(9) هذا الأثر أخرجه الحاكم عن علي ، وقال : سنده صحيح ، انظر فتح الباري : (6/382) .
(10) رواه الحاكم والبيهقي : ( انظر صحيح الجامع الصغير : (5/121) .
(11) ذكر هذه الوجوه ابن كثير في البداية والنهاية : (1/326) .
(1/12)
________________________________________
(12) ضلَّ أقوام من هذه الأمة إذ ينتكهون الحرمات ، ويرتكبون المنهيات ، فإذا أنكر عليهم منكر ، قالوا : حقيقة الأمر الخافية غير المظهرة البائنة ، ويحتجون على ذلك بقصة الخضر ، وإفساده للسفينة ، وقتله للغلام ، وهذا ضلال كبير ، يفتح باب الشر ولا يستطاع إغلاقه بعد ذلك ، والقول بنبوة الخضر يغلق هذا الباب ، ثمَّ ليس لأحد من هذه الأمة أن يخالف الشريعة الإسلامية ، فالحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرّمه الله ، فمن رام خلاف الشريعة عوقب معاقبة المخالف ، وإن زعم ما زعم . ومما ينبغي التنبيه إليه أن موسى صاحب شريعة لم يكن له أن يخالفها ، ولذلك أنكر على الخضر قتله الغلام ، لأنّه محرم في شريعته ، ومن هنا اختار فراقه ، والعودة إلى قومه .
(1/13)
________________________________________
(13) ذهب جمع كثير من العلماء إلى أن الخضر حي لم يمت ، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة ، وقد فتح القول بحياته باباً للخرافة والدجل ، فأخذ كثير من الناس يزعم أنّهم قابلوا الخضر ، وأنّه وصّاهم بوصايا ، وأمرهم بأوامر ، ويروون في ذلك حكايات غريبة ، وأخباراً يأباها العقل السليم. وقد ذهب إلى تضعيف هذه الأخبار جمع من كبار المحدثين منهم البخاري ، وابن دحية ، وابن كثير ، وابن حجر العسقلاني ، وأقوى ما يردُّ به على هؤلاء القائلين بحياته أنه لم يصح في ذلك حديث ، وأنو لو كان حياً لكان فرض عليه أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتابعه وينصره ، فقد أخذ الله العهد على الأنبياء من قبل بالإيمان بمحمد ونصرته إذا أدركه زمانه ( وإذ أخذ الله ميثاق النَّبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثُمَّ جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهدين ) [ آل عمران : 81 ] ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعه . وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس ، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال أحمد : من أحال على غائب لم ينصف منه ، وما ألقى هذا إلا الشيطان . ( مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/337 ) . وسُئل البخاري عن الخضر وإلياس : هل هما في الأحياء ؟ فقال : كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد"( مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/337) . وقد أطال جماعة من محققي العلماء في إيراد الأدلة المبطلة لهذه الخرافة ، منهم ابن كثير في البداية والنهاية (1/326) والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (4/184) ، وقد ألف ابن حجر العسقلاني رسالة في ذلك سمّاها : الزهر النضر في نبأ الخضر ، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية : 2/195 .
(1/14)
________________________________________
(14) فتح الباري : (6/489) .
(15) حديث صحيح رواه البخاري : (3442) ومسلم : (2365) ونصه : " ليس بيني وبينه نبي " .
(16) رواه ابن حبان في صحيحه : 2/76(361) .
حَاجة البشريّة إلى الرّسُل والرّسَالات
تمهيد :
إذا كان الناس في القديم يجادلون الرسل ، ويرفضون علومهم ، ويعرضون عنهم فإن البشر اليوم في القرن العشرين – حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي ، فغاصت في أعماق البحار ، وانطلقت بعيداً في أجواز الفضاء ، وفجرت الذرة ، وكشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود – أشدُّ جدالاً للرسل ، وأكثر رفضاً لعلومهم ، وأعظم إعراضاً عنهم ، وحال البشر اليوم من الرسل وتعاليمهم كحال الحمر المستنفرة حين ترى الأسد فتفرّ لا تلوي على شيء ، قال تعالى : ( فما لهم عن التَّذكرة معرضين – كأنَّهم حمرٌ مُّستنفرةٌ – فرَّت من قسورة ) [ المدثر : 49-51 ] .
والبشر – اليوم – يأبون أكثر من قبل التسليم للرسل وتعاليمهم اغتراراً بعلومهم ، واستكباراً عن متابعة رجال عاشوا في عصور متقدمة على عصورهم ( ذلك بأنَّه كانت تَّأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولَّوا واستغنى الله والله غنيٌّ حميدٌ ) [ التغابن : 6 ] .
واليوم ينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعة الله ، ورفض تعاليم الرسل ، بحجة أنَّ في شريعة الله حجراً على عقولهم ، وتوقيفاً لركب الحياة ، وتجميداً للحضارة والرقي ّ ، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل ، بل إنَّ بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستورياً ، وهو الذي يسمى بالعلمانية ، وكثير من الدول التي تتحكم في رقاب المسلمين تسير على هذا النهج ، وقد ترضى عوامّ الناس بأن تضع مادة في دستورها تقول : دين الدولة الإسلام ، ثمَّ تهدم هذه المادة بالموادّ السابقة واللاحقة ، والتشريعات التي تحكم العباد .
(1/15)
________________________________________
فهل صحيح أنَّ البشرية بلغت – اليوم – مبلغاً يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل ؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل ؟
يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين – لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم ، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً ، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً .
لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية – اليوم – سمة العالم المتحضر ، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته ، خسر نفسه ، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون ، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين ، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها ، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم ، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه ، وتقوده الانحرافات والضياع ، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي ، إن الذين يسمّون – اليوم – بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم ، حضارتهم تقتلهم ، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد ، وتفرق المجتمعات ، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد .
إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا ، وإنارة نفوسنا ، وهداية عقولنا ... ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة ، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة .
نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المسنقع الآسن .
ابن القيم يبين مدى الحاجة إلى الرسل :
يقول ابن القيم مبيناً حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم :
(1/16)
________________________________________
" ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول ، وما جاء به ، وتصديقه فيما أخبر به ، وطاعته فيما أمر ، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم ، ولا يُنال رضا الله ألبتة إلاّ على أيديهم ، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاّ هديهم وما جاؤوا به ، فهم الميزان الراجح ، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال ، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال ، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه ، والعين إلى نورها ، والروح إلى حياتها ، فأيّ ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير .
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك ، وصار كالحوت إذا فارق الماء ، ووضع في المقلاة ، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال ، بل أعظم ، ولكن لا يحسُّ بهذا إلاّ قلبٌّ حيٌّ .
ما لجرح بميت إيلام (1)
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه ، وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين ، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ، والناس في هذا بين مستقلٍّ ، ومستكثر ، ومحروم ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو فضل عظيم " (2) .
ابن تيمية يبين الحاجة إلى الرسل والرسالات :
(1/17)
________________________________________
وممن جلى هذه المسألة وبينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال : " الرسالة ضرورية للعباد ، لا بدَّ لهم منها ، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته ، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة ، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة ، وهو من الأموات ، قال الله تعالى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كمن مَّثله في الظُّلمات ليس بخارجٍ منها ) [ الأنعام : 122 ] ، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل ، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان ، وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات " .
وبين رحمه الله تعالى : " أن الله سمّى رسالته روحاً ، والروح إذا عدم فقدت الحياة ، قال الله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا ) [ الشورى : 52 ] ، فذكر هنا الأصلين ، وهما : الروح ، والنور ، فالروح الحياة ، والنور النور " وبين رحمه الله تعالى :" أن الله يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونوراً لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض ، وبالنَّار التي يحصل بها النور ، وهذا كما في قوله تعالى : ( أنزل من السَّماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السَّيل زبداً رَّابياً وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً وأمَّا ما ينفع النَّاس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) [ الرعد : 17 ] .
(1/18)
________________________________________
يقول شيخ الإسلام رحمه الله معقباً على الآية : " فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب ، كما أنَّ بالماء حياة الأبدان ، وشبّه القلوب بالأودية ، لأنّها محلّ العلم ، كما أنَّ الأودية محل الماء ، فقلب يسع علماً كثيراً ، وواد يسع ماءً كثيراً ، وقلب يسع علماً قليلاً ، وواد يسع ماءً قليلاً ، وأخبر تعالى أنَّه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء ، وأنّه يذهب جفاءً ، أي : يرمى به ، ويخفى ، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر ، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات ، ثم تذهب جفاءً ، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس ، وقال : ( وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل ) [ الرعد : 17 ] . فهذا المثل الآخر وهو الناري ، فالأول للحياة ، والثاني للضياء .
وبين رحمه الله أن لهذين المثالين نظيراً " وهما المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الَّذي استوقد ناراً فلمَّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون – صمُّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون – أو كصيبٍ من السَّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ) [ البقرة : 17-19 ] .
وبعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله وصف المؤمن ، بين وصف الكافر ، فقال : " وأمّا الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حيّ ، وإن كانت حياته حياة بهيمية ، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان ، وبها حصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، فإنّ الله – سبحانه – جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم ، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم ، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه ، وبيان حالهم بعد الوصول إليه " .
(1/19)
________________________________________
ثم بيّن رحمه الله هذه الأصول التي أشار إليها هنا فقال : " فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر ، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه ، وهي القصص التي قصّها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم .
والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة ، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه . والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر ، والجنّة والنار والثواب والعقاب " .
ثم بيّن أنَّ " على هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر ، والسعادة والفلاح موقوفة عليها ، ولا سبيل إلى معرفتها إلاّ من جهة الرسل ، فإنَّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها ، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة ، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض ، وتنزيل الدواء عليه " (3) .
مقارنة بين حاجة العباد إلى علم الرسل وعلم الطب :
عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (( مفتاح دار السعادة )) مقارنة بيّن فيها أنّ حاجة الناس إلى الشريعة أعظم من حاجتهم إلى علم الطب مع شدّة حاجة الناس إليه لصلاح أبدانهم ، فحاجتهم إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى غيرها من العلوم ، قال : " حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية ، فوق حاجتهم إلى كل شيء ، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها ، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة ، وأمَّا أهل البدو كلهم ، وأهل الكفور كلّهم ، وعامة بني آدم – لا يحتاجون إلى طبيب ، وهم أصحُّ أبدانا ، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب ، ولعّل أعمارهم متقاربة ، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم ، واجتناب ما يضرهم ، وجعل لكلّ قوم عادة وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء ، حتى إنَّ كثيراً من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس ، وعرفهم وتجاربهم .
(1/20)
________________________________________
وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية ، فمبناها على الوحي المحض ، والحاجة إلى التنفس فضلاً عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن ، وتعطل الروح عنه ، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة ، وهلاك الأبد ، وشتان بني هذا وهلاك البدن بالموت ، فليس النّاس قطّ إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به ، والدعوة إليه ، والصبر عليه ، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه ، وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة ، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاّ بالعبور على هذا الجسم " (4) .
هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي :
يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها ، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين ، ويحلُّون ويحرمون ، ويخططون ويوجهون ، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه ، وترضى به أو ترفضه ، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه " فالبراهمة – وهم طائفة من المجوس – زعموا أن إرسال الرسل عبث ، لا يليق بالحكيم ، لإغناء العقل عن الرسل ، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقاً للعقل حسناً عنده فهو يفعله ، وإن لم يأت به ، وإن كان مخالفاً قبيحاً – فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه " (5) .
ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح ، " فإنّ الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح ، وركب في عقولهم إدراك ذلك ، والتمييز بين النوعين ، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر ، وركب في حواسهم إدراك ذلك ، والتمييز بين أنواعه .
(1/21)
________________________________________
والفطرة الأولى : ( وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح ) هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات ، وأما الفطرة الثانية ( وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار .. ) فمشتركة بين أصناف الحيوان " (6) والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور :
الأول : أنّ هناك أموراً هي مصلحة الإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها بمجرد عقله ، لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته ، " فمن أين للعقل معرفة الله – تعالى – بأسمائه وصفاته ..؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده ؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه ، وما أعدّ لأوليائه ، وما أعدّ لأعدائه ، ومقادير الثواب والعقاب ، وكيفيتهما ، ودرجاتهما ؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يُظهِر اللهُ عليه أحداً من خلقه إلاّ من ارتضاه من رسله إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل ، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته " (7) .
الثاني : أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال ، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع ، وإن أدركت التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكاً كلياً شاملاً : " فالعقل يدرك حسن العدل ، وأما كون هذا الفعل المعين عدلاً أو ظلماً فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كلّ فعل وعقد " (8) .
الثالث : أن العقول قد تحار في الفعل الواحد ، فقد يكون الفعل مشتملاً على مصلحة ومفسدة ، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أو مصلحته ، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع بيان ذلك ، وتأمر براجح المصلحة ، وتنهى عن راجح المفسدة ، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره ، والعقل لا يدرك ذلك ، وتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له ، وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقّه ، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر ، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل ، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة ، والمفسدة الراجحة " (9) .
(1/22)
________________________________________
وفي هذا يقول ابن تيمية : " الأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته ، ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه ، فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول " (10) .
الرابع : ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحاً ، فإنه ليس إلا فرضيات ، قد تجرفها الآراء المتناقضة ، والمذاهب الملحدة .
ولو استطاعت البقاء فإنها – في غيبة الوحي – ستكون تخمينات شتى ، يلتبس فيها الحق بالباطل .
بطلان قول البراهمة :
والبراهمة الذين يزعمون أنّ العقل يغني عن الوحي لا نحتاج إلى إيراد الحجج لإبطال قولهم ، وكل ما نفعله أن نوجه الأنظار إلى ما قادتهم إليه عقولهم التي زعموا أنهم يستغنون بها عن الوحي ، هذا زعيم من زعمائهم في القرن العشرين يقول مفاخراً (11) :" عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً ، لأني أعبد البقرة ، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع " . ولقد قاده عقله إلى تفضيل أمّه البقرة على أمّه التي ولدته : " وأمي البقرة تفضل أمّي الحقيقية من عدة وجوه ، فالأمّ الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين ، وتتطلب منّا خدمات طول العمر نظير هذا ، ولكنّ أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ، ولا تطلب منّا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي .. " ومضى عابد البقر يقارن بين أمّه البقرة وأمّه الحقيقية مورداً الحجج والبراهين على أفضلية أمّه البقرة على أمّه الحقيقية إلى أن قال : " إنّ ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال ، وأنا أعدّ نفسي واحداً من هؤلاء الملايين " .
وقد قرأت منذ مدة في مجلة العربي التي تصدر في الكويت عن معبد فخم مكسو بالرخام الأبيض ترسل إليه الهدايا والألطاف – من شتى أنحاء الهند ، بقي أن تعلم أنّ الآلهة التي تقدم لها القرابين وترسل لها النذور في ذلك المعبد الفخم إنّما هي الفئران .
هذه بعض الترهات التي هدتهم إليها عقولهم التي زعموا أنّ فيها غنية عن الوحي الإلهي .
مجالات العقل :
(1/23)
________________________________________
إن الذين يريدون أن يستغنوا عن الوحي بالعقل يظلمون العقل ظلماً كبيراً ، ويبددون طاقة العقل في غير مجالها ، " إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته ، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب ، وحالفه الشطط والتخبط ، وإذا أجري في غير ميدانه كبا وتعثر ، وإذا كلف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال .
إن العالم المادي المحسوس أو عالم الطبيعة هو ميدان العقل الفسيح الذي يصول فيه ويجول ، فيستخرج مكنوناته ، ويربط بين أسبابه وعلله ، ومقدماته ونتائجه ، فيكشف ويخترع ، ويتبحّر في العلوم النافعة في مختلف ميادين الحياة ، وتسير عجلة التقدم البشري إلى أمام .
أما إذا كلف النظر خارج اختصاصه أعني ما وراء الطبيعة فإنه يرجع بعد طول البحث والعناء بما لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً ، بل يرجع بسخافات وشطحات " (12) .
موقع العقل من الوحي :
يزعم كثير من الناس أن الوحي يلغي العقل ويطمس نوره ، ويورثه البلادة والخمول، وهذا زعم كاذب ، ليس له من الصحة نصيب ، فالوحي الإلهي وجّه العقول إلى النظر في الكون والتدبر فيه ، وحث الإنسان على استعمار هذه الأرض ، واستثمارها ، وفي مجال العلوم المنزلة من الله وظيفة العقل أن ينظر فيها ، ليستوثق من صحة نسبتها إلى الله تعالى ، فإن تبين له صحة ذلك فعليه أن يستوعب وحي الله إليه ، ويستخدم العقل الذي وهبه الله إياه في فهم وتدبر الوحي ، ثم يجتهد في التطبيق والتنفيذ .
والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين ، فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله ، كما أنّ المبصر لا ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة ، فإذا أشرقت الشمس ، وانتشر ضوؤها انتفع بناظريه ، وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت ( فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصُّدور ) [ الحج : 46 ] .
--------------------------------
(1) عجز بيت للمتنبي وصدره :
من يهن يسهل الهوان عليه
(1/24)
________________________________________
وهو في ديوانه : 4/277 من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري الخراساني .
(2) زاد المعاد : (1/15) .
(3) النصوص السابقة من هذا الحديث منقولة من مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/93-96 .
(4) مفتاح دار السعادة : (2/2) .
(5) لوامع الأنوار البهية : (2/256) .
(6) مفتاح دار السعادة : 2/116 .
(7) مفتاح دار السعادة : 2/117 .
(8) مفتاح دار السعادة : 2/117 .
(9) مفتاح دار السعادة : 2/117 .
(10) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 2/312 .
(11) هو زعيم الهند غاندي ، انظر أقواله في كتاب مقارنة الأديان : 4/32 ( نظرات في النبوة ص 27 ) .
(12) نظرات في النبوة : ص17 .
وظائف الرّسّل ومهمّاتهم
لقد بين لنا القرآن الكريم والسنة النبوية مهمّة الرسل ووظائفهم ، وسنحاول أن نبين ذلك فيما يأتي .
البلاغ المبين
الرسل سفراء الله إلى عباده ، وحملة وحيه ، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحملوها إلى عباد الله : ( يا أيَّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من رَّبك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] ، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم خشية الناس ، وهو يبلغهم ما يخالف معتقداتهم ، ويأمرهم بما يستنكرونه ، وينهاهم عمّا ألفوه ، ( الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله ) [ الأحزاب : 39 ] .
والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) [ العنكبوت : 45 ] ، ( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ) [ البقرة : 151 ] ، فإذا كان الموحى به ليس نصاً يتلى ، فيكون البلاغ ببيان الأوامر والنواهي والمعاني والعلوم التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير .
(1/25)
________________________________________
ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزله الله لعباده ، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه ، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه ، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنَّاس ما نزل إليهم ولعلَّهم يتفكَّرون ) [ النحل : 44 ] .
والبيان من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول ، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أموراً كثيرة استشكلها أصحابه ، كما بين المراد من الظلم في قوله تعالى : ( الَّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مُّهتدون ) [ الأنعام : 82 ] ، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن المراد به الشرك ، لا ظلم النفس بالذنوب .
وكما بيّن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الآيات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله .
وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل ، فقد كانت أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والصدقة والحج وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرآنية.
وعندما يتولى الناس ، ويعرضون عن دعوة الرسل ، فإن الرسل لا يملكون غير البلاغ ( وَّإن تولَّوا فإنَّما عليك البلاغ ) [ آل عمران : 20 ] .
الدّعوة إلى الله
(1/26)
________________________________________
لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه ، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم ، والاستجابة لها ، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً ، وهم في ذلك ينطلقون من منطلق واحد ، فهم يقولون للناس : أنتم عباد الله ، والله ربكم وإلهكم ، والله أرسلنا لنعرفكم كيف تعبدونه ، ولأننا رسل الله مبعوثون من عنده ، فيجب عليكم أن تطيعونا وتتبعونا ، ( ولقد بعثنا في كل أمَّةٍ رَّسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطَّاغوت ) [ النحل : 36 ] . ( وما أرسلنا من قبلك من رَّسولٍ إلاَّ نوحي إليه أنَّه لا إله إلاَّ أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] . وكل رسول قال لقومه : ( فاتَّقوا الله وأطيعون ) [ الشعراء : 108 ، 126 ، 144 ، 150 ، 163 ، 179 ] .
وقد بذل الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة ، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً ، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وحاول أن يفتح عقولهم ، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات ، ولكنهم أعرضوا ، ( قال نوحٌ رَّب إنَّهم عصوني واتَّبعوا من لَّم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً ) [ نوح : 21 ] .
مثال يوضح دور الرسل :
(1/27)
________________________________________
وقد ضربت الملائكة للرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً يوضح دوره ، ويبين وظيفته، فعن جابر بن عبد الله قال : " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمةٌ والقلبَ يقظانُ ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلاً ، قال : فاضربوا له مثلاً . فقال بعضهم : إنه نائمٌ ، وقال بعضهم : إن العينَ نائمةٌ والقلب يقظان ، فقالوا : مَثَلُهُ كمثل رجل بنى داراً وجَعَلَ فيها مأدُبة وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعيَ دخلَ الدارَ وأكلَ من المأدبة ، ومن لم يجبِ الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة . فقالوا : أولوها له يفقهها ، فقال بعضهم : إنه نائمٌ ، وقال بعضهم : إن العينَ نائمةٌ والقلبَ يقظانُ ، فقالوا : فالدارُ الجنة والداعي محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، فمن أطاعَ محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاعَ الله ، ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله ، ومحمدٌ فرق بين الناس " (1) .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري : 7281 .
التبشير والإنذار
ودعوة الرسل إلى الله تقترن دائماً بالتبشير والإنذار ، ولأنَّ ارتباط الدعوة إلى الله بالتبشير والإنذار وثيق جداً فقد قصر القرآن مهمة الرسل عليهما في بعض آياته ( وما نرسل المرسلين إلاَّ مبشرين ومنذرين ) [ الكهف : 56 ] ، وقد ضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – لنفسه مثلاً في هذا ، فقال : " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قوماً ، فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعينيَّ ، وإني أنا النذير العُريان ، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا ، وكذَّبته طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني ، فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق " (1) .
(1/28)
________________________________________
وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي ، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة ، ( من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّهُ حياةً طيبةً ) [ النحل : 97 ] . ( فمن اتَّبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى ) [ طه : 123 ] ، ويعدونهم بالعزّ والتمكين والأمن ( وعد الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الَّذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الَّذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) [ النور : 55 ] .
ويخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي ( ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ) [ طه : 124 ] ويحذرونهم العذاب والهلاك الدنيوي ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود ) [ فصلت : 13 ] ، وفي الآخرة يبشرون الطائعين بالجنة ونعيمها ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) [ النساء : 13 ] .
ويخوفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة ، ( ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مُّهينٌ ) [ النساء : 14 ] .
(1/29)
________________________________________
ومن يطالع دعوات الرسل يجد أنّ دعوتهم قد اصطبغت بالتبشير والإنذار ، ويبدو أنّ التبشير والإنذار على النحو الذي جاءت به الرسل هو مفتاح النفس الإنسانية ، فالنفس الإنسانية مطبوعة على طلب الخير لذاتها ، ودفع الشر عنها ، فإذا بصّر الرسل النفوس بالخير العظيم الذي يحصِّلونه من وراء الإيمان والأعمال الصالحة فإن النفوس تشتاق إلى تحصيل ذلك الخير ، وعندما تُبيَّن لها الأضرار العظيمة التي تصيب الإنسان من وراء الكفر والضلال فإنّ النفوس تهرب من هذه الأعمال ، ونعيم الله المبشر به نعيم يستعذبه القلب ، وتلذُّه النفس ، ويهيم به الخيال ، اسمع إلى قوله تعالى يصف نعيم المؤمنين في جنات النعيم: ( على سررٍ مَّوضونةٍ – مُّتَّكئين عليها متقابلين – يطوف عليهم ولدانٌ مُّخلدون – بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من مَّعينٍ – لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون – وفاكهةٍ ممَّا يتخيَّرون – ولحم طيرٍ ممَّا يشتهون – وحور عينٌ – كأمثال اللؤلؤ المكنون – جزاء بما كانوا يعملون – لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً – إلاَّ قيلاً سلاماً سلاماً – وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين – في سدرٍ مَّخضودٍ – وطلحٍ منضودٍ – وظلٍ مَّمدودٍ – وماءٍ مَّسكوبٍ – وفاكهةٍ كثيرةٍ – لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ – وفرشٍ مَّرفوعةٍ – إنَّا أنشأناهن إنشاءً – فجعلناهنَّ أبكاراً – عرباً أتراباً – لأصحاب اليمين ) [ الواقعة : 15-38 ] .
وانظر إلى عذاب الكفرة في دار الشقاء ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال – في سمومٍ وحميمٍ – وظلٍ من يحمومٍ – لا باردٍ ولا كريمٍ – إنَّهم كانوا قبل ذلك مترفين ) [ الواقعة : 41-45 ] ( ثمَّ إنَّكم أيُّها الضَّالُّون المكذبون – لآكلون من شجرٍ من زقُّومٍ – فمالؤون منها البطون – فشاربون عليه من الحميم – فشاربون شرب الهيم – هذا نزلهم يوم الدين ) [ الواقعة : 51-56 ] .
(1/30)
________________________________________
وحسبك أن تطالع كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري وتقرأ منه على إخوانك ومن تدعوهم إلى الله ، ثم انظر أثر هذا في نفسك وفي نفوس السامعين .
إن بعض الذين لم يفقهوا دعوة الإسلام يعيبون على دعاة الإسلام أخذهم بالإنذار والتبشير ، ويقولون : فلان واعظ ، ويعيبون عليهم عدم فلسفتهم للأمور التي يدعون إليها، ويطالبون الدعاة بالكف عن طريقة الوعظ وتخويف النّاس وترغيبهم ، وهؤلاء بحاجة إلى أن يراجعوا أنفسهم ، وينظروا في موقفهم هذا ، في ضوء نصوص القرآن وأحاديث الرسول التي تبين أسلوب الدعوة ، وتوضيح مهمة الرسل الكرام .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري : 7283 ، وصحيح مسلم : 2283 .
إصلاح النفوس وتزكيتها
الله رحيم بعباده ، ومن رحمته أن يحي نفوسهم بوحيه ، وينيرها بنوره ، ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا ) [ الشورى : 52 ] .
والله يخرج الناس بهذا الوحي الإلهي من الظلمات إلى النور ، ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإسلام والحق : ( الله وليُّ الَّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النُّور ) [ البقرة : 257 ] ، وقد أرسل اللهُ رسله بهديه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النُّور ) [ إبراهيم : 5] ، وبدون هذا النور تعمى القلوب ( فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الَّتي في الصُّدور ) [ الحج : 46 ] ، وعماها ضلالها عن الحق ، وتركها لما ينفعها وإقبالها على ما يضرها ( ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرُّهم ) [ الفرقان : 55 ] .
(1/31)
________________________________________
وإخراج الرسل الناس من الظلمات إلى النور لا يتحقق إلاّ بتعليمهم تعاليم ربهم وتزكية نفوسهم بتعريفهم بربهم وأسمائه وصفاته ، وتعريفهم بملائكته وكتبه ورسله ، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم ، ودلالتهم على السبيل التي توصلهم إلى محبته ، وتعريفهم بعبادته ( هو الَّذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مُّبينٍ ) [ الجمعة : 2 ] ( رَّبنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ) [ البقرة : 129 ] .
تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة
كان الناس في أول الخلق على الفطرة السليمة ، يعبدون الله وحده ، ولا يشركون به أحداً ، فلمّا تفرقوا واختلفوا أرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى جادة الصواب ، وينتشلوهم من الضلال ، ( كان النَّاس أمَّةً واحدةً فبعث الله النَّبِيِّينَ مبشرين ومنذرين ) [البقرة : 213] .
أي : كان الناس أمّة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله فاختلفوا فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وقد كان كلُّ رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم ، ويبينه لهم ويهديهم إليه ، وهذا أمر متفق عليه بين الرسل جميعاً ، ثم كُلُّ رسول يقوِّم الانحراف الحادث في عصره ومصره ، فالانحراف عن الصراط المستقيم لا يحصره ضابط وهو يتمثل في أشكال مختلفة ، وكلُّ رسول يُعنى بتقويم الانحراف الموجود في عصره ، فنوح أنكر على قومه عبادة الأصنام ، وكذلك إبراهيم ، وهود أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبّر فيها ، وصالح أنكر عليهم الإفساد في الأرض واتباع المفسدين ، ولوط حارب جريمة اللواط التي استشرت في قومه ، وشعيب قاوم في قومه جريمة التطفيف في الميكال والميزان ، وهكذا ، فكل هذه الجرائم وغيرها التي ارتكبتها الأمم خروج عن الصراط المستقيم وانحراف عنه ، والرّسل يبينون هذا الصراط ويحاربون الخروج عليه بأيّ شكل من الأشكال كان .
إقامة الحجّة
(1/32)
________________________________________
لا أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى ، فالله جلّ وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب كي لا يبقى للناس حجّة في يوم القيامة ، ( رُّسلاً مُّبشرين ومنذرين لئلاَّ يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسل ) [ النساء : 165 ] ، ولو لم يرسل الله إلى الناس لجاؤوا يوم القيامة يخاصمون الله – جل وعلا – ويقولون : كيف تعذبنا وتدخلنا النار ، وأنت لم ترسل إلينا من يبلغنا مرادك منّا ، كما قال تعالى : ( ولو أنَّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبَّع آياتك من قبل أن نَّذلَّ ونخزى ) [ طه : 134 ] ، أي : لو أهلكهم الله بعذاب جزاء كفرهم قبل أن يرسل إليهم رسولاً لقالوا : هلا أرسلت إلينا رسولا كي نعرف مرادك ، ونتبع آياتك ، ونسير على النهج الذي تريد ؟
وفي يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين يأتي الله لكل أمة برسولها ليشهد عليها بأنّه بلغها رسالة ربه ، وأقام عليها الحجّة ( فكيف إذا جئنا من كل أمَّة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً – يومئذٍ يودُّ الَّذين كفروا وعصوا الرَّسول لو تُسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ) [ النساء : 41-42 ] .
وقال في آية أخرى : ( ويوم نبعث في كل أمَّةٍ شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ) [ النحل : 89 ] .
ولذلك فإن الذين يرفضون اتبّاع الرسل ، ويعرضون عن هديهم – لا يملكون إلاّ الاعتراف بظلمهم إذا وقع بهم العذاب في الدنيا ( وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً وأنشأنا بعدها قوماً آخرين – فلمَّا أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يركضون – لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلَّكم تسألون – قالوا يا ويلنا إنَّا كنَّا ظالمين – فما زالت تلك دعواهم حتَّى جعلناهم حصيداً خامدين ) [ الأنبياء : 11-15 ] .
(1/33)
________________________________________
وفي يوم القيامة عندما يساقون إلى المصير الرهيب ، وقبل أن يلقوا في الجحيم يسألون عن ذنبهم فيعترفون ( تكاد تميَّز من الغيظ كلَّما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيرٌ – قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم إلاَّ في ضلالٍ كبيرٍ – وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السَّعير – فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السَّعير ) [ الملك : 8-11 ] .
وعندما يضجّون في النَّار بعد أن يُحيط بهم العذاب من كل جانب ، وينادون ويصرخون تقول لهم خزنة النار : ( أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلالٍ ) [ غافر : 50 ] .
سياسة الأمة
الذين يستجيبون للرسل يُكونّون جماعة وأمة ، وهؤلاء يحتاجون إلى من يسوسهم ويقودهم ويدبر أمورهم ، والرُّسل يقومون بهذه المهمة في حال حياتهم ، فهم يحكمون بين الناس بحكم الله ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ) [ المائدة : 48 ] .
ونادى ربُّ العزة داود قائلاً : ( يا داوود إنَّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النَّاس بالحق ) [ ص : 26 ] ، وأنبياء بني إسرائيل كانوا يسوسون أمتهم بالتوراة ، وفي الحديث " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ " (1) وقال الله عن التوراة : ( يحكم بها النَّبيُّون الَّذين أسلموا للَّذين هادوا ) [ المائدة : 44 ] .
فالرسل وأتباعهم من بعدهم يحكمون بين الناس ، ويقودون الأمة في السلم والحرب، ويلون شؤون القضاء ، ويقومون على رعاية مصالح الناس ، وهم في كلّ ذلك عاملون بطاعة الله ، وطاعتهم في ذلك كلّه طاعة لله ( مَّن يطع الرَّسول فقد أطاع الله ) [ النساء : 80 ] .
ولن يصل العبد إلى نيل رضوان الله ومحبته إلا بهذه الطاعة ( قل إن كنتم تحبُّون الله فاتَّبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] .
(1/34)
________________________________________
ولذا فإنّ شعار المسلم الذي يعلنه دائماً هو السمع والطاعة ( إنَّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) [ النور : 51 ] .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري : 3455 ، وصحيح مسلم : 1842 .
الوحي
المبحث الأول
النبّوة منحة إلهيّة (1)
النبوة منحة إلهية ، لا تنال بمجرد التشهي والرغبة ، ولا تنال بالمجاهدة والمعاناة ، وقد كذّب الفلاسفة الذين زعموا أن النبوة تنال بمجرد الكسب بالجدّ والاجتهاد ، وتكلّف أنواع العبادات ، واقتحام أشقّ الطاعات ، والدأب في تهذيب النفوس ، وتنقية الخواطر ، وتطهير الأخلاق ، ورياضة النفس والبدن (2) .
وقد بيّن الله في أكثر من آية أنّ النبوة نعمة ربانية إلهية ، قال تعالى : ( أولئك الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين من ذريَّة آدم وممَّن حملنا مع نوحٍ ومن ذريَّة إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا ) [ مريم : 58 ] ، وحكى الله قول يعقوب لابنه يوسف : ( وكذلك يجتبيك ربُّك ) [ يوسف : 6 ] ، وقال الله لموسى : ( إني اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي ) [ الأعراف : 144 ] .
وقد طمع أمية بن أبي الصَّلت في أن يكون نبي هذه الأمة ، وقال الكثير من الشعر متوجهاً به إلى الله ، وداعياً إليه ، ولكنه لم يحصل على مراده ، وصدق الله إذ يقول : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] .
(1/35)
________________________________________
وعندما اقترح المشركون أن يختار الله لأمر النبوة والرسالة أحد الرجلين العظيمين في مكة والطائف عروة بن مسعود الثقفي أو الوليد بن المغيرة ، أنكر الله ذلك القول ، وبين أنّ هذا مستنكر ، فهو الإله العظيم الذي قسم بينهم أرزاقهم في الدنيا ، أفيجوز لهم أن يتدخلوا في تحديد المستحقِّ لرحمة النبوة والرسالة ؟ ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ – أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم مَّعيشتهم في الحياة الدُّنيا .. ) [ الزخرف : 31-32 ] وسنبين في هذا الفصل الطريق الذي يصبح به الذين اختارهم الله أنبياء .
المبحث الثاني
طريق إعلام الله أنبياءه ورسله
تعريف الوحي :
سمي الله الطريق الذي يعلم الله به أنبياءَه ورسله وحياً ، قال تعالى : ( إنَّ أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنَّبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبوراً ) [ النساء : 163 ] .
والوحي في اللغة : الإعلام الخفّي السريع مهما اختلفت أسبابه (3) ، فقد يكون بالإلهام كوحي الله إلى الحواريين : ( وإذ أوحيت إلى الْحَوَارِيِّينَ أن آمنوا بي وبرسولي ) [ المائدة : 111 ] وكوحي الله لأم موسى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) [ القصص : 7 ] ، ويأتي بمعنى الإيماء والإشارة ، فقد سمّى القرآن إشارة زكريا إلى قومه وحياً ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشيّاً ) [ مريم : 11 ] .
وأكثر ما وردت كلمة (( وحي )) في القرآن الكريم بمعنى إخبار وإعلام الله من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ، بطريقة سرّية خفيّة ، غير معتادة للبشر .
مقامات وحي الله إلى رسله :
(1/36)
________________________________________
للوحي الذي يعلم الله به رسله وأنبياءَه مقامات ، قال الله تعالى مبيِّناً هذه المقامات : ( وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحيّاً أومن وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنَّه عليٌّ حكيم ٌ ) [ الشورى : 51 ] .
فالمقامات ثلاثة :
الأولى : الإلقاء في روع النبي الموحى إليه ، بحيث لا يمتري النبي في أنّ هذا الذي ألقي في قلبه من الله تعالى ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب " (4) . وذهب ابن الجوزي إلى أن المراد بالوحي في قوله : ( إلاًّ وحياً ) الوحي في المنام (5) .
رؤية الأنبياء :
وهذا الذي فسّر به ابن الجوزي المقام الأول داخل في الوحي بلا شّك ، فإنّ رؤيا الأنبياء حقٌ ، ولذلك فإنَّ خليل الرحمن إبراهيم بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنّه يذبحه ، وعدّ هذه الرؤيا أمراً إلهياً ، قال تعالى في إبراهيم وابنه إسماعيل : ( فلمَّا بلغ معه السَّعي قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصَّابرين – فلمَّا أسلما وتلَّهُ للجبين – وناديناه أن يا إبراهيم – قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين ) [ الصافات : 102- 105 ] .
وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت : " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في المنام ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " (6) .
المقام الثاني : تكليم الله لرسله من وراء حجاب :
(1/37)
________________________________________
وذلك كما كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام ، وذكر الله ذلك في أكثر من موضع في كتابه : ( ولمَّا جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربُّه ) [ الأعراف : 143 ] ، ( فلمَّا أتاها نودي يا موسى – إنّي أنا ربُّك فاخلع نعليك إنَّك بالواد المقدَّس طوى – وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى – إنَّني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) [ طه : 11-14 ] ، وممن كلّمه الله آدم عليه السلام ( قال يا آدم أَنبِئْهُم بأسمائهم فلمَّا أَنبَأَهُمْ بأسمائهم .. ) [ البقرة : 33 ] ، وكلّم الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء .
المقام الثالث : الوحي إلى الرسول بواسطة الملك :
وهذا هو الذي يفقه من قوله تعالى : ( أو يرسل رسولاً فَيُوحِيَ بإذنه ما يشاء ) [ الشورى : 51 ] وهذا الرسول هو جبريل ، وقد يكون غيره وذلك في أحوال قليلة (7) .
صفة مجيء الملك إلى الرسول :
بالتأمل في النصوص في هذا الموضوع نجد أنّ للملك ثلاثة أحوال (8) :
الأول : أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها ، ولم يحدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم إلا مرتين .
الثاني : أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس ، فيذهب عنه وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال .
الثالث : أن يتمثل له الملك رجلاً فيكلّمه ويخاطبه ويعي عنه قوله ، وهذه أخف الأحوال على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حدث هذا من جبريل في اللقاء الأول عندما فجأه في غار حراء .
بشائر الوحي :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معاينته للملك ، يرى ضوءاً ، ويسمع صوتاً ، ولكنه لا يرى الملك الذي يحدث الضوء ، ولا يرى مخاطبه والهاتف به ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : " مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة ، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً ، وثمان سنين يوحى إليه ، وأقام بالمدينة عشراً " (9) .
(1/38)
________________________________________
قال النووي : " يسمع الصوت ويرى الضوء " قال القاضي : " أي : صوت الهاتف من الملائكة ، ويرى الضوء ، أي : نور الملائكة ، ونور آيات الله ، حتى رأى الملك بعينيه، وشافهه بوحي الله " (10) .
أثر الملك في الرسول :
من المزاعم التي يدعيها المكذبون بالرسل أن ما كان يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم إنّما هو نوع من الصرع ، أو اتصال من الشياطين به ، وكذبوا في دعواهم ، فالأمران مختلفان ، فالذي يصيبه الصرع يصفرُّ لونه ، ويخفُّ وزنه ، ويفقد اتزانه ، وكذلك الذي يصيبه الشيطان ، وقد يتكلم الشيطان على لسانه ، ويخاطب الحاضرين ، وعندما يفيق من غيبوبته لا يدري ولا يذكر شيئاً ممّا خاطب به الشيطان الحاضرين على لسانه ، أمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اتصال الملك به نماء في جسده ، وإشراق في وجهه ، ثمّ إن الجالسين لا يسمعون كلاماً ، إنما يسمعون دوياً كدويّ النحل عند وجهه (11) ، ويقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وقد وعى كلّ ما أخبر به الملك ، فيكون هو الذي يخبر أصحابه بما أوحي إليه .
فقد أخبرتنا عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – أنها رأت الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقاً (12) .
وفي رواية عنها : " إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة ، ثم تفيض جبهته عرقاً " (13) .
وأخبرتنا أنّ ناقته عندما كان يوحى إليه وهو فوقها يضرب حزامها وتكاد تبرك به من ثقله فوقها (14) ويذكر أحد الصحابة أنّ فخذه كانت تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل إليه ، فكادت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم حين الإنزال إليه ترض فخذ الصحابي (15) .
(1/39)
________________________________________
وهذا يعلى بن أمّية يحدثنا عن مشاهدة تنزُّل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان يتمنى قبل ذلك أن يراه في تلك الحال ، قال : " فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه ، وهو يغطُّ ، ثمّ سُرِّي عنه " (16) .
--------------------------------
(1) ذهبت المعتزلة إلى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب واجب على الله تعالى ، والحقُّ أن ذالك تفضل من الله تعالى على عباده ، ورحمة بهم ، والقول بالوجوب يتجه إذا قلنا : أوجبه هو تعالى على نفسه ( انظر لوامع الأنوار البهية : 2/256 ، 258) .
(2) لوامع الأنوار البهية : (2/267) .
(3) راجع فتح الباري : 1/9 ، المصباح المنير : 651 ، 652 .
(4) حديث صحيح بشواهده أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) 10/26 ، 27 ، من حديث أبي أمامة ، وأورده البغوي في ((شرح السنة)) 14/303-304 (4111-4113) من عدة طرق عن ابن مسعود مرفوعاً ، وانظر ((المستدرك)) 2/5 (2136) ، و ((كشف الخفاء)) 1/286 (707) ط. مؤسسة الرسالة .
(5) زاد المسير : (7/297) .
(6) صحيح البخاري ، وصحيح مسلم : (160) ، واللفظ للبخاري .
(7) راجع في هذا كتاب أ.د. عمر الأشقر : عالم الملائكة ص : 40 .
(8) راجع : المصدر السابق .
(9) انظر النووي على مسلم : (15/104) . وهذا الذي ذكره ابن عباس خلاف المحفوظ في مقدار المدة التي كان يوحى إليه فيها بمكة ، فالمحفوظ أنه أوحي إليه في سنّ الأربعين وهاجر وعمره ثلاث وخمسون سنة ، فتكون المدة ثلاث عشرة سنة .
(10) النووي على مسلم : (15/104) .
(11) رواه أحمد في ((المسند)) 1/350 (223) ، والترمذي (3173) ، والنسائي في ((السنن الكبرى)) 2/169-170 (1443) من حديث عمر بن الخطاب .
(12) صحيح البخاري .
(13) صحيح مسلم : 2333 .
(14) أشار إلى هذا البيهقي في الدلائل عن عائشة (انظر فتح الباري: 1/21) .
(15) أخرجه أحمد في ((المسند)) 35/480 (21601) ، والبخاري (2832) من حديث زيد بن ثابت .
(1/40)
________________________________________
(16) حديث يعلى في البخاري رقم : 1536 ، ومسلم : 1180 .
صفات الرّسُل
المبحث الأول
البشرية
جاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم ( قل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم ) [ الكهف : 110 ] .
وسنجلي هذا الموضوع في أربعة مطالب .
المطلب الأول
أهلية البشر لتحمّل الرسالة
الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره ، فالإنسان مؤهل لتحمّل الأمانة العظمى ، أمانة الله التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها ، ( إنَّا عرضنا الأمانة على السَّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنَّه كان ظلوماً جهولاً ) [ الأحزاب : 72 ] .
والذين استعظموا اختيار الله البشر رسلاً نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان ، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام ، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته ( وقالوا مال هذا الرَّسول يأكل الطَّعام ويمشي في الأسواق ) [ الفرقان : 7 ] ، ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان ، وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله ( فإذا سوَّيته ونفخت فيه من رُّوحي فقعوا له ساجدين ) [ الحجر : 29 ] . وبهذه الروح تميز الإنسان ، وصار إنساناً ، واستخلف في الأرض ، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته ، فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس ، صاحب استعداد للتلقي ، فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلّما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلّما كانوا بحاجة إلى العون (1) ( قالت لهم رسلهم إن نَّحن إلاَّ بشرٌ مثلكم ولكنَّ الله يمنُّ على من يشاء من عباده ) [إبراهيم : 11].
(1/41)
________________________________________
ثمَّ إنّ الرسل يُعدّون إعداداً خاصّاً لتحمُّل النبوة والرسالة ، ويصنعون صنعاً فريداً ( واصطنعتك لنفسي ) [ طه : 41 ] ، واعتبر هذا بحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كيف رعاه الله وحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره ( ألم يجدك يتيماً فآوى – ووجدك ضالاً فهدى – ووجدك عائلاً فأغنى ) [ الضحى : 6-8 ] ، وقد زكّاه وطهّره، وأذهب عنه رجس الشيطان ، وأخرج منه حظّ الشيطان منذ كان صغيراً ، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه ، فصرعه ، فشقّ عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظُّ الشيطان منك ، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه (2) ، يعني ظئره ، فقالوا : إن محمداً قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللّون ، قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره " (3) .
وحدث قريب من هذا عندما جاءه جبريل يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلى ، ففي حديث الإسراء : (( فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم ، ففرج صدري ، ثمّ غسله من ماء زمزم ، ثمّ جاء بطست من مذهب ممتلئ حكمة وإيماناً ، فأفرغها في صدري ، ثم أطبقه " متفق عليه (4) .
--------------------------------
(1) في ضلال القرآن : 19/2552 .
(2) أمه من الرضاع ، وهي حليمة السعدية .
(3) صحيح مسلم : 162 .
(4) صحيح البخاري : 349 ، وصحيح مسلم : 263 ، واللفظ لمسلم .
المطلب الثاني
لِمَ لَمْ يكن الرسل ملائكة ؟
(1/42)
________________________________________
لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر ، وكان هذا الأمر من أعظم ما صدّ الناس عن الإيمان، ( وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً ) [ الإسراء : 94 ] وعدّوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشراً فيما جاؤوا به من عقائد وشرائع أمراً قبيحاًً ، وعدُّوه خسراناً مبيناً ( ولئِن أطعتم بشراً مثلكم إنَّكم إذاً لخاسرون ) [ المؤمنون : 34 ] ، ( فقالوا أبشراً منَّا واحداً نَّتَّبعه إنَّا إذاً لفي ضلالٍ وسعرٍ ) [ القمر : 24 ] ، وقد اقترح أعداء الرسل أن يكون الرسل الذين يبعثون إليهم من الملائكة يعاينونهم ويشاهدونهم ، أو على الأقل يبعث مع الرسول البشري رسولاً من الملائكة ، ( وقال الَّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربَّنا ) [ الفرقان : 21 ] ، ( وقالوا مال هذا الرَّسول يأكل الطَّعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملكٌ فيكون معه نذيراً ) [ الفرقان : 7 ] .
وعندما نتأمل النصوص القرآنية يمكننا أن نرّد على هذه الشبهة من وجوه :
الأول : أن الله اختارهم بشراً لا ملائكة لأنّه أعظم في الابتلاء والاختبار ، ففي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم في صحيحه : (( إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )) (1) .
الثاني : أن في هذا إكراماً لمن سبقت لهم منه الحسنى ، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلاً تكريم وتفضيل لهم ، ( أولئك الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين من ذريَّة آدم وممَّن حملنا مع نوحٍ ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممَّن هدينا واجتبينا .. ) [مريم : 58] .
(1/43)
________________________________________
الثالث : أنّ البشر أقدر على القيادة والتوجيه ، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة ، يقول سيد قطب رحمه الله في هذا : " وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر ، واحد من البشر يحسّ بإحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم ..، ومن ثمّ يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنّه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق .
وهم من جانبهم يجدون فيه القدرة الممكنة ، لأنّه بشر مثلهم ، يتسامى بهم رويداً رويداً ، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم ، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم ، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ، ينقلونها سطراً سطراً ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان " (2) .
الرابع : صعوبة رؤية الملائكة ، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة ، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة ، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك .
فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق ، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة ، ولذلك قال في الردّ عليهم : ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ) [ الفرقان : 22 ] ، ذلك أنّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب ، فلو قُدِّر أنهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم .
(1/44)
________________________________________
فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم ، والفهم منهم ، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك . ( وما منع النَّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رَّسولاً – قل لَّو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئِنين لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رَّسولاً ) [ الإسراء : 94-95 ] فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولاً من جنسهم ، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] .
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا – لو شاء الله أن يرسل ملكاً رسولاً إلى البشر – أن يجعله رجلاً ( ولو جعلناه ملكاً لَّجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم مَّا يلبسون ) [ الأنعام : 9 ] فالله يخبر أنه " لو بعث رسولاً ملكياً ، لكان على هيئة رجل ، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس الأمر عليهم " (3) .
والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل ، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً ، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو ، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب ، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم .
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : 2865 .
(2) في ظلال القرآن: 19/2553 .
(3) تفسير ابن كثير : 3/9 .
المطلب الثالث
مقتضى بشرية الأنبياء والرسل
مقتضى كون الرسل بشراً أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك البشرية عنها ، وهي :
أولاً : يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم :
(1/45)
________________________________________
الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب ، ويحدِثونَ كما يحدث البشر ، لأنّ ذلك من لوازم الطعام والشراب ، ( وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون – وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطَّعام وما كانوا خالدين ) [ الأنبياء : 7-8 ] .
ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر ، لهم آباء وأمهات ، وأعمام وعمات ، وأخوال وخالات ، يتزوجون ويولد لهم ، ( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريَّةً ) [ الرعد : 38 ] .
ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض ، فهم ينامون ويقومون ، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر وهو الموت ، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه : ( والَّذي هو يطعمني ويسقين – وإذا مرضت فهو يشفين – والَّذي يميتني ثمَّ يحيين ) [الشعراء : 79-81] . وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( إنَّك ميتٌ وإنَّهم مَّيتون ) [ الزمر : 30 ] ، وقال مبيناً أنّ هذه سنته في الرسل كلهم : ( وما محمَّدٌ إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل أفإن مَّات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) [ آل عمران : 144 ] وقد جاء في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم : " كان بشراً من البشر : يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه " (1) .
وقد صح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأمّ سُلَيم : " يا أم سُلَيم ، أما تعلمين أني شرطي على ربي ، أني اشترطت على ربي ، فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيّما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ، أن يجعلها طَهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة " (2) .
ثانياً : تعرض الأنبياء للبلاء :
(1/46)
________________________________________
ومن مقتضى بشرية الرسل أنّهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر ، فقد يسجنون كما سجن يوسف ( قال رب السجن أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه ) [ يوسف : 33 ] ، وذكر الله أنه ( فلبث في السجن بضع سنين ) [ يوسف : 42 ] ، وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم ، كما أصابوا الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فأدموه ، وكسروا رباعيته ، وقد يخرجونهم من ديارهم كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام ، وكما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وقد يقتلونهم ( أفكلَّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذَّبتم وفريقاً تقتلون ) [ البقرة : 87 ] وقد يصابون بالأمراض ، كما ابتلى الله نبيّه أيوب فصبر ، وقد صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " أن نبيّ الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه .. " (3) .
وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله ، وكان ذا مال وولد كثير ، ( وأيُّوب إذ نادى ربَّهُ أني مسني الضرُّ وأنت أرحم الرَّاحمين – فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرٍ وآتيناه أهله ومثلهم مَّعهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين ) [ الأنبياء : 83-84 ] .
والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب ، بل هم أشدُّ الناس بلاءً ، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الناس أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " (4) .
(1/47)
________________________________________
ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك ، فوضع يده على الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد حرّه بين يديه فوق اللحاف ، فقال : يا رسول الله ، ما أشدها عليك! ********قال : " إنا كذلك ، يُضّعَّف علينا البلاء ، ويُضَعَّف لنا الأجر " ، قلت : يا رسول الله ، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً ؟ قال : " الأنبياء ، ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر ، حتى ما يجد إلا العباءة التي يُحَوِّيها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء " (5) . (6) .
ثالثاً : اشتغال الأنبياء بأعمال البشر :
ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر ، فمن ذلك اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة ، قبل البعثة ، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم ، فقد روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : (( كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث (7) ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عليكم بالأسود منه ، فإنّه أطيبه " ، قالوا : أكنت ترعى الغنم ؟ قال : " وهل من نبي إلا وقد رعاها " رواه البخاري في صحيحه (8) .
ومن الأنبياء الذين نصّ القرآن على أنهم رعوا الغنم نبيّ الله موسى عليه السلام ، فقد عمل في ذلك عدةّ سنوات ، فقد قال له العبد الصالح : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقَّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصَّالحين – قال ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ والله على ما نقول وكيلٌ ) [ القصص : 27-28 ] قال ابن حجر : والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع ، وتعتاد قلوبهم بالخلوة ، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم (9) .
(1/48)
________________________________________
ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام ، فقد كان حدّاداً يصنع الدروع ، قال تعالى : ( وعلَّمناه صنعة لبوسٍ لَّكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) [ الأنبياء : 80 ] ، كان حداداً ، وفي نفس الوقت كان ملكاً ، وكان يأكل مما تصنعه يداه .
ونبي الله زكريا كان يعمل نجاراً ، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان زكريا يعمل نجاراً " (10) .
رابعاً : ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية :
ومقتضى كونهم بشراً أنهم ليسوا بآلهة ، وليس فيهم من صفات الألوهية شيء ، ولذلك فإنّ الرسل يتبرَّؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد ، ولا يَدَّعون شيئاً من صفات الله تعالى ، قال تعالى مبيناً براءة عيسى مما نسب إليه : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنَّاس اتَّخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علَّام الغيوب – ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربَّكم وكنت عليهم شهيداً مَّا دمت فيهم فلما توفَّيتني كنت أنت الرَّقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد ) [ المائدة : 116-117 ] .
هذه مقالة عيسى في الموقف الجامع في يوم الحشر الأكبر ، وهي مقولة صدق تنفي تلك الأكاذيب والترهات التي وصف بها النصارى عبد الله ورسوله عيسى فطائفة قالت : الله هو المسيح ابن مريم حلّ في بطن مريم ( لقد كفر الَّذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم ) [ المائدة : 72 ] ، وأخرى قالت : هو ثالث ثلاثة ( لَّقد كفر الَّذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثةٍ ) [ المائدة : 73 ] وطائفة ثالثة قالوا : هو ابن الله ، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً : ( وقالوا اتَّخذ الرَّحمن ولداً – لَّقد جئتم شيئاً إدّاً ) [ مريم : 88-89 ] .
(1/49)
________________________________________
لقد غلا النصارى في عيسى غلواً عظيماً ، وهم بمقالتهم الغالية هذه يسبُّون الله أعظم سبّ وأقبحه ، فهم يزعمون : " أنّ ربَّ العالمين نزل عن كرسي عظمته ، فالتحم ببطن أنثى ، وأقام هناك مدةً من الزمان ، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء ، تحت ملتقى الأعكان ، ثمّ خرج صبياً رضيعاً يشبُّ شيئاً فشيئاً ، ويبكي ، ويأكل ، ويشرب ، ويبول، ويتقلب مع الصبيان ، ثمّ أودع المكتب بين صبيان اليهود ، يتعلم ما ينبغي للإنسان ، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان ، ثمّ جعل اليهود يطردونه من مكان إلى مكان ، ثمّ قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذلّ والهوان ، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان ، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان ، ثمّ ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه ، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله والأيمان ، ثمّ أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان ، ثمّ شدّت بالحبال يده مع الرجلان ، ثمّ خالطهما تلك المسامير ، التي تكسر العظام ، وتمزق اللحمان ، وهو يستغيث ، ويقول : ارحموني ، فلا يرحمه منهم إنسان ، هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي ، الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ، ثمّ مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان ، ثمّ قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان " (11) .
فأيّ سبّ أعظم من هذا السبّ الذي نسبوه إلى الباري جل وعلا ! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال !.
--------------------------------
(1) أخرجه أحمد في مسنده : 43/263 (26194) ، والبخاري في الأدب المفرد : (541) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وإسناد أحمد صحيح على شرط مسلم ( انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حديث رقم (671) .
(2) صحيح مسلم : 2603 .
(3) رواه أبو يعلى في مسنده ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء في المختارة ، وابن حبان في صحيحه ( انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم 17 ) .
(1/50)
________________________________________
(4) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وأحمد ، وابن ماجة وغيرهم ( سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم : 143 ) .
(5) أخرجه ابن ماجة ، وابن سعد والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وقال الشيخ ناصر : وهو كما قالا ( انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم : 144 ) .
(6) إذا كان هذا حال الأنبياء فينبغي للصالحين أن يعتبروا بذلك ، ولا يظنون بالله غير الحق إذا أصابهم البلاء ، وعلى الذين يرمون الصالحين بالتهم الباطلة لأنهم أصيبوا بالبلاء أن يقصروا عن غيهم .
(7) الكباث : ثمر الأراك ، ويقال ذلك للنضيج منه .
(8) صحيح البخاري : 3406 . ومسلم : 2050 .
(9) فتح الباري : (6/439) .
(10) صحيح مسلم : 2379 .
(11) هداية الحيارى ( انظر الجامع الفريد : ص479 ) .
المطلب الرابع
الكمال البشري
لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق ، والمواهب ، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك ، ومنهم الأعمى والأعور والمبصر بعينه ، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم ، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك ، ومنهم ساقط المروءة ، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية .
ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره ، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه ، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً ، وأزكاهم أخلاقاً ، وأجودهم قريحة ، ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] .
والكمال البشري يتحقق فيما يأتي :
1- الكمال في الخلقة الظاهرة :
لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى ، ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] .
(1/51)
________________________________________
وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده ، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده (2) : إما برص ، وإمّا أُدْرة (3) ، وإمّا آفة ، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإنّ الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً ، أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ بثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه ، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ، فذلك قوله : ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] .
قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث : " وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال ، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه ، ويخشى على فاعله الكفر " (4) .
الصور الظاهرة مختلفة :
ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة ، فالكمال الذي يدهش ويعجب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته .
وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( ليلة أسري بي رأيت موسى ، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال ، كأنه من رجال شَنوءة )) (5) .
وقال في عيسى : " ورأيت عيسى ، فإذا هو رجل ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس " (6) .
(1/52)
________________________________________
وقال فيه أيضاً : " ليس بيني وبينه نبيٌّ ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ، ينزل بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل " (7) .
وقد وصف لنا الصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قولهم : " كان ربعة من القوم ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير ، أزهر اللون ، ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالآدم ، ليس بجعد قَطِطٍ ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ " (8) ، وقالوا فيه : " كان أحسن الناس .. ربعة ، إلى الطول ما هو ، بعيد ما بين المنكبين ، أسيل الخدين ، شديد سواد الشعر ، أكحل العينين ، أهدب الأشفار ، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ، ليس له أخمص ، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة " (9) .
وكان الرسول أشبه الناس بنبي الله إبراهيم كما أخبرنا عليه السلام بذلك (10) .
2- الكمال في الأخلاق :
لقد بلغ الأنبياء في هذا مبلغاً عظيماً ، وقد استحقوا أن يثني عليهم ربّ الكائنات فقد أثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام فقال : ( إنَّ إبراهيم لحليم أوَّاه مُّنيبٌ ) [هود : 75] .
وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى : ( يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ) [ القصص : 26 ] .
وأثنى الله على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد ، ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نَّبيَّاً ) [ مريم : 54 ] .
وأثنى الله – جلّ جلاله ، وتقدست أسماؤه – على خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً عطراً ، فقال : ( وإنَّك لعلى خلقٍ عظيمٍ ) [ القلم : 4 ] .
فقد وصف الله – سبحانه – خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنّه عظيم ، وأكّد ذلك بثلاثة مؤكدات : أكّد ذلك بالإقسام عليه بنون والقلم وما يسطرون ، وتصديره بإنّ، وادخال اللام على الخبر .
(1/53)
________________________________________
ومن خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نوَّه الله به ما جبله عليه من الرحمة والرأفة ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحيمٌ ) [ التوبة : 128 ] .
وقد كان لهذه الأخلاق أثر كبير في هداية الناس وتربيتهم ، هذا صفوان ابن أميّة يقول : " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض خلق الله إليّ ، فما زال يعطيني حتى إنّه من أحبِّ الناس إليّ " (11) .
وفي صحيح مسلم عن أنس أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه ، فأتى قومه فقال : أي قوم ، أسلموا ، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ، ما يخاف الفقر " (12) .
ولو لم يتصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم ، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضاً وطواعية لمن كثرت نقائصه ، وقلت فضائله .
3- خير الناس نسباً :
الرسل ذوو أنساب كريمة ، فجميع الرسل بعد نوح من ذريته ، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم ، قال تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريَّتهما النُّبوَّة والكتاب .. ) [ الحديد : 26 ] .
ولذلك فإنّ الله – سبحانه – يصطفي لرسالته من كان خيار قومه في النسب ، وفي الحديث الذي يرويه البخاري ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه " (13) .
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي عن الرسول ، صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إنّ الله – تعالى – خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً )) (14) .
(1/54)
________________________________________
وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) (15) .
4- أحرار بعيدون عن الرق :
ومن صفات الكمال أنّ الأنبياء لا يكونون أرقاء . يقول السفاريني في هذا : " الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة ، والني يكون داعياً للناس آناء الليل وأطراف النهار ، والرقيق لا يتيسر له ذلك ، وأيضاً الرقّيَّة وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها ، وأن يكون إماماً لهم وقدوة ، وهي أثر الكفر ، والأنبياء منزهون عن ذلك " (16) (17) .
5- التفرد في المواهب والقدرات :
الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة ، والذكاء الفذ ، واللسان المبين ، والبديهة الحاضرة ، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقى إليه ولا ينسى منه كلمة ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] .
وقد كانوا يعرضون دين الله للمعارضين ويفحمونهم في معرض الحجاج ، وفي هذا المجال أسكت إبراهيم خصمه ( فبهت الَّذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] ، وقال الله معقباً على محاججة إبراهيم لقومه : ( وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نَّشاء ) [ الأنعام : 83 ] .
وموسى كان يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع ، فانتقل إلى التهديد بالقوة ( قال فرعون وما ربُّ العالمين – قال ربُّ السَّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مُّوقنين – قال لمن حوله ألا تستمعون – قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلين – قال إنَّ رسولكم الَّذي أرسل إليكم لمجنون – قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لئن اتَّخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين ) [ الشعراء : 23-29 ] .
(1/55)
________________________________________
6- الكمال في تحقيق العبودية :
بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة ، وأخلاقهم الباطنة ، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم ، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله ، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم .
فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى ، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني ، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر .
والرسل حازوا السبق في هذا الميدان ، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية ، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية ، فيصفه بها في مقام الوحي ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] ، وفي مقام إنزال الكتاب ( تبارك الَّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) [ الفرقان : 1 ] ، وفي مقام الدعوة ( وأنَّه لمَّا قام عبد الله يدعوه ) [ الجن : 19 ] ، وفي مقام الإسراء ( سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الَّذي باركنا حوله .. ) [ الإسراء : 1 ] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله : " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (18) .
وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة – رضي الله عنها – قالت رضي الله عنها وعن أبيها : " قلت : يا رسول الله ، كُلْ – جعلني الله فداك – متكئاً ، فإنّه أهون عليك ، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ، وقال : بل آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " رواه البغوي في شرح السنة ، وابن سعد ، والإمام أحمد في الزهد (19) .
7- الذكورة :
(1/56)
________________________________________
ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال ، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم ) [ الأنبياء : 7 ] .
الحكمة من كون الرسل رجالاً :
كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك :
1- أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ، ومخاطبة الرجال والنساء ، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية ، والتنقل في فجاج الأرض ، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها ، والاصطلاء بنارها ، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء .
2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه ، فهو في أتباعه الآمر الناهي ، وهو فيهم الحاكم والقاضي ، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل ، ولا ستنكف أقوام من الاتباع والطاعة .
3- الذكورة أكمل كما بينا آنفاً ، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء ( الرجال قوَّامون على النساء ) [ النساء : 34 ] وأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنّ النساء ناقصات عقل ودين .
4- المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات ، كالحيض والحمل والولادة والنفاس ، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع ، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية ، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها .
--------------------------------
(1) رواه البخاري : 3404 ، ومسلم : 339 .
(2) هذا يوحى بأن اغتسال بني إسرائيل عراة كان جائزاً في شريعتهم .
(3) الأدرة بضم الهمزة وسكون الدال : انتفاخ الخصية .
(4) فتح الباري : 6/438 .
(5) أخرجه أحمد في ((المسند)) : 16/484 (10830) ، والبخاري : (3394) ، ومسلم بنحوه : (172) (178) ، وشنوءة حي من اليمن . وضَرْبٌ من الرجال : هو الخفيف اللحم الممشوق المستدق .
(6) البخاري : 3394 ، والديماس : الحمام .
(1/57)
________________________________________
(7) رواه أبو داود وأحمد ( انظر صحيح الجامع : 5/90 ) وقوله ( ممصرتين ) الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة . راجع لسان العرب : (3/493) مادة مصر .
(8) رواه البخاري : 3547 ، 3548 ، ومسلم : 2347 .
(9) رواه البيهقي ، انظر صحيح الجامع : (4-199) .
(10) صحيح البخاري : 3394 .
(11) صحيح مسلم : 2313 .
(12) صحيح مسلم : 2312 .
(13) رواه البخاري : 3557 .
(14) رواه أحمد والترمذي : ( صحيح الجامع : 2/22 ) . وقد حسنه الترمذي : 3607 .
(15) صحيح مسلم : 2276 .
(16) لوامع الأنوار البهية : ص2/265 .
(17) قد يعترض على هذا بأن رسول الله يوسف باعه الذين استنقذوه من البئر وبذلك أصبح عبداً ، والإجابة على ذلك أن العبودية هنا كانت نوعاً من الابتلاء ، وإلاّ فهو حر وقع عليه الظلم ، ولم تستمر هذه العبودية طويلاً ، وأبدله الله بها ملكاً .
(18) صحيح البخاري : 6565 .
(19) انظر صحيح جامع الصغير : (1/122) .
نبوّة النساء
ذهب بعض العلماء (1) إلى أنّ الله أنعم على بعض النساء بالنبوة ، فمن هؤلاء أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم (2) .
والذين يقولون بنبوة النساء متفقون على نبوة مريم ، ومنهم من ينسب النبوة إلى غيرها ، ويعدّون من النساء النبيات : حواء وسارة وأمّ موسى وهاجر وآسية .
وهؤلاء عندما اعترض عليهم بالآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء ، قالوا: نحن لا نخالف في ذلك ، فالرسالة للرجال ، أمّا النبوة فلا يشملها النصُّ القرآني ، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول ، لأنَّ النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها ، يعمل بها ، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين .
أدلتهم :
(1/58)
________________________________________
وحجّة هؤلاء أن القرآن أخبر بأن الله تعالى أوحى إلى بعض النساء ، فمن ذلك أنه أوحى إلى أمّ موسى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) [ القصص : 7 ] ، وأرسل جبريل إلى مريم فخاطبها ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سويّاً – قالت إني أعوذ بالرَّحمن منك إن كنت تقيّاً – قال إنَّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً .. ) [ مريم : 17-19 ] وخاطبتها الملائكة قائلة : ( يا مريم إنَّ الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين – يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الرَّاكعين .. ) [ آل عمران: 42-43 ] .
فأبو الحسن الأشعري يرى أنّ كلَّ من جاءه الملك عن الله – تعالى – بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام فهو نبي (3) ، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيء من هذا ، وفي غيرهما أيضاً ، فقد تحقق في حواء وسارة وهاجر وآسية بنصّ القرآن .
واستدلوا أيضاً باصطفاء الله لمريم على العالمين ( واصطفاك على نساء العالمين ) [ آل عمران : 42 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم : (( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون )) (4) .
قالوا : الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء .
الردّ عليهم :
وهذا الذي ذكروه لا ينهض لإثبات نبوة النساء ، والرد عليهم من وجوه :
الأول : أنّا لا نسلم لهم أن النبيَّ غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس ، والذي اخترناه أن لا فرق بين النبيّ والرسول في هذا ، وأنَّ الفرق واقع في كون النبي مرسل بتشريع رسول سابق .
وإذا كان الأمر كذلك فالمحذورات التي قيلت في إرسال رسول من النساء قائمة في بعث نبي من النساء ، وهي محذورات كثيرة تجعل المرأة لا تستطيع القيام بحقّ النبوة.
(1/59)
________________________________________
الثاني : قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النسوة أم موسى وآسية .. إنّما وقع مناماً ، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون مناماً ، وهذا يقع لغير الأنبياء .
الثالث : لا نسلم لهم قولهم : إن كل من خاطبته الملائكة فهو نبي ، ففي الحديث أن الله أرسل ملكاً لرجل يزور أخاً له في الله في قرية أخرى ، فسأله عن سبب زيارته له ، فلمّا أخبره أنه يحبّه في الله ، أعلمه أنَّ الله قد بعثه إليه ليخبره أنه يحبّه ، وقصة الأقرع والأبرص والأعمى معروفة ، وقد جاء جبريل يعلم الصحابة أمر دينهم بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يشاهدونه ويسمعونه (5) .
الرابع : أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه ( قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً ) [الكهف : 86] .
الخامس : لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم ، فالله قد صرح بأنّه اصطفى غير الأنبياء : ( ثمَّ أورثنا الكتاب الَّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مُّقتصدٌ ومنهم سابق بالخيرات ) [ فاطر : 32 ] ، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، ومن آلهما من ليس بنبيّ جزماً ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] .
السادس : لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجوا به النبوة ، لأنّه يطلق لتمام الشيء ، وتناهيه في بابه ، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء ، وعلى ذلك فالكمال هنا غير كمال الأنبياء .
السابع : ورد في بعض الأحاديث النصّ على أن خديجة من الكاملات (6) وهذا يبين أن الكمال هنا ليس كمال النبوة .
(1/60)
________________________________________
الثامن : ورد في بعض الأحاديث أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاّ ما كان من مريم ابنة عمران (7) ، وهذا يبطل القول بنبوة من عدا مريم كأم موسى وآسية ، لأنّ فاطمة ليست بنبيّة جزماً وقد نصَّ الحديث على أنها أفضل من غيرها ، فلو كانت أم موسى وآسية نبيتان لكانتا أفضل من فاطمة .
التاسع : وصف مريم بأنها صديقة في مقام الثناء عليها والإخبار بفضلها ، قال تعالى: ( مَّا المسيح ابن مريم إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل وأمُّه صديقةٌ كانا يأكلان الطَّعام ) [ المائدة : 75 ] فلو كان هناك وصفاً أعلى من ذلك لوصفها به ، ولم يأت في نصّ قرآني ولا في حديث نبويّ صحيح إخبار بنبوة واحدة من النساء .
وقد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أنّ مريم ليست بنبيّة ، وذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنّه نقل الإجماع على أنّ مريم ليست نبيّة (8) ، ونسبه في (( شرح المهذب )) لجماعة ، وجاء عن الحسن البصري : ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ (9) .
--------------------------------
(1) يزعم اليهود أن مريم أخت موسى وهارون كانت نبيّة ( لوامع الأنوار البهية : 6/266 ) .
(2) انظر فتح الباري : 6/447 – 448 ، 6/473 ، وانظر لوامع الأنوار البهية : 2/266 .
(3) فتح الباري : 6/447 .
(4) صحيح البخاري : 3769 . وصحيح مسلم : 2431 .
(5) ارجع في هذه النصوص ، والنصوص المشابهة لها إلى الجزء الثاني من سلسلة مجموعة عقيدة المسلم للأستاذ .د . عمر الأشقر : ( عالم الملائكة الأبرار ) .
(6) الحديث أخرجه ابن مردويه ، انظر البداية والنهاية : (2/61) .
(7) رواه أحمد وإسناده جيد ، ( فتح الباري : 6/477 ) .
(8) الإجماع لا يتم بعد معرفة من خالف في ذلك من العلماء إلا أن يكون إجماعاً سابقاً على هذا الخلاف .
(9) فتح الباري : 6/471 ، 473 .
أمور تفرّد بها الأنبياء
تفرد الأنبياء والرسل على غيرهم من البشر بالأمور التالية :
1- الوحي :
(1/61)
________________________________________
خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم ، قال تعالى : ( قل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد ) [ الكهف : 110 ] .
وهذا الوحي يقتضي عدة أمور يفارقون بها الناس ، فمن ذلك تكليم الله بعضهم ، واتصالهم ببعض الملائكة ، وتعريف الله لهم شيئاً من الغيوب الماضية أو الآتية ، وإطلاع الله لهم على شيء من عالم الغيب .
فمن ذلك الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، والعروج به إلى السماوات العُلى ، ورؤيته للملائكة والأنبياء ، وإطلاعه على الجنّة والنار ، ومن ذلك سماعه للمعذبين في قبورهم ، وفي الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر )) (1) .
وعن أيوب قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً ، فقال : " يهود تعذب في قبورها " (2) .
2- العصمة :
وقد خصصنا لهذا الأمر فصلاً مستقلاً .
3- الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم :
ومما اختصهم الله تعالى به أنّ أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام ، فعن أنس في حديث الإسراء : " والنبيُّ نائمة عيناه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم " رواه البخاري في صحيحه (3) ، وهذا وإن كان من قول أنس إلا أن مثله لا يقال من قبل الرأي كما يقول ابن حجر (4) ، وقد ورد هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد صحّ عنه أنّه قال : " إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " ، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه : " إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي " (5) .
4- تخيير الأنبياء عند الموت :
(1/62)
________________________________________
مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة ، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي يمرض إلاّ خيّر بين الدنيا والآخرة " ، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة ، فسمعته يقول : ( مع الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين ) [ النساء : 69 ] فعلمت أنه خيَّر (6) .
وقد سبق أن أوردنا حديث تخيير ملك الموت لموسى وضرب موسى لملك الموت وقلع عينه (7) .
5- لا يقبر نبي إلا حيث يموت :
ممّا خص به الأنبياء بعد موتهم أمور تتعلق بهم في القبر ، منها :
الأول : أنّه لا يقبر نبيٌّ إلاّ في الموضع الذي مات فيه ، ففي الحديث : " لم يقبرني نبيٌّ إلا حيث يموت " (8) ولهذا فإنّ الصحابة – رضوان الله عليهم – دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة حيث قبض .
6- لا تأكل الأرض أجسادهم :
ومن إكرام الله لأنبيائه ورسله أنّ الأرض لا تأكل أجسادهم ، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى ، ففي الحديث " إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (9) .
ويذكر أهل التاريخ قصة فيها عجب وغرابة ، روى ابن كثير في البداية والنهاية (10) عن يونس بن بكير قال : لما فتحنا تستر [ مدينة في فارس ] وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية ، فأنا أوّل رجل من العرب قرأه ، قرأته مثل ما اقرأ القرآن هذا .
فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ قال : سيركم وأموركم ولحون كلامكم ، وما هو كائن بعد .
قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلّها ، لنعميه على الناس فلا ينبشونه (11) .
قلت : فما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون .
(1/63)
________________________________________
قلت : من كنتم تظنون بالرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال .
قلت : مذ كم وجدتموه ؟ قال : قد مات منذ ثلاثمائة سنة .
قلت : ما تغير منه شيء ؟ قال : لا إلاّ شعرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا يبليها الأرض ، ولا تأكلها السباع .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية .
ويبدو أن هذا من أنبياء بني إسرائيل ، وقد ظنَّ الصحابة أنّه دانيال ، لأنّ دانيال أخذه ملك الفرس ، فأقام عنده مسجوناً ، ويبدو أنَّ تقدير الذين وجدوه لم يكن صواباً ، فإنّ دانيال كان قبل الإسلام بثمانمائة سنة ، فإن كان تقديرهم صواباً فليس بنبي ؛ لأنّه لا نبي بين عيسى ورسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام ، فيكون عبداً صالحاً ليس بنبي ، وكونه نبياً أرجح ، لأنّ الذين تحفظ أجسادهم هم الأنبياء دون غيرهم ، ويرجح هذا أيضاً ذلك الكتاب الذي وجد عند رأسه ، لا شكّ أنه كتاب نبيّ ، فالأمور الغيبيّة التي تضمنها لا تكون إلا وحياً سماوياً ، وترجيحنا لكونه من بني إسرائيل لأمرين :
الأول : ظن الصحابة أنّه دانيال ، ويكونون قد علموا ذلك من قرائن لم تذكر .
والثاني : الكتاب الذي وجد عند رأسه ، ويبدو أنه كان مكتوباً بالعبرانية ، لأنّ الذي ترجمه هو أبيّ بن كعب ، وقد كان قبل إسلامه يهودياً .
7- أحياء في قبورهم :
صحَّ عن النبيَّ أنّ " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " (12) ، وروي أيضاً أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مررت على موسى ليلة أسري به عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره " (13) .
وروى مسلم عن أبي هريرة في قصة الإسراء : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي .. ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي " (14) .
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : 2868 .
(2) صحيح البخاري : 1375 ، وصحيح مسلم: 2689 ، واللفظ لمسلم .
(3) صحيح البخاري : 3570 .
(4) فتح الباري : 6/579 .
(1/64)
________________________________________
(5) رواه ابن سعد وابن حبان : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 3/55) .
(6) رواه البخاري : 4586 .
(7) انظر كتاب أ.د. عمر الأشقر : عالم الملائكة من هذه السلسلة .
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 5/46 ) .
(9) رواه أبو داود : (1531) وعزاه ابن حجر أيضاً إلى النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره ( انظر فتح الباري : 6/488 ) .
(10) البداية والنهاية : (2/40) .
(11) وهذا يدل على فقه المسلمين في ذلك الوقت ، فإنّ إكرام الميت دفنه ، سواء أكان نبياً أم غير نبي ، وحفرهم القبور الكثيرة لتعمية أمره على الناس حتى لا ينبشوا قبره ، وفي ذلك إيذاء لهذا النبي الكريم، وقد يتخذون قبره عيداً ، ويقيمون عليه مسجداً ، ويقصدونه بالدعاء والتبرك كما يفعل كثير من الذين ضلوا عن سواء الصراط في كثير من ديار الإسلام .
(12) رواه الجماعة عن أنس ( انظر صحيح الجامع 2/414 ) .
(13) صحيح مسلم : 2375 .
(14) صحيح مسلم : 172 .
عِصمَة الرّسُل
هل الرسل معصومون عن الخطأ والمعصية ، وهل هي عصمة عامّة شاملة ؟ هذا ما سنحاول بيانه في هذا الفصل .
المبحث الأول
العِصمة في التحمّل وفي التبليغ
اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة (1) ، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ ، وقد تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه ، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه : ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى – إلاَّ ما شاء الله ) [ الأعلى : 6-7 ] ، وتكفل له بأن يجمعه في صدره : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به – إنَّ علينا جمعه وَقُرْآنَهُ – فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ ) [ القيامة : 16-18 ] .
(1/65)
________________________________________
وهم معصومون في التبليغ ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم ، ذلك أن الكتمان خيانة ، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك ، قال تعالى : ( يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله ، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر ( ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل – لأخذنا منه باليمين – ثمَّ لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44-46 ] .
ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم ، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى : ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] وما يدل على عصمته في التبليغ قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى – إن هو إلاَّ وحي يوحى ) [ النجم : 3-4 ] .
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من القتل :
عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من القتل حتى يبلغ رسالة ربه ، قال تعالى : ( يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] ، قال سفيان الثوري فيما نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية : " بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك ، وناصرك ومؤيدك على أعدائك ، ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك " (2). وقد أورد ابن كثير في تفسيره هذه الآية الأحاديث التي تفيد أنّ الصحابة كانوا يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية ، فلما نزلت ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس (3) .
وقد جعل اليهود في شاة مصلية أهدتها يهودية لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمّاً لتقتله ، فلما سألهم عما حملهم على ذلك قالوا : " أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك ، وإن كنت صادقاً لم يضرك " رواه البخاري (4) .
(1/66)
________________________________________
ولما سأل المرأة قالت : " أردت قتلك " فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (5) .
فقد عصم الله رسوله أن يقتله السم ، وأكل معه بعض أصحابه فماتوا كما أفادته بعض الأحاديث التي روت الواقعة .
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان :
وعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان ، وقد أعان الله رسوله على قرينه الشيطان فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، قالوا : وإياك ؟ قال : وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " (6) وفي حديث عائشة أنه سمى القرين شيطاناً (7) .
--------------------------------
(1) نقل الإجماع على العصمة في هذا أكثر من واحد انظر : مجموع الفتاوى 10/291 ، ولوامع الأنوار البهية : (2/304) .
(2) تفسير ابن كثير : 3/1205 .
(3) المصدر السابق : 3/1206 .
(4) جامع الأصول : 11/326 . ورقمه فيه : 1886 .
(5) جامع الأصول : 11/327 ، ورقمه فيه : 327 .
(6) صحيح مسلم : (2814) .
(7) صحيح مسلم: (2815) .
المبحث الثاني
عدم العصمة من الأعراض البشريّة كالخوف والنسيان
الأعراض البشرية كالخوف والغضب والنسيان تقع من الرسل والأنبياء ، وهي لا تنافي عصمتهم والأمثلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة ، فمن ذلك :
1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه :
أوجس إبراهيم عليه السلام في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم ، ولم يكن يعلم أنّهم ملائكة تشكلوا في صور البشر ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) [ هود : 70 ] .
2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح :
(1/67)
________________________________________
وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له ، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً ، ولكنه لم يتمالك نفسه ، إذ رأى تصرفات غريبة ، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه (1) ، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له : ( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) [ الكهف : 75 ] . وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [ الكهف : 82 ] .
3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل :
وغضب موسى غضباً شديداً ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح وفي نسختها هدى – عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه ، فوجدهم يعبدون العجل ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ الأعراف : 150 ] وفي الحديث : " ليس الخبر كالمعاينة ، إنَّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل ، فلم يلق الألواح ، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت " (2) .
4- نسيان آدم وجحوده :
(1/68)
________________________________________
ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده ، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كلٍّ منهم وبيصاً من نور ، ثمّ عرضهم على آدم ، فقال : أي ربِّ مَن هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي ربّ من هذا ؟ فقال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود ، فقال : ربِّ كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة ، قال : أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت ، فقال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ، قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته " (3) .
5- نبي يحرق قرية النمل :
ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فعاتبه الله على ذلك ، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة " (4) .
6- نسيان نبينا صلى الله عليه وسلم وصلاته الظهر ركعتين :
ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ ، وفي غير أمور التشريع ، فمن ذلك ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إحدى صلاتي العشيّ (5) ، فصلى ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه .
(1/69)
________________________________________
وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ، ولم تقصر ، فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلّى ما ترك ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر ، وسجد مثل سجود أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، فربما سألوه ، ثمّ سلّم ، فيقول : أنبئت أنّ عمران بن حصين ، قال : ثمّ سلّم " متفق عليه ، وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك .
وفي رواية ، قال : " بينما أنا أصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم من ركعتين ، فقام رجل من بني سليم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ " وساق الحديث ، رواه أحمد ومسلم .
وهذا يدل على أنّ القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه .
وفي رواية متفق عليها لما قال : " لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى ، قد نسيت " وهذا يدل على أن ذا اليدين تكّلم بعدما علم عدم النسخ كلاماً ليس بجواب سؤال (6) .
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بطروء النسيان عليه كعادة البشر ، ففي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ولكنّي إنّما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " (7) قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات .
أمّا الحديث الذي يروى بلفظ : " إني لا أنسى ، ولكن أُنسَّى لأسنّ " فلا يجوز أن يعارض به الحديث السابق ، لأنّ هذا الحديث – كما يقول ابن حجر – لا أصل له ، فإنّه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد (8) .
--------------------------------
(1) كانت المرة الأولى من موسى نسياناً ، أمّا الثانية والثالثة فكان متعمداً .
(2) رواه أحمد في مسنده ، والطبراني في الأوسط ، بإسناد صحيح : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 5/87 ) .
(3) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم : ( البداية والنهاية 1/87 ) .
(1/70)
________________________________________
(4) صحيح البخاري : 3319 . وصحيح مسلم : 2241 .
(5) قال الأزهري : العشى عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها ، فيكون المراد بهما الظهر أو العصر ، ( نيل الأوطار : 3/115 ) ، وقد حصل الجزم بأنها الظهر في إحدى الروايات .
(6) نص الحديث برواياته كما نقلها من منتقي الأخبار للمجد ابن تيمية انظر شرحه نيل الأوطار : 3/114 .
(7) رواه الجماعة إلاّ الترمذي ( نيل الأوطار : 3/125 ) .
(8) نيل الأوطار : 3/117 .
المبحث الثالث
مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء
الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم من وقائع ، ويحكمون وفق ما يبدو لهم ، فهم لا يعلمون الغيب ، وقد يخطئون في إصابة الحق ، فمن ذلك عدم إصابة نبي الله داود في الحكم ، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسألة .
فعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها : إنّما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنّما ذهب بابنك ، فتحاكمنا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى " (1) .
وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية وجلاّها ، فقد روت أمُّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم ، فقال : " إنّما أنا بشر ، وإنّه يأتيني الخصم ، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صدق ، فأقضى له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار ، فليأخذها أو ليتركها " (2) .
الذين ينفون عن الرسل والأنبياء هذه الأعراض مخالفون للنصوص :
(1/71)
________________________________________
ذهبت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية (3) إلى أن العصمة تقتضي ألا يقع من الأنبياء سهو ولا نسيان ولا خطأ ، ولا خوف ولا غير ذلك من الأعراض البشرية ، وقد سقنا لك النصوص من الكتاب والسنة الدالة على خلاف ذلك ، وهي نصوص لا تقبل تحويلاً ولا تأويلاً ، فعليك بالكتاب والسنة ففيهما الهداية .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : ( ووهبنا لداوود سليمان ) [ ص : 30 ] حديث رقم : 2428 .
(2) رواه البخاري ، كتاب المظالم ، باب إثم من خاصم في الباطل ورقمه : 2458 ، ورواه مسلم : 1713 .
(3) انظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر : ص79 .
العصمة من الشرك والمعاصي والذّنوب
المطلب الأول
العصمة من الكبائر
الأمة الإسلامية مجمعة على عصمة الأنبياء والرسل من الكبائر من الذنوب وقبائح العيوب ، كالزنى والسرقة والمخادعة ، وصناعة الأصنام وعبادتها ، والسحر ، ونحو ذلك ، وقد برأ كتاب الله وسنة رسوله أنبياء الله ورسله مما افتراه عليهم اليهود والنصارى في المحرف من كتبهم ، وإليك بعض ما نسبوه إليهم :
أولاً : ما نسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين من القبائح :
1- زعموا أن نبيّ الله هارون صنع عجلاً ، وعبده مع بني إسرائيل ، [ إصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج ] .
وقد بيّن ضلالهم هذا القرآن عندما حدثنا أنّ الذي صنع لهم عجلاً جسداً له خوار هو السامري ، وأن هارون قد أنكر عليهم إنكاراً شديداً .
2- أن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها . [ إصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين ] .
(1/72)
________________________________________
وقد كذبوا على خليل الرحمن ، وقد قص علينا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم هذه عند دخوله لمصر ، وفيها أن ملك مصر كان طاغية ، وكان إذا وجد امرأة جميلة ذات زوج قتل زوجها وحازها لنفسه ، فلما سئل إبراهيم عنها قال هي أخته ، يعني أخته في الإسلام ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله حفظ سارة عندما ذهبت إلى الطاغية ، فلم يمسها بأذى .
3- ومن ذلك أن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر ، ثمّ قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة بعد الأخرى .. [ سفر التكوين ، إصحاح (19) عدد (30) ] ومعاذ الله أن يفعل لوط ذلك ، وهو الذي دعا إلى الفضيلة طيلة عمره ، وحارب الرذيلة ، ولكنّه الحقد اليهودي يمتد إلى الكملة من البشر ، فلعنة الله على الظالمين .
4- وأن يعقوب عليه السلام سرق مواشٍ من حميّه ، وخرج بأهله خلسة دون أن يُعلمه .. [ سفر التكوين ، إصحاح (31) عدد (17) ] .
5- وأن روابين زنى بزوجة أبيه يعقوب ، وأن يعقوب عليه السلام ، علم بهذا الفعل القبيح وسكت .. [ سفر التكوين ، إصحاح (35) عدد (32) ] .
6- وأن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه ، ثم دبر حيلة لقتل الرجل ، فقتل ، وبعدئذ أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه ، فولدت له سليمان . [ سفر صموئيل الثاني إصحاح (11) عدد (1) ] .
7- وأن سليمان ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد .. [ سفر الملوك الأول ، إصحاح (11) عدد (5) ] .
هذه بعض المخازي والقبائح والكبائر التي نسبتها هذه الأمة المغضوب عليها إلى أنبياء الله الأطهار ، وحاشاهم مما وصفوهم به ، ولكنها النفوس المريضة تنسب إلى خيرة الله من خلقه القبائح ، ليسهل عليهم تدبير ذنوبهم ومعايبهم عندما ينكر عليهم منكر ، ويعترض عليهم معترض .
ثانياً : ما نسبه النصارى من القبائح إلى الأنبياء :
(1/73)
________________________________________
والنصارى ليسوا بأفضل من اليهود في هذا ، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح ، وذلك بتصديقهم بالتوراة المحرفة المغيرة الموجودة اليوم والتي فيها ما ذكرنا ، بالإضافة إلى ما في الإنجيل المحرف ومما فيه :
1- ورد في إنجيل (متى) أن عيسى من نسل سليمان بن داود ، وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب .. [ إصحاح متى الأول ، عدد (10) ] .
2- وفي إنجيل [ يوحنا إصحاح (2) عدد (4) ] أن يسوع أهان أمَّه في وسط جمع من الناس ، فأين هذا مما وصفه به القرآن ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ) [ مريم : 32 ] .
3- وأن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص .. [ إنجيل يوحنا ، إصحاح (10) عدد (8) ] .
هذا غيض من فيض مما تطفح به تلك الأناجيل المحرفة من وصف الأنبياء والرسل بما هم بريئون منه (1) ، إن الأنبياء والرسل أزكى الناس وأطهرهم وأفضلهم ، ووالله إن هؤلاء لضالون فيما وصفوا به أنبياء الله الأبرار الأطهار .
ولذا فإن الأمة الإسلامية هي المدافعة عن الأنبياء والرسل ، المشيدة بمآثرهم ، فهي وراثة الأنبياء ، المقيمة لدينهم ، بخلاف ما عليه اليهود والنصارى تجاه أنبيائهم .
المطلب الثاني
العصمة من الصغائر
ذهب أكثر علماء الإسلام إلى أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر ، وقال ابن تيمية : " القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام ، وجميع الطوائف ، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام ، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنّ هذا قول أكثر الأشعرية ، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول .." (2) .
الأدلة :
وقد استدل جماهير العلماء على دعواهم بأدلة :
(1/74)
________________________________________
1- معصية آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها ، ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) [ طه : 116-121 ] .
والآية في غاية الوضوح والدلالة على المراد ، فقد صرحت بعصيان آدم ربه .
2- ونوح دعا ربه في ابنه الكافر ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) [ هود : 45 ] ، فلامه ربه على مقالته هذه ، وأعلمه أنّه ليس من أهله ، وأن هذا منه عمل غير صالح ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود : 46] فاستغفر ربّه من ذنبه وتاب وأناب ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) [ هود : 47 ] .
والآية صريحة في كون ما وقع منه كان ذنباً يحتاج إلى مغفرة ( وإلاَّ تغفر لي وترحمني .. ) .
(1/75)
________________________________________
3- وموسى أراد نصرة الذي من شيعته ، فوكز خصمه فقضى عليه ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ القصص : 15-16 ] ، فقد اعترف موسى بظلمه لنفسه ، وطلب من الله أن يغفر له ، وأخبر الله بأنه غفر له .
4- وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني ، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب – فغفرنا له ذلك ) [ ص : 24-25 ] .
5- ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ التحريم : 1 ] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه ، أو تحريم مارية القبطية .
وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم ، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله ، والإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم : (عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءهُ الْأَعْمَى - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى .. ) [ عبس : 1-4 ] .
وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى : ( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ الأنفال : 68 ] .
هذه أمثلة اكتفينا بذكرها عن غيرها ، وإلاّ فقد ورد في القرآن مغاضبة يونس لقومه، وخروجه من قومه من غير إذن من ربه ، وما صنعه أولاد يعقوب بأخيهم يوسف في إلقائه في غيابة الجبِّ ، ثم أوحى الله إليهم وجعلهم أنبياء .
القائلون بعصمة الأنبياء من الصغائر :
(1/76)
________________________________________
يستعظم بعض الباحثين أن ينسب إلى الأنبياء صغائر الذنوب (3) التي أخبرت نصوص الكتاب والسنة بوقوعها منهم ، ويذهب هؤلاء إلى تهويل الأمر ، ويزعمون أنّ القول بوقوع مثل هذا منهم فيه طعن بالرسل والأنبياء ، ثم يتحملون في تأويل النصوص ، وهو تأويل يصل إلى درجة تحريف آيات الكتاب كما يقول ابن تيمية (4) ، وكان الأحرى بهم تفهم الأمر على حقيقته ، وتقديس نصوص الكتاب والسنة ، واستمداد العقيدة في هذا الأمر وفي كل أمر من القرآن وأحاديث الرسول ، وبذلك نحكمها في كل أمر ، وهذا هو الذي أمرنا به ، أمّا هذا التأويل ، والتحريف بعد تصريح الكتاب بوقوع مثل ذلك منهم فإنّه تحكيم للهوى ، ونعوذ بالله من ذلك .
وقد انتشرت هذه التأويلات عند الكتاب المحدثين ، وهي تأويلات فاسدة من جنس تأويلات الباطنية والجهمية ، كما يقول ابن تيمية (5) .
شبهتان (6) :
الذين منعوا من وقوع الصغائر من الأنبياء أوردوا شبهتين :
الأولى : أن الله أمر باتباع الرسل والتأسي بهم ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [ الأحزاب : 21 ] ، وهذا شأن كل رسول ، والأمر باتباع الرسول يستلزم أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله جميعها طاعات لا محالة ، لأنه لو جاز أن يقع من الرسول معصية لله تعالى لحصل تناقض في واقع الحال ، إذ يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها من حيث كوننا مأمورين بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم ، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية منهي عنها ، وهذا تناقض ، فلا يمكن أن يأمر الله عبداً بشيء في حال أنه ينهاه عنه .
(1/77)
________________________________________
وقولهم هذا يكون صحيحاً ، لو بقيت معصية الرسول خافية غير ظاهرة ، بحيث تختلط علينا الطاعة بالمعصية ، أمّا وأنّ الله ينبه رسله وأنبياؤه إلى ما وقع منهم من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها ، من غير تأخير فإنّ ما أوردوه لا يصلح دليلاً بل يكون التأسي بهم في هذا منصباً على الإسراع في التوبة عند وقوع المعصية ، وعدم التسويف في هذا ، تأسياً بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير .
الثانية : أنّ هؤلاء توهموا أن الذنوب تنافي الكمال ، وأنها تكون نقصاً وإن تاب التائب منها ، وهذا غير صحيح ، فإنّ التوبة تغفر الحوبة ، ولا تنافي الكمال ، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم ، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية ، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى ، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء ، ولما يقوم به من صالح الأعمال ، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات ، وقد قال بعض السلف : " كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة " ، وقال آخر : " لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه " .
وقد ثبت في الصحاح " أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة ، وعليها طعامه وشرابه ، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " (7) .
وفي الكتاب الكريم : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [البقرة : 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... ) [ الفرقان : 70 ] .
(1/78)
________________________________________
وفي يوم القيامة " يدني الله المؤمن ، فيضع عليه كنفه ويستره ، فيقول : أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا ، فيقول : نعم ، أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه هلك ، قال : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " (8) .
ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه ، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار ، فأدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين : ( ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الأعراف : 23 ] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) [ القصص : 16 ] . وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب ) [ص : 24] .
فالأنبياء لا يقرون على الذنب ، ولا يؤخرون التوبة ، فالله عصمهم من ذلك ، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها .
وبذلك انهارت هاتان الشبهتان ، ولم يثبتا في مجال الحجاج والنقاش ، وحسبنا بالأدلة الواضحة البينة التي تهدي للتي هي أقوم .
السبب في عصمة الأنبياء مما عصموا منه وعدم عصمتهم مما لم يعصموا منه :
الرسل والأنبياء بشر من البشر ، عصمهم الله في تحمل الرسالة وتبليغها ، فلا ينسون شيئاً ، ولا ينقصون شيئاً ، وبذلك يصل الوحي الذي أنزله الله إلى الذين أرسلوا إليهم كاملاً وافياً ، كما أراده الله جلّ وعلا ، وهذه العصمة لا تلازمهم في كلّ أمورهم فقد تقع منهم المخالفة الصغيرة ، بحكم كونهم بشراً ، ولكنّ رحمة الله تتداركهم ، فينبههم الله إلى خطئهم ، ويوفقهم للتوبة والأوبة إليه .
(1/79)
________________________________________
يقول الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر : " إنّ الوحي لا يلازم الأنبياء في كلّ عمل يصدر عنهم ، وفي كلِّ قول يبدر منهم ، فهم عرضة للخطأ ، يمتازون عن سائر البشر بأنّ الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره ، ويعاتبهم عليه أحياناً " (9) .
تكريم الأنبياء وتوقيرهم :
هذه الصغائر التي تقع من الأنبياء لا يجوز أن تتخذ سبيلاً للطعن فيهم ، والإزراء عليهم ، فهي أمور صغيرة ومعدودة غفرها الله لهم ، وتجاوز عنها ، وطهرهم منها ، وعلى المسلم أن يأخذ العبرة والعظة لنفسه من هذه ، فإذا كان الرسل الكرام الذين اختارهم الله واصطفاهم عاتبهم الله ولامهم على أمور كهذه ، فإنّه يجب أن نكون على حذر وتخوف من ذنوبنا وآثامنا ، وعلينا أن نتأسى بالرسل والأنبياء في المسارعة إلى التوبة والأوبة إلى الله، وكثرة التوجه إليه واستغفاره .
--------------------------------
(1) راجع لمزيد من الأمثلة كتاب : ( محمد نبي الإسلام ) ص146 .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/319 .
(3) الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مجمعون على عدم وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء والأئمة ، راجع عقائد الإمامية لمحمد رضا ص 80 ، 95 وعقائد الإمامية الاثني عشرية لإبراهيم الموسوي الزنجاني ص157 .
(4) مجموع الفتاوى : (10/313) .
(5) المصدق السابق .
(6) ممن أشبع الكلام على هاتين الشبهتين والإجابة عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية ، انظر مجموع الفتاوى : 10/293 – 313 ، 15/150 .
(7) انظر روايات الحديث في صحيح البخاري : 6308 ، 6309 ، وفي صحيح مسلم كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها الأحاديث : 2744 – 2747 .
(8) صحيح البخاري : 2441 ، وصحيح مسلم : 2768 .
(9) حياة محمد لهيكل ، انظر مقدمة الكتاب بقلم الشيخ المراغي ص 11 .
عصمَة غير الأنبيَاء
(1/80)
________________________________________
أهل السنة والجماعة لا ينسبون العصمة لغير الأنبياء والمرسلين ، حتى أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة – رضوان الله عليهم – وفيهم أبو بكر وعمر ليسوا بمعصومين ، وقد قال الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق في أولّ خطبة يخطبها بعد توليه الخلافة : " أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أخطأت فقوِّموني " . وعندما اعترضت امرأة على عمر بن الخطاب وجاءت بالدليل قال : أصابت امرأة وأخطأ عمر .
وقد نسب أقوام العصمة لغير الأنبياء من غير دليل ولا برهان ، افتراء على الله ، وسنعرض لبعض من ادعيت فيهم هذه الدعوى .
عصمة المُعِزّ الفاطمي ( العُبيدي ) :
يزعم أتباع (( المعز معد بن إسماعيل ، أبو تميم )) وهو الذي يسميه بعض الناس : المعزّ لدين الله الفاطمي – أنّه معصوم هو وأولاده عن الذنوب والأخطاء .
وهذا الزعم زعم باطل ، أرادوا به إضلال الناس بتنصيب هذا الطاغية في مقام النبوة، لتكون كلمته ديناً يتبع ، وإلاّ فإن هذا الذي يسمونه المعزّ ، وأولئك الذين كانوا يسمّون بالفاطميين ليسوا من سلالة فاطمة ، وإنما هم من سلالة عبيد الله القداح ، كانوا يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم ، مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي في كتابه الذي صنعه في الردّ عليهم : " ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض " (1) .
عصمة أئمة الشيعة الاثني عشرية :
(1/81)
________________________________________
يزعم الشيعة أن أئمتهم الاثني عشر معصومون عن الخطأ ، والعصمة التي ينسبونها لهم هي العصمة التي ينسبونها للأنبياء ، يقول أحد مُقدَّمي الشيعة المعاصرين مبيناً مفهوم عصمة الأئمة عندهم : " الأئمة لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة ، ونعتقد فيهم الإحاطة بكلّ ما فيه مصلحة للمسلمين " (2) وينقل إبراهيم الموسوي الزنجاني عن الصدوق قوله : " اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنهم معصومون مطهرون من كل دنس ، وأنهم لا يذنبون ذنباً لا صغيراً ولا كبيراً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون " (3) .
وهو يكفِّر الذين لا يقولون بعصمة الأئمة ، يقول بعد كلامه السابق مباشرة : " ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهَّلهم ، ومن جهلهم فهو كافر " (4) ، ثمّ قال : " واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان " (5) .
وقال المجلسي : " أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمداً وخطأً ونسياناً ، قبل النبوة والإمامة وبعدهما ، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد ابن بابويه وشيخه ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " (6) ، وعصمة الأئمة عندهم مسألة اعتقادية رئيسة ، ولذا فإنهم يكفرون مخالفيهم فيها ، ويترتب عليها أمور كثيرة منها : أنّ الكلام المنسوب إلى الأئمة يعتبرونه دليلاً شرعياً كالقرآن والسنة ، ولذا فإن التشريع لم ينته عندهم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مستمر إلى حين غيبة إمامهم الثاني عشر، بل يرون أنّه يمكن أن يتلقوا رسائل من الإمام الغائب بواسطة نوابّه .
(1/82)
________________________________________
ومن ذلك أنهم أحقّ بالخلافة من غيرهم ، فهم أحقّ من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة .
السر في دعوى العصمة (7) :
الأنبياء والرسل معصومون بالوحي ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 3-4 ] . فما سر عصمة الأئمة ؟ يقول علماء الشيعة الإمامية : إنّ الله جعل في الأئمة أرواحاً يسددهم بها ، فقد عنون الكليني في كتابه أصول الكافي لهذا الموضوع بقوله : " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (1/271-272) و " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " (1/273-274) ، وفي هذا الباب ستة أخبار منها عن أبي عبد الله قال في الروح الذي في هذه الآية ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) [الشورى : 52] خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله – عز وجل – أعظم من جبريل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعد .
وفي الباب الأسبق ذكر عن الإمام الصادق أن روح القدس خاصة بالأنبياء ، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار مع الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ، والإمام يرى به (8) ، وفسر في الحاشية الرؤية بقوله : يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض ، وما في عنان السماء ، وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى .
(1/83)
________________________________________
وفي كتاب بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي (25/47-99) " باب الأرواح التي فيهم " " أي في الأئمة " وأنهم مؤيدون بروح القدس وقال ابن بابوية القمي في " رسالة للصدوق في الاعتقادات " (ص108-109) .. " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعاني ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه " وهذا لقمي صاحب كتاب " فقيه من لا يحضره الفقيه " أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية يقول : " ويرى علماء الشيعة أنّ النبي إذا لم يوص فإنّه ناقص النبوة والرسالة ، وأنه قد ضيع أمته " (9) .
ومما يدلُّ على بطلان مدعاهم في الأئمة أنّ المعصوم يجب اتباعه من غير دليل ، ومخالفة غير المعصوم جائزة ، بل تكون واجبة إذا علمنا أنّه خالف النصَ ، وقد أمرنا الله بطاعته وطاعة رسوله ، وغير رسوله يطاع إن أمر بطاعة رسوله ، فإن تنازعنا رددنا الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [ النساء : 59 ] فلو كان الأئمة معصومين لكان أوجب الرد إلى الله وإلى الرسول والأئمة ، فدلّ عدم إيجاب الرد عليهم حال التنازع على عدم عصمتهم .
(1/84)
________________________________________
وقد كان عليّ وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضاً في العلم والفتيا ، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضاً ، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، ولقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ، ويكره كثيراً مما يفعله ، ويرجع علي في آخر الأمر إلى رأيه ، وتبين له في آخر الأمر أنّه لو فعل غير الذي فعله لكان الصواب ، وله فتاوى رجع ببعضها عن بعض ، والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان ، إلا أن يكون أحدهما ناسخاً للآخر . وقد وصى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق ، ولا يطلب هذا الأمر ، ولو كان معصوماً لما جاز للحسين مخالفته (10) .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/320 .
(2) الحكومة الإسلامية للخميني : ص91 .
(3) عقائد الإمامية الاثني عشرية : ص157 .
(4) المصدر السابق .
(5) المصدر السابق .
(6) بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي : (25/350-351) (انظر الإمامة للسالوس : ص21) .
(7) النقول المثبتة هما بمصادرها أخذناها من كتاب الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة د. علي أحمد السالوس : (ص20) .
(8) انظر عقائد الإمامية الاثني عشرية لإبراهيم الموسوي الزنجاني: ص161 .
(9) المصدر السابق : ص171 .
(10) راجع مجموع فتاوى : 35/120 ، 126 .
دلائل النّبّوة
تمهيد :
الأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى عباده يقولون للناس : نحن مرسلون من عند الله ، وعليكم أن تصدقونا فيما نخبركم به ، كما يجب عليكم أن تطيعونا بفعل ما نأمركم به ، وترك ما ننهاكم عنه ، وقد أخبر الله في سورة الشعراء أن نوحاً خاطب قومه قائلاً : ( أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) [ الشعراء : 106-108 ] . وبهذا القول نفسه خاطب رسل الله : هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، أقوامهم ، بل هي مقالة ودعوة كل رسول لقومه .
(1/85)
________________________________________
فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يقيم الله الدلائل والحجج والبراهين المبينة صدق الرسل في دعواهم أنهم رسل الله كي تقوم الحجة على الناس ، ولا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) [ الحديد : 25 ] أي : بالدلائل والآيات البينات التي تدلُّ على صدقهم .
تنوع الدلائل :
أفراد الأدلة الدالة على صدق كل رسول كثيرة متنوعة ، وقد عدّ الذين ألّفوا في دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أدلة صدقه ، فنافت على الألف عند بعضهم ، ويمكننا أن نقسم هذه الأدلة إلى أقسام ، يضمُّ كل قسم منها مجموعة متشابهة ، وقد أرجعنا أفراد الأدلة إلى خمسة أمور :
الأول : الآيات والمعجزات التي يجريها الله تصديقاً لرسله .
الثاني : بشارة الأنبياء السابقين بالأنبياء اللاحقين .
الثالث : النظر في أحوال الأنبياء .
الرابع : النظر في دعوة الرسل .
الخامس : نصر الله وتأييده لهم .
وسنتناول كلَّ واحد من هذه الخمسة بشيء من الإيضاح والتفصيل في خمسة مباحث .
المبحث الأول
الآيات والمعجزات
المطلب الأول
تعريف الآية والمعجزة
الآية – في لغة العرب – العلامة الدالة على الشيء ، والمراد بها هنا : ما يجريه الله على أيدي رسله وأنبيائه من أمور خارقة للسنن الكونية المعتادة التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها ، كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك وتسعى ، فتكون هذه الآية الخارقة للسنة الكونية المعتادة دليلاً غير قابل للنقض والإبطال ، يدلُّ على صدقهم فيما جاؤوا به .
وقد تتابع العلماء على تسمية هذه الآيات بالمعجزات ، والمعجزة – في اللغة – اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير (1) .
ويعرّف الفخر الرازي المعجزة في العرف : بأنّها أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة (2) .
(1/86)
________________________________________
ويعرفها ابن حمدان الحنبلي بأنَّها ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداءً بحيث لا يقدر أحدٌ على مثلها ، ولا على ما يقاربها (3) .
وعلى ذلك فإنّ الأمور التالية لا تعدّ من باب المعجزات :
1- الخوارق التي تعطى للأنبياء وليس مقصوداً بها التحدي ، كنبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتكثيره الطعام القليل ، وتسبيح الحصا في كفّه ، وإتيان الشجر إليه ، وحنين الجذع إليه ، وما أشبه ذلك .
2- الخوارق التي أعطاها الله لغير الأنبياء ويسميها المتأخرون كرامات .
والذين فرقوا هذا التفريق هم العلماء المتأخرون ، أمّا المعجزة في اللغة وفي عرف العلماء المتقدمين كالإمام أحمد فإنّها تشمل ذلك كله (4) .
وقد أطلقنا عليها اسم ( الآية ) كما جاء بذلك القرآن الكريم ، وهو اسم شامل لكل ما أعطاه الله لأنبيائه للدلالة على صدقهم سواءً أقصد به التحدي أم لم يقصد .
--------------------------------
(1) بصائر ذوي التمييز : 1/65 .
(2) لوامع الأنوار البهية : 2/289-290 .
(3) المصدر السابق .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/311 ، ولوامع الأنوار البهية : 2/290 .
المطلب الثاني
أنواع الآيات ( الجزء الأول )
إذا استقرأنا الآيات والمعجزات التي أعطاها الله لرسله وأنبيائه نجدها تندرج تحت ثلاثة أمور : العلم ، والقدرة ، والغنى (1) .
فالإخبار بالمغيبات الماضية والآتية ، كإخبار عيسى قومه بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم ، وإخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة ، وإخباره بالفتن وأشراط الساعة التي ستأتي في المستقبل – كل ذلك من باب العلم .
وتحويل العصا أفعى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وشقّ القمر وما أشبه هذا – من باب القدرة .
(1/87)
________________________________________
وعصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس ، وحمايته له ممن أراد به سوءاً ، ومواصلته للصيام مع عدم تأثير ذلك على حيويته ونشاطه من باب الغنى .
وهذه الأمور الثلاثة : العلم ، والقدرة ، والغنى ، التي ترجع إليها المعجزات لا ينبغي أن تكون على وجه الكمال إلاّ لله تعالى ، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من دعوى هذه الأمور ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) [ الأنعام : 50 ] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من دعوى علم الغيب ، وملك خزائن الأرض ، ومن كونه مَلَكاً مستغنياً عن الطعام والشراب والمال . والرسل ينالون من هذه الثلاثة المخالفة للعادة المطردة ، أو لعادة أغلب الناس بقدر ما يعطيهم الله تعالى ، فيعلمون من الله ما علمهم إيّاه ، ويقدرون على ما أقدرهم عليه ، ويستغنون بما أغناهم به .
أمثلة من آيات الرُّسُلِ :
أولاً : آية نبي الله صالح :
دعا صالح قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) [ النمل : 45 ] ، فكذبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الشعراء : 153-154] .
يقول ابن كثير : " ذكر المفسرون أنّ ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم ، فجاءهم رسول الله صالح ، فدعاهم إلى الله ، وذكرهم ، وحذّرهم ، ووعظهم ، وأمرهم ، فقالوا له : إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة – وأشاروا إلى صخرة هناك – ناقة ، من صفتها كيت وكيت ، وذكروا أوصافاً سموها ، ونعتوها ، وتعنتوا فيها ، وأن تكون عشراء طويلة ، من صفتها كذا وكذا .
(1/88)
________________________________________
فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام : أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به ، وتصدقوني بما أرسلت به ؟ قالوا : نعم ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك ، ثمّ قام إلى مصلاه فصلّى لله – عز وجل – ما قدّر له ، ثم دعا ربّه – عزّ وجل – أن يجيبهم إلى ما طلبوا ، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا ، أو على الصفة التي نعتوا .
فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً ، ومنظراً هائلاً ، وقدرة باهرة ، ودليلاً قاطعاً ، وبرهاناً ساطعاً ، فآمن كثير منهم ، واستمرَّ أكثرهم على كفرهم (2) ، وقد ذكر الله استجابته لطلبهم الآية ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) [ الشعراء : 155 ] ، ( قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ ) [ الأعراف : 73 ] ، وقد أخبر الله أنها كانت آية واضحة بينة لا خفاء فيها ، ولذا سماها مبصرة ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) [الإسراء : 59] .
ثانياً : معجزة إبراهيم عليه السلام :
حطّم إبراهيم آلهة قومه التي كانوا يعبدونها ، فأشعلوا له النار ، ورموه فيها ، فأمر الله – جل وعلا – النار ألا تصيبه بأذى وأن تكون عليه برداً وسلاماً ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) [ الأنبياء : 68-70 ] .
(1/89)
________________________________________
ومن الآيات التي أجراها على يد إبراهيم إحياء الموتى ، وقد قصّ الله علينا خبر ذلك : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) [ البقرة : 260 ] .
فأمره بذبح هذه الطيور ، ثم تقطيعها ، وتفريقها على عدة جبال ، ثم دعاها فلبت النداء ، واجتمعت الأجزاء المتفرقة ، والتحمت كما كانت من قبل ، ودبت فيها الحياة ، وطارت محلقة في الفضاء ، فسبحان الله ما أعظم شأنه ، وأجلَّ قدرته .
ثالثاً : آيات نبي الله موسى عليه السلام :
أعطى الله موسى تسع آيات بينات ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) [الإسراء : 101 ] .
1- وأعظم هذه الآيات وأكبرها العصا التي كانت تتحول إلى حيّة عظيمة عندما يلقيها على الأرض ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ) [ طه : 17-21 ] .
(1/90)
________________________________________
وكان من شأن هذه العصا أن ابتلعت عشرات من الحبال والعصي التي جاء بها فرعون ليغالبوا موسى ، ( قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى - قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) [ طه : 65-69 ] .
وعندما عاين السحرة ما فعلته حيَّة موسى ، علموا أنَّ هذا ليس من صنع البشر ، إنما هو من صنع الله خالق البشر ، فلم يتمالكوا أن خروا أمام الجموع ساجدين لله ربِّ العالمين ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) [ طه : 70 ] .
2- ومن الآيات التي أرسل بها موسى ما ذكره الله في قوله : ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ) [ طه : 22 ] ، كان يدخل يده في جيبه ( درع قميصه ) ، ثم ينزعها ، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء ، أي : من غير برص ، ولا بهق .
وذكر الله سبع آيات في سورة الأعراف ، فقد ذكر الله أنه أصابهم :
3- بالسنين ، وهي ما أصابهم من الجدب والقحط ، بسبب قلة مياه النيل ، وانحباس المطر عن أرض مصر .
4- نقص الثمرات ذلك أن الأرض تمنع خيرها ، وما يخرج يصاب بالآفات والجوائح .
5- الطوفان الذي يتلف المزارع ويهدم المدن والقرى .
6- الجراد الذي لا يدع خضراء ولا يابسة .
7- القمّل ، وهي حشرة تؤذي الناس في أجسادهم .
8- الضفادع التي نغصت عليهم عيشتهم لكثرتها .
9- الدم الذي يصيب طعامهم وشرابهم .
(1/91)
________________________________________
( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) [ الأعراف : 130-133 ] .
آيات أخرى :
هذه الآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون ، وإلاّ فالآيات التي أجراها الله على يد موسى أكثر من ذلك ، فمن ذلك ضرب موسى البحر بعصاه وانفلاقه ، ومن هذا ضربه الحجر فينفلق عن اثنتي عشرة عيناً ، وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء ، وغير ذلك من الآيات .
رابعاً : معجزات نبي الله عيسى عليه السلام :
من معجزاته التي أخبرنا الله بها أنّه كان يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثمَّ ينفخ فيها فتصبح طيوراً بإذن الله وقدرته ، ويمسح الأكمه فيبرأ بإذن الله ، ويمسح الأبرص فيذهب الله عنه برصه ، ويمرُّ على الموتى فيناديهم فيحييهم الله تعالى ، وقد حكى القرآن لنا هذا في قوله تعالى مخاطباً عيسى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي ) [المائدة : 110] .
(1/92)
________________________________________
ومن آياته تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء عندما طلب الحواريون من عيسى إنزالها ، وكانت على الحال التي طلبها عيسى عيداً لأولهم وآخرهم ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ - قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ - قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) [المائدة : 112-115] .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/312-313 .
(2) البداية والنهاية : 1/134 .
أنواع الآيات ( الجزء الثاني )
خامساً : آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه :
أجرى الله على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات باهرات ، وآيات مبصرات ، إذا نظر فيها مريد الحقّ ، دلتّه على أنها شهادة صادقة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد عدّها بعض العلماء فنافت على ألف معجزة ، وقد ألفت فيها مؤلفات، وتناولها علماء التوحيد والتفسير والحديث والتاريخ بالشرح والبيان .
1- الآية العظمى :
(1/93)
________________________________________
وأعظم الآيات التي أعطيها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، بل أعظم آيات الرسل كلّهم القرآن الكريم ، والكتاب المبين ، وهو آية تخاطب النفوس والعقول ، آية باقية دائمة إلى يوم الدين ، لا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [فصلت: 41-42] .
وقد تحدى الله بهذا الكتاب فصحاء العرب ، وقد كانت الفصاحة والبلاغة وجودة القول هي بضاعة العرب التي نبغت بها ، وقد عادى العرب دعوة الإسلام ورسول الإسلام، وكان مقتل هذه الدعوى أن يعارض فصحاؤهم هذا الكتاب ، ويأتوا بشيء من مثله ، ولكنهم عجزوا عن ذلك ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 23-24 ] .
نمط فريد من المعجزات :
(1/94)
________________________________________
شاء الله تعالى أن تكون معجزة محمد صلى الله عليه وسلم نمطاً مخالفاً لمعجزات الرسل ، وكان الله قادراً على أن ينزل معجزة حِِسيّة تذهل من يراها : ( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) [ الشعراء : 4 ] . فلو شاء الله تعالى لأنزل من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً ، ولا انصرافاً عن الإيمان ، ويصور خضوعهم لهذه الآية في صورة حسية : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) [الشعراء :4] ملوية محنية ، حتى لكأنَّ هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون . ولكنه – سبحانه – شاء أن يجعل معجزة هذه الرسالة الأخيرة آية غير قاهرة ، لقد جعل آيتها القرآن ، منهاج حياة كاملة ، معجزاً في كلِّ ناحية :
معجزاً في بنائه التعبيري ، وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ، كما هي الحال في أعمال البشر ، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات ، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدلّ على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال .
معجزاً في بنائه الداخلي ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة ، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ، وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية ، إذ تقصر عن تلبيتها .. ، وكلها مشدودة إلى محور واحد ، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة ، ولا بد أن يكون هناك علم مطلق ، غير مقيد بقيود الزمان والمكان ، هو الذي أحاط به هذه الإحاطة ، ونظمه هذا التنظيم .
(1/95)
________________________________________
معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة .
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة – ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم – ذلك أنّ هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلّها ، وللأجيال كلها ، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان وأهل مكان ، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب ، لكل أمة ولكل جيل ، والخوارق القاهرة لا تلوي إلاّ أعناق من يشاهدونها ، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعاً يشهد .. ، فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمدُّ منه أهل هذا الزمان ما يقوِّم حياتهم – لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم – ويلبي حاجاتهم كاملة ، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل ، وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجده نحن ، ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ، ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد (1) .
2- الإسراء والمعراج :
(1/96)
________________________________________
من الآيات البينات والمعجزات الخارقات إسراء الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث جمع الله له الأنبياء فصلّى بهم إماماً ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. ) [الإسراء : 1] ، ومن هناك عرج به إلى السماوات العُلى ، وهناك رأى من آيات ربّه الكبرى ، رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها ، وصعد به إلى سدرة المنتهى ، وجاوز السبع الطباق وكلّمه الرحمن وقربه ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) [ النجم : 12-18 ] .
وقد استعظمت قريش دعوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت القوافل تمضي الأسابيع في الذهاب إلى بيت المقدس والعودة منها ، فكيف يتسنى لرجل أن يمضي ويعود في جزء من ليلة ! ذلك أمر عجيب ، وهو حقاً عجيب ، ولكن العجب يتلاشى إذا علمنا أنَّ الذي أسرى به هو الله تعالى ، والله على كلّ شيء قدير .
وقد أرانا الله في هذه الأيام الوسائل التي تنقل الناس فوق ظهر هذه الأرض من مكان إلى مكان بسرعة هائلة ، كان يعدها الناس قديماً ضرباً من الخيال .
3- انشقاق القمر :
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر ، فقد سأل أهلُ مكة الرسولَ صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر شقين ، حتى رأوا حراء بينهما ، وقد كان القمر عند انشقاقه بدراً .
وقد سجّل الله ذكر هذه الآية في كتابه ، قال ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) [ القمر : 1-2 ] .
(1/97)
________________________________________
وينقل ابن كثير إجماع المسلمين على وقوع هذه الآية ، كما يذكر أنَّه قد وردت الأحاديث بذكر انشقاق القمر متواترة من طرق متعددة تفيد القطع (2) .
وقد شاهد هذه المعجزة الناس في أنحاء الجزيرة العربية ، فإنَّ أهل مكة لم يصدقوا ، وقالوا : سحرنا محمد ، ثمَّ استدركوا قائلين : انظروا ما يأتيكم به السفار ، فإنَّ محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلَّهم ، وفي اليوم التالي سألوا من وفد إليهم ، من خارج مكة ، فأخبروا أنَّهم قد رأوه .
وقد شاهد الناس انشقاقه في خارج الجزيرة العربية ، يقول ابن كثير : " شوهد انشقاقه في كثير من بقاع الأرض ، ويقال : إنّه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند ، وبني بناء في تلك الليلة ، وأرخ بليلة انشقاق القمر " (3) .
قد يقال : " إن انشقاق القمر ليس شيئاً مستحيلاً ، فالعلم قد شاهد انشقاق مذنب بروكس " شقين سنة 1889م ، وكذلك انقسام مذنب ((بيلا)) إلى جزءين سنة 1846م ، كما ذكر الفلكي (( سبنسر جونز )) في فصل المذنبات والشهب من كتاب (( عوالم بلا نهاية )) .
وفي الإجابة يقال :" الفرق بين انشقاق القمر وانشقاق هذين المذنبين أنهما لم يلتئما بعد الانشقاق ، والقمر التأم ، وهو الفرق المنتظر بين الظاهرة الفلكية في الفطرة ، والمعجزة الفلكية على يد رسول ، لأنَّ المعجزة مؤقتة تزول بزوال وقتها وتحقق الغرض منها ، ولو استمرت لكانت ظاهرة طبيعية صرفة ، ولخرجت عن دائرة المعجزات " .
4- تكثيره الطعام صلوات الله وسلامه عليه :
(1/98)
________________________________________
وقد وقع هذا منه صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، فمن ذلك ما رواه أنس ، قال : قال أبو طلحة لأمَّ سُلَيم ، لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً ، أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ قالت : نعم ، فأخرجت أقراصاً من شعير ، ثمَّ أخرجت خماراً لها ، فلفت الخبز ببعضه ، ثمّ دسته تحت يدي ، ولاثتني (4) ببعضه ، ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلك أبو طلحة ؟ " فقلت : نعم ، قال : " بطعام ؟ " قلت : نعم ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمن معه : " قوموا " فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة ، فأخبرته ، فقال أبو طلحة ، يا أمَّ سليم ، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم .
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلمي يا أم سليم ، ما عندك ؟ " فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففت، وعصرت أم سليمة عكة ، فأدَمَتهُ ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " ، فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " فأكل القوم كلهم ، وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً " (5) .
(1/99)
________________________________________
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " لما حُفِر الخندقُ رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شديداً ، فانكفَيتُ إلى امرأتي فقلتُ : هل عندك شيء ؟ فإني رأيت برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً . فأخرجتْ إليَّ جِراباً فيه صاعٌ من شعير ، ولنا بُهيمةٌ داجن فذبحتها ، وطحنت الشعير ، ففرغت إلى فراغي ، وقطعتها في برمتها ، ثم ولَّيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معهُ . فجئتُهُ فساررتهُ فقلت : يا رسول الله ذبحنا ُبهيمة لنا وطحنّا صاعاً من شعير كان عندنا ، فتعال أنت ونفر معك ، فصاحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : يا أهل الخندق ، إن جابراً قد صنع سُوراً ، فحيَّ هلا بكم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : لا تُنزلُنَّ برمتكم ، ولا تخبزُنَّ عجينكم حتى أجيء . فجئتُ وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقدُمُ الناس ، حتى جئتُ امرأتي فقالت : بكَ وبك . فقلت : قد فعلتُ الذي قلتِ. فأخرجَتْ له عجيناً ، فبصقَ فيه وبارك ، ثم عمدَ إلى بُرمَتِنا فبصق وبارك . ثم قال : ادعُ خابزةً فلتخبز معي . واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها ، وهم ألف ، فأقسم باللهِ لقد أكلوا حتى تركوهُ وانحرفوا ، وإن بُرْمَتَنا لتغِطُّ كما هي : وإن عجيننا ليُخبَز كما هو " (6) .
5- تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة :
(1/100)
________________________________________
وقد وقع من هذا شيء كثير من الرسول صلى الله عليه وسلم ، نذكر طرفاً منه ، فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله ، قال : عطش الناس يوم الحديبية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة ( ظرف للماء ) فتوضأ منها ، ثمَّ أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما لكم " ؟ قالوا : ليس عندنا ماء نتوضأ به ، ونشرب إلا ما في ركوتك ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون ، قال : فشربنا ، وتوضأنا ، قيل لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة " (7) .
ومن ذلك تكثيره ماء بئر الحديبية في يوم الحديبية ، فقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : " كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها ، حتى لم نترك فيها قطرة ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير البئر ، (طرفها) ، فدعا بماء فمضمض ، ومجّ في البئر ، فمكثنا غير بعيد ، ثم استقينا حتى رَوِينا ، ورَوَت أو صَدَرت ركائبنا " (8) .
وعن عبد الله بن مسعود قال : كنّا نعدُّ الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء ، فقال : " اطلبوا فضلة من ماء " فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ، ثم قال : " حيَّ على الطَّهور المبارك ، والبركة من الله " فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل " (9) .
6- كف الأعداء عنه :
(1/101)
________________________________________
ومن ذلك استجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان مهاجراً ، وأدركه سراقة ابن مالك ، فارتطمت بسراقة فرسه إلى بطنها في أرض صلبة ، فقال سراقة : إني أراكما قد دعوتما عليَّ ، فادعوا لي ، فالله لكما أن أردّ عنكما الطلب ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا ، فجعل لا يلقى أحداً إلاّ قال : كفيتم ، ما هاهنا ، فلا يلقى أحداً إلاّ ردّه . متفق عليه (10) .
وفي معركة حنين انهزم المسلمون وثبت الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة ، فلّما حمى الوطيس ، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات ، فرمى بهنَّ وجوه الكفار ، ثم قال : " انهزموا وربِّ محمد " يقول العباس راوي الحديث : فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته ، فما زلت أرى حدّهم كليلاً ، وأمرهم مدبراً (11) .
وفي رواية سلمة بن الأكوع ، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً ، فولّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثمَّ قبض قبضة من تراب الأرض ، ثمَّ استقبل به وجوههم ، فقال : " شاهت الوجوه " ، فما خلق الله منهم إنساناً إلاّ ملأ الله عينيه تراباً بتلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " (12) .
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى أنه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته ، أو ليعفرن وجهه في التراب ، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً ، أراد أن يفعل ما أقسم عليه ، فلما اقترب منه " ما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي يديه ، فقيل له: مالك ؟ فقال : إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً " (13) .
(1/102)
________________________________________
--------------------------------
(1) راجع في ضلال القرآن : 19-2584 بتصرف يسير .
(2) البداية والنهاية : 3/118 .
(3) البداية والنهاية : 3/120 .
(4) لاثتني ، أي : لفت علي بعض الخمار عمامة .
(5) صحيح البخاري : 3578 . وصحيح مسلم : 2040 .
(6) صحيح البخاري : 4102 . وصحيح مسلم : 2039 .
(7) صحيح البخاري : 4152 .
(8) صحيح البخاري : 3577 .
(9) صحيح البخاري : 3579 .
(10) مشكاة المصابيح : (3-166) .
(11) صحيح مسلم : 1775 .
(12) صحيح مسلم : 1777 بشيء من الاختصار .
(13) صحيح مسلم : 2797 .
أنواع الآيات ( الجزء الثالث )
يتبع آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه :
7- إجابة دعوته :
أ- اهتداء أم أبي هريرة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن أبي هريرة قال : كنت أدعو أميَّ إلى الإسلام وهي مشركة ، فدعوتها يوماً ، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، قلت : يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام ، فتأبى عليَّ ، فدعوتها اليوم ، فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال : " اللهمَّ اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت ، فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف [ مردود ] فسمعَتْ أمي خشف قدمي ، فقالت : مكانك يا أبا هريرة ، وسمعتُ خضخضة [ تحريك ] الماء ، قال : فاغتسلَتْ ، ولبسَتْ درعها ، وعجلت عن خمارها ، ففتحت الباب ، ثم قالت : يا أبا هريرة : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فرجعت إلى رسول الله فأتيته ، وأنا أبكي من الفرح ، قال : قلت : يا رسول الله ، أبشر ، قد استجاب الله دعوتك ، وهدى أم أبي هريرة ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال خيراً " (1) .
ب- أصبح بدعوته فارساً :
(1/103)
________________________________________
عن جرير بن عبد الله ، قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تُريحني من ذي الخلَصةِ ؟ فقلت : بلى . فانطلقتُ في خمسين ومائة فارسٍ من أحمسَ ، وكانوا أصحابَ خيل وكنتُ لا أثبُتُ على الخيل ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري ، وقال : " اللهم ثبته ، واجعلهُ هادياً مهدياً . قال : فما وقعتُ عن فرس بعدُ . قال : وكان ذو الخلَصة بيتاً باليمن لخَثْعَم وبجيلة فيه نُصُبٌ تُعبَد ، يقال له : الكعبة . قال : فأتاها فحرَّقها بالنار وكسرها " (2) .
ج- إغاثة الله الناس بدعائه :
وعن أنس بن مالك قال : أصابت الناس سنةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ في يوم الجمعة ، قام أعرابيٌ فقالَ : يا رسول الله هَلَكَ المالُ ، وجاعَ العيالُ ، فادعُ الله لنا . فرفعَ يديه ، وما نرى في السماء قَزَعةً ، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثارَ السحابُ أمثالَ الجبالِ ، ثم لم ينزلْ عن منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته ، فمُطِرنا يومنا ذلك ، ومن الغدِ ، والذي يليه حتى الجمعةِ الأخرى ، وقام ذلك الأعرابي – أو قال غيره – فقال : يا رسول الله تهدَّمَ البناء وغرقَ المالُ ، فادعُ الله لنا . فرفعَ يديه فقال : " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يُشيرُ بيده إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجت ، وصارت المدينةُ مثلَ الجوبة ، وسال الوادي قناةُ شهراً ، ولم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدّث بالجود (3) .
وفي رواية قال : " اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام ، والجبال ، والآجام ، والظراب ، والأودية ومنابت الشجر " قال : فأقلعَتْ وخرجنا نمشي في الشمس (4) .
أصابت الدعوة يد مستكبر :
(1/104)
________________________________________
وعن سلمة بن الأكوع أنَّ رجلاً أكل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال : " كُل بيمينك " قال : لا أستطيع . قال : " لا استطعت " ما مَنَعَه إلا الكبرُ . قال: فما رفعها إلى فيه (5) .
د- بركة دعوة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تصيب بعير جابر :
وعن جابر قال : غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضحٍ لنا قد أعيا ، فلا يكادُ يسيرُ فقال لي : " ما لبعيرك ؟ " قال: قلت : عيي ، قال : فتخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له ، فما زال بين يدي الإبلِ قدّامها يسيرُ . فقال لي : " كيف ترى بعيرك ؟ " قلت : بخير ، قد أصابته بركتُك . قال : " أَفتبيعُنيه ؟ " قال : فاستحييت ، ولم يكن لنا ناضحٌ غيره ، قال : فقلت : نعم ، قال : " فبعنيه " فبعته إياه على أن لي فقار ظهره إلى المدينة ، .. قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، غدوت عليه بالبعير ، فأعطاني ثمنه وردَّه عليَّ " (6) .
8- إبراء المرضى :
أ- إبراؤه من كسرت رجله :
عن البراء بن عازب قال : بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافعٍ (7) ، فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلاً وهو نائم فقتله (8) ، فقال عبد الله بن عتيكٍ : فوضعتُ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتحُ الأبواب باباً فباباً ، حتى انتهيتُ إلى درجة له فوضعت رجلي ، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض ، فوقعت في ليلة مقمرة ، فانكسرت ساقي ، فعصبتها بعمامةٍ فانطلقت إلى أصحابي ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال : ابسط رجلك فبسطت رجلي ، فمسحها فكأنها لم أشتكِها قطُّ (9) .
ب- إبراؤه عين علي بن أبي طالب :
(1/105)
________________________________________
وعن سهل بن سعدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديه ، يحبُّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناسُ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال : " أين عليُّ بنُ أبي طالب ؟ " فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ، قال : " فأرسلوا إليه " ، فأُتي به ، فبصق رسول الله في عينيه ، ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجعٌ ، فأعطاه الراية ، فقال عليٌّ : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال : " انفُذْ على رسلك (10) حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعُهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حقِّ الله فيه ، فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لكَ حمرُ النعم " (11) .
ج- ساق سلمة بن الأكوع :
وعن يزيد بن أبي عبيد قال : رأيت أثر ضربةٍ في ساق سلمة فقلت : يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال : هذه ضربةٌ أصابتني يوم خيبر ، فقال الناسُ : أصيب سلمة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات ، فما اشتكيتها حتى الساعة (12) .
د- إخراجه الجن من المصروع :
وعن يعلى بن مرة الثقفي قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بماءٍ، فأتتهُ امرأةٌ بابن لها به جنةٌ ، فأخذَ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخرِهِ ثم قال : " اخرج فإني محمد رسول الله " ثم سرنا ، فلما رجعنا مررنا بذلك الماء ، فسألها عن الصبي ، فقالت : والذي بَعَثَك بالحقِّ ما رأينا منه ريباً بعدك (13) .
9- إخباره بالأمور الغيبية :
(1/106)
________________________________________
فمن ذلك إخباره عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وإخباره عن الملائكة وصفاتهم ، وإخباره عن عالم الجن ، وعن الجنة والنار ، ومن ذلك إخباره عن الحوادث التي وقعت ، كما أخبر عن آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين أقوامهم ، وهو حديث فيه تفصيل وبيان ، ومثل هذا لا يتأتى من رجل أمي لم يكن كاتباً ولا قارئاً ، ولم يخالط الذين درسوا تاريخ الأمم وعرفوا أخبارها ، ثم هو يأتي بأخبار لم يبلغها علم الأمم ، وأخبار يكتمها علماء أهل الكتاب ، ويصحح لهم كثيراً مما عندهم ، وكل ذلك دليل على أنه إنما جاء بهذه العلوم من العليم الخبير ، ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ ) [ هود : 49 ] .
وقد أشار القرآن إلى هذا الدليل في عدة مواضع ، فمن ذلك قوله في سياق قصة مريم : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) [ آل عمران : 44 ] .
وفي سياق قصة موسى ، قال : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [ القصص : 46 ] .
وقد كان يخبر الأخبار المغيبة التي وقعت في حينها ، فقد أخبر باستشهاد قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة ، وباستلام خالد بن الوليد الراية من بعدهم في اليوم الذي وقع فيه الحدث ، رواه البخاري (14) .
وعندما توفي النجاشي أخبر بوفاته في اليوم نفسه الذي توفي فيه ، وكذلك عندما توفي كسرى .
جزيرة العرب كانت جنات وأنهاراً وحضارة عاد إرم ذات العماد :
(1/107)
________________________________________
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه " أن أرض العرب ستعود جنات وأنهاراً " (15) وهذا يفيد أن جزيرة العرب كانت في الماضي جناناً وارفة الظلال ، تجري من تحتها الأنهار ، وهذا يدل على وجود حضارات قامت في تلك الجنان ، وعلى شطآن تلك الأنهار ، وقد أخبرنا القرآن عن حضارة قوم عاد ، وهي مدينة (( إرم )) التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وقوم عاد أصحاب مدينة (( إرم )) ليس لهم ذكر في كتب أهل الكتاب لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في غيرهما ، وقد شكك كثير من علماء التاريخ بوجود عاد كما شككوا بوجود حاضرتهم (( إرم )) .
واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن أرض العرب كانت جنات وأنهاراً ، وصدق ما أخبر به القرآن عن عاد وحاضرتها (( إرم )) ففي رحلة من رحلات الفضاء . زود مكوك الفضاء بجهاز رادار له قدرة اختراق التربة إلى عشرة أمتار ، وحين مر المكوك بصحراء الربع الخالي ، صور مجرى لنهرين جافين يندفع أحدهما من الغرب إلى الشرق والآخر من الجنوب إلى الشمال ، فانبهر الأمريكيون لهذا الاكتشاف الذي لا يوجد عند علمائهم علم به .
وفي رحلة ثانية زودوا المكوك بجهاز رادار له قدرة اختراق أكبر ، فصور مجرى النهرين وأنهما يصبان في بحيرة قطرها يزيد على أربعين كيلومتراً في جنوب شرق الربع الخالي ، وصور المكوك بين مصبي النهرين وعلى ضفاف البحيرة عمراناً لا تعرف البشرية نظيراً له في ضخامته ، فجمعوا علماء التاريخ وعلماء الآثار وعلماء الأديان ، وقالوا ماذا يمكن أن يكون هذا العمران ؟ فأجمعوا على أنه قصور إرم التي وصفها القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )[الفجر : 7-8].
(1/108)
________________________________________
وقالوا في تقريرهم : إن البشرية لم تعرف في تاريخها الطويل عمراناً في ضخامة هذا العمران . واكتشفوا حينما بدأوا في إزالة الرمال عن هذه المدينة قلعة ثمانية الأضلاع على أسوار المدينة ، مقامة على أعمدة ضخمة عديدة يصفها ربنا – تبارك وتعالى – بقوله عز من قائل : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )[الفجر : 7-8] .
وذكر التقرير أن هذه الحضارة التي لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخرى قد طمرتها عاصفة رملية غير عادية ، وقد أطال القرآن القول في عاد وحاضرتهم (( إرم )) وتكذيبهم لرسولهم هود ، وكيف حل بهم العذاب ، إذ أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات ، استمرت تضرب ديارهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً ، وقد أبقى الله مساكنهم قائمة ليأتي الباحثون عن الخافي في باطن الأرض ، فتظهر آلاتهم ما حدّث به القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام ، على النحو الذي أخبر به ، يقول الحق تبارك وتعالى :( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ - مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) [ الذاريات : 41-42 ] .
ويقول عز من قائل :( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) [فصلت : 15-16] .
(1/109)
________________________________________
ويقول :( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ - فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون )[ الأحقاف : 21-26 ] .
ويقول :( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ - تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) [ القمر : 18-22 ] .
(1/110)
________________________________________
ويقول : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ - فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ) [ الحاقة : 6-8 ] .
ويقول : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ - إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) [ الفجر : 6-8 ] (16) .
ومن ذلك إخباره بالغيوب الآتية ، وبعض هذه الأخبار كان يقع ويتحقق في الحال أو بعد فترة وجيزة .
فمن ذلك أنه أخبر بالمواضع التي سيصرع فيها صناديد الكفر قبل وقوع معركة بدر، عن أنس رضي الله عنه ، قال : فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان " ويضع يده هاهنا هاهنا ، قال : فما ماط [ أي ما بعد ، وما تجاوز ] أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه مسلم (17) .
ومن هذه الغيوب التي أخبر بها ما وقع بعد وفاته ، فمن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " (18) . وقد وقع الأمر كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه .
وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار مما سيقع في مقبل الزمان ، قال حذيفة بن اليمان ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ، فما ترك شيئاً يكون من قيامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته ، فأراه فأذكره ، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (19) .
(1/111)
________________________________________
ومن ذلك ما أخبر به من الفتن وأشراط الساعة وغير ذلك ، وقد تكفلت بذكرها كتب الحديث .
10- حنين الجذع :
في صحيح البخاري وغيره " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح عليه " وفي رواية عند البخاري أيضاً: " فلما وضع المنبر : سمعنا للجذع مثل صوت العشار ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه " (20) .
11- انقياد الشجر وتسليمه وكلامه :
عن جابر قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح [واسعاً]، فذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستَتِرُ به ، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي ، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال : " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كالبعير المخشوش (21) ، الذي يصانع قائدَه ، حتى أتى الشجرة الأخرى ، فأخذ بغصنٍ من أغصانها ، فقال : " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كذلك ، حتى إذا كان بالمنصف [الوسط] مما بينهما قال : " التئما علي بإذن الله " فالتأمتا ، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتةٌ ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ " (22) .
وعن يعلى بن مُرة الثقفي قال : سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا منزلاً ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرض حتى غشيته ، ثم رجعت إلى مكانها ، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتُ له فقال : هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُذن لها (23) .
(1/112)
________________________________________
وعن أنس قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزينٌ ، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة ، فقال : يا رسول الله ، هل تحبُّ أن نريك آية ؟ قال : نعم . فنظر إلى شجرةٍ من ورائه فقال : ادعُ بها . فدعا بها فجاءت فقامت بين يديه ، فقال : مرها فلترجع فأمرها فرجعت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبي حسبي " (24) .
وعن ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بمَ أعرفُ أنك نبيٌّ ؟ قال : " إن دعوت هذا العذقَ (25) من هذه النخلة يشهدُ أني رسول الله " فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزلُ من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ارجع " فعاد ، فأسلم الأعرابي (26) .
وعن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي قال : سألتُ مسروقاً : من آذن (27) النبي صلى الله عليه وسلم بالجنِّ ليلة استمعوا القرآن قال : حدثني أبوك – يعني عبد الله بن مسعود – أنه قال : آذنت بهم شجرةٌ (28) .
وعن ابن عمر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأقبل أعرابي ، فلما دنا قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : تشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأنَ محمداً عبدهُ ورسوله ؟ قال : ومَن يشهدُ على ما تقولُ ؟ قال : هذه السَّلَمة (29) ، فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي ، فأقبلت تخدُّ (30) الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثاً أنه كما قال ، ثم رجعت إلى منبتها (31) .
12- تسليم الحجر :
عن جابر بن سَمُرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أعرفُ حجراً بمكةَ كان يسلمُ عليَّ قبل أن أبعثَ إني لأعرفُهُ الآن (32) .
13- شكوى البعير :
(1/113)
________________________________________
عن يعلى بن مرة الثقفي قال : " بينما نحنُ نسيرُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعيرٍ يُسنَى (33) عليه ، فلما رآه البعيرُ جرجَرَ (34) ، فوضع جرانه (35) ، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أين صاحبُ هذا البعير ؟ فجاءه فقال : " بِعْنِيهِ " فقال : بل نهبُهُ لكَ يا رسول الله ، وإنه لأهلِ بيتٍ ما لهم معيشةٌ غيرُهُ .
قال : أما إذ ذكرتَ هذا من أمره ، فإنه شكا كثرةَ العمل ، وقلةَ العلفِ ، فأحسنوا إليه " (36) .
وعن عبد الله بن جعفر قال : أردفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم ، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أُحدثُ به أحداً من الناس ، وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتِهِ (37) هدفٌ أو حائشُ (38) نخلٍ . فدخلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته (39) إلى سنامه وذفراه (40) . فسَكَنَ فقال : مَن ربُّ هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟ فجاءه فتىً من الأنصار فقال : لي يا رسول الله . فقال : أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها ؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجعيه وتُدئبُهُ " (41) .
14- خاتم النبوة :
من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة بين كتفيه ، ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : " رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام " .
وفي رواية عنه أيضاً : " ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه ، مل زر الحجلة " .
وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن سرجس قال : " ثم درت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، عند ناغض كتفه اليسرى ، جُمعاً عليه خيلان ، كأمثال الثآليل " (42) .
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : 4491 .
(1/114)
________________________________________
(2) صحيح البخاري : 4356 ، 4357 . وصحيح مسلم : 2476 وذو الخلصة كما في الحديث بيت للأصنام ، كان في اليمن ، وأحمس كما يقول ابن حجر : على وزن أحمر ، وهم رهط جرير ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار ، فتح الباري : (8/91) طبعة الرسالة . الأردن .
(3) صحيح البخاري : 933 ، ومسلم : 897 ، واللفظ للبخاري .
(4) صحيح البخاري : 1013 .
(5) رواه مسلم : 2021 .
(6) صحيح البخاري : 2967 .
(7) اليهودي وكان أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نبذ عهده وتعرض له بالهجاء .
(8) رواه البخاري : 4038 .
(9) صحيح البخاري مختصراً : 4039 .
(10) أي : امضِ على رفقك ولينك .
(11) صحيح البخاري : 4210 . وصحيح مسلم : 2406 .
(12) رواه البخاري : 4206 .
(13) رواه في شرح السنة ، ورواه الإمام أحمد في مسنده : (4/172) بسند صحيح كما في المشكاة (3/188) ، بتحقيق شيخنا محمد ناصر الدين الألباني .
(14) صحيح البخاري : 4262 .
(15) صحيح مسلم : (157) (60) بعد الحديث رقم (1012) (59) .
(16) راجع : الإعجاز العلمي في القرآن للدكتور زغلول النجار : 1/66-68. نشر مكتبة الشروق الدولية . القاهرة . الثالثة . 1423 هـ - 2002م .
(17) مشكاة المصابيح : (3/167) وانظر صحيح مسلم : 1779 .
(18) صحيح البخاري : 3120 . وصحيح مسلم : 2918 واللفظ للبخاري .
(19) جامع الأصول : (12/63) .
(20) جامع الأصول : (12/68) .
(21) هو الذي في أنفه الخشاش ، وهو عويدة تجعل في أنف البعير ليكون أسرع انقياداً .
(22) رواه مسلم : 3012 .
(23) رواه في شرح السنة ، ورواه أيضاً أحمد وسنده ضعيف ، لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي (1/10) ، فالقصة صحيحة كما قال شيخنا الألباني في التعليق على المشكاة : (3/188) .
(24) رواه الدارمي ، وإسناده صحيح كما في المشكاة : (3/188) .
(25) العنقود .
(26) رواه الترمذي وصححه .
(27) أي : اعلم .
(28) متفق عليه . البخاري (3859) ، ومسلم (450) .
(1/115)
________________________________________
(29) شجرة من أشجار البادية .
(30) تشق .
(31) رواه الدارمي ، وإسناده صحيح كما قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (3/189) .
(32) رواه مسلم والترمذي .
(33) أي : يستقي عليه .
(34) صاح وردد صوته في حلقه .
(35) مقدم عنقه وقيل : باطن عنقه .
(36) رواه في شرح السنة ، ورواه أحمد وسنده ضعيف لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي : (1/10) فالقصة صحيحة كما قال شيخنا الألباني في المشكاة : (3/188) .
(37) كجدار وشجرة .
(38) أشجار مجتمعة .
(39) السراة : الظهر .
(40) عظم خلف الأذن .
(41) أي : تتعبه ، والحديث رواه أبو داود والحاكم وأحمد وابن عساكر واللفظ له وإسناده صحيح على شرط مسلم فقد أخرجه بهذا الإسناد دون قصة الجمل ( وراجع الأحاديث الصحيحة لشيخنا الألباني : 1/28) .
(42) صحيح مسلم : 2345 ، 2346 . وحديث السائب رواه البخاري : 190 ، 3541 . وناغض الكتف : طرف العظم العريض ، الذي في أعلى طرفه ، والخيلان : جمع خال ، وهو الشامة .
المطلب الثالث
الخوارق من غير الأنبياء
كرامات الأولياء :
من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات (1) الأولياء ، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات ، وأنواع القدرة والتأثيرات (2) .
وقد أنكر طوائف من المسلمين كرامات الأولياء ، ومن هؤلاء المعتزلة وحجتهم في دعواهم أنَّ خرق العادة لو صحَّ من غير الأنبياء لالتبس النبي بالولي ، ولم تكن المعجزة دليلاً على صدق الأنبياء (3) .
وقولهم هذا مردود ، لأن من كرامات الأولياء ما حدّث به القرآن وصحَّ ذكره في الأحاديث الصحيحة ، وتواتر النقل به ، والناس يشاهدون شيئاً منه في كل عصر ومصر .
(1/116)
________________________________________
والشبهة التي جاؤوا بها إنما تصحُّ إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدَّعي النبوة ، وهذا لا يقع ، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً بل كان متنبئاً كذاباً (4) ، وقد أنكر الإمام أحمد على الذين نفوا كرامات الأنبياء ، ولم يصدفوا بها ، وضلَّلَهم (5) .
حكمة إعطاء الكرامة للولي :
يعطي الله بعض عباده أموراً خارقة للعادة إكراماً لهم لصلاحهم وقوة إيمانهم ، وقد يكون ذلك سداً لحاجتهم ، كالحاجة للطعام والشراب والأمن ، وقد يعطيهم ذلك لنصرة دينه ، ورفعة كلمته ، إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل (6) .
فمن ذلك ما حدثنا به القرآن الكريم من شأن مريم ، فقد كان يوجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : 37 ] .
ومن ذلك ما جرى لأصحاب الكهف حيث ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً ، وحفظ الله أجسادهم تلك الدهور المتطاولة على النحو الذي حدثنا عنه في سورة الكهف .
ومن ذلك ما وقع لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :
أمثلة من كرامات الأنبياء :
1- نور في العصا :
فمن هؤلاء أسيد بن حُضير ، وعباد بن بشر تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما ، حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة مظلمة ، ثم خرجا من عند رسول الله ينقلبان ، وبيد كل واحد منهما عصيّة ، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها ، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه ، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله (7) .
2- الطعام المبارك :
(1/117)
________________________________________
وهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – يأتي معه بثلاثة أضياف من أهل الصفة ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين أن يضيّفوا هؤلاء ، وتركهم أبو بكر في منزله كي يضيفهم أهله ، وذهب هو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجاء في ساعة متأخرة ، فقالت له امرأته : ما حبسك عن أضيافك ؟ قال : أو ما عشيتهم ؟ قالت: أبوا حتى تجيء ، فغضب ، وقال : والله لا أطعمه أبداً ، فحلفت المرأة أن لا تطعمه، وحلف الأضياف أن لا يطعموه ، قال أبو بكر : هذا من الشيطان ، فدعا بالطعام ، فأكل وأكلوا ، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربت أسفلها أكثر منها ، فقال لامرأته : يا أخت بن فراس ! ما هذا ؟ قالت : وقرة عيني إنها الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكلوا ، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أنَّه أكل منها . متفق عليه (8) .
فقد كان هذا إكراماً من الله لأبي بكر لفضله ، ولأنَّه لم يشتط في غضبه إذ حلف أن لا يأكل من الطعام ، وراغم الشيطان ، فأكرمه الله بذلك .
3- سفينة والأسد :
وهذا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ جيش المسلمين بأرض الروم أو أسر ، فانطلق هارباً يلتمس الجيش ، فإذا هو بالأسد ، فقال : يا أبا الحارث ( كنية للأسد ) أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من أمري كيت وكيت . فأقبل الأسد له بصبصة ( أي : تحريك بالذنب ) حتى قام إلى جنبه ، كلّما سمع صوتاً أهوى إليه، ثمَّ أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش ، ثم رجع الأسد (9) .
صرخة في المدينة تدوي في الشام :
وهذا عمر بن الخطاب يبعث جيشاً ، ويؤمر عليهم رجلاً يدعى سارية ، وبينما عمر يخطب ، فجعل يصيح يا ساري الجبل ، فقدم رسول من الجيش ، فقال : يا أمير المؤمنين، لقد لقينا عدونا فهزمونا ، فإذا بصائح يصيح : يا ساري الجبل ، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل ، فهزمهم الله تعالى (10) .
4- جملة من كرامات الأولياء :
(1/118)
________________________________________
وقد ذكر ابن تيمية جملة من هذه الكرامات غير ما تقدم نسوق إليك بعضها (11) :
فمن ذلك أن خبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى ، وكان يؤتى بعنب يأكله ، وليس بمكة عنبة .
وأم أيمن خرجت مهاجرة ، وليس معها زاد ولا ماء ، فكادت تموت من العطش ، فلما كان وقت الفطر ، وكانت صائمة سمعت حسّأً على رأسها فرفعته ، فإذا دلو معلق ، فشربت منه ، حتى رويت ، وما عطشت بقية عمرها .
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرَّ قسمه ، وكان الحرب إذا اشتدَّ على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء ، أقسم على ربّك ، فيقول : يا ربّ ، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ، فيعزم العدو ، فلما كان يوم القادسية ، قال : أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم ، وجعلتني أول شهيد ، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً .
وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً ، فقالوا : لا نسلم حتى تشرب السمّ ، فشربه فلم يضره .
ولما عذبت (( الزبيرة )) على الإسلام في الله ، فأبت إلاّ الإسلام ، وذهب بصرها ، قال المشركون : أصاب بصرها اللات والعزى ، قالت : كلا والله ، فردّ الله عليها بصرها .
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج ، فدخلوا عليه ست مرات ، فدعا الله – عز وجل – فلم يروه ، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً . ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل ، ووجدوا له قبراً محفوراً فيه لحد في صخرة، فدفنوه فيه ، بعد أن كفنوه في تلك الأثواب .
الاستقامة أعظم كرامة :
(1/119)
________________________________________
ليست الكرامة دليلاً على تفضيل هذا المعطى على غيره ، فقد يعطي الله الكرامة ضعيف الإيمان لتقوية إيمانه ، ومحتاجاً لسدّ حاجته ، ويكون الذي لم يعط مثل ذلك أكمل إيماناً وأعظم ولاية ، وهو لذلك مستغن عن مثل ما أعطي غيره ، ولذلك كانت الأمور الخارقة في التابعين أكثر منها في الصحابة ، وعلى هذا فلا ينبغي أن يشغل المرء نفسه بالتطلع إلى الكرامة ، ولا ينبغي له أن يحزن إذا لم يعطها ، وقد صدق أبو علي الجوزجاني وبرّ حين قال : " كن طالباً للاستقامة " ، لا طالباً للكرامة ، فإنَّ نفسك منجبلة على طلب الكرامة ، وربّك يطلب منك الاستقامة ، قال بعض من فهم قوله : وهذا أصل عظيم كبير في الباب ، وسرّ غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب " (12) .
الخوارق والأحوال الشيطانية (13) :
ضلَّ كثير من الناس عندما ظنوا أن كلَّ من جرت على يديه خوارق العادات فهو من أولياء الله الصالحين ، فبعض الناس يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء ، ونحو ذلك ، وهم من أفجر خلق الله ، بل قد يدَّعون النبوة ، مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان ، وادعى النبوة ، وقد أظهر أموراً خارقة للعادة ، فقد كانوا يضعون القيود في رجليه فيخرجها ، ويضرب بالسلاح فلا يؤثر فيه ، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده ، وكان يُري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ، ويقول : هي الملائكة ، وهذا وأمثاله من فعل الشياطين ، ولذلك إذا حضر بعض الصالحين هذه الأحوال الشيطانية وذكر الله وقرأ آية الكرسي أو شيئاً من القرآن بطلت أحوالهم هذه ، فهذا الحارث الدمشقي الكذاب لما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه طاعن بالرمح ، فلم ينفذ فيه ، فقال له عبد الملك : إنّك لم تسمّ الله ، فسمّي الله ، فطعنه فقتله (14) .
والمسيح الدجال تجري على يديه أمور خارقة للعادة تذهل من يراها وهو مع ذلك يدعى الألوهية .
(1/120)
________________________________________
فالخوارق ليست دليلاً على أن صاحبها ولي لله تعالى ، فالكرامة سببها الإيمان والتقوى والاستقامة على طاعة الله تعالى ، فإذا كانت الخارقة بسبب الكفر والشرك والطغيان والظلم والفسق فهي من الأحوال الشيطانية ، لا من الكرامات الرحمانية .
--------------------------------
(1) يعرف علماء التوحيد الكرامة بأنها أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ، ولا هو مقدمة لها ، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي مكلف بشريعته ، مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح ، علم بها ذلك العبد أم لم يعلم ( لوامع الأنوار البهية : 2/393 ) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 3/156 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية : ص563 .
(4) المصدر السابق .
(5) لوامع الأنوار البهية : 2/393 .
(6) كثير من أهل الكلام لا يثبتون خوارق العادة إلا للأنبياء ، ولا يثبتونها لأحد غيرهم ( شرح الطحاوية ص 158) .
(7) مشكاة المصابيح : (3/197) ، وأخرجه أحمد في ((المسند)): 19/396 (12404) ، وأخرجه بنحوه البخاري : (465) و (3639) و(3805) .
(8) مشكاة المصابيح : (3/198) .
(9) قال التبريزي في مشكاة المصابيح : رواه في شرح السنة ، وقال المحقق : ورواه الحاكم بنحوه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا ( مشكاة المصابيح : 3/199 ) .
(10) قال التبريزي : رواه البيهقي في دلائل النبوة وقال محقق المشكاة : ورواه ابن عساكر بإسناد حسن نحوه .
(11) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/276-281 .
(12) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (11/320) .
(13) ارجع في هذا المبحث إلى كتاب أ.د. عمر الأشقر : عالم الجن والشياطين .
(14) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (11/284-285) .
بشارات الأمم السّابقة
(1/121)
________________________________________
قال تعالى :( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) [الشعراء : 197] فالآية تبين أنَّ من الآيات البينات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصدق ما جاء به – علم بني إسرائيل بذلك ، وهو علم مسجل محفوظ مكتوب في كتبهم التي يتداولونها ، كما قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) [ الشعراء : 196 ] .
المطلب الأول
القرآن يتحدث عن بشارات الأنبياء السابقين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
القرآن المنزل إلينا من ربنا العليم الخبير يحدثنا أن ذكر محمد وأمته موجود في الكتب السماوية السابقة ، وأنَّ الأنبياء السابقين بشروا به ، وقد فهم جمع من المفسرين من قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) [ آل عمران :81 ] – أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبي لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ليؤمنن به ويترك شرعه لشرعه، وعلى ذلك فإن ذكره موجود عند كل الأنبياء السابقين .
1- دعوة إبراهيم :
عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإنَّ آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم بأول أمري ، دعوةُ إبراهيم، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني ، أنه خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " رواه في شرح السنة (1) .
(1/122)
________________________________________
وقد أخبرنا الله أنَّ خليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل كان يبنيان البيت الحرام ويدعوان ، ومن دعائهما ما قصه علينا في سورة البقرة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [ البقرة : 127-129 ] .
وقد استجاب الله دعاء خليله إبراهيم وابنه نبيّ الله إسماعيل ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو تأويل تلك الاستجابة . ولا تزال التوراة الموجودة اليوم – على الرغم مما أصابها من تحريف – تحمل شيئاً من هذه البشارة ، فنجد فيها أنَّ الله استجاب دعاء إبراهيم في إسماعيل ، فقد ورد في التوراة في سفر التكوين في الإصحاح السابع عشر فقرة (20) : " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً ، اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمّة عظيمة كبيرة " .
وهذا النصُّ ورد في التوراة السامرية بألفاظ قريبة جداً مما أثبتناه هنا ، والترجمة الحرفية للتوراة العبرانية لهذا النص : " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأكثره (( بمأد مأد )) (2). وقد ذكر ابن القيم أنَّ بعض نسخ التوراة القديمة أوردت النص كما أثبتناه هنا .
ودلالة هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
الأول : أنَّ الأمة العظيمة عند الله لا بدَّ أن تكون مسلمة ، ولم توجد هذه الأمّة من نسل إسماعيل إلاّ بعد بعثة الرسول وانتشار المسلمين في المشارق والمغارب .
(1/123)
________________________________________
الثاني : النصّ العبراني (( مأد مأد )) صريح في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فالمترجمون ترجموه (( جداً جداً أو كثيراً كثيراً )) والصواب هو : محمد ، لأنها تلفظ بالعبراني (( مؤد مؤد )) واللفظ العبراني قريب من العربي .
الثالث : قوله : اثني عشر رئيساً يلد ، هذا موافق لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش .
2- بشارة موسى :
لقد جاء بني إسرائيل الخبرُ اليقين الأميّ ، على يد نبي الله موسى منذ أمد بعيد ، جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، ونهج رسالته ، وبخصائص ملته ، فهو النبي الأمي ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحلُّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، يضع عن من يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبيُّ الأمي حين يؤمنون به ، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ويؤمنون بآيات الله .. وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ، ويعظمونه ويوقرونه وينصرونه ويؤيدونه ويتبعون النور الذي أنزل معه (( أولئك هم المفلحون )) .
(1/124)
________________________________________
قال تعالى : ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف : 156-157] .
بقية هذه البشارة في التوراة :
وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة ، ففي سفر التثنية ، الإصحاح (18) فقرة 18-19 قال الله لموسى : " أقيم لهم [ أي لبني إسرائيل ] نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه ، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه " .
ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيَّنه ، ذلك أنّه من بني إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل ، فجدُّهم هو إسحاق ، وإسماعيل وإسحاق أخوان ، ثم هو أوسط العرب نسباً ، وقوله : مثلك ، أي : صاحب شريعة مثل موسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه حيث كان أميّاً لا يقرأ من الصحف ، ولكنَّ الله يوحي إليه كلامه ، فيحفظه ويرتله ، وهو الرسول المرسل إلى الناس كافة ، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته ، ومن لم يفعل فإنَّ الله معذبه (( ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه )) .
(1/125)
________________________________________
ومما يعرفنا أنَّ هذه البشارة هي بقية البشارة العظيمة التي أوحى الله بها إلى موسى ، وأخبرنا بها القرآن الكريم ، أن هذه البشارة وردت في موقف معين ، فعندما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله أخذتهم الرجفة ، وذلك بسبب طلبهم رؤية الله جلَّ وعلا ، فدعا موسى ربَّه وتوسل إليه ، فبعثهم الله من بعد موتهم ، قال الله بعد توسل موسى ودعائه ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .. ) الآيات .
وإذا رجعت إلى التوراة في سفر الخروج تجد أنَّ هذه البشارة إنما أوحى الله بها إلى موسى بعد ذهابه لميقات الله ، وتتحدث التوراة عن شيء قريب من الرجفة (( وكل الشعب سمع الأصوات وصوت البوق ، ونظروا الشهب والجبل دخاناً ونظر كل القوم وتشردوا ووقفوا من بعد ..)) سفر الخروج ، الإصحاح (20) فقرة : 18 . (( وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق ، وصوت البوق والجبل يدخن ، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد .. )) .
3- بشارة عيسى :
وأخبرنا الله – سبحانه – أن عيسى بشر برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) [الصف : 6] .
وأحمد من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ لي أسماء ، أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " (3) .
مثلان في التوراة والإنجيل :
(1/126)
________________________________________
ضرب الله في التوراة والإنجيل مثلين لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )[ الفتح : 29 ] .
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح للتبريزي : 3/127 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : حديث صحيح وانظره في صحيح موارد الظمآن للشيخ ناصر الدين الألباني : 1756 ، 2093 ، وانظره في سلسلة الصحيحة : 1546 ، 1925 .
(2) نبوة محمد من الشك إلى اليقين : ص250 ، محمد نبي الإسلام : ص3 .
(3) صحيح البخاري : 4896 ، وصحيح مسلم : 2354 .
المطلب الثاني
بشائر التوراة وأسفار الأنبياء
التوراة التي بين أيدي الناس اليوم محرَّفة مغيرة يدلك على ذلك هذا الاختلاف الذي تجده في أمور كثيرة بين نسخها وطبعاتها ، فهناك ثلاث نسخ للتوراة : العبرانية ، واليونانية، والسامرية ، وكلُّ قوم يدَّعون أن نسختهم هي الصحيحة ، وهناك فروق واضحة بين طبعات التوراة وترجماتها . وقد أدى هذا التحريف إلى ذهاب كثير من البشارات أو طمس معالمها ، ومع ذلك فقد بقي من هذه البشارات شيء كثير ، ولا تخفى هذه البشارات على من يتأملها ، ويعرضها على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجرداً من الهوى .
1- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في التوراة :
(1/127)
________________________________________
لقد صرح بعض هذه البشارات باسم محمد صلى الله عليه وسلم وقد اطلع بعض علماء المسلمين على هذه النصوص ، ولكنَّ التحريف المستمر لهذا الكتاب أتى على هذه النصوص ، فمن ذلك ما ورد في سفر أشعيا (1) : " إني جعلت أمرك محمداً ، يا محمد يا قدوس الربّ ، اسمك موجود من الأبد " (2) .
وقوله إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إني مكتوب عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " (3) .
وفي التوراة العبرانية في الإصحاح الثالث من سفر حبقوق : " وامتلأت الأرض من تحميد أحمد ، ملك بيمينه رقاب الأمم " .
وفي النسخة المطبوعة في لندن قديماً سنة 1848 ، والأخرى المطبوعة في بيروت سنة 1884 ، والنسخ القديمة تجد في سفر حبقوق النص في غاية الصراحة والوضوح : " لقد أضاءت السماء من بهاء محمد ، امتلأت الأرض من حمده ، .. زجرك في الأنهار ، واحتدام صوتك في البحار ، يا محمد ادن ، لقد رأتك الجبال فارتاعت " .
2- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر يتعلق به :
وفي بعض الأحيان يذكر مكان مبعثه ، ففي سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون ، فقرة : (2) : " جاء الربّ من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران " وسيناء هي الموضع الذي كلّم الله فيه موسى ، وساعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران هي جبال مكة ، حيث أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكون جبال فاران هي مكة ، دلت عليه نصوص من التوراة . وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) [ التين : 1-3 ] .
وذكرت التوراة مكان الوحي إليه ، ففي سفر أشعيا الإصحاح (21) فقرة : (13)" وحي من جهة بلاد العرب في الوعر " . وقد كان بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء .
(1/128)
________________________________________
وفي هذا الموضع من التوراة فقرة : (14) حديث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى الجهة التي هاجر إليها " هاتوا ماءً لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء ، وافوا الهارب بخبزة ، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا ، من أمام السيف المسلول ، ومن أمام القوس المشدودة ، ومن أمام شدة الحرب " وتيماء من أعمال المدينة المنورة ، وإذا نظرت في النص ظهر لك بوضوح أنه يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وتكملة النص السابق فقرة : (16) يقول : " فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار ، وبقية قسى أبطال بني قيدار تقلّ ، لأنَّ الربّ إله إسرائيل قد تكلم " .
وهذا النص يتحدث عن معركة بدر ، فإنّه بعد سنة كسنة الأجير من الهجرة كانت وقعة بدر ، وفنى مجد قيدار ، وقيدار من أولاد إسماعيل ، وأبناؤه أهل مكة ، وقد قلت قسى أبناء قيدار بعد غزوة بدر .
3- إشارة التوراة إلى معلم من معالم مهاجر الرسول :
وأشارت بعض نصوص التوراة إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي سفر أشعيا الإصحاح (42) فقرة : (11) " لترفع البريّة ومدنها صوتها ، الديار التي سكنها قيدار ، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ، ليعطوا الربَّ مجداً .. " .
وقيدار أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين إصحاح (25) عدد (13) .
وسالع جبل سلع في المدينة المنورة .
والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشقُّ أجواز الفضاء كلّ يوم خمس مرات ، وذلك التكبير والتحميد في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع .
4- إشارة التوراة إلى أمور جرت على يديه صلى الله عليه وسلم :
(1/129)
________________________________________
وقد تذكر النصوص انتشار دعوته وبعض ما يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر حبقوق الإصحاح الثالث فقرة : (3-6) : " الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبال فاران ، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض ، امتلأت من تسبيحه ، وكان لمعان كالنور ، له من يده شعاع ، وهناك استنارت قدرته ، قدامه ذهب الوبا ، وعند رجليه خرجت الحمّى ، وقف وقاس الأرض ، نظر ، فرجفت الأمم ، ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القدم " .
ففي هذه البشارة إخبار بالنصر العظيم الذي حازه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وإخبار بانتشار دعوته في شتى بقاع الأرض ، وبأن الجبال الدهرية وهي الدول القويّة ذات المجد القديم ستدك ، وآكام القدم وهي الدول الأقل ستخسف ، وقد تحقق ذلك كله ، وأشارت هذه البشارة إلى أمرين يدركهما من كان عليماً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره ، وهما : لمعان كالنور له من يده ، وذهاب الوبا من قدامه ، وخروج الحمّى من عند رجليه .
5- اللمعان والنور الذي شعَّ من يده :
يقول النص : " وكان لمعان كالنور ، له من يده ، وشعاع ، وهناك استنارت قدرته " ثم يقول : " وقف وقاس الأرض نظر ، فرجفت الأمم .. " والذي يبدو لي أنَّ هذا النص يتحدث عن حادثة بعينها ، وهي ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق ، عندما أعجزت صخرة الصحابة أثناء حفر الخندق ، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها ضربة عظيمة أسقطت ثلثها ، وخرج منها نور فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه ، ثمَّ الثانية فالثالثة ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بالنور الأول قصور الشام ، وبالنور الثاني قصور فارس ، وبالنور الثالث أبواب صنعاء .
(1/130)
________________________________________
وروى النسائي وأحمد بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال : لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء فأخذ المعقول فقال : " باسم الله " ، فضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة " ، ثمَّ ضرب الثانية فقطع الثالث الآخر ، فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ، ثمَّ ضرب الثالثة ، وقال : باسم الله ، فقطع بقية الحجر ، فقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة " (4) .
وفي رواية الطبراني : " فضرب الصخرة وبرق منها برقة فكبّر ، وكبّر ، المسلمون "، وفيه " إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم .. " (5) .
تأمل النص الذي أوردناه مرة أخرى " لمعان كالنور له من يده ، وشعاع ، وهناك استنارت قدرته .. وقف وقاس الأرض نظر .. " .
وتأمل في الأحاديث التي أوردناها أليست هذه الواقعة تأويل لتلك البشارة ؟
6- ذهاب الوبا وخروج الحمى :
تقول هذه البشارة : " قدامه ذهب الوبا ، وعند رجليه خرجت الحمّى " ، وهذه – والله – بشارة صريحة لا تحتمل تأويلاً ، فالمدينة قبل مجيء الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت معروفة بالحمّى ، وفي الحديث عن ابن عباس أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قدموا مكة للعمرة – وهي العمرة المعروفة بعمرة القضاء – قال المشركون : " إنّه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب " رواه البخاري (6) .
وقد أصابت هذه الحمّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومهم المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه كي يذهب الحمّى .
(1/131)
________________________________________
عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وعُك أبو بكر وبلال . قالت : فدخلت عليهما (7) ، فقلت : يا أبت كيف تَجِدُك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كلُّ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ××× والموتُ أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع رأسه ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ××× بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ ××× وهل يَبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ
قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ ، وصَحِّحْها ، وبارك لنا في صاعها ومدِّها ، وانقل حمّاها ، فاجعلها في الجحفة " رواه البخاري (8) وزاد البخاري في آخر كتاب الحج : " ثم يقول بلال : اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء " (9) .
إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى ، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته .
وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى ، وصحَّحَها ، ومنع عن المدينة الطاعون ، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون ، فأمسكت الحمّى بالمدينة ، وأرسلت الطاعون إلى الشام " (10) .
وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر ، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة ، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة ، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة ، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة .
7- بشارات جامعة :
(1/132)
________________________________________
وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه ، وأخبار أمته ، وما ينزل إليه عليهم من نصره ، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك ، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال .
قال دانيال (11) يهدد اليهود ، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم : " إن الله يظهرهم عليكم ، وباعث فيهم نبياً ، ومنزل عليهم كتاباً ، ومملكهم رقابكم ، يقهرونكم ويذلونكم بالحق ، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب ، معهم الملائكة على خيل بيض ، فيحيطون بكم ، وتكون عاقبتكم النار ، نعوذ بالله من النار " .
وأبناء قيدار بن إسماعيل ، قد انتشروا في الأرض ، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق ، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب ، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم : " ستنزع في قسيّك إغراقاً ، وترتوي السهام بأمرك يا محمد " .
(1/133)
________________________________________
وقال دانيال أيضاً : " سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ، ويردّ إليهم ملكهم ، ويبعث فيهم الأنبياء ، أو يجعل ذلك في غيرهم ؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه ، فقال : السلام عليكم يا دانيال ، إن الله يقول : إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي ، وعبدوا من دوني آلهة أخرى ، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ، ومن بعد الصدق إلى الكذب . فصلَّت عليهم بخت نصّر ، فقتل رجالهم ، وسبى ذراريهم ، وهدم مساجدهم ، وحرق كتبهم ، وكذلك فعل من بعده بهم ، وأنا غير راض عنهم ، ولا مقيلهم عثرات ، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول ، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط ، فلا يزالون ملعونين ، عليهم الذلة والمسكنة ، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر ، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها ، وأوحي إلى ذلك النبي ، وأعلمه الأسماء ، وأزينه بالتقوى ، وأجعل البرَّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والصدق قوله ، والوفاء طبيعته ، والقصد سيرته ، والرشد سنته ، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب ، وناسخ لبعض ما فيها ، أسري به إلي ، وأرقيه من سماء إلى سماء ، حتى يعلو ، فأدنيه ، وأسلِّم عليه ، وأوحي إليه ، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة ، حافظاً لما استودع ، صادقاً فيما أخبر ، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ، رؤوف بمن والاه ، رحيم بمن عاداه ، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي ، ويخبرهم بما رأى من آياتي ، فيكذبونه ، ويؤذونه " .
يقول ابن تيمية : " ثمَّ سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أمته بالنفخة ، وانقضاء الدنيا " .
ثم قال : " وهذه البشارة الآن عند اليهود والنصارى يقرؤونها ، ويقولون : لم يظهر صاحبها بعد " .
--------------------------------
(1) الجواب الصحيح : 3/326 .
(1/134)
________________________________________
(2) محمد نبي الإسلام : ص18 .
(3) صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان : 1756 ، 2093 وهو مخرج في سلسلة الصحيحة للشيخ ناصر : 1546 ، 1925 .
(4) فتح الباري : 7/397 .
(5) المصدر السابق .
(6) انظر فتح الباري : 3/469 .
(7) دخولها على بلال كان قبل نزول آية الحجاب .
(8) انظر فتح الباري : 7/262 (3926) .
(9) فتح الباري : 7/263 ، وانظر البخاري (1889) .
(10) مسند الإمام أحمد : (5/81) .
(11) انظر الجواب الصحيح : (3/331 ، 4/3) .
المطلب الثالث
بشارات من الإنجيل
وفي إنجيل متى الإصحاح (11) عدد (14) " وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي ، من له أذنان للسمع فليسمع " .
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس بينه وبين عيسى نبي ، فيكون إيلياء الذي بشر به عيسى هو محمداً صلى الله عليه وسلم . وإيليا بحساب الجمل الذي أغرمت به اليهود يساوي محمداً .
وفي إنجيل يوحنا إصحاح (14) عدد (15) " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ، وفي اللغات الأجنبية (( فيعطيكم باركليتوس )) ليمكث معكم إلى الأبد " والمعنى الحرفي لكلمة (( باركليتوس )) اليونانية هو أحمد ، وهو من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم (1) .
(1/135)
________________________________________
وفي إصحاح يوحنا (15) عدد (26) " ومتى جاء المعزى الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي " "ويشهد لي" لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح بالنبوة والرسالة ، وروح الحقّ كناية عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعاني الواردة في هذه الترجمة الحديث ليست دقيقة ، لأن أصلها باليونانية ، وهي اللغة التي ترجمت منها هذه الأناجيل – مكتوبة (( بيركليتوس )) وفي التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 ، سنة 1831 ، سنة 1844 ، في لندن تجدها (( فارقليط )) وهي أقرب إلى العبارة اليونانية المشار إليها (2) ، أمّا ترجمتها في الطبعات الحديثة إلى المعزى فهو من التحريف الذي ذم الله أهل الكتاب به ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) [ النساء : 46 ] . ويلاحظ أن هناك جملة ساقطة قبل الجملة الواردة في عدد (26) من هذا الإصحاح سقطت من الطبعات الحديثة ، لكنها واردة صراحة في الطبعات القديمة للإنجيل ، ونص هذه الجملة : " فلو قد جاء المنحمنا الذي يرسله الله إليكم " ومعنى المنحمنا الحرفي باللغة السريانية محمد (3) (4) .
بشارات أخرى من الإنجيل (5) :
1- من إنجيل ( مَتّى ) :
جاء في ( إنجيل متى ) في الإصحاح الحادي والعشرين :
" 42 قال لهم يسوع : أما قرأتم قط في الكتب : الحجر الذي رفضه البناؤون هوذا قد صار رأس الزاوية ، من قِبَل الرب كان هذا هو عجيب في أعيننا .
43 لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله يُنزع منكم ، ويعطى لأمة تعمل أثماره .
44 ومن سقط على هذا الحجر يترضض ، ومن سقط هو عليه يسحقه " .
(1/136)
________________________________________
وهذا الحجر إنما هو سيدنا محمد ، جاء في ( صحيحي البخاري ومسلم ) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة ، وأنا ختم النبيين " .
قال ابن القيم (6) : " وتأمل قوله [ المسيح ] في البشارة الأخرى : ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناؤون صار رأساً للزاوية ، كيف تجده مطابقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها ، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ، ويقولون : هلاّ وضعت تلك اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة .
وتأمل قول المسيح في هذه البشارة : إن ذلك عجيب في أعيننا . وتأمل قوله فيها : " إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ، ويدفع إلى آخر " كيف تجده مطابقاً لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [الأنبياء : 105] ، وقوله : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ) [النور: 55] .
ونحو هذا النص ما جاء في ( إنجيل متى ) في الإصحاح الثامن :
" 11 وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات ، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان " .
وهذه بشارة تشير إلى ظهور أمة الإسلام التي تأتي من المشارق والمغارب ، وتكون مرضية عند الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
(1/137)
________________________________________
جاء في ( الفارق ) : " أيها المسيحي إذا أنصفت تحكم بأن هؤلاء الذين سيأتون من مشارق الأرض ومغاربها هم الأمة المحمدية ، لأنكم مخاطبون حاضرون إذ ذاك ، والمسيح سلام الله عليه يخبر عن قوم سيأتون في مستقبل الزمن ، وقد أخرجكم بقوله : " وأما بنو الملكوت " (7) .
ونحو ذلك ما جاء في ( إنجيل يوحنا ) في الإصحاح الرابع :
" 20-24 قال لها يسوع : يا امرأة صدقيني ، أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون لله " .
وهذا النص يشير إلى ظهور الدين الجديد ، وإنّه سيتحول مركزه عن أورشليم ويشير إلى تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظمة ، قبلة أصحاب الدين الجديد ، ويصدقه قوله تعالى : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) [ البقرة : 144 ] .
فقد كان المسلمون أول الأمر يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثم نزلت الآية بوجوب توجههم إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة .
2- من إنجيل لوقا (8) :
ذكر صاحب كتاب ( الإنجيل والصليب ) أنه جاء في ( إنجيل لوقا ) 2 :14 " الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض إسلام ، وللناس أحمد " .
ولكن المترجمين ترجموها في الإنجيل هكذا :
" الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام ، وبالناس المسرة " .
ومؤلف الكتاب يرى أن الترجمة الصحيحة ما ذكره هو .
يقول المؤلف أنّ ثمة كلمتين وردتا في اللغة الأصلية لم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعاني تماماً ، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية .
هاتان الكلمتان هما :
أيريني – التي يترجمونها : السلامة .
(1/138)
________________________________________
و : أيودكيا – التي يترجمونها : حسن الرضا .
فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي ( أيريني ) ، فقد ترجمت بكلمات ( سلامة ) ( مسالمة ) ( سلام ) .
والمؤلف يرى أن ترجمتها الصحيحة ( إسلام ) فيقول في ص : 40 : " ومن المعلوم أن لفظ ( إسلام ) يفيد معاني واسعة جداً ، ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ ( السلم ، السلام ) ( الصلح ، المسالمة ) ( الأمن ، الراحة ) .. وتتضمن معنى زائداً وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى ، ولكن قول الملائكة : " على الأرض سلام " لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة ، لأنّ جميع الكائنات وعلى الأخص الحيَّة منها، ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعة والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات .. ، فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة " .
ثم يستشهد بقول المسيح : " ما جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً " ( متى 10 : 34 ) .
ويستشهد بقول آخر للمسيح : " جئت لألقي ناراً على الأرض ، فماذا أريد لو اضطرمت ؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض ؟ كلا أقول لكم بل انقساماً " ( لوقا : 12 : 49-53 ) .
وعلى هذا فالترجمة لا تنطبق ورسالة المسيح وأقواله والصواب " وعلى الأرض إسلام " . ( انظر البحث من ص38-44 ) .
كما يرى أن ( أيادوكيا ) بمعنى ( أحمد ) لا ( المسرة أو حسن الرضا ) كما يترجمها القسس ، وذلك لأنه لا يقال في اليونانية لحسن الرضا ( أيودوكيا )بل يقال : ( ثليما ) .
ويقول : إن كلمة ( دوكوته ) ، هي بمعنى ( الحمد ، الاشتهاء ، الشوق ، الرغبة ، بيان الفكر ) . وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل ( دوكسا ) وهي ( حمد ، محمود ، ممدوح ، نفيس ، مشتهى ، مرغوب ، مجيد ) .
(1/139)
________________________________________
واستشهد بأمثلة كثيرة من اليونانية لذلك . وقال : إنهم يترجمون ( محمديتو ) في (أشعيا 64 : 11) بـ ( اندوكساهيمون ) ، ويترجمون الصفات منها ( محمد ، أحمد ، أمجد ، ممدوح ، محتشم ، ذو الشوكة ) بـ ( ايندكسوس ) .
واستدل بهذا التحقيق النفيس أن الترجمة الحقيقية الصحيحة لما ذكره لوقا هي ( أحمد، محمد ) لا ( المسرة ) ، فتكون الترجمة الصحيحة لعبارة الإنجيل :
" الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض إسلام ، وللناس أحمد " (9) .
3- بشارات إنجيل برنابا :
هذا الإنجيل مليء بالبشارات الصريحة بالرسول المصطفى المختار ، ومما ورد فيه (ص161) : " قال الله اصبر يا محمد .. " وفي (ص162) " إن اسمه المبارك محمد .. " (ص162) : " يا الله أرسل لنا رسولك ، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم " .
رأي في إنجيل برنابا :
لا شكّ أن هذا الإنجيل من الأناجيل التي كانت معروفة قديماً ، وقد ورد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث للميلاد ، ثمّ لم يرد له ذكر بعد ذلك ، إلى أن عثر على نسخة منه في أوائل القرن الثامن عشر الهجري ، ولا تزال هذه النسخة في مكتبة بلاط ( فيّنا ) .
وعندما نشر هذا الكتاب أحدث ضجّة – كبرى في ذلك الوقت – في أوربا في نوادي العلم والدين ، وقد طبعت ترجمة هذا الكتاب مرتين باللغة العربية ، الطبعة الثانية نشرتها دار القلم بالكويت .
(1/140)
________________________________________
وقد اطلعت على هذا الكتاب ، وأمعنت النظر فيه ، فتبين لي فيه رأي لم أجد أحداً قد تنبه إليه ، تبين لي أن هذا الكتاب وإن كان له أصل فقد لعبت فيه يد مسلم ، فأدخلت فيه ما ليس منه ، والذي جعلني أذهب هذا المذهب ليست تلك التعليقات العربية التي وجدت على هامش النسخة الأصلية الموجودة في ( فينّا ) ، وإنّما تلك المبالغات التي وصف بها الإنجيل الرسول صلى الله عليه وسلم ، نحن نصدّق أن يبشر الإنجيل بالرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نستبعد كل البعد أن يكون قد شاع بين أهل الكتاب تلك الخرافات التي شاعت بين المسلمين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم ، فنجد في هذا الإنجيل أنّ الله أعطى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء ، وخلق من أجله كل شيء ، وجعله قبل كل شيء ، انظر ص ( 91 ، 93 ، 110 ) ، وفي ص (111) يقول حاكياً كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا رب اذكر أنك لما خلقتني قلت : إنّك أردت أن تخلق العالم والجنة والملائكة – والناس حبّاً فيّ ليمجدوك بي أنا عبدك " .
وفي ص (161) ، اصبر يا محمد ، لأجلك أريد أن أخلق الجنّة والعالم وجمّاً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك .. " .
وفي ص (266) ، " هذا هو الذي لأجله خلق الله كل شيء " .
وفي ص (152) يقول : " ولذلك لما خلق الله قبل كل شيء رسوله " .
هذه الأقوال بدون شكّ غير صحيحة ، وهي تناقض الحقّ الذي بين أيدينا ، فالله خلق البشر والملائكة والجنَّ لعبادته ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56] .
(1/141)
________________________________________
وأول المخلوقات القلم كما في الحديث " أول ما خلق الله القلم " وهذه الأقوال التي فيها غلو شاعت بين المسلمين ، وصاغوها أحاديث نسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث " لولاك لما خلقت الأفلاك " ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث رقم 282) وحديث " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " (حديث رقم 302 ، 303) وحديث : " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " (كتاب الفوائد المجموعة للشوكاني ص326) .
وحديث : " لقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك علي ومنزلتك عندي ، ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا " ( تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ص325 ) .
وفي هذا المصدر ص337 حديث يقول : " خلقني الله من نوره وخلق أبا بكر من نوري " .
وإذا أنت قارنت بين ما نقلته عن إنجيل برنابا وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة أدركت أن الذي أدخل هذه الأوصاف كان من هذا النوع الذي عشعشت أمثال هذه الأحاديث المكذوبة في ذهنه .
وهناك أمور منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً ، لأنها تخالف الحقَّ الذي في أيدينا ، فمن ذلك ما ورد (ص209) من " أن الجحيم ترتعد لحضور الرسول عليه السلام ، فيمكث بلا مكابدة عقاب مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشاهدة الجحيم" . فهذا مخالف لصريح القرآن ( لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) [الزخرف:75].
ومن ذلك نقل هذا الكتاب عن عيسى قوله في (ص92) " لست أهلاً أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله " ويقول قريباً من هذا في ص (96) و ص (160) ، ومثل هذا بعيد أن يصدر عن رسول من أولي العزم من الرسل .
ومع ذلك فقد وصف الكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور فيها تحقير له ، ففي ص (108) يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه سيكون كالمخبول ، وفي ص (105) يقول : " إن الله سيجرد رسوله محمد في يوم القيامة من الذاكرة " .
(1/142)
________________________________________
--------------------------------
(1) محمد نبي الإسلام : ص36 .
(2) المصدر السابق : ص38 .
(3) المصدر السابق : ص39 .
(4) وقد استقصى شيخ الإسلام ، فأورد تلك الروايات التي بشر بها عيسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبين وجه الاستدلال بها ، انظر الجواب الصحيح : (4/6) .
(5) نبوة محمد من الشك إلى اليقين : ص297 .
(6) هداية الحيارى : 381-382 .
(7) الفارق : 54 .
(8) نبوة محمد من الشك إلى اليقين : ص300 .
(9) انظر كتاب (الإنجيل والصليب) للأب عبد الأحد داود : 34-35 .
المطلب الرابع
بشارات من الأسفار العالمية الأخرى (1)
ألّف : ( مولانا عبد الحق قديارتي ) كتاباً باللغة الإنجليزية وسماه :
(( محمد في الأسفار العالمية )) واستفاد في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوربية ، ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل بل عمم البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة ، وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافة ..
يقول الأستاذ عبد الحق : إن اسم الرسول العربي ( أحمد ) مكتوبة بلفظه العربي في السامافيدا Samavida من كتب البراهمة ، وقد ورد في الفقرة السادسة ، والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ، ونصها إن " أحمد تلقى الشريعة من ربه " وهي مملوءة بالحكمة ، وقد قبست منه النور ، كما يقبس من الشمس ... " .
(1/143)
________________________________________
وفي مواضع كثيرة من كتب البراهمة يرى المؤلف أن النبي محمداً مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسعة البعيدة ، ومن أسمائه الوصفية اسم سشرافا Sushrava الذي ورد في كتاب أثار فافيدا Atharpha Vida ، وكذلك صنع بكتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية ، فاستخرج من كتاب زند افستا Zend Avesta نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين (( سوشيانت Soeshyant )) ، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبو لهب ِِAngra Mainyu ، ويدعو إلى إله واحد ، لم يكن له كفواً أحد (( هيج جيز باونمار )) ، وليس له أول ولا آخر ، ولا ضريع ولا قريع ، ولا صاحب ولا أب ، ولا أم ولا صاحبة ولا ولد ولا ابن ولا مسكن ولا جسد ولا شكل ولا لون ولا رائحة (( جز آخاز وانباز ودشمن ومانند ويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاي سوي وتن آسا وتناني ورنك وبوي است )) .
وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام : أحد صمد ليس كمثله شيء ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً .
ويشفع ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزرادشتية تنبئ عن دعوة الحق التي يجيء بها النبي الموعود ، وفيها إشارة إلى البادية العربية ، ويترجم نبذة منها إلى اللغة الإنجليزية معناها بغير تصرف " إن أمة زردشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون ، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس ، ويخضع الفرس المتكبرين ، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام ، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين ، وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ ، وهي الأماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم ، وإن نبيهم ليكونن فصيحاً يتحدث بالمعجزات (2) .
--------------------------------
(1) نبوة محمد من الشك إلى اليقين : ص204 .
(2) ص47 من كتاب Mohammed in World Scriptures نقلاً من كتاب (مطلع النور) للأستاذ عباس محمد العقاد : 14-17 .
(1/144)
________________________________________
المطلب الخامس
شيوع هذه البشارات قبل البعثة
لقد كانت هذه البشارات منتشرة قبل البعثة النبوية ، فلم يكن أهل الكتاب يكتمونها في ذلك الوقت ، بل كانوا يذيعونها ، ويزعمون أنهم سيتابعون صاحبها عندما يبعث ، وقد حفظ لنا المسلمون بعض هذه البشارات ، ونقل لنا الأنصار من أهل المدينة أحاديث اليهود قبل البعثة عن هذه البشارات ، وقد تعرف بعض أهل الكتاب على الرسول صلى الله عليه وسلم في صغره ، وانتفع بعض أهل الكتاب بهذه البشارات وآمنوا .
1- صفة رسولنا صلى الله عليه وسلم في التوراة :
روى البخاري في صحيحه عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة ، قال : أجل ، " والله إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ، ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) [الأحزاب : 45] ، وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سمّيتك المتوكل ، ليس بفظّ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق [ السخب : الصياح ] ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولا يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح أعينا عمياً ، وآذاناً صمّاً ، وقلوباً غلفاً " (1) .
(1/145)
________________________________________
وروى الدارمي عن عطاء عن ابن سلام ونحوه (2) وعن كعب – وهو من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم – قال : " نجد مكتوباً في التوراة محمد رسول الله عبدي المختار ، لا فظٌّ ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام ، وأمته الحمّادون ، يحمدون الله في السراء والضراء ، يحمدون الله في كلّ منزلة ، ويكبرونه على كل شرف ، رعاة للشمس ، يصلُّون الصلاة إذا جاء وقتها ، يتأزرون على أنصافهم ، ويتوضؤون على أطرافهم ، مناديهم ينادي في جوّ السماء ، صفهم في القتال ، وصفهم في الصلاة سواء ، لهم بالليل دويٌّ كدوي النحل " قال التبريزي : هذا لفظ المصابيح ، ورواه الدارمي مع تغيير (3) يسير .
أين هذه البشارة في التوراة :
(1/146)
________________________________________
وهذه البشارة ليست موجودة في التوراة المنتشرة اليوم بين اليهود والنصارى ، فإن كان المراد بالتوراة التوراة المعينة فتكون هذه البشارة مما أخفته اليهود ، وقد تكون مخفية عندهم مما لا يطلع عليه إلاّ أحبارهم (4) ، إلاّ أنه قد تطلق التوراة ولا يراد بها توراة موسى ، بل يراد بها الكتب المنزلة من عند الله ، وقد يطلق على الكتب المنزلة اسم القرآن ، كما في الحديث الصحيح " خفّف على داود القرآن ، فكان ما بين أن يسرج دابته على أن يركبها يقرأ القرآن " والمراد به قرآنه وهو الزبور . وجاء في بعض البشارات عن هذه الأمة " أناجيلهم في صدورهم " فسمى القرآن إنجيلاً ، وعلى ذلك فهذه البشارة موجودة عندهم في نبوة أشعيا ، فقد جاء فيها : " عبدي الذي سرّت به نفسي ، أنزل عليه وحيي ، فيظهر في الأمم عدلي ، ويوصيهم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته في الأسواق ، يفتح العيون العور ، والآذان الصمّ ، ويحيي القلوب الغلف ، وما أعطيه لا أعطيه أحداً ، يحمد الله حمداً جديداً ، يأتي من أقصى الأرض ، وتفرح البريّة وسكانها ، يهللون على كلِّ شرف ، ويكبرونه على كل رابية ، لا يضعف ، ولا يغلب ، ولا يميل إلى الهوى مشقح ، ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة ، بل يقوّي الصديقين ، وهو ركن المتواضعين ، وهو نور الله الذي لا ينطفي ، أثر سلطانه على كتفيه " (5) .
2- خبر ابن الهيبان :
(1/147)
________________________________________
ومما حفظته لنا كتب السنة عن علماء اليهود قبل الإسلام أن رجلاً من اليهود كان يدعى ابن الهيبان قدم المدينة ونزل في يهود بني قريظة قبل الإسلام بسنين ، قال راوي القصة : ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا إذا قحط عنا المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا ، فيقول : لا والله حتى تقدموا بين مخرجكم صدقة ، فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعاً من تمر ، أو مدّين من شعير ، قال : فنخرجها ثمَّ يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا ، فيستسقي لنا ، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي ، وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً .
قال : ثَمَّ حضرته الوفاة عندنا ، فلمّا عرف أنّه ميت قال : يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قال : قلنا : الله أعلم .
قال : فإني إنّما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه ، هذه البلدة مهاجرة ، فكنت أرجو أن يبعثه الله ، وقد أظلّكم زمانه ، فلا تسبقّن إليه يا معشر يهود ، فإنّه يبعث بسفك الدماء ، وسبي الذراري ، فيمن خالفه ، فلا يمنعنكم ذلك منه ، وفد انتفع بوصية ابن الهيبان مجموعة من شباب يهود بني قريظة ، وهم ثعلبة بن سعيه ، وأسيد بن سعيه ، وأسد بن عبيد ، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم – لما حاصر بني قريظة – قال هؤلاء الفتية وكانوا شباباً أحداثاً : يا بني قريظة ، والله إنّه للنبي الذي عهد إليكم ابن الهيبان ، قالوا : ليس به ، قالوا : بلى ، إنّه لهو صفته ، فنزلوا ، فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم ورحالهم (6) .
3- خبر يوشع :
(1/148)
________________________________________
وروى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناده عن محمد بن سلمة ، قال : لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد ، يقال له : يوشع ، فسمعته يقول – وإني لغلام في إزار – قد أظلَّكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت ، ثمّ أشار بيده إلى بيت الله ، فمن أدركه فليصدّقه ، فبعث رسول الله فأسلمنا وهو بين أظهرنا ، ولم يسلم حسداً وبغياً (7) .
4- خبر عبد الله بن سلام :
وقد كان عبد الله بن سلام سيد اليهود وأعلمهم وابن سيدهم وأعلمهم ، قال : لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له ، ( نتوكف : ننتظر ) فكنت بقباء مسراً صامتاً عليه ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلمّا قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبّرت ، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري : لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت ، قال : قلت له : أي عمّة ، والله هو أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه بعث بما بعث به .
قال : فقالت : يا ابن أخي أهو الذي كنّا نخبر أنّه يبعث مع الساعة ؟ قال : قلت : نعم ، قالت : فذاك إذاً (8) .
(1/149)
________________________________________
وقد ذكر البخاري قصة مجيء عبد الله بن سلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلامه وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى اليهود ويسألهم عنه بل أن يعلموا بإسلامه ، فلما جاؤوا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا معشر يهود ، ويلكم اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله حقاً ، وأنّي جئتكم بحقٍّ ، فأسلموا " قالوا : ما نعلمه ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، [ قالها ثلاث مرات ] قال : " فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ " قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : " أفرأيتم إن أسلم ، قالوا : حاش لله ما كان ليسلم [ سألهم ذلك ثلاثاً ، ويرددون عليه بالجواب نفسه ] ، قال : " يا ابن سلام ، اخرج عليهم " ، فخرج ، فقال : يا معشر اليهود ، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو ، إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، وأنّه جاء بحق . فقالوا : كذبت . فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (9) .
5- شهادة غلام يهودي :
وروى أنس بن مالك أنَّ غلاماً يهودياً كان يخدم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي ؟ قال : لا .
قال الفتى : بلى والله يا رسول الله ، إنّا لنجد في التوراة نعتك ومخرجك ، وإنّي أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّك رسول الله " رواه البيهقي بإسناد صحيح (10) .
6- فراسة راهب :
(1/150)
________________________________________
وقد تعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الرهبان وهو صغير ، عندما كان في تجارة مع عمّه أبي طالب إلى الشام ، روى أبو موسى قال : خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش ، فلمّا أشرفوا على الراهب هبطوا ، فحلّوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ، قال : فهم يحلّون رحالهم ، فجعل يتخللهم الراهب ، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربِّ العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين .
فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلاّ خرّ ساجداً ، ولا يسجدان إلاّ لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثمَّ رجع فصنع لهم طعاماً ، فلمّا أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، فقال : أرسلوا إليه ، فأقبل عليه غمامة تظلّه ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلمّا جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه (11) .
7- معرفة علماء اليهود بموعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم :
عندما اقترب موعد خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم علم أهل الكتاب بذلك بأمارات كانت عندهم ، فقد روى أبو زرعة بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بزيد بن عمرو بن نفيل قبل البعثة ، وكان مما أخبر به زيد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رحل في طلب الدين الحق دين التوحيد فقال له حبر في الشام : إنك لتسأل عن دين ما نعلم عليه أحداً يعبد الله به إلاّ شيخ بالجزيرة .
قال فخرجت : فقدمت عليه ، فأخبرته بالذي خرجت له ، فقال : إن كلّ من رأيت في ضلالة ، ممنّ أنت ؟
قلت : أنا من أهل بيت الله ، ومن أهل الشوك والقرظ .
(1/151)
________________________________________
فقال : إنه قد خرج في بلدك نبيّ ، أو خارج ، قد خرج نجمه ، فارجع فصدقه واتبعه ، فرجعت فلم أحسّ شيئاً بعد (12) .
كان زيد يحدّث بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ، ولم يكن يعلم أنَّ الذي يحدثه هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ظهر نجمه ، ومات زيد قبل البعثة بسنوات .
وقد سبق ذكر خبر ابن الهيبان ، الذي خرج من الشام إلى المدينة ، فقد قال لليهود عندما حضرته الوفاة : " إنّما أخرجني توقع خروج نبيّ قد أظلّ زمانه ، هذه البلاد مهاجره " .
وفي صحيح البخاري : كان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفاً على نصارى الشام ، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس ، فقال بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك ، قال ابن الناطور : وكان هرقل حزّاءً ينظر في النجوم ، فقال لهم حين سألوه : إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختانِ قد ظهر " وقال هرقل في آخر كلامه : " هذا ملك هذه الأمة قد ظهر " (13) يعني العرب .
--------------------------------
(1) رواه البخاري : 2125 . الأميون : العرب . والسخب : الصياح والجلبة . والفظ : القاسي القلب .
(2) مشكاة المصابيح : 3/125 .
(3) مشكاة المصابيح : 3/129 .
(1/152)
________________________________________
(4) الذي يظهر لنا أنه كان حتى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نسخ غير محرفة من التوراة والإنجيل بدلالة قوله تعالى : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ) [ المائدة : 47 ] وقوله : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) [ المائدة : 43 ] ، وقوله : ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ) [ المائدة : 68 ] . فقد كانت هناك نسخ كثيرة محرفة وبعض النسخ لم يصبها التحريف ، ولكن اليهود كانوا يخفونها ، ولعلّ بعضاً من هذه النسخ لا تزال إلى يومنا يخفيها بعض علماء اليهود والنصارى ، ويذكر صاحب كتاب (( محمد نبي الإسلام )) ص (46) نقلاً عن مجلة (( الأيكونومست )) البريطانية أن أول عمل يؤديه المرشح لوظيفة في ( الكوريا ) أي الإدارية المركزية للكنيسة الكاثولوكية هو أن يقسم اليمين المقدسة على كتمان كل شيء يصل إلى علمه أو يقع تحت بصره ، من معلومات خصوصاً عن ثروة الكنيسة ومواردها إلى جانب ما يملكه الفاتيكان من تحف وثروة فنية تعتبر من أثمن الثروات في العالم . ولا شك أن عبارة ثروة فنية تشمل مكتبة الفاتيكان الضخمة بما تحويه من كتب في الديانة المسيحية لو تركت للبحث العلمي الحر لألقت أضواءً لامعة على حقبة مجهولة من تاريخ المسيحية في قرونها الأولى المظلمة .
(5) الجواب الصحيح لابن تيمية : (3/281) .
(6) البداية والنهاية : 1/310 .
(7) البداية والنهاية : 2/309 .
(8) ابن إسحاق في السيرة ( البداية : 3/211 ) .
(9) صحيح البخاري : 3911 .
(10) الجواب الصحيح : (3/287) .
(11) الحديث رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . ( انظر مشكاة المصابيح : 3/187 ) وقال الشيخ ناصر في تعليقه على الحديث في المشكاة : رجاله ثقات. والحديث صحيح كما بينته في مقال نشرته في ( مجلة التمدن الإسلامي ) .
(1/153)
________________________________________
(12) الجواب الصحيح : 3/285 .
(13) صحيح البخاري : كتاب بدء الوحي حديث رقم : 7 . والأسقف مرتبة دينية عند النصارى . والحزاء : يقال للناظر في النجوم، لأنه يقدر الأمور بظنه .
النظر في أحوال الأنبياء
إذا شئت أن تسبر غور إنسان ، وتتعرف على صدقه وأمانته ، فإنّك تنظر في قسمات وجهه ، وتحصي عليه أفعاله وأقواله ، وتراقب حركاته وسكناته ، والذين يستغلق عليك أن تصل في شأنهم إلى اليقين هم أولئك الذين لا تقابلهم إلا مقابلة سريعة ، أو أولئك الذين يخفون أنفسهم ، ويتكلفون في أقوالهم وأفعالهم فلا يظهرون على طبيعتهم .
والأنبياء والرسل كانوا يخالطون أقوامهم ، ويجالسونهم ويعاشرونهم ، ويعاملونهم في أمور شتى ، وبذلك يتسنى للناس أن يدرسوهم عن كثب ، ويتعرفوا إليهم عن قرب ، ولقد كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته بالأمين ، وذلك لصدقه وأمانته ، وعندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع الدعوة : " لو أخبرتكم أنّ وراء هذا الوادي خيلاً تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً " (1) .
وقد أرشد القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال ( قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [ يونس : 16 ] .
يقول لهم : لقد مكثت فيكم زمناً ليس باليسير قبل أن أخبركم بأنني نبي ، فكيف كانت سيرتي فيكم ؟ وكيف كان صدقي إيّاكم ؟ أفأترك الكذب على الناس ، وأكذب على ربّ الناس ، ( أفلا تعقلون ) ؟ ألا تعملون عقولكم لتتهديكم إلى الحق ؟! .
إن المعدن الجيد يدلّ على نفسه بنفسه ، والفاكهة الصالحة يدلُّ على صلاحها لونها وشكلها ورائحتها وطعمها ، والمصباح الرائع ضوؤه يهدي إليه ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ) [ النور : 35 ] .
(1/154)
________________________________________
بعض الناس لم يحتج إلى برهان ودليل ليستدل بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنّ شخصه وحياته وسيرته هي أعظم دليل ، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق ، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعاه لم يتردد . ونظر عبد الله بن سلام في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة واحدة ، ولكنَّها كانت كافية لتدلّه على أنّ هذا وجه صادق ليس بكاذب ، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة ، وخرج عبد الله ابن سلام عالم اليهود مع الخارجين ينظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " فلما رأيت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذّاب " (2) .
وخديجة التي عرفت الرسول زوجاً وخالطته عن قرب قبل أن تعرفه نبياً رسولاً ، لم تتردد في أنّ الله لن يخزيه أبداً ، ولن يصيبه ضير ، ذلك أنّ سنة الله في أمثال الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكرّموا ويشّرفوا ، ولذلك قالت له عندما جاءها قائلاً : " لقد خشيت على نفسي " وذلك بعد أن فجأه الوحي في غار حراء قالت : " كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً ، إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " (3) .
هرقل وأبو سفيان :
وقد أعمل هرقل ملك الروم عقله وفكره وعلمه بأحوال الرسل وصفاتهم ، فاهتدى إلى أنّ محمداً مرسل من ربّه ، ولكنه لم يؤمن ضنّاً بملكه .
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وكان هرقل ملك الروم من هؤلاء الذين أرسل إليهم ، فلما جاءه كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من كان هناك من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام ، وسألهم عن أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأل أبا سفيان ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار .
وإليك الحوار الذي جرى بينهما يحكيه أبو سفيان .
" كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم ؟
قلت : هو فينا ذو نسب .
(1/155)
________________________________________
قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟
قلت : لا .
قال : فهل كان من آبائه مِن مَلِك ؟
قلت : لا .
قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟
فقلت : بل ضعفاؤهم .
قال : أيزيدون أم ينقصون ؟
قلت : بل يزيدون .
قال : فهل يرتدّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
قلت : لا .
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قلت : لا .
قال : فهل يغدر ؟
قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ، قال : ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة .
قال : فهل قاتلتموه ؟
قلت : نعم .
قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟
قلت : الحرب بيننا وبينه سجال ، ينال منّا وننال منه .
قال : فماذا يأمركم ؟
قلت : يقول : اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق ، والعفاف والصلة .
فقال للترجمان :
قل له : سألتك عن نسبه ، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب ، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها .
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتسي بقول قيل قبله .
وسألتك هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلت : فلو كان من آبائه من مَلكِ قلت : رجل يطلب ملك أبيه .
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على الناس ، ويكذب على الله .
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءَهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمَّ .
وسألتك أيرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
وسألتك هل يغدر ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر .
(1/156)
________________________________________
وسألتك بما يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف .
فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، لم أكن أظنُّ أنّه منكم ، فلو أني أعلم أنّي أَخْلُصُ إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " (4) .
زهدهم في المتاع الدنيوي :
ومما يدلُّ على صدق الرسل من خلال التأمل في سيرتهم ، أنَّ الرسل أزهد النّاس في متاع الدنيا وعرضها الزائل ، وبهرجها الكاذب ، لا يطالبون الناس الذين يدعونهم أجراً ولا مالاً ، فهم يبذلون لهم الخير لا ينتظرون منهم جزاءً ولا شكوراً ، هذا أوّل الرسل يقول لقومه : ( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) [ هود : 29 ] .
وهذا آخر الرسل يأمره الله بمثل ذلك : ( قل ما أسألكم عليه من أجرٍ إلاَّ من شاء أن يتَّخذ إلى ربه سبيلاً ) [ الفرقان : 57 ] .
وقص الله علينا في سورة الشعراء طرفاً من قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وكلّ منهم يقول لقومه : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180 ] .
--------------------------------
(1) رواه البخاري : (4770) ، ومسلم : (208) (355) من حديث ابن عباس . وانظر (( جامع الأصول )) : 2/286-288 (739) .
(2) رواه أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه وقال : حديث صحيح وابن ماجة في سننه ( البداية والنهاية : 3/ 210 ) .
(3) صحيح البخاري : كتاب بدء الوحي ، حديث رقم (3) .
(4) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب بدء الوحي حديث رقم : 7 .
دعوة الرّسُل
(1/157)
________________________________________
النظر في دعوة الرسل مجال خصب يدلنا على مدى صدقهم ، فقد جاءت الرسل بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان ، ولإصلاح المجتمع الإنساني ، ودين كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منزل من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال ، خالياً من النقائص والعيوب ، لا يتعارض مع فطرة الإنسان ، وسنن الكون ، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال ، فقال : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) [النساء : 82] .
فكونه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضاً ، لا تناقض فيه ولا اختلاف – دليل واضح على صدق الذي جاء به .
والنظر في المقاصد التي تدعو إليها الرسل ، والفضائل والقيم التي يُنادون بها كلُّ ذلك من أعظم الأدلة على صدقهم ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [ الإسراء : 9 ] .
ولقد ألَّف العلماء مؤلفات في بيان كمال هذا الدين وشموله وبيان حكمة التشريع ، وبيان القواعد والأسس التي تجعل هذا الدين بناء محكماً ، يردد الناس النظر فيه فلا يجدون فيه عيباً ولا نقصاً .
وقد ميز الله البشر بالعقل ، وأودع عقولهم إدراك قبح القبيح ، وإدراك حسن الحسن، إلاّ أنّ رحمته جلّ وعلا اقتضت ألاّ يعذب خلقه على تركهم الحسن وفعلهم القبيح ما لم يُقِم عليهم الحجةَ بإرسال الرسل .
وقد سئل أعرابيُّ : بم عرفت أنّ محمداً رسول الله ؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهى عنه ، ولا نهى عن شيء ، فقال العقل : ليته أمر به (1) .
وهذا الذي استدل به الأعرابي في غاية الجودة ، فإن الرسل جاءت من عند الله بعلوم وشرائع يعلم العاقل المنصف عند التأمل فيها أنّه لا يمكن أن تكون آراء البشر ولا أفكارهم .
دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
(1/158)
________________________________________
والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكون مكابراً أعظم المكابرة إن لم يعتبر ولم يؤمن ، فنبينا عليه السلام جاء بهذا القرآن الذي عجزت الإنس والجنُّ عن الإتيان بمثله ، وقد حوى من الأخبار الماضية والآتية ، والعلوم المختلفة ما يخضع له المنصف ، ويجعله يسبح بحمد الله طويلاً .
هذا الكتاب وتلك العلوم تصل إلينا على يد رجل أميّ ، لم يمسك بالقلم يوماً ، ولم يكن يقرأ ما سطره العلماء والكتاب من قبل ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [ العنكبوت : 48 ] .
ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية ، يبذل العلم للناس ، ويقوّم علوم السابقين ، ويبين ما فيها من تحريف وتغير .
لقد كان هذا الدليل يجول في نفوس أهل مكة ، فهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيهم بما أتاهم به ، ويعلمون أُميته ، ولذلك لم يكن منهم إلا التمحل وجحود الحقّ بعد معرفته ( فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام : 33] لقد وصلت بهم السفاهة إلى الزعم بأن الذي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حداد رومي كان بمكة ، وإنه لفرية مضحكة ( لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [ النحل : 103 ] .
--------------------------------
(1) مفتاح دار السعادة : 2/6-7 .
تأييد الله لرسُله ونصرته لهم
(1/159)
________________________________________
ومما يدلنا على صدق الأنبياء والمرسلين نصرة الله لهم وحفظه إياهم ، فإنّه يستحيل على الله تعالى أن يتقول عليه متقول ، فيدعي أنّه مرسل من عند الله وهو كاذب في دعواه، ثمّ بعد ذلك يؤيده الله وينصره ، ويرسل الملائكة لتثبيته وحمايته ، لو فعل هذا ملك من ملوك الأرض ، فادعى مدع أنّه مرسل من قبله كذباً وزوراً ، وعلم بذلك الملك المفترى عليه ، فإنّه سيلاحقه ، وإذا ظفر به فسيوقع به أشدَّ العذاب ، فكيف يليق بخالق الكون العليم الحكيم أن يرى ويسمع رجلاً يكذب عليه ، ويزعم أنّه رسوله ، ويحلل باسمه ويحرم ، ويشرع الشرائع ، ويضرب الرقاب ، ويزعم أنه يفعل ذلك بأمر الله وبرضاه ومشيئته ، ثم يؤيده الله وينصره ، ولا يوقع به عقابه وعذابه ؟ هذا لا يكون أبداً ، وإن وقع مثل هذا من كاذب مارق وظهر أمره ، وقويت شوكته يوماً ، فلن يطول ذلك ، ولا بدَّ أن يكشف الله أمره ، ويهتك ستره ، ويسلط عليه من يقهره ، ويجعله عبرة لغيره ، كما فعل الله بمسيلمة وسجاح والأسود العنسي من قبل (1) .
وقد أشار الله تعالى لهذا النوع من الاستدلال فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) [ النحل : 116 ] فحكم عليهم بعدم الفلاح ، وقال : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) [الحاقة : 44-46] والمعنى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو تقوَّل على الله ما لم يقله الله لأهلكه الله .
وهذا الدليل ذو تأثير كبير على نفوس الناس ، فإن العرب لمّا رأت انتصار الإسلام صدقت وآمنت ودخلت في دين الله أفواجاً ( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) [النصر : 1-2] .
شبهة :
(1/160)
________________________________________
وما يذكره بعض المكذبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ النصر تمّ لفرعون ونمرود وجنكيزخان وغيرهم من الملوك الكفرة في القديم والحديث ، جوابه ظاهر ، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة ، وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادته وطاعته ، ومن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار بخلاف من ادعى أن الله أرسله ، ثمّ يؤيده الله وينصره، وينصر أتباعه ويجعل العاقبة لهم فإنّه لا يكون إلاّ رسولاً صادقاً ، فلو كان كاذباً فلا بدّ أن ينتقم الله منه ، ويقطع دابره ، واعتبر في هذا بحال مسيلمة والأسود العنسي وسجاح ، واعتبر هذا بحال المسيح الدجال ، فإنّه يفتري على الله الكذب ويدعي الألوهية ، فيكشف الله ستره ، ويظهر أمره لمن كان عنده بصيرة ، فهو رجل أعور ، مكتوب بين عينيه كافر، وإنّما يلتبس أمره على من لم يرزق نور الإيمان .
--------------------------------
(1) راجع شرح العقيدة الطحاوية : ص 165-167 وقد استدل بشيء قريب من هذا ابن القيم في كتابه هداية الحيارى انظر الجامع : (ص562) .
فضل الأنبياء وتفاضلهم
المبحث الأول
فضل الأنبياء على غيرهم
المطلب الأول
الأدلة على هذا التفضيل
(1/161)
________________________________________
خلق الله الخلق وفاضل بينهم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ) [القصص : 68] وقد اختار من أرضه مكة ، فجعلها مقرّ بيته العتيق الذي من دخله كان آمناً ، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليه ، وأوجب على الناس الحج إليه من استطاع إليه سبيلاً ، وحرّم صيد الحرم وقطع شجره ، وجعل الأعمال الصالحة فيه مضاعفة ، وجعل إرادة الظلم فيه مستحقة العذاب الأليم ، ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) [الحج:25] واختار من الشهور شهر رمضان ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الأيام يوم عرفة ، ومن أيام الأسبوع يوم الجمعة ، وفاضل الله بين الملائكة فاختار منهم الملائكة الذين يحملون رسالته إلى رسله وأنبيائه ، واصطفى الله من بني آدم الأنبياء ، فالأنبياء أفضل البشر ، وأفضل الأنبياء الرسل ، ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) [ الحج : 75 ] .
وقد أجمعت الأمة على تفضيل الأنبياء (1) على غيرهم من الصديقين والشهداء والصالحين .
ويدلَّ على تفضيلهم قوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ - وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ الأنعام : 83-86 ] .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه : " ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر " (2) .
(1/162)
________________________________________
ويؤخذ من الحديث أن الأنبياء والمرسلين أفضل الخلق ، وأنّ أفضل رجل بعدهم أبو بكر الصديق .
وقريب من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، إلاّ النبيين والمرسلين " (3) .
وقد رتب الله عباده السعداء الذين أنعم عليهم أربع مراتب ، قال تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) [ النساء : 69 ] .
فأول هذه المراتب وأعلاها الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ، ثم الصالحون .
لا مجال للمصادفة :
قد يظنّ ظانٌ أن للمصادفة هنا محلاً ، وأن من الأنبياء من أصابته النبوة وهو لا يستحقها ، معاذ الله ، ولكنّ الله العليم الحكيم الخبير نظر في معادن العباد وقلوبهم ، واختار منهم واصطفى الأفضل الأكمل ، وصدق الله إذ يقول : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [الأنعام : 124] .
إنّ حكمة الله وعلمه قاضيان بأن لا تمنح النبوة والرسالة إلاّ للمستعد لها والقادر على حملها (4) ، وإذا تأملت في سيرة أنبياء الله ورسله رأيتهم أبرّ الناس قلوباً ، وأعمقهم علماً ، وأحضرهم بديهة ، وأشدّهم تحملاً ، وأرقهم طباعاً ، .. فلا عجب أن يختارهم الله ليكونوا أمناء وحيه ، والعاملين على إقامة دينه ، فهم القمم السامقة التي تعجز النفوس عن أن تبلغ مداها .
المطلب الثاني
دعوى تفضيل الأئمة على الأنبياء
(1/163)
________________________________________
وقد خالفت في هذه المسألة التي أجمعت عليها الأمة طوائف من الذين ينتسبون إلى الإسلام ، فمن هؤلاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، يقول عالم من علمائهم البارزين المعاصرين (5) في هذا الموضوع : " إن من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبيٌّ مرسل " (6) وقال أيضاً : " ورد عنهم (أي الأئمة) : إنّ لنا مع الله حالات ، لا يسعها ملك مقرب ، ولا نبيٌّ مرسل ، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء " (7) (8) .
قال الألوسي رحمه الله في (( مختصر التحفة ص 100 )) مبيناً قول الشيعة في هذه المسألة : " أجمع الإمامية على أن الإمام أفضل من غير أولي العزم من الرسل والأنبياء ، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، وأما غيره من سائر أولي العزم فقد توقف فيه بعضم كابن المطهر الحلي وغيره ، ويعتقد بعضهم أنه مساوٍ لهم ، وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة ، فقد روى الكليني عن هشام الأحوال عن زيد بن علي أن الأنبياء أفضل من الأئمة ، وأن من قال غير ذلك فهو ضال ، وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحبّ إلى الله من عليٍّ " .
وقد رد الألوسي – رحمه الله – قولهم بنصوص الكتاب وبالمعقول وبتضعيف النصوص التي اعتمدوا عليها لضعف رجالها ، ولكونها معارضة للنصوص الأخرى الموجودة في كتبهم ، وهي ردود شافية لمن أراد معرفة الحقّ واتباعه فارجع إليه .
وقد ترددت هذه الأقوال المفضلة للأئمة على الأنبياء في كتب الشيعة كثيراً ، فقد ذكر علي موسى البهبهاني في كتابه مصباح الهداية في إثبات الولاية (9) (ص61-62) أن الأمامة مرتبة فوق النبوة .
ولذلك فقد حكموا بكفر من أنكر إمامة أئمتهم أو إمامة واحد منهم ، قال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق :
(1/164)
________________________________________
" اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده أنّه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء ، واعتقادنا فيمن أقرّ بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنّه بمنزلة من أقرّ بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد " (( رسالته في الاعتقاد ص 103 )) .
وقال المفيد : " اتفقت الإمامية على أنّ من أنكر إمامة أحد من الأئمة ، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار " بحار الأنوار للمجلسي ((23/390)) والمجلسي ذكر قول المفيد لتأييد رأيه .
ويرى بعضهم أنّ إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة ، يقول الحلي الملقب عند الجعفرية بالعلامة : " الإمامة لطف عام ، والنبوة لطف خاص ، لإمكان خلو الزمان من نبي حي بخلاف الإمام ، وإنكار اللطف العام شرٌّ من إنكار اللطف الخاص " (( كتاب الألفين في إمامة أمير المؤمنين للحسن بن يوسف المطهر الحلي 1/3 )) وعقب أحد علمائهم على هذا بأنّه " نعم ما قال " وأضاف : " وإلى هذا أشار الصدوق بقوله عن منكر الإمامة هو شرّ الثلاثة ، فعنه أنه قال : الناصبي شرّ من اليهودي ، قيل : وكيف ذلك يا ابن رسول الله ؟ فقال : إن اليهودي منع لطف النبوة وهو خاص ، والناصبي منع لطف الإمامة وهو عام " (( انظر حاشية ص 43 من كتاب النفع يوم الحشر لجمال الدين المقداد بن عبد الله السيوري )) .
المطلب الثالث
الزعم بأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء (10)
(1/165)
________________________________________
وزعم بعض المتصوفة أنّ الولاية أفضل من النبوة ، وزعم هؤلاء أنّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء ، ومن هؤلاء الذين زعموا هذا الزعم الباطل الحكيم الترمذي ، وابن عربي القائل بوحدة الوجود ، وهؤلاء كذبوا فيما ذهبوا إليه ، فلم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ هناك خاتماً للأولياء ، ولم يرد أنّه أفضل من غيره من الأولياء فضلاً عن أن يكون خيرهم ، ولم يتكلم في هذه المسألة أحد من الذين لهم باع في العلم ممن يقتدى ويتأسى بهم .
وأصل غلطهم أنّهم نظروا فوجدوا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ، وأفضل الرسل ، فقالوا : هو أفضلهم لأنّه آخرهم ، وهذا فاسد فالتأخر والتقدم ليس عليه مدار التفضيل ، ولذلك كان إبراهيم متقدماً وهو أفضل من موسى ، وإبراهيم وموسى متقدمان ، وهما أفضل من عيسى ، وصحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أفضل هذه الأمة صحابته الذين كانوا معه ، ولو أنّ المسلم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ، وثبت عنه أنه قال : " خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم " (11) .
وفي العلوم قد ينبغ المتقدم نبوغاً لا يدرك شأوه المتأخر ، واعتبر في هذا بسيبويه في علم النحو ، وقد يكون هذا في العلوم المترقية التي يكمل المتأخر فيها المتقدم صحيحاً ، أمّا في النبوة والرسالة فالأمر مختلف ، إذ النبوة وعلومها هبة إلهية ، ومنحة ربانية ، لا تنال بالكسب والمجاهدة ، وقد فتحت هذه المقالة باب شرّ ، فأصبح كلّ من ظنَّ في نفسه خيراً، وكلّ من أراد بهذه الأمّة شراً يزعم أنّه خاتم الأولياء ، وأنّه يأخذ علومه عن الله من غير واسطة ، وهذا ضلال كبير ، فليس لأحد من هذه الأمة أن يزعم أنه أفضل من أحد من الأنبياء ، وليس لأحد يزعم الصلاح أن يتعبد الله بطريقة تخالف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/321 .
(1/166)
________________________________________
(2) أخرجه بنحوه عبد بن حميد في ((مسنده)) ورقمه : (212) من حديث أبي الدرداء ، وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد في كتاب ((فضائل الصحابة)) ورقمه : (508) .
ولفظه في ((مسند عبد بن حميد)) : عن أبي الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد أفضل ، وأخير ، من أبي بكر ، إلا أن يكون نبيٌّ " .
(3) أخرجه الترمذي : (3664) من حديث أنس بن مالك ، و (3665) من حديث علي بن أبي طالب ، وكلاهما صحيح .
(4) المهتدون بهدى الكتاب والسنة يرون أنّ الرسل أفضل الخلق وأكملهم ، وقد اختارهم العليم الخبير كي يكونوا سفراءه إلى خلقه ، وينبغي أن نفرق بين ما جبلهم الله عليه من الفضائل والمزايا وبين ما أوحاه إليهم ، فالذي أوحي إليهم به لم يكن لهم به علم، وليس لذكائهم وفظنتهم من شيء فيه ، ولذلك قال الله لرسوله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإيمانُ ) [ الشورى : 52 ] وهذا يرد على ذلك الصنف من الذين يزعمون أنهم يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويصفونه بالعبقرية ، ثم ينسبون كل شيء إلى عبقريته ، حتى العلوم التي جاء بها ، وهذه خدعة ماكرة ، يريدون من ورائها إنكار الوحي ، ونسبة هذه العلوم الإلهية الربانية إلى العبقرية المحمدية ، ونحن في الرد عليهم لا نشتط فننكر مزايا الرسول وفضله ، ولكننا نبطل باطلهم، ونثبت الجانب الحق فيه ، وهو أن محمداً ليس عبقرياً فقط ، بل هو مع ذلك رسول رب العالمين .
(5) هو الخميني الذي فجّر الثورة في إيران .
(6) انظر كتاب الحكومة الإسلامية للخميني : ص52 .
(7) المرجع السابق .
(1/167)
________________________________________
(8) غلا الخميني في الأئمة غلواً عظيماً فقد رفعهم فوق مرتبة البشر ، وعدهم في مرتبة الآلهة ، يقول في كتاب الحكومة الإسلامية ص 52 : " إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات الكون" ولا أفهم من هذه الخلافة التكوينية التي تخضع لها جميع ذرات الكون إلا تلك التي حدثنا الله بها عن نفسه ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ يس : 52 ] . ويقول في الكتاب السابق أيضاً : " والأئمة كانوا قبل هذا العالم أنواراً ، فجعلهم الله بعرشه محدقين ، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله " تأمل كيف وصفهم بأنهم كانوا موجودين قبل خلق العالم ، وكان وجودهم نوراً ، وكانوا محدقين بالعرش ، وكل ذلك من الغلو الشديد المخالف لصريح الكتاب والسنة .
(1/168)
________________________________________
وبعد إعداد هذا البحث وقبل دفعه إلى المطبعة طالعتنا وكالات الأنباء والصحف بكلام للخميني لا يقل خطورة عن الكلام الذي أثبتناه من كتابه ، قال بمناسبة ميلاد المهدي الغائب الذي تزعم الشيعة اختفاءه منذ أكثر من ألف عام ويزعمون بقاءه حياً وأنه سيعود مرة أخرى ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً . وفي كلامه هذا يزعم أن الأنبياء والرسل جميعاً وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم لم ينجحوا في إصلاح البشرية وتنفيذ العدالة ، وأن الذي سينجح في ذلك هو المهدي المنتظر ، وأنه الشخص الوحيد في العالم الذي سيحقق ذلك . يقول في كلامه الذي نشرته بنصه صحيفة الرأي العام الكويتية بتاريخ (30/6/1980) " الأنبياء جميعاً جاؤوا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم كله، لكنهم لم ينجحوا ، وحتى إن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في ذلك في عهده .. وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسى قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم ويقوم بالانحرافات هو المهدي المنتظر " . لا والله ما ذلك بحق وليس بصدق ، فإن أحداً لم ينجح محمد صلى الله عليه وسلم في تحقيق العدالة ، ولن يأتي أحد بعده يحقق ما حققه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه . ويؤكد الخميني كلامه السابق فيقول : " لا يوجد في العالم أحد سوى المهدي من أجل تنفيذ العدالة بمعناها الحقيقي .. " ويقول : " إن الإمام المهدي عليه السلام سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم وسينجح فيما فشل في تحقيقه الأنبياء والأولياء بسب العراقيل التي كانت في طريقهم .. " ومن هنا يرى الخميني أن عيد المهدي هو أكبر أعياد المسلمين " إن عيد المهدي هو أكبر عيد للبشرية بأجمعها " وهذا يعني أنه أعظم من عيد الفطر والأضحى ، وقد فضله على عيد مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة : " إن هذا العيد الذي هو عيد كبير بالنسب للمسلمين يعتبر أكبر من عيد ميلاد
(1/169)
________________________________________
النبي عليه السلام من جهة واحدة ، ويقول : " إن عيده هو عيد جميع أبناء البشرية ، لأنه سيهدي جميع أبناء البشر " . وختم كلامه مفضلاً إياه على غيره : " إني لا أتمكن من تسميته بالزعيم لأنه أكبر وأعظم وأرفع من ذلك ، ولا أتمكن من تسميته بالرجل الأول لأنه لا يوجد أحد بعده ، وليس له ثان ولذلك لا أتمكن من التعبير عنه بأي كلام سوى المهدي المنتظر الموعود " إننا لا نستغرب هذا الكلام بعد ما قرأناه في كتاب الحكومة الإسلامية . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(9) هذه النقول أخذناها بمصادرها من كتاب الإمامة للدكتور علي أحمد السالوس : ص19 .
(10) راجع في هذه المسألة : لوامع الأنوار البهية : 2/300 ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام : 2/222 ، 11/221 ، 363 .
(11) أخرجه البخاري : (2652) من حديث عبد الله بن مسعود . وانظر ((مسند أحمد)) : 6/76/(3549) والتعليق عليه .
تفاضُل الأنبياء والرّسُل
أخبرنا الحقُّ – تبارك وتعالى – أنّه فضّل بعض النبيين على بعض ، كما قال جلّ وعلا : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) [ الإسراء : 55 ] .
وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل أفضل من الأنبياء ، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم كما قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) [ البقرة : 253 ] .
المطلب الأول
أولو العزم من الرسل أفضل الرسل
(1/170)
________________________________________
وأفضل الرسل والأنبياء خمسة : محمد صلى الله عليه وسلم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل ، ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) [الأحقاف : 35] ، وقد ذكرهم الله في كتابه في أكثر من موضع ،( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) [ الشورى : 13 ] .
وفي قوله :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) [ الأحزاب : 7 ] .
بم يتفاضلون الأنبياء والرسل ؟ (1) :
الذي يتأمل في الآيتين اللتين أخبرتا بتفاضل الأنبياء والرسل يجد أن الله فضّل مَن فضّل منهم بإعطائه خيراً لم يعطه غيره ، أو برفع درجته فوق درجة غيره ، أو باجتهاده في عبادة الله والدعوة إليه ، وقيامه بالأمر الذي وكل إليه .
فداود عليه السلام فضله الله بإعطائه الزبور ، ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) [الإسراء :55] ، وأعطى الله موسى التوراة ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [البقرة: 53] والكتاب هو التوراة ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) [ المائدة : 44 ] وأعطى عيسى الإنجيل ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) [ المائدة : 46 ] .
وقد اختص الله آدم بأنّه " أبو البشر ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له " .
وفضل نوحاً بأنّه " أوّل الرسل إلى أهل الأرض ، وسمّاه الله عبداً شكوراً " .
(1/171)
________________________________________
وفضل إبراهيم باتخاذه خليلاً ( وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) [ النساء : 125 ] وجعله للناس إماماً ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) [ البقرة : 124 ] .
وفضل الله موسى برسالاته وبكلامه ، ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ) [الأعراف : 144] واصطنعه لنفسه ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) [ طه : 41 ] .
وفضل عيسى بأنّه رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكان يكلّم الناس في المهد ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) [ النساء : 171 ] .
ويتفاضل الأنبياء من جهة أخرى ، فالنبي قد يكون نبياً لا غير ، وقد يكون نبياً ملكاً، وقد يكون عبداً رسولاً ، " فالنبي الذي كُذِّب ، ولم يتبع ، ولم يطع ، هذا نبيٌّ ، وليس بملك ، أمّا الذي صدق ، واتبع ، وأطيع ، فإن كان لا يأمر إلاّ بما أمره الله به فهو عبد نبي ليس بملك ، وإن كان يأمر بما يريده مباحاً له فهو نبي ملك ، كما قال الله لسليمان : ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ ص : 39 ] .
فالنبي الملك هنا قسيم العبد الرسول ، كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : " اختر إمّا عبداً رسولاً ، وإمّا نبياً ملكاً " (2) وحال العبد الرسول أكمل من حال النبي الملك ، كما هو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنّه كان عبداً رسولاً ، مؤيداً مطاعاً متبوعاً ، وبذلك يكون له مثل أجر من اتبعه ، وينتفع به الخلق ، ويرحموا به ، ويرحم بهم ، ولم يختر أن يكون ملكاً، لئلا ينقص ، لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال ، عن نصيبه في الآخرة .
فالعبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك ، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ابن مريم أفضل عند الله من داود وسليمان ويوسف " (3) .
المطلب الثاني
(1/172)
________________________________________
فضل الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم
عندما يبعث الله الأولين والآخرين في يوم الدين يكون رسولنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه سيّد ولد آدم ، بيد لواء الحمد ، والأنبياء والمرسلون في ذلك اليوم تحت لوائه، فعن أُبيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبيٍ يومئذٍ آدم فمن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر " رواه الترمذي (4) ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ : " أنا سيد ولد آدم ، وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع " (5) .
وعندما يشتدُّ الكرب بالناس في ذلك اليوم يستشفع الناس بالرسل العظام ليشفعوا إلى الله ليقضي بين عباده فيتدافعها الرسل ، كلُّ واحد يقول : اذهبوا إلى غيري ، حتى إذا أتوا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال : " اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر " .
هذا فضله في ذلك اليوم العظيم ، وما ذلك إلاّ لما حباه الله من عظيم الصفات ، وكريم الأخلاق ، والمجاهدة في الله ، والقيام بأمره ، وقد فضله الله في نفسه ودعوته وأمته بفضائل ، فمن ذلك أنّه اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه وأبو عوانة " إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " (6) ، وآتاه القرآن العظيم الذي لم يُعط أحدٌ من الأنبياء والرسل مثلَه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) [ الحجر : 87 ] .
(1/173)
________________________________________
وخصّه الله دون غيره بستٍّ لم يعطها أحد من الأنبياء قبله ، ففي الحديث : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافّة ، وختم بي النبيون " رواه مسلم والترمذي (7) .
يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ الله فضله على غيره بست ، أوتي جوامع الكلم، وذلك بأن يجمع في القول الوجيز المعاني الكثيرة .
ونصر بالرعب ، وذلك بما يلقيه الله في قلوب أعدائه من الخوف من رسوله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأحلّت له الغنائم ، وكانت غنائم من قبلنا من الرسل وأتباعهم تجمع ثمّ تنزل نار من السماء تحرقها .
وجعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً ، فحيثما أدركت رجلاً من هذه الأمة الصلاة فبإمكانه أن يتوضأ فإن لم يجد يتيمم ، ثمّ يصلي في مسجد مقام ، أو في منزل أو في الصحراء .
وأرسل إلى النّاس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم وأحمرهم (8) ، من كان في وقت بعثته ومن يأتي من بعده حتى تقوم الساعة : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) [ الأعراف : 158 ] .
وأرسله إلى الجنّ كما أرسله إلى الإنس ، وقد رجع وفد الجنّ بعد استماع القرآن ، والإيمان بما نزل من الحق . داعين قومهم إلى الإيمان : ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [ الأحقاف : 31-32 ] .
(1/174)
________________________________________
والفضيلة السادسة أنّه خاتم الأنبياء فلا نبيّ بعده ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) [ الأحزاب : 40 ] . وإذا كان رسولنا خاتم الأنبياء فهو خاتم المرسلين من باب أولى ، ذلك أنّ كل رسولنا خاتم الأنبياء فهو خاتم المرسلين من باب أولى ، ذلك أنّ كل رسول فهو نبي لا شك في ذلك ، فإذا كانت النبوة بعد نبينا ممنوعة مقطوعة ، فالرسالة ممنوعة أيضاً ، لأن الرسول لا بدَّ أن يكون نبيّاً .
ومعنى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين أنّه لا يبعث رسول من بعده يغير شرعه (9) ويبطل شيئاً من دينه ، أمّا نزول عيسى آخر الزمان فهو حقٌّ وصدق – كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم – ولكنه لا ينزل ليحكم بشريعة التوراة والإنجيل ، بل يحكم بالقرآن ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويؤذن بالصلاة .
المطلب الثالث
النصوص التي تنهى عن التفضيل بين الأنبياء
وردت أحاديث تنهى المسلمين عن تفضيل بعض النبيين على بعض ، فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا تخيروا بين الأنبياء " (10) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوا بين أنبياء الله " (11) . أي : لا تقولوا : فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان ، يقال : خيَّر فلان بين فلان وفلان ، وفضل بينهما ، إذا قال ذلك .
(1/175)
________________________________________
فهذه الأحاديث لا تعارض النصوص القرآنية التي تدلُّ على أنّ الله فضّل بعض الأنبياء على بعض ، وبعض المرسلين على بعض ، وينبغي أن يحمل النهي الذي ورد في الأحاديث على النهي عن التفضيل إذا كان على وجه الحميّة والعصبية والانتقاص ، أو كان هذا التفضيل يؤدي إلى خصومة أو فتنة (12) ، يدلنا على هذا سبب الحديث ، ففي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : " استبَّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فرفع المسلم عند ذلك يده ، فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي عن ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون ، يوم القيامة ، فأصعق معهم ، فأكون أوَّل من يفيق ، فإذا بموسى باطش جانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاق قبلي ، أو كان مِمَّن استثنى الله " (13) .
وفي رواية عند البخاري : " لا تخيروا بين الأنبياء " (14) .
قال ابن حجر في هذه المسألة : " قال العلماء في نهيه عن التفضيل بين الأنبياء : إنَّما نهى عن ذلك من يقول برأيه ، لا من يقوله بدليل ، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول ، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع ، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة " (15) .
ونقل عن بعض أهل العلم أنه قال : " الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنّما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة ، لأنّ المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر ، فأمّا إذا كان التخيير مستنداً إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي " (16) .
(1/176)
________________________________________
--------------------------------
(1) الأنبياء والرسل يتفاوتون في الفضل كما بينا هنا بتفضيل الله لهم ، وبما أعطاهم إياه من خير ، وبعض الناس ينسبون إلى الأنبياء والرسل أموراً يظنون أنهم يعظمونهم بها فيخرجون عن دائرة الصدق والعدل ، فمن ذلك دعاء كثير من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم قائلين : " يا أول خلق الله ، يا نور عرشه الله " ، وهذا القول جمع أنواعاً من الضلال ، منها دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونداءه ، وهذا لا ينبغي إلا لله فهو المدعو دون سواه . ومنها الإدعاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور ، وأنه أول خلق الله ، وهذا لا برهان عليه إلا أحاديث باطلة لم يصح إسنادها ، فأول ما خلق الله القلم الذي كتب مقادير كل شيء ، والرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق مما خلق منه البشر ، وكونه مخلوقاً مما خلق منه البشر وأنه في آخر الخلق لا يضيره ، فالمخلوقات لا تتفاضل باعتبار ما خلقت منه فقط ، فقد يخلق المؤمن من كافر ، والكافر من مؤمن ، كابن نوح منه ، وإبراهيم من آزر ، وأدم خلقه الله من طين ، فلما سوّاه ، ونفخ فيه من روحه – أسجد له ملائكته وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء ، وبخلقه إياه بيده .
(2) أخرجه بنحوه في ((المسند)) : 12/76-77(7160) من حديث أبي هريرة ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين ، وانظر تمام تخريجه في ((المسند)) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 35/34 .
(4) رواه الترمذي : 3148 . وقال فيه : هذا حديث حسن صحيح .
(5) ابن ماجه (4308) ، وهو في صحيح سنن ابن ماجه .
(6) صحيح مسلم : 532 .
(7) صحيح مسلم : 523 ، والترمذي : 1553 .
(1/177)
________________________________________
(8) يزعم ( نهرو ) في كتابه لمحات من تاريخ العالم أن محمداً مرسل إلى العرب خاصة ، وهذا الزعم قال به طوائف من النصارى في القديم والحديث ، وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الجواب الصحيح ، في الرد على شبهات رجل نصراني ، وإحدى تلك الشبهات التي أطال شيخ الإسلام في الرد عليها زعم ذلك النصراني أن محمداً مرسل إلى العرب دون سائر الأمم ، ويكفي في الرد على هذه الفرية أن نبين لهؤلاء تناقضهم ، فإن إقرارهم بكونه نبياً مرسلاً يقتضي تصديقه فيما أخبر ، وقد أخبر ببعثه إلى الناس كافة ، فإذا آمنوا بأنه نبي مرسل ، ثم كذبوه ، وقالوا : أنت مرسل إلى العرب وحدهم ، فقد تناقضوا تناقضاً بيناً ، ووضح أن مرادهم تبرير كفرهم به .
(9) ظهر بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أدعياء النبوة ، كمسيلمة والأسود العنسي وسجاح ، ولا يزال يظهر بين الفينة والفينة من أمثال هؤلاء ، وقد ظهر في القرن الماضي علي محمد الشيرازي ( ولد سنة 1819م ) ولقب بالباب ، وأتباعه يدعون البابية ، وادعى النبوة حيناً والألوهية حيناً ، وسار على نهجه تلميذه الذي لقب ( ببهاء الدين ) وأتباعه يدعون البهائية ، ومن هؤلاء الأدعياء ميرزا غلام أحمد القادياني ، وله أتباع منتشرون في الهند وألمانيا وإنكلترا وأمريكا ، ولهم فيها مساجد يضلون بها المسلمين ، وكانوا يسمون بالقاديانية ، وهم يسمون اليوم – أنفسهم بالأحمدية إمعاناً في تضليل عباد الله - .
وآخر هؤلاء الأدعياء رجل ظهر في السودان يدعى أنه نبي وقد تكفل الله بفضح كل من ادعى هذه الدعوى وهتك ستره . ( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) [يونس: 69] .
(10) متفق عليه مشكاة المصابيح : (3/114) ، وهو عند البخاري : 2412 ، 6916 ، ومسلم : 2374 (163) .
(11) أخرجه البخاري : 3414 . وصحيح مسلم : 2373 .
(12) راجع شرح الطحاوية : ص170 .
(1/178)
________________________________________
(13) صحيح البخاري : 2411 ، ومسلم : 2373 .
(14) صحيح البخاري : 2412 .
(15) فتح الباري : 6/446 ، ولمزيد من البحث راجع تفسير ابن كثير ، وتفسير القرطبي عند تفسيرهما الآية : 253 من سورة البقرة .
(16) المصدر السابق ، ولمزيد من البحث راجع تفسير ابن كثير ، وتفسير القرطبي عند تفسيرهما الآية : 253 من سورة البقرة .
الإيمان بالرسالات:
الإيمان بالرّسالات
وجوب الإيمان بالرّسالات كلهَا
من أصول الإيمان التصديق الجازم بالرسالات التي أنزلها الله إلى عباده بواسطة رسله وأنبيائه ، والتصديق بأنهم بلَّغوها للناس ، قال تعالى لموسى عليه السلام :( يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ) [ الأعراف : 144 ] .
وقد أثنى الله على رسله الذين يبلغون رسالاته ولا تأخذهم في الله لومة لائم ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ) [ الأحزاب : 39 ] .
وقد كان هلاك الأمم بسبب التكذيب برسالات الله ، انظر إلى موقف صالح بعد حلّ الهلاك بقومه : ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) [ الأعراف : 79 ] وموقف شعيب بعد هلاك قومه ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ) [ الأعراف : 93 ] .
(1/179)
________________________________________
والذي أوحاه الله لرسله قد يكون نزل من السماء مكتوباً كالتوراة التي أنزلت على موسى ، قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ) [ الأعراف : 145 ] . وقد يكون كتاباً ولكنه أنزل إلى الرسول بالتلاوة والمشافهة كالقرآن ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) [ الإسراء : 106 ] .
والمنزل من السماء قد يجمعه كتاب كصحف إبراهيم والكتب المنزلة على موسى وداود وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم ، وقد يكون وحياً يلقى إلى الرسول أو النبي ، وليس بكتاب ، وذلك كالوحي المنزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والموحى به إلى نبينا من غير القرآن .
ويجب الإيمان بالوحي المنزل كله ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة : 136 ] .
(1/180)
________________________________________
وقال الله لرسوله : ( وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) [الشورى : 15] وقال للمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ) [ النساء : 136 ] . فما أعلمنا الله به تفصيلاً كالكتب التي ذكرها ، وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتكليم الله لموسى ، وإيحاء الله إلى صالح وهود وشعيب ، ووحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، وقد تضمنته كتب السنة – نؤمن به تفصيلاً كما أخبر الله تعالى ، ونؤمن بأن هناك كتباً ووحياً غير ذلك لم يعلمنا الله سبحانه بها .
كيف يكون الإيمان بالرّسالات
المطلب الأول
كيف يكون الإيمان بالرسالات السابقة
ونحن نؤمن بما جاء في الكتب السماوية السابقة ، وأن الانقياد لها ، والحكم بها كان واجباً على الأمم التي نزلت إليها الكتب ، ونؤمن بأن الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً ، ولا يكذّب بعضها بعضاً ، فالإنجيل مصدق للتوراة ، قال الله في الإنجيل :( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) [ المائدة : 46 ] .
ومن أنكر شيئاً مما أنزله الله فهو كافر ( وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ) [ النساء : 136 ] وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) [ الأعراف : 40 ] .
(1/181)
________________________________________
ونصدق بنسخ الشريعة اللاحقة للشريعة السابقة كلياً أو جزئياً ، فقد أحل الله لآدم تزويج بناته من بنيه ثم نسخ هذا ، ومما كان مباحاً ليعقوب أن يجمع الرجل بين أختين في الزواج وفعله يعقوب ، ثمَّ نسخ ، والإنجيل أحلّ بعض ما حرّم في التوراة ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [ آل عمران : 50 ] .
والقرآن نسخ الكثير مما في التوراة والإنجيل ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) [ الأعراف : 157 ] .
المطلب الثاني
كيف يكون الإيمان بالرسالة الخاتمة
الإيمان بالكتب السماوية السابقة تصديق جازم بها ، ومجرد التصديق لا يكفي في القرآن ، فلا بدّ مع التصديق من الأخذ به والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه ( المص - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) [الأعراف :1-3] .
فالقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يصلنا بالله بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً أصحابه : " أبشروا ، فإنّ هذا القرآن بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به ، فإنّكم لن تهلكوا ، ولن تضلّوا بعده أبداً" رواه الطبراني في الكبير (1) .
(1/182)
________________________________________
فالقرآن هو العصمة من الضلال والهلاك لمن تمسك به ، وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من حثّ الأمّة على التمسك بهذا الكتاب ، ففي إحدى خطبه قال : " أما بعد، ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر ، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ظلّ ، فخذوا بكتاب الله تعالى ، واستمسكوا به ، وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " (2) .
والفتن التي تمرُّ بالمسلم وتعصف بالأمة لا سبيل للخلاص منها إلا بالأخذ بهذا الكتاب ، وما أجمل هذا الوصف لكتاب الله ! " كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا تشبع منه العلماء ، من قال به صدق ، ومن عمل به أُجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " (3) .
--------------------------------
(1) حديث صحيح ، صحيح الجامع : (1/66) .
(2) صحيح مسلم : 2408 .
(3) هذا حديث رواه الترمذي وغيره قال الشيخ ناصر فيه ( شرح الطحاوية ص 68 ) : هذا حديث جميل المعنى . ولكن إسناده ضعيف ، فيه الحارث الأعور ، وهو لين ، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب ، ولعل أصله موقوف على علي فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
مقارنة بين الرّسَالات
ستكون المقارنة بين الرسالات السماوية من جوانب عدة ، وهذا المبحث مبحث طويل يصلح أن يكون رسالة علمية ، وسنأتي فيه على جملة تجمع أطرافه بحول الله ، ولكنها لا تستقصى كل جوانبه .
المبحث الأول
مَصدرهَا والغَاية مِنها
(1/183)
________________________________________
الكتب السماوية مصدرها واحد ( الم - اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ - مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) [آل عمران : 1-4] والكتب السماوية كلها أنزلت لغاية واحدة وهدف واحد ، أنزلت لتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض . تقودهم بما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم وتنيرها ، وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة .
(1/184)
________________________________________
وقد بيّن القرآن الكريم في موضع واحد الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن ، وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله ، قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
(1/185)
________________________________________
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [ المائدة : 44-50 ] .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة (1) : " لقد جاء كلّ دين من عند الله ليكون منهج حياة ، منهج حياة واقعية ، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية ، وتنظيمها ، وتوجيهها ، وصيانتها ، ولم يجئ دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك – على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري – لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس ، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطان ، ويؤاخذ الناس على مخالفتها ، ويؤخذون بالعقوبات .
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر ، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك ، ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة .
(1/186)
________________________________________
فأما حين تتوزع السلطة ، وتتعدد مصادر التلقي .. حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع .. ، وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا .. ، حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين ، وبين اتجاهين مختلفين ، وبين منهجين مختلفين .. ، وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [ الأنبياء : 22 ] ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ) [ المؤمنون : 71 ] . ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [ الجاثية : 18 ] .
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة ، وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى ، أو لأمة من الأمم ، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها ، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة ، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة ، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله .. ، وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله ، حيثما جاء دين من عند الله ، لأنّ الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة .
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى ، التي ربما جاءت لقرية من القرى ، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل ، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة .. ، وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى .. اليهودية، والنصرانية ، والإسلام ..
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة :
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ) :
(1/187)
________________________________________
فالتوراة – كما أنزلها الله – كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله ، وطريقهم في الحياة .. ، وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد . وتحمل شعائر تعبدية شتى ، وتحمل كذلك شريعة :
( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) .
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب ، ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج . ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله فليس لهم في أنفسهم شيء إنما هي كلها لله ، وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية – وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل – يحكمون بها للذين هادوا – فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه – كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ، وهم قضاتهم وعلماؤهم ، وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله ، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء ، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم ، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته ، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم .. " .
وبدون الرسالة السماوية سيبقى البشر مختلفون تائهون لا يتفقون على سبيل ، ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) [ البقرة : 213 ] .
--------------------------------
(1) انظر الجزء السادس من ظلال القرآن : ص895 .
الرّسَالة العَامّة والرّسَالة الخاصّة
(1/188)
________________________________________
الرسالات السماوية السابقة أنزلت لأقوام بأعيانهم ، والرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل رسالة عامة للبشرية كلها بل عامة للإنس والجن ، وهذا يقتضي أن تمتاز هذه الرسالة عن غيرها من الرسالات بما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان ، وقد جعلها الله كذلك ، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) [ المائدة : 3 ] .
وقد بيّن سيد قطب – رحمه الله – هذا المعنى وجلاه في تفسيره لهذه الآية ، قال : " إن المؤمن يقف أمام إكمال هذا الدين ، يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أوّل رسول – آدم عليه السلام – إلى هذه الرسالة الأخيرة ، رسالة النبي الأمّي إلى البشر أجمعين .
فماذا يرى ؟ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل موكب الهدى والنور ، ويرى معالم الطريق على طول الطريق ، ولكنه يجد كل رسول – قبل خاتم النبيين – إنما أرسل إلى قومه ، ويرى كلّ رسالة ، قبل الرسالة الأخيرة – إنما جاءَت لمرحلة من الزمان .. ، رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة .. ، ومن ثمّ كانت تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ، متكيفة بهذه الظروف ، كلّها تدعو إلى إله واحد – فهذا هو التوحيد – وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الإسلام – ولكن لكلٍّ منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف .
(1/189)
________________________________________
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولاً خاتم النبيين برسالة (( للإنسان )) لا لمجموعة من الأناس في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة .. ، رسالة تخاطب (( الإنسان )) من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ، لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ، ولا تتحور ، ولا ينالها التغيير ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) [ الروم : 30 ] ، وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة (( الإنسان )) من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان .. ، وكذلك كانت الشريعة بمبادئها الكلية ، وبأحكامها التفصيلية ، محتوية كل ما تحتاج إليه حياة (( الإنسان )) منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ، حول هذا المحور وداخل هذا الإطار " (1) .
وهذا المعنى – وهو كمال الرسالة وشمولها – أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) [ النحل : 89 ] وقال جلّ وعلا : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) [ الأنعام : 38 ] .
لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة ، وفاقتها كمالاً وجلالاً ، يقول الحسن البصري رضي الله عنه : " أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ( القرآن ) ثمّ أودع علوم الثلاثة الفرقان " (2) .
--------------------------------
(1) في ظلال القرآن : 6/482 .
(2) الإكليل للسيوطي : ( أضواء البيان : 3/336 ) .
حِفظ الرّسَالات
(1/190)
________________________________________
لما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى ، ولم يتكفل الله بحفظها ، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها ، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار ، ( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) [ المائدة : 44 ] .
ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم ، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا ، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حلّ فيها من تغيير وتبديل ، لا في الفروع ، بل في الأصول ، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه ، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم (1) .
أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها ، ولم يكل حفظها إلى البشر ، قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .
وانظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لترى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب (2) ، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإنّ صبياً صغيراً ، أو ربة بيت ، أو عجوزاً لا يبصر طريقه – يستطيعون الردّ عليه وبيان خطئه ، وافترائه ، ناهيك عن العلماء الذين حفظه وفقهوا معانيه ، وتشبعوا بعلومه ..
وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه .
ما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني ، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يأذن الله بزوال هذا الكون ودماره .
--------------------------------
(1/191)
________________________________________
(1) بينا شيئاً من افتراءات اليهود على الله في ( العقيدة في الله ) ، وبينا شيئاً من افتراءاتهم على الرسل في ( الرسل والأنبياء ) وسأورد هنا مثالاً واحداً من تحريف اليهود ، وهذا التحريف جعل التوراة متناقضة ، النص الأصلي في التوراة هو ( خذ ابنك وحيدك الذي تحبه واذبحه ) ، هذا الابن هو إسماعيل ، ولكن اليهود كبر عليهم أن يذهب إسماعيل وأبناؤه وهم العرب بهذا الفضل ، فأقحموا في النص كلمة (إسحاق) لينسبوا الفضل لأنفسهم ، فأصبح النص في التوراة – المحرفة – التي بين أيديهم اليوم ( خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذبحه ) سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ، فقرة (2) . ولكن هذا الذي حرف النص هنا لم ينتبه إلى التناقض الذي أوجده مع نصوص أخرى في التوراة ، فقد ورد في التوراة أن إسماعيل ولد لإبراهيم وعمر إبراهيم ست وثمانون سنة ، انظر الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين ، وعلى ذلك يكون إسماعيل هو ولده وحيده ، أما إسحاق فتقول التوراة إنه ولد ( وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ) الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين فقرة (5) . أرأيت كيف فضح الله مكرهم وكيدهم وأظهر تحريفهم وتبديلهم ، وقد ذكرت شيئاً من هذا التحريف في أدلة صدق الرسل ( البشارات ) .
(2) كان من الأسباب هذا الحفظ تيسير الله لتلاوة القرآن وحفظه ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) [ القمر : 22 ] .
مَواضِع الاتفاق والاختلاف في الرّسَالات السّماويّة
المطلب الأول
مواضع الاتفاق
1- الدين الواحد :
(1/192)
________________________________________
الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعاً منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير ، ولذلك فإنها تمثل صراطاً واحداً يسلكه السابق واللاحق ، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أنّ الدِّين الذي دعت إليه الرسل جميعاً واحد هو الإسلام ، ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) [ آل عمران : 19 ] ، والإسلام في لغة القرآن ليس اسماً لدين خاص ، وإنما هو اسم للدّين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء ، فنوح يقول لقومه : ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [ يونس : 72 ] ، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [البقرة : 131] ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً : ( فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) [البقرة : 132] وأبناء يعقوب يجيبون أباهم : ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة : 133 ] وموسى يقول لقومه : ( يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ) [ يونس : 84 ] والحواريون يقولون لعيسى : ( آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 52 ] وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن ( قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) [ القصص : 53 ] .
فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية .
كيف يتحقق الإسلام :
(1/193)
________________________________________
الإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى ، بفعل ما يأمر به ، وترك ما ينهى عنه ، ولذلك فإنّ الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح ، والإسلام في عهد موسى يكون باتباع شريعة موسى ، والإسلام في عهد عيسى يكون باتباع الإنجيل ، والإسلام في عهد محمد صلى الله عليه وسلم يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
لبُّ دعوات الرسل :
ولبُّ دعوات الرسل وجوهر الرسالات السماوية هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونبذ ما يُعبد من دونه ، وقد عرض القرآن هذه القضية وأكدها في مواضع متعددة ، مرة يذكر دعوة الرسل فنوح يقول لقومه : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ الأعراف : 59 ] ، وإبراهيم قال لقومه : ( وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ العنكبوت : 16 ] وهود قال لقومه : ( اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ الأعراف : 65 ] وصالح قال لقومه : ( اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [ الأعراف : 73 ] .
(1/194)
________________________________________
ومرة ينص على أنّه أرسل الرسل جميعاً بهذه المهمة الواحدة : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 25 ] . ومرة يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد ، ويجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [ الأنبياء : 92 ] ، ومرة يجعل الاستجابة لله وتحقيق العبودية له هي الدين والملة ، ويجعل مَن رفضَها يحكم على نفسه بالسفه والضلال، ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) [ البقرة : 130 ] ، وملة إبراهيم عليه السلام حددها بقوله : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ الأنعام : 79 ] .
ومرة يبين أنها وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا .. ) [ البقرة : 133 ] (1) .
ومرة ينص على وحدة الدين الذي شرعه للرسل العظام : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) [ الشورى : 13 ] .
الرسالات السابقة تبين الأسباب الموجبة لعبادة الله :
(1/195)
________________________________________
ولم تكتف الرسالات السابقة بالدعوة إلى عبادة الله وحده ، بل بينت الأسباب التي تجعل هذه الدعوى هي الحق الذي لا محيص عنه ، وذلك بذكر خصائص الألوهية ، وبالحديث عن نعم الله تعالى التي أنعم بها على عباده ، وبتوجيه الأنظار والعقول للنظر في ملكوت السماوات والأرض ، فنوح يقول لقومه : ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا - وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا - أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا - وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا - وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا- لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ) [نوح :13-20]
وهذا المعنى يتردد في صحف إبراهيم وموسى ، وقد ورد فيهما كما أخبرنا القرآن ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا - وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى - مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى - وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى - وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى - وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى - وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ) [ النجم : 42-52 ] .
2- المبادئ الخالدة : مسائل العقيدة :
(1/196)
________________________________________
وليست الدعوة إلى عبادة الله وحده هي القضية الوحيدة التي اتفقت فيها الرسالات، فأماكن الاتفاق كثيرة ، فمن ذلك أمور الاعتقاد التي تشكل تصوراً واحداً وأساساً واحداً لدى جميع الرسل وأتباعهم ، فأول الرسل نوح ذكَّر قومه بالبعث والنشور فمما قاله لقومه : ( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) [نوح : 17-18 ] .
وأعلمهم بالملائكة والجنّ ، ولذلك قال الكفار من قومه : ( مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ) [ المؤمنون : 24-25 ] .
والإيمان باليوم الآخر واضح في دعوة إبراهيم ( وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [ البقرة : 126 ] ، وفي دعوة موسى أشدُّ وضوحاً ، ولذلك نرى السحرة عندما يخرون سجدّاً يقولون لفرعون : ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ) [ طه : 73-76 ] .
(1/197)
________________________________________
وجاء في صحف إبراهيم وموسى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى : 16-17 ] وكل الرسل والأنبياء أنذروا أممهم المسيح الدجال ، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ، فقال : " إني أنذركموه ، وما من نبي إلا قد أنذره قومه ، لقد أنذره نوح قومه ، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه ، تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور " (2) .
3- القواعد العامة :
والكتب السماوية تقرر القواعد العامة التي لا بدّ أن تعيها البشرية في مختلف العصور كقاعدة الثواب والعقاب ، وهي أنّ الإنسان يحاسب بعمله ، فيعاقب بذنوبه وأوزاره ، ولا يؤاخذ بجريرة غيره ، ويثاب بسعيه ، وليس له سعى غيره ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ) [ النجم : 36-41 ] .
ومن ذلك أن الفلاح الحقيقي يتحقق بتزكية النفس بمنهج الله والعبودية له ، وإيثار الآجل على العاجل : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى - بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى - صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) [ الأعلى : 14-19 ] .
ومن ذلك أنّ الذي يستحق وراثة الأرض هم الصالحون ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء : 105 ] .
وقد سأل أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن محتويات صحف إبراهيم وصحف موسى ففي الحديث الذي يرويه ابن حبان والحاكم عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم ؟
(1/198)
________________________________________
قال : كانت أمثالاً كلّها : أيها المسلط ( أي : الحاكم النافذ السلطان ) المبتلى (المختبر) المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها وإن كانت من كافر .
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب .
وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً ( مرتحلاً ) إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو لمعاش ، أو لذة في غير محرم .
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شانه ، حافظاً للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قل كلامه إلاّ فيما يعنيه .
قلت : يا رسول الله : فما كانت صحف موسى ؟
قال : كانت عبراً ( عظات ) كلّها :
عجبت لمن أيقن بالموت ثمّ هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ، ثمّ هو يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر ، ثمّ هو ينصب ، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ، ثمّ اطمأن إليها ، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل " .
(1/199)
________________________________________
والقرآن يخبرنا أنّ الرسل جميعاً حملوا ميزان العدل والقسط ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطٌِ ) [ الحديد : 25 ] وأنهم أمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) [المؤمنون : 51] وكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل السابقين وأتباعهم ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) [الأنبياء : 73] . وإسماعيل عليه السلام ( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .. ) [ مريم : 55 ] وقال الله لموسى عليه السلام : ( فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ) [ طه : 14 ] ، وقال عيسى : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) [ مريم : 31 ] . والصوم مفروض على من قبلنا كما هو مفروض علينا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : 183 ] .
والحج فرضه إبراهيم عليه السلام ، فقد أمره الله بعد بناء الكعبة فنادى بالحج ، ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ... ) [ الحج : 29 ] (3) ، وقد كان لكل أمة مناسكها وعبادتها ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام ) [الحج : 3] ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ) [ الحج : 67 ] .
ومما اتفقت فيه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته وإزالته ، سواءً أكان عبادة أوثان ، أو استعلاء في الأرض ، أو انحرافاً عن الفطرة كفعل قوم لوط ، أو عدواناً على البشر وأحوالهم بقطع الطريق والتطفيف بالميزان .
(1/200)
________________________________________
المطلب الثاني
اختلاف الشرائع
إذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحداً وهو الإسلام فإن شرائع الأنبياء مختلفة ، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى في بعض الأمور ، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تخالف شريعة موسى وعيسى في أمور ، قال تعالى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) [ المائدة : 48 ] والشرعة هي الشريعة وهي السنة ، والمنهاج : الطريق والسبيل .
وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً ، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية ، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج ، وأخذ الطعام من حلّه وغير ذلك ، والاختلاف بينها إنّما يكون في بعض التفاصيل .
فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها ومقادير الزكاة ومواضع النسك ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة ، وقد يحلّ الله أمراً في شريعة لحكمة ، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة .
ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة :
الأول : الصوم : فقد كان الصائم يفطر بغروب الشمس ، ويباح له الطعام والشراب والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم ، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني ، فخفَّف الله عن هذه الأمة وأحله من الغروب إلى الفجر سواءً أنام أم لم ينم . قال تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .. ) [ البقرة : 187 ] .
(1/201)
________________________________________
الثاني : ستر العورة حال الاغتسال لم يكن واجباً عند بني إسرائيل ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده " (4) .
الثالث : " الأمور المحرمة ، فمما أحلّه الله لآدم تزويج بناته من بنيه ، ثمّ حرّم الله هذا بعد ذلك ، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم ، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة ، وقد حرّم الله مثل هذا في التوراة على بني إسرائيل ، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً ، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين ، ثمّ حرم عليهم في التوراة ، وحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل " (5) .
والسبب في ذلك كما ثبت في الحديث " إن إسرائيل ( يعقوب ) مرض مرضاً شديداً، وطال سقمه ، فنذر لله لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها " (6) ، وهذا الذي حرمه إسرائيل حرّمه الله على بني إسرائيل وحُرّم في التوراة ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) [ آل عمران : 93 ] .
ومما حرّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ) [ الأنعام : 146 ] .
(1/202)
________________________________________
فقد حرّم الله عليهم كلّ ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والوز والبط ، وحرّم عليهم شحوم البقر والغنم إلاّ الشحم الذي على ظهور البقر والغنم ، أو ما حملت الحوايا وهو ما تحوَّى في البطن وهي المباعر والمرابض ، أو ما اختلط بعظم .
وهذا التحريم لم يكن سببه خبث المحرّم إنما سببه التزام من أبيهم يعقوب في بعض المحرمات ، فألزم أبناءه من بعده بمثل ذلك ، وبعض المحرمات سببه ظلم بني إسرائيل ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ) [ الأنعام : 146 ] وقال : ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ) [ النساء : 160 ] .
ثمّ جاء عيسى فأحلّ لبني إسرائيل بعض ما حرّم عليهم ( وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [ آل عمران : 50 ] ، وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة إحلال الطيبات وتحريم الخبائث .
الأنبياء إخوة لعلاّت :
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لاتفاق الرسل في الدين الواحد واختلافهم في الشرائع ، فقال : " الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتّى ، ودينهم واحد " (7) .
قال ابن حجر : " الأنبياء أولاد علاّت ، وفي رواية عبد الرحمن المذكورة " أي في صحيح البخاري " : " والأنبياء إخوة لعلات " والعلات بفتح المهملة : الضرائر ، وأولاد العلات الإخوة من الأب ، وأمهاتهم شتى ، ومعنى الحديث : أنّ أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع " (8) .
--------------------------------
(1/203)
________________________________________
(1) ثبت في السنة أن نوحاً أوصى ولده بمثل ذلك ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن نبي الله نوحاً – صلى الله عليه وسلم – لما حضرته الوفاة ، قال لابنه : إني قاص عليك الوصية : آمرك باثنتين ، وأنهاك عن اثنتين ، آمرك بلا إله إلا الله ، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ، ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله ، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة (مغلقة) ، قصمتهن (كسرتهن) لا إله إلا الله ، وسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق الخلق ، وأنهاك عن الشرك والكبر " رواه البخاري في الأدب المفرد : ص548 ، وأحمد 2/169 ، 170، 225 ، والبيهقي في الأسماء : (79 هندية) ( انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة : حديث رقم : 134 ) .
(2) صحيح البخاري: 3057 .
(3) كان من هدى الأنبياء بعد ذلك الحج إلى البيت العتيق فقد حج البيت موسى ويونس ، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، فمررنا بواد ، فقال: " أيُّ واد هذا ؟ " فقالوا : وادي الأزرق . قال : " كأني أنظر إلى موسى " فذكر من لونه وشعره شيئاً ، " واضعاً أصبعيه في أذنيه ، له جؤار إلى الله بالتلبية ، ماراً بهذا الوادي " . قال : ثم سرنا حتى أتينا على ثنية ( الثنية : الطريق بين الجبلين ) . فقال : " أي ثنية هذه؟" فقالوا : هرش أو لفت – فقال : " كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف ، خطام ناقته خلبة ( الخطاب الزمام ، والخلبة : ليفة نخل ) ماراً بهذا الوادي ملبياً " . ( انظر مشكاة المصابيح 3/116 ) .
(4) صحيح البخاري : 278 . وصحيح مسلم : 339 .
(5) تفسير ابن كثير : 2/73 .
(6) رواه أحمد في مسنده : ( تفسير ابن كثير : 2/71 ) .
(7) رواه البخاري : 3443 ، ومسلم : 2365 . واللفظ للبخاري .
(8) فتح الباري : 6/489 .
(1/204)
________________________________________
الطّول والقصر ووقت النزول
القرآن الكريم أطول الكتب السماوية وأشملها ففي الحديث : " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضّلت بالمفصّل " رواه الطبراني في الكبير (1) .
والكتب السماوية المعروفة لنا كلّها أنزلت في شهر رمضان ، فقد جاء في الحديث :" أنزلت صحف إبراهيم أولّ ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين – من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " رواه الطبراني (2) .
--------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير : (1/350) وقال الألباني فيه : إسناده صحيح .
(2) صحيح الجامع الصغير : 2/28 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : إسناده حسن .
موقف الرّسالة الخاتمة من الرّسالات السّابقة
بين الله هذا في جزء من آية في كتابه ، قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيهِ ) [ المائدة : 48 ] .
وكون القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه :
(1/205)
________________________________________
الأول : أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه ، والإخبار بأنّ الله سينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقاً لتلك الكتب ، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ) [ الإسراء : 107-108 ] أي إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولاً ، أي : لكائناً لا محالة ولا بدّ " (1) .
الثاني : أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة ، بموافقته لها ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) [ المدثر : 31 ] واستيقان الذين أتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم .
الثالث : أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية ، وأنّها من عند الله ، وأمر بالإيمان بها كما سبق بيانه .
والمهيمن في لغة العرب تطلق ويراد بها القائم على الشيء (2) ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ، ذلك أنّ الله تعالى قائم على شؤون خلقه ، تصريفاً وتدبيراً ورعاية .
(1/206)
________________________________________
والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها ، ويبين ما فيها من حق ، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها ، وهو حاكم على تلك الكتب لأنّه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب المصير إليها ، والرجوع إليها ، والتحاكم إليها ، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إمّا محّرف مغيَّر ، وإمّا منسوخ .
يقول ابن كثيرة – رحمه الله – تعالى – بعد أن ذكر أقوال السلف في معنى كلمة مهيمن : " وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كلّه ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كلّ كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها (3) .
وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله تعالى ، ولا يجوز أن نحاكم القرآن إلى الكتب السماوية السابقة كما يفعل الضالون من اليهود والنصارى ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [ فصلت : 41-42 ] .
عدم حاجة الشريعة الخاتمة إلى غيرها :
الشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها ، ولا إلى شريعة لاحقة لها ، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال المسيح أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة ، وشريعة الإنجيل مكلمة لشريعة التوراة ، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور ، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدَّثين ، بخلاف أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الله أغناهم به ، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدّث (4) .
--------------------------------
(1) تفسير ابن كثير : 2/586 بشيء من التصرف .
(1/207)
________________________________________
(2) لسان العرب :(3/833) مادة (همن) .
(3) تفسير ابن كثير : 2/587 .
(4) راجع في هذا البحث مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة : 11/224 .
(1/208)
________________________________________

حازمة
27-02-2009, 02:59 PM
دفء البوح يعطيك العافية

الله يجزاك خير

المارد السعودي
15-03-2009, 08:01 PM
الف مليون شكر جعله الله في ميزان حسناتك وغفر الله لك ولوالديك

البرنس07
26-03-2009, 11:59 PM
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . كيف حالك إن شاء الله دائما بخير ؟
http://www.mzaeen.net/gallery_files/MMU24441.gif

دفا المشاعر
03-04-2009, 05:05 AM
أخي الرائع دفء البوح

باركَ الله فيك أخي المعطااااء والمميز

ولا عدمنا جديدك النافع و المثمر

ودي وتقديري

سمووره
06-04-2009, 03:24 AM
ماقصرت اخي الفاضل دفء
يعطيك العافيه يارب

غرابيــل
15-07-2009, 02:02 AM
الله يعطيك الف عافيه,,

ربي مايحرمنا من روعه تواجدكـ,,

في انتظآآرجديدكـ,,

.
.
سفــورهـ,,

عفاف حسن مختار
22-02-2010, 07:34 PM
شكرا جزيلا

كاسب العز
19-05-2010, 03:35 PM
بارك الله فيك

لك مني أجمل تحية

تقبل مرورى

كاسب العز

أ- منصور
05-08-2010, 07:09 PM
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية