المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاعتـــدال في الدعـــوة



أهل الحديث
21-04-2004, 02:17 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
--------------------------------------------------------------------------------

للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى -



السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحقّ ، فبلغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .


أما بعد :
فيسرني أن ألتقي بكم هذا اللقاء في موضوع مهم يهمّ المسلمين جميعهم ، ألا وهو الدعوة إلى الله عزّ وجل .
قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾سورة فصلت ، الآية : 33 .

والاستفهام في الآية بمعنى النفي ، أي : لا أحسن قولاً .

والغرض من الإتيان بالاستفهام في موضع النفي إفادة أمرين :

الأول - انتفاء هذا الشيء .

الثاني - تحدي المخاطب أن يأتي به ، فالاستفهام مشربٌ معنى التحدي ، أي: إذا كان عندك شيء أحسن من هذا فأتِ به ، ولكننا نقول : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال إنني من المسلمين .

والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته ، ودعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام تدور على ثلاثة أمور :

أولاً - معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .

ثانياً - معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته .

ثالثاً - معرفة الثواب للطائعين والعقاب للعاصين .


والدعوة إلى الله تعالى أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح إلا بها كما قال الله تعالى:

﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ سورة العصر .

فإن التواصي بالحقّ يلزم منه الدعوة إلى الحق ، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله ~ عـز وجــل~ في أصوله وفروعه .


إن الدعوة إلى الله ~ عـز وجــل~ صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط .


أما الطرفان فجانب الإفراط ، بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله يريد من عباد الله ~ عـز وجــل~ أن يطبقوا الدين بحذافيره ، ولا يتسامح عن شيء الدين يسمح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة تأثر تأثراً عظيماً ، وذهب يدعو هؤلاء القوم المقصرين دعاء الغليظ الجافي ، وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات، ومن الأمثلة على ذلك :


•المثال الأول : رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية ، أو عند القيام إلى الركعة الرابعة ، وهي التي تسمى عند أهل العلم جلسة الاستراحة ، هو يرى أنها سنة ، ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتدّ عليه ، وقال : لماذا لا تفعلها؟ ويتكلم معه تكلم من يظهر من كلامه أنه يقول بوجوبها ، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة ، وأن خلاف العلماء فيها دائر بين ثلاثة أقوال :

القول الأول : أنها مستحبة على الإطلاق .
القول الثاني : ليست مستحبة على الإطلاق .
القول الثالث : أنها مستحبة لمن كان يحتاج إليها ، حتى لا يشقّ على نفسه كالكبير ، والمريض ، ومن في ركبه وجعٌ ، وما أشبه ذلك .
فيأتي بعض الناس ، ويشدد فيها ، ويجعلها كأنها من الواجبات .


• المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، قال : أنت مبتدع لا بد أن تسدل يديك ، فإن وضعتهما على الصدر فإن ذلك من البدع والمنكرات ، مع أن المسألة مسألة اجتهادية ، وقد يكون الدليل مع من قال : إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر ، كما توضعان قبله أيضاً على الصدر؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه البخاري عن سهل
بن سعد ~ رضي الله عنه~ قال : {{ كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة }} .


• المثال الثالث : كذلك بعض الناس ينكر على من يصلّي إذا تحرك أدنى حركة، وإن كانت هذه الحركة مباحة ، وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر ، فتجده ينكر عليه الإنكار العظيم ، حتى إنه يجعل هذا الأمر هو محل الانتقاد في هؤلاء القوم ، مع أنها حركة مباحة جائزة ورد نظيرها ، أو ما هو أكثر منها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلّم ، هذا تشديد. وكان أبو جحيفة ~ رضي الله عنه~ ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده ، فتقدمت الفرس ، فذهب ~ رضي الله عنه~ وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً حتى انتهى من صلاته ، فرآه رجل من نوع هذا المتشدد، فجعل يقول : انظروا إلى هذا الرجل - وأبو جحيفة صحابي جليل ~ رضي الله عنه~ فلما سلم أبو جحيفة بيّن لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز، وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل ، فانظر إلى الفقه في الشريعة والتسامح والتيسير فيها .


وهذا النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصلي بأصحابه وهو يحمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جدّ هذه الطفلة - فكان يصلي بالناس حاملاً هذه الطفلة ، فإذا قام حملها ، وإذا سجد وضعهاصلى الله عليه وسلّم هذا فيه حركة ، وفيه ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤمّ الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي صلى الله عليه وسلّم مع هذه الطفلة . ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو أتقى الناس لله عــز وجــــــل وأعلمهم بما يتقي - كان يفعل ذلك .


• ومثال آخر : اجتمع نفر من أصحاب رسول الله  فسألوا عن عمله في السّرّ ، فأخبروا بذلك ، فتقالّوا عمل النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلّم غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر ، ولكن نحن بحاجة إلى عمل أكثر ليغفر الله لنا ذنوبنا، فقال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر . وقال الثاني : أنا أقوم ولا أنام . وقال الثالث : أنا لا أتزوج النساء ، فبلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : { أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي } . هذا كله يدل على أنه لا ينبغي لنا ، بل لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله ، سواء أكان في دعاء غيرنا إلى دين الله ، أم في أعمالنا الخاصة بنا ، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى.


بذلك ، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلّم فالله عـــز وجـــل يقول:

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ سورة الأنعام ، الآية : 153.

والنبي صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه : {{ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم }} ، وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى أخذ حصيات بكفه وجعل يقول : {{يا أيها الناس بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين }}.


• وضد ذلك : من يتهاون في الدعوة إلى الله عـــز وجـــــل فتجده يرى الفرص مواتية والمقام مناسباً للدعوة إلى الله ، ولكن يضيع ذلك ، تارة يضيعه لأن الشيطان يملي عليه أن هذا ليس وقتاً للدعوة ، أو أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منك ، أو ما أشبه ذلك من المثبطات التي يلقيها الشيطان في قلبه ، فيفوت الفرصة على نفسه .


وبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه ، واشمأز منه ، وابتعد عنه ، وأيس من إصلاحه ، وهذه مشكلة ، والله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن نصبر ، وأن نحتسب ، قال الله تعالى لنبيه :

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ سورة الأحقاف ، الآية : 35.

فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب ، ولو رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة، فليجعل ذلك في ذات الله عــز وجـــل ، والنبي صلى الله عليه وسلّم عندما أدميت إصبعه في الجهاد ، قال : هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت.

وهذا عكس الأول حتى إن هذا ليرى الأمر بعينه ، ويسمعه بأذنه يجد هذا الأمر المخالف لشريعة الله ، ولا يدعو الناس إلى الاستقامة وعدم معصية الله عــز وجـــل ومخالفته ، بل إنّا نسمع أن بعض الناس يقول :


يجب أن تجعل الأمة الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام ، وتتجه في صلاتها إلى القبلة ، يجب أن تكون طائفة واحدة غير متميزة ، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة ، وهذا لا شك خطأ وخطل وخطر ؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل ، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبيّن، أما لو اندمج الناس جميعاً، وقالوا : نعيش كلنا في ظل الإسلام، وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام، فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

ويوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله ؛ لما عندهم من العلم والبصيرة ، ويشاهدون الناس يخلّون في أشياء ، ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم ، أو الكلام فيهم أن يقولوا الحق ، فتجدهم يقصرون ويفرطون في الدعوة إلى الله عـــز وجـــل وهؤلاء إذا نظروا إلى القوم الوسط الذين تمسكوا بدين الله على ما هو عليه إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون ، إن هؤلاء لمتعمقون ، إن هؤلاء لمتشددون متنطعون ، مع أنهم على الحق .

وإذا نظر إليهم المفرطون الغالون قالوا: أنتم مقصرون لم تقوموا بالحق، ولم تغاروا لله عــز وجـــل ، ولهذا يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلّم وهدي أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلّم رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله صلى الله عليه وسلّم رسمه لنا رسماً بيّناً، فإذا دار الأمر بين أن أشدّد أو أيسّر، بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل ، فأيهما أسلك؟ أسلك طريق التيسير ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: { إن الدين يسر } ، ولما بعث معاذاً و أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: { يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا }، ولما مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلّم فقال السّام عليك يا محمد – يريد الموت عليك ؛ لأن السام بمعنى الموت - وكان عند النبي صلى الله عليه وسلّم عائشة رضي الله عنها فقالت : {عليك السّام واللعنة } فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : { إن الله رفيق يحب الرفق ، وإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف }، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: { إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف} عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن أستعمل الشدة ، أو أستعمل السهولة كان الأولى أن أستعمل السهولة ثقة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: { إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف }، ومن أراد أن يفهم هذا الأمر فليجرب؛ لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة اشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها ، إن كان عامّياً قال: عندي علماء أعلم منك ، وإن كان طالب علم ذهب يجادلك ، حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس ، وهو يراه مثل الشمس ، ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه ؛ لأنه لم يجد منك رفقاً وليناً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة . والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين : إما معرض وإما مستكبر ، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له .


ومن التطرف ما يكون من الآباء والأمهات في زمننا هذا حين صار الشباب - ولله الحمد - من ذكور وإناث عندهم اتجاه إلى العمل بالسنة بقدر المستطاع ، صار بعض الآباء والأمهات يضايقون هؤلاء الشباب من بنين وبنات في بيوتهم ، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف ، مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ، ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف ، كمن يقول لأولاده: لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض، أو الإثنين، أو الخميس، أو ما أشبه ذلك، مع أن هذا لا يضر الوالدين شيئاً ، ولا يحول دون قضاء حوائجهما ، وليس بضار على الابن في عقله ، أو بدنه ، أو في درسه ، ولا على البنت كذلك .وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة ، وهذا على خطر ، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة ؛ لأن الله تعالى يقول :

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ سورة محمد، الآية: 9.

ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى :

﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ سورة البقرة، الآية: 217.

هذا مثال من الشدة في أولياء الأمور .

أما بالنسبة للأولاد من بنين أو بنات إذا كانوا متمشين في مناهجهم وسيرهم على شريعة الله ، فليسوا في شدة .

• وهناك في المقابل من يكون شديداً من الأولاد بنين وبنات على أهله ، بحيث لا يتسع صدرهم لما يكونون عليه من الأمور المباحة ، فتجده يريد من أبيه أو أمه أو إخوته أن يكونوا على المستوى الذي هو عليه من الالتزام بشريعة الله ، وهذا غير صحيح ، فالواجب عليك إذا رأيتهم على منكر أن تنهاهم عنه ، أما إذا رأيتهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي لك أن تشتد معهم ، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليك إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا تضيق بهم ذرعاً ، وأن لا تشتد عليهم .
فالذي ينبغي للإنسان سواء أكان داعية لغيره إلى الله ، أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير، مستقيماً على دين الله عــز وجــــل كما أمر الله صلى الله عليه وسلّم بذلك في قوله:

﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ سورة الشورى، الآية: 13.

وإقامة الدين: الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله عــز وجـــل ، ولا تتفرقوا فيه، نهى عن ذلك سبحانه وتعالى؛ لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات.

والتفرق أمر مؤلم ومؤسف؛ لأن الناس إذا تفرقوا كما قال الله تعالى:

﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ سورة الأنفال ، الآية :46.

فإذا تفرق الناس، وتنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم، ولم يكن لهم وزن، وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق، وهم الذين يشعلون ناره، ويلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة الدعاة إلى الله عــز وجـــل ، فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم ولدينه، وأن نكون يداً واحدة ، وأن نكون إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله عـــز وجــــل ، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة ، والتفرق هو قرة عين شياطين الإنس والجن ؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من أهل الحق أن يجتمعوا على شيء ، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله عـــز وجـــل ويدل على هذا قوله تعالى :

﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ سورة الأنفال ، الآية :46.

وقوله:
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ سورة آل عمران ، الآية : 105.

وقوله:
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ سورة الأنعام ، الآية : 159 .

وقوله :
﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ سورة الشورى ، الآية : 13 .

فالله تعالى قد نهانا عن التفرق ، وبيّن لنا عواقبه الوخيمة ، والواجب علينا أن نكون أمة واحدة ، وكلمة واحدة ، وإن اختلفت آراؤنا في بعض المسائل ، أو في بعض الوسائل ؛ فالتفرق فساد وشتات للأمر ، وموجب للضعف ، والصحابة -رضوان الله عليهم - حصل بينهم اختلاف لكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ولا البغضاء ، حصل بينهم الاختلاف حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم ومن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : { لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة }، وخرجوا - رضوان الله عليهم - من المدينة إلى بني قريظة ، وحان وقت صلاة العصر ، فاختلف الصحابة ، فمنهم من قال : لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال : { لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة } فنقول سمعنا وأطعنا .
ومنهم من قال : إن النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يعنف أحداً منهم ، ولم يوبخه على ما فهم ، وهم بأنفسهم لم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق، وأن نكون أمة واحدة .

قد يقول قائل : إذا كان المخالف صاحب بدعة ، فكيف نتعامل معه ؟ .

فأقول : إن البدع تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول: بدع مكفرة .

القسم الثاني: بدع دون ذلك .

والواجب علينا في القسمين كليهما أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام، ومعهم البدع المكفرة وما دونها، إلى الحق ببيان الحق، دون أن نهاجم ما هم عليه إلاّ بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلّم :
﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ سورة الأنعام ، الآية : 108.

فندعو أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته ، والحق مقبول لدى ذي كل فطرة سليمة ،

فإذا وجد منهم العناد والاستكبار فإننا نبيّن باطلهم على أن بيان باطلهم في غير المجادلة معهم أمر واجب .

أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجرهم، وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر إلى الأمر ، فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه ، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه ، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : { لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث } فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة، أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة .

وحل هذه المشكلة : أعني مشكلة التفرق أن نسلك ما سلكه الصحابة رضي الله عنهم وأن نعلم أن هذا الخلاف الصادر عن اجتهاد في مكان يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤثر، بل إنه في الحقيقة وفاق؛ لأن كل واحد منا أخذ بما رأى بناءً على أنه مقتضى الدليل، إذن فمقتضى الدليل أمامنا جميعاً ، وكل منا لم يأخذ برأيه إلاّ لأنه مقتضى الدليل، فالواجب على كل واحد منا أن لا يكون في نفسه على أخيه شيء، بل الواجب أن يحمده على ما ذهب إليه ؛ لأن هذه المخالفة مقتضى الدليل عنده .

ولو أننا ألزمنا أحدنا أن يأخذ بقول الآخر ، لكن إلزامي إياه أن يأخذ بقولي ليس بأولى من إلزامه إياي أن آخذ بقوله ، فالواجب أن نجعل هذا الخلاف المبني على اجتهاد أن نجعله وفاقاً ، حتى تجتمع الكلمة ، ويحصل الخير .

وإذا حسنت النية سهل العلاج ، أما إذا لم تحسن النية ، وكان كل واحد معجباً برأيه ، ولا يهمه غيره ، فإن النجاح سيكون بعيداً .

وقد أوصى الله عباده بالاتفاق ، فقال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ سورة آل عمران ، الآية : 102.

فإن هذه الآية موعظة للإنسان أي موعظة .

أسأل الله تعالى
أن يجعلني وإياكم
من الهداة المهتدين،
والصلحاء المصلحين
إنه جواد كريم
والحمد لله رب العالمين ،
وصلى الله وسلم على
نبينا محمد ، وعلى آله
وصحبه أجمعين.

محمد بن صالح العثيمين

وجزاكم الله خيراً



اعداد :
أهل الحديث

الأميرة الناعمة
21-04-2004, 11:20 PM
جزاك الله خير اخوي على الموضوع الرائع

المفكر
22-04-2004, 12:11 AM
جزاك الله كل خير

مجروحة الزمن
22-04-2004, 02:44 AM
مشكور اخي علي الموضوع القيم

وجزاك الله خيرا

سلامي لك

صائد الطرائد
24-04-2004, 03:20 PM
جزاك الله خير الجزاء

صعب المنال
24-04-2004, 08:25 PM
جزاك الله خير على هذا الموضوع المفيد

وأن شاء الله تعم الفائدة على الجميع

اخوك

صعب المنال