بـيـبـرس
04-04-2008, 02:23 PM
سعود البلوي
الحرية شيء.. والرِّدة شيء آخر
في كتابه (الديموقراطية وحقوق الإنسان) يحاول المفكر المعروف محمد عابد الجابري أن يبدي رأياً جديداً بخصوص قضية "الردة" عن الدين الإسلامي. وبما أني أشرت إلى هذه الفكرة، خلال مقال الأسبوع الماضي، فمن المناسب تسليط الضوء عليها الآن، خصوصاً بعد عاصفة الفتاوى التكفيرية بتهمة الردة، والآراء (التضامنية) الداعمة لها. وعلى كل حال، لا يعتبر الاتهام بالردة جديداً على مستوى ثقافتنا المحلية، ولا على مستوى الثقافة الإسلامية بوجه عام!
بدايةً يوضح المؤلف أن "الشريعة الإسلامية كليات وجزئيات، مبادئ وتطبيقات. والأصل في الحكم الصادر في الجزئي، أن يكون تطبيقاً للمبدأ الكلي. فإذا كان هناك اختلاف، فلسبب وحكمة. والأسباب التي تبرر الحكم الجزئي وتبيّن معقوليته، هي "إما أسباب النزول"، وهي عموماً الظروف الخاصة التي اقتضت ذلك الحكم، وإما مقاصد عامة تستوحي الخير العام"، ويعتقد أنّ هناك ثلاثة مفاتيح لفهم معقولية الأحكام الجزئية في الإسلام وهي: كليات الشريعة، والأحكام الجزئية، والمقاصد وأسباب النزول.
كما يرى أن الإسلام قرر حق الحرية كمبدأ عام، لكنها ليست الحرية السائدة في لغة اليوم. لكن المبدأ هو ذاته، في التأكيد على حرية الإنسان الشخصية، وحريته في الاعتقاد. وعن حرية الاعتقاد وعلاقتها بحكم "المرتد"، يسوق الجابري عدة آيات قرآنية، تتعلق بموقف الدعوة المحمدية من حرية المعتقد، ومنها على سبيل المثال، قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (فذّكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر)، (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنْ عليك إلا البلاغ). (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كَفوراً).
ويعلّق الجابري بالقول إنّ "هذه الآيات تقرر حرية الإنسان في الاعتقاد، فهو حر في أن يعتنق الإسلام، لكنه إذا أعرض فليس من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجبره على ذلك". لكنه لم يغفل مسألة الاعتراض على فكرته هذه بقضية "المرتد" الذي حكمه القتل كما هو معروف في الفقه الإسلامي؛ ولهذا يؤكد أهمية الوعي بأن القضية جزئية يختلف حكمها عن مقتضيات المبدأ الكلي الذي تقرره الآيات. ولفهم هذا الاختلاف وإدراك معقوليته، يرى ضرورة الرجوع إلى أسباب النزول، مع النظر في الكيفية التي تم التعامل بها مع المرتدين في مرحلة "الدعوة" في مكة، ومن ثم في مرحلة "الدولة" في المدينة.
والقرآن الكريم يصنف على أنه مكيّ ومدنيّ. ففي السور المكيّة التي تحدثت بعض آياتها عن الردة، لاحظ الجابري أن حكم المرتد فيها هو عقاب إلهي بحت، مثل: لعنة الله، غضب الله، جهنم... وليس القتل، الذي هو عقاب يختص به البشر، مع ملاحظة أنّ باب التوبة في كل الحالات بقي مفتوحاً، وذلك من خلال سياق الآيات التالية، قال تعالى: ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)، (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خَلاق لهم في الآخرة)، (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات، والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوَله ما تولّى ونصْلِهِ جهنم وساءت مصيرا)، (من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم).
أما في الفقه الإسلامي فإن الفقهاء يرون قتل المرتد مستندين إلى حديث نبوي يقول: "من بدّل دينه فاقتلوه". ويطرح الجابري سؤالاً حول كيفية تفسير هذا الاختلاف؟
وهو في البدء، يستبعد الشك في صحة الحديث المذكور؛ لأن قتال المرتدين واقعة تاريخية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما أن قتل المرتد مسألة تحظى بإجماع الفقهاء، ثم يطرح استفهاماً: لماذا؟
ويجيب بالقول: "لأن المرتد في هذه الحالة، بعد قيام الدولة الإسلامية، لم يكن مجرد شخص يغير عقيدته لا غير، بل هو شخص خرج عن الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة"، باعتبار أن الدولة الإسلامية في المدينة، زمن النبي والخلفاء الأربعة، كانت تخوض حرباً مستمرة مع المشركين العرب، ثم الروم والفرس، وبالتالي فإن المرتد "هو من يخون وطنه ويتواطأ مع العدو زمن الحرب - بالتعبير المعاصر". ويشير إلى أن العرب المرتدين الذين حاربهم أبو بكر الصديق، لم يقتصروا على "خيانة" دولة الإسلام، بل هيأوا أنفسهم للانقضاض عليها بعد عصيانهم لقوانينها (من خلال الامتناع عن دفع الزكاة)، وبذلك يكون المرتد خارجاً على دولة الإسلام بشكل أو بآخر. وبهذا يرى الجابري أن حكم الفقه الإسلامي بقتل المرتد ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد - التي نصت عليها الآيات المذكورة سابقاً - إنما "ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، فضلاً عن الدين والتواطؤ مع العدو أو التحول إلى لصّ أو عدو محارب". ومن هنا جاء ربط الفقهاء بين حكم "المحارب" الذي يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، وبين "المرتد" الذي هو صنف من "المحاربين" وحكمه فيه اختلاف فقهي؛ فالمرتد المحارب يُقتل باتفاق الفقهاء. أما قبل أن يحارب فقد اختلفوا هل يستتاب أولاً، أم يقتل دون استتابة. كما ميزوا بين المرتد المحارب وهو في ديار الإسلام، وبين المرتد إذا لحق بدار الحرب، وهي أرض العدو. ويرى المؤلف أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في المرتد "لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع الإسلامي وخرج ضده نوعاً من الخروج".
وبناء على ما سبق ذكره، يخلص محمد عابد الجابري إلى نتيجة مفادها: أن الوضع القانوني للمرتد لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "الحرية"-حرية الاعتقاد، إنما بمرجعية ما يسمى اليوم بـ"الخيانة للوطن"، من خلال إشهار الحرب على المجتمع والدولة. مؤكداً أنّ الذين يتحدثون عن "حقوق الإنسان"-ومنها حرية الاعتقاد- لا يدخلون من باب حرية "الخيانة للوطن والمجتمع والدين"، ولا من باب "حرية قطع الطريق وسلب الناس ما يملكون". وقد يصح لي هنا أن أفكر، قياساً على هذا، بما فعله "الإرهابيون" بحق المجتمع والوطن! فحينما تكون الحرية شيء، والردة شيء آخر... فإن الحرية أيضاً شيء، والتكفير والاتهام بالردة شيء آخر!
المـصـدر صـحـيـفـة الـوطـن الـسـعـوديـة
///
بـكـل صـدق أعـجـبـنـي المـقـال / لـكـن مـا فـهـمـتـه زيـن /ونـقـلـتـه لـيـقـيـنـي بـوجـود أقـلام تـسـتـطـيـع تـبـسـيـطـه وشـرح مـضـمـونـه بـكـل بـسـاطـة
حـفـظ الله الـجـمـيـع ورعـاهـم
الحرية شيء.. والرِّدة شيء آخر
في كتابه (الديموقراطية وحقوق الإنسان) يحاول المفكر المعروف محمد عابد الجابري أن يبدي رأياً جديداً بخصوص قضية "الردة" عن الدين الإسلامي. وبما أني أشرت إلى هذه الفكرة، خلال مقال الأسبوع الماضي، فمن المناسب تسليط الضوء عليها الآن، خصوصاً بعد عاصفة الفتاوى التكفيرية بتهمة الردة، والآراء (التضامنية) الداعمة لها. وعلى كل حال، لا يعتبر الاتهام بالردة جديداً على مستوى ثقافتنا المحلية، ولا على مستوى الثقافة الإسلامية بوجه عام!
بدايةً يوضح المؤلف أن "الشريعة الإسلامية كليات وجزئيات، مبادئ وتطبيقات. والأصل في الحكم الصادر في الجزئي، أن يكون تطبيقاً للمبدأ الكلي. فإذا كان هناك اختلاف، فلسبب وحكمة. والأسباب التي تبرر الحكم الجزئي وتبيّن معقوليته، هي "إما أسباب النزول"، وهي عموماً الظروف الخاصة التي اقتضت ذلك الحكم، وإما مقاصد عامة تستوحي الخير العام"، ويعتقد أنّ هناك ثلاثة مفاتيح لفهم معقولية الأحكام الجزئية في الإسلام وهي: كليات الشريعة، والأحكام الجزئية، والمقاصد وأسباب النزول.
كما يرى أن الإسلام قرر حق الحرية كمبدأ عام، لكنها ليست الحرية السائدة في لغة اليوم. لكن المبدأ هو ذاته، في التأكيد على حرية الإنسان الشخصية، وحريته في الاعتقاد. وعن حرية الاعتقاد وعلاقتها بحكم "المرتد"، يسوق الجابري عدة آيات قرآنية، تتعلق بموقف الدعوة المحمدية من حرية المعتقد، ومنها على سبيل المثال، قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (فذّكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر)، (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنْ عليك إلا البلاغ). (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كَفوراً).
ويعلّق الجابري بالقول إنّ "هذه الآيات تقرر حرية الإنسان في الاعتقاد، فهو حر في أن يعتنق الإسلام، لكنه إذا أعرض فليس من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجبره على ذلك". لكنه لم يغفل مسألة الاعتراض على فكرته هذه بقضية "المرتد" الذي حكمه القتل كما هو معروف في الفقه الإسلامي؛ ولهذا يؤكد أهمية الوعي بأن القضية جزئية يختلف حكمها عن مقتضيات المبدأ الكلي الذي تقرره الآيات. ولفهم هذا الاختلاف وإدراك معقوليته، يرى ضرورة الرجوع إلى أسباب النزول، مع النظر في الكيفية التي تم التعامل بها مع المرتدين في مرحلة "الدعوة" في مكة، ومن ثم في مرحلة "الدولة" في المدينة.
والقرآن الكريم يصنف على أنه مكيّ ومدنيّ. ففي السور المكيّة التي تحدثت بعض آياتها عن الردة، لاحظ الجابري أن حكم المرتد فيها هو عقاب إلهي بحت، مثل: لعنة الله، غضب الله، جهنم... وليس القتل، الذي هو عقاب يختص به البشر، مع ملاحظة أنّ باب التوبة في كل الحالات بقي مفتوحاً، وذلك من خلال سياق الآيات التالية، قال تعالى: ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)، (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خَلاق لهم في الآخرة)، (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات، والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوَله ما تولّى ونصْلِهِ جهنم وساءت مصيرا)، (من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم).
أما في الفقه الإسلامي فإن الفقهاء يرون قتل المرتد مستندين إلى حديث نبوي يقول: "من بدّل دينه فاقتلوه". ويطرح الجابري سؤالاً حول كيفية تفسير هذا الاختلاف؟
وهو في البدء، يستبعد الشك في صحة الحديث المذكور؛ لأن قتال المرتدين واقعة تاريخية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما أن قتل المرتد مسألة تحظى بإجماع الفقهاء، ثم يطرح استفهاماً: لماذا؟
ويجيب بالقول: "لأن المرتد في هذه الحالة، بعد قيام الدولة الإسلامية، لم يكن مجرد شخص يغير عقيدته لا غير، بل هو شخص خرج عن الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة"، باعتبار أن الدولة الإسلامية في المدينة، زمن النبي والخلفاء الأربعة، كانت تخوض حرباً مستمرة مع المشركين العرب، ثم الروم والفرس، وبالتالي فإن المرتد "هو من يخون وطنه ويتواطأ مع العدو زمن الحرب - بالتعبير المعاصر". ويشير إلى أن العرب المرتدين الذين حاربهم أبو بكر الصديق، لم يقتصروا على "خيانة" دولة الإسلام، بل هيأوا أنفسهم للانقضاض عليها بعد عصيانهم لقوانينها (من خلال الامتناع عن دفع الزكاة)، وبذلك يكون المرتد خارجاً على دولة الإسلام بشكل أو بآخر. وبهذا يرى الجابري أن حكم الفقه الإسلامي بقتل المرتد ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد - التي نصت عليها الآيات المذكورة سابقاً - إنما "ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، فضلاً عن الدين والتواطؤ مع العدو أو التحول إلى لصّ أو عدو محارب". ومن هنا جاء ربط الفقهاء بين حكم "المحارب" الذي يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، وبين "المرتد" الذي هو صنف من "المحاربين" وحكمه فيه اختلاف فقهي؛ فالمرتد المحارب يُقتل باتفاق الفقهاء. أما قبل أن يحارب فقد اختلفوا هل يستتاب أولاً، أم يقتل دون استتابة. كما ميزوا بين المرتد المحارب وهو في ديار الإسلام، وبين المرتد إذا لحق بدار الحرب، وهي أرض العدو. ويرى المؤلف أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في المرتد "لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع الإسلامي وخرج ضده نوعاً من الخروج".
وبناء على ما سبق ذكره، يخلص محمد عابد الجابري إلى نتيجة مفادها: أن الوضع القانوني للمرتد لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "الحرية"-حرية الاعتقاد، إنما بمرجعية ما يسمى اليوم بـ"الخيانة للوطن"، من خلال إشهار الحرب على المجتمع والدولة. مؤكداً أنّ الذين يتحدثون عن "حقوق الإنسان"-ومنها حرية الاعتقاد- لا يدخلون من باب حرية "الخيانة للوطن والمجتمع والدين"، ولا من باب "حرية قطع الطريق وسلب الناس ما يملكون". وقد يصح لي هنا أن أفكر، قياساً على هذا، بما فعله "الإرهابيون" بحق المجتمع والوطن! فحينما تكون الحرية شيء، والردة شيء آخر... فإن الحرية أيضاً شيء، والتكفير والاتهام بالردة شيء آخر!
المـصـدر صـحـيـفـة الـوطـن الـسـعـوديـة
///
بـكـل صـدق أعـجـبـنـي المـقـال / لـكـن مـا فـهـمـتـه زيـن /ونـقـلـتـه لـيـقـيـنـي بـوجـود أقـلام تـسـتـطـيـع تـبـسـيـطـه وشـرح مـضـمـونـه بـكـل بـسـاطـة
حـفـظ الله الـجـمـيـع ورعـاهـم