المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أصناف الناس في مفهوم الوسطية



أهــل الحـديث
10-08-2014, 07:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية في هذا الزمان وما آلت إليه من الهوان، ليعلم علم اليقين أنها إنما أُتيت من قبل نفسها؛ ذلك أنها غدت تعيش صراعًا داخليًا عميقًا في شتى ميادين الحياة. فلا هي حققت لنفسها قوة اقتصادية، ولا سمت بنفسها في ميادين الصناعة، ولا سابقت في ميادين الإعداد بالقوة العسكرية، ولا ولا ...
وكل ذلك نتيجة حتمية لبعدها عن التمسك بتعاليم دينها الحنيف، القائم على الوسطية والخيرية والاعتدال.
إن الوسطية لهذه الأمة بمنزلة الرأس من الجسد، فهي شعارها البارز، وعلَمها الظاهر، فمن تنكّر للشعار أو حاول طمسه فهو منابذ للأمة مفارق لها، بعيد عن سمتها وهديها.
والوسطية تشريف لهذه الأمة؛ لأنه تمييز وتفضيل لها على سائر الأمم؛ فإنّ الله علّل كون هذه الأمة وسطاً بتشريف عظيم فقال: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). [البقرة: 143]، ولا يشهد على غيره إلا من هو أفضل منه.
والصراط المستقيم وسط بين طرق الضلال، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]، وقد فسّر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما"، قال: ثم خط عن يمينه، وشماله، ثم قال: "هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه". [مسند أحمد 7/ 436].
وهذا المصطلح –أعني: (الوسطية)- من المصطلحات الشرعية التي تلاعب بها المتلاعبون، وتنافس في ليّ حقائقها الزائغون، وضبْطها من أهم المهمات وأوجب الواجبات على علماء الشريعة، خاصةً في هذا الزمن الذي غدت فيه المصطلحات الشرعية مرتعاً خصباً لكل أحد، يؤوّلها كيف شاء.
وقد غدا الناس في مفهوم الوسطية أصنافاً:
الصنف الأول: من رفض الوسطية قولاً وعملاً، فلا هو انتسب إليها، ولا عمل بمقتضاها، ولم يرفع بها رأساً، وهؤلاء كغلاة التكفير في عصرنا، فإنهم يعتبرون الحديث باسم (الوسطية) تمييعاً للدين، وقلباً لحقائقه.
الصنف الثاني – وهم الأكثر –: من ادّعى الانتساب إلى الوسطية قولاً وخالفها حقيقةً، وهؤلاء على درجات:
الدرجة الأولى: من تنكّب طريق الوسطية في اعتقاده غلواً أو جفاءً. ويدخل في هؤلاء عامة طوائف المبتدعة. وهم في ذلك متفاوتون: فأعظمهم بعداً عن حقيقة الوسطية من زاغ في ما يجب لله من العبادة أو إثبات الأسماء والصفات.
وغالب البدع الاعتقادية إنما كانت بالغلو في قضيةٍ أو مسألةٍ أو شخصٍ. والغلو في الاعتقاد من أقرب الأبواب للخروج من حقيقة الإسلام؛ ولذلك لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قال عنهم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) [صحيح البخاري 4/137].
الدرجة الثانية: من زاغ عن الوسطية في أعماله، فبالغ أو قصّر في عباداته. كغلاة المتصوّفة.
وهذا من البدع العملية، وهي غالباً ما تقود إلى بدعٍ اعتقاديةٍ، كحال المتصوفة؛ إذ كانت بدايات ابتداعهم في العبادات والأعمال، وما لبث الأمر أن تطوّر حتى غدت الصوفية من شرار الفرق المبتدعة في اعتقاداتها. وكذا الخوارج كانت بدايتهم الاجتماع في المسجد للذكر بهيئة معينة، ثمّ كان عامة أولئك ممن قاتلوا علياً رضي الله عنه في النهروان.
الدرجة الثالثة: من أعرض عن تطبيق الوسطية في سلوكه وأخلاقه وتعامله، وهذا حال كثير من المسلمين الآن، والله المستعان. وطالما كان هذا الأمر سببًا للصدّ عن دين الله عز وجل، فإنّ دين الله لم ينتشر في الآفاق إلا بحسن التعامل ورقي الأخلاق الذي أظهره الغزاة والتجار المسلمون.
الصنف الثالث: من انتسب إلى الوسطية قولاً وفعلاً، عقيدةً وعبادةً وسلوكاً، وهذا حال الكمّل من عباد الله. وهو نادرٌ في الواقع؛ ولا يوفق له إلا المخلصون من عباد الله، أسأل الله أن يلحقنا بهم.
فإن قيل: ما السبيل إلى الوصول لهذه المرتبة؟
فالجواب: لا بد من بذل الأسباب التالية:
السبب الأول: سؤال الله الهداية والإعانة والتوفيق، فما عدِم التوفيق من لجأ لحبل الله المتين، وإذا كان (من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء) فكذلك من سأل الله الهداية بصدق.
السبب الثاني: بذل الجهد في البحث عن الحق، وذلك بسلوك طريق طلب العلم، والسير فيه بطريقة مؤصلة متقنة محققة للهدف.
السبب الثالث: التجرد من الأهواء البغيضة والتعصبات المقيتة، فإنّ الحق بعيدٌ عن صاحب الهوى، ولن يوفّق له من تشبّعت نفسه بالتعصب والتقليد.
السبب الرابع: كثرة الممارسة والتطبيق العملي للعلم، فإنّه لا تحقيق للوسطية إلا بالجمع بين العلم والعمل، ومتى تخلّف العمل أصبح العلم وبالاً على صاحبه وحجةً عليه لا له.
فإن علمت هذه الأسباب، وعمِلت بها بجد، وبذلت الغالي والنفيس من أجل تحقيقها، وصلت إلى مبتغاك بحول الله وقوته.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.