مات المعلم .. مات (المدرسة) !!
--------------------------------------------------------------------------------
د.عبدالله بن محمد المقرن - مدير المركز الوطني للتعلم الإلكتروني
في فجر يوم الثلاثاء 30-12-1428هـ ودّع هذه الحياة فضيلة الشيخ الوالد محمد بن عبدالعزيز المقرن، وقد قضى من العمر 78 عاماً في عبادة وطاعة وخدمة وتعليم وتعلم، نحسبه كذلك، ولا نزكّي على الله أحداً.
ولد - رحمه الله - لأبوين فقيرين، فلقد كان أبوه عبدالعزيز بن محمد يعمل جاهداً لتوفير لقمة العيش الكريم بالعمل في تجريد النخل لقاء صرّة من التمر الحويل يضعها في (الجصّة) بمنزلهم الصغير ببلدة القرينة، أما الأم نورة بنت سرور فكانت تعمل بجد لتشارك في سداد جزء من العوز الذي تعيشه الأسرة الصغيرة، وكانت وهي حامل به تحشّ العلف من البراري، فتأتي به لبعض الأسر تستبدل به لبنًا حامضًا تصنع منه جريشاً للوجبة الوحيدة طوال اليوم. ولد محمد بعد عدد من المواليد السقط، وبعض إخوته الذين لم يمهلهم الجدري طويلاً، إلا أخته منيرة -رحمها الله - التي أعتقها الله من الجدري، بينما أصيب أخوها محمد به، فأذهب البصر من عينه اليسرى تماماً، ووسم جسده بعلامة الابتلاء الفارقة لكثير من أبناء هذه البلاد إبّان تلك الحقبة من الزمن.
عاش طفولته مثل أقرانه من أبناء القرية يركضون ويلعبون، وليس عليهم من اللباس سوى ما يستر عوراتهم، وبعد أن كبر الفتى محمد قرر أبواه إلحاقه بمدرسة القرآن الكريم بالقرينة. وتمكن خلال عام من إتمام حفظ القرآن الكريم كاملاً في وقت قياسي وبجودة عالية، فزفّته القرية بابتهاج منقطع النظير، وأهدته جدته لأمّه (حصّه) - رحمها الله - نقوداً نظير هذا التفوق.
وتستمر الحياة بمحمد بضع سنوات، يقرر أبوه بعد فترة أن يرسله إلى دار الأيتام، التي افتتحها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه، آنذاك- وينتقل إلى الرياض مشياً على الأقدام، ويلتحق بالدار، ويعيش أيامها مع كثير من زملائه، يبيت بها ويدرس، وتفيض ذكرياته بما كان يدور في هذه الدار، حيث كانوا يقتسمون الصابونة يحزّونها بخيط من الخيش. ويحنّ الوالد لأبويه إلا أن تسارع الحياة وحرصه على التعلم تنسيه كثيراً من الشوق، وتضطره إلى تصبّر لم يكن يسعه غيره، وينتقل للخدمة في دور أقربائه، حتى يتوسم فيه أحد المسؤولين عن شؤون الزكاة (العمالة) النبوغ، فيطلبه من قريبه ليرتحل معهم في قافلة جمع الزكاة كاتباً ومحاسباً، وتظهر نزاهته جليّة لأمير القافلة (ابن جمعان) - رحمه الله- فتتوطد العلاقة حتى انتهاء المهمّة.
وحال عودته يصرّ الوالد على أن يكمل تعليمه، ويتحصّل على الشهادة الابتدائية، و بعد نيلها عمل مدرسًا للمرحلة الابتدائية بعد اختبار تحريري وشفوي، وكان من اختبره شفهيًا معالي الشيخ ناصر المنقور- مدير التعليم بالرياض آنذاك-، حيث طلب منه أن يعرب آيةً من سورة هود، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فأعربها باقتدار دون تردد، فاندهش إلا أنّه لتردّده ارتأى أن يعيّنه مدرساً بثلاثة أرباع الراتب، وقال: لك أن تقبل، ولك أن ترفض فلا نعينك. وكان الراتب 120 ريالاً فقط لا غير، فتمّ توجيهه إلى المدرسة الفيصلية الابتدائية بالشميسي، وهناك أعطاه مديرها جدول الصف الأول الابتدائي، ولكن الوالد اعترض بأن زملاء له لا يحملون الابتدائية يدرّسون الصفوف المتقدمة وعقد العزم على العودة لمدير التعليم للشكوى، ولما بلغه وبثه شكواه، رد عليه الشيخ المنقور رحمه الله بقوله: (أنت بازّ بشهادتك، ياولدي الابتدائية نعال)، فكانت هذه الكلمة محفّزاً له على مواصلة دراسته، فالتحق بالمعهد العلمي ثم كليّة اللغة العربيّة، ونال منها - بمنّ الله وفضله - شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.
وأثناء دراسته بالمعهد العلمي تزوج الوالد من بيت الأشراف من المفيجر، وهو بيت رفيع النسب، ينتسب إلى الأسرة الهاشمية ويتصل بنسب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم-، فوافق أهل العروس - الوالدة (فاطمة) - متعها الله بالصحة وأمد في عمرها على الطاعة - على زواجها من الوالد، وكان عرساً متواضعاً، ولم يتخرج في كلية اللغة العربية إلا وقد كبر البيت الصغير، وبالأخص عندما أحضر والديه من بلدة القرينة ليعيشا معه في الرياض.
وبعد تخرجه في كليّة اللغة العربية تقدم للتعيين معلماً فطولب بفحصٍ لقوّة الإبصار، وكان بصره في عينه اليمنى قد تردّى بشكل كبير جرّاء مذاكرته تحت أنوار ضعيفة، ولما أحضر تقرير الطبيب المتضمن نتيجة سلبية، أشار عليه أحدهم أن يعود إلى الطبيب ويقدّم له (المقسوم!!)، حتى يسجّل نتيجة أفضل، فرفض - رحمه الله - وعقوبة الرشوة المغلَّظة يرسمها في مخيلته الحديث الشريف: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)، فردّ عليه قائلاً: أنت وشأنك، ولهذا فلم يتيسّر له التعيين في الرياض، فتم توجيهه للمنطقة الشرقية، ومن هناك إلى عرعر؟ وقيل له: إن لم تقبل بها فعُد للرياض!! فقبل الوالد، وعاد إلى الرياض يحزم صناديقه الخشبية للانتقال إلى عرعر جوّاً عبر جدّة في رحلة استغرقت أكثر من ثمان ساعات.
وفي عرعر واصل التعليم متحملاً الغربة والجوّ القارس إلى حين ، بل عندما عاد إلى الرياض ظل على كفاح، فكان يستقل التاكسي مرتين في ذهابه وعودته، لبعد مدرسته المتوسطة الثالثة بدوار الخرج من البيت بحي القرينين.
سمع مرّة وزير المعارف، الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ - رحمه الله - يصرّح أن العاملين في سلك التعليم من الإداريين سيتمنون لو كانوا معلمين، إلا أنه بعد فترة من الزمن يصدر كادر يرفع مرتبات المديرين، ويستثني المعلمين، فيستاء الوالد لما رآه مخالفة لما وعد به معالي الوزير. فاستقل تاكسياً واتجه فوراً لمبنى الوزارة وطلب لقاء الوزير ولما دخل عليه قال له: يا شيخ حسن لقد سمعتك بأذني تقول: سيتمنى المديرون لو كانوا معلمين، والآن زدتم رواتبهم وظلت رواتبنا على وضعها، ويبدو أن ما حدث عكس ما وعدت فأصبح المعلمون يتمنون لو كانوا مديرين، فتبسّم - رحمه الله- ووعده أن يراجع الموضوع، ويرفع بطلب تغيير كادر المعلمين لوضع أفضل، ولم تمض مدّة حتى تحقق المراد.
لقد قضى الوالد أسعد أوقاته في حمل رسالة التعليم يتمتع بما يفيضه من علم وتربية على جموع أجيال من الطلاب عبر أعوام زادت على 23 عاماً تخرج خلالها على يديه كثير من الطلاب الذين تسنموا مواقع رياديّة على ثرى هذه البلاد الطاهرة، وكثيراً ما كنت أسير ممسكاً بيده في أماكن متعددة، ويستوقفنا من طلابه من يقبّل رأسه، ويذكّره بأنّه درّسه في سنة من السنوات.
لقد كان - رحمه الله - بحق مدرسة تتحرك، كان مطبّقاً لسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في كل أعماله دالاًّ عليها، وكان من أهم ما يتمثله منها: الرفق في جميع عمله، تطبيقاً لقول الرسول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه)، وكان يخاف ربّه في أدائه لمهمته التعليمية وكان يرفض حمل العصا على الرغم من كف بصره، رحوماً بطلابه، عطوفاً عليهم، يشفق عليهم من تدني الدرجات وضعف التحصيل. وكان مدرسة في الصبر، وعلى الرغم من نشأته المتواضعة إلا أنه كوّن نفسه بعصامية نادرة، واستغنى عن الاستدانة بحنكة مالية متميزة، ولم يمنعه ذلك كله من أن يعيش عيشة رفاهيّة عالية المستوى.
وكان مدرسة في البرّ ليس بأبويه القريبين فقط بل حتّى أجداده وإخوانه وأخته منيرة - رحمهم الله - فكان يتذكرهم في دعائه وحديثه وصدقاته، كما كان يصل أصدقاءهم، ويتواصل معهم بين الفينة والأخرى. كان مدرسة تربوية تعتمد على آيات الكتاب، فيستشهد بها في توجيهاته وأعماله كلها، ويحث على تطبيقها في حياة أبنائه وبناته بأسلوب غير مباشر بادئاً بنفسه في الامتثال؛ موقناً أن القدوة هي خير وسيلة تربوية.
وكان كثيراً ما يردد مفتخراً أنّه ولد في يوم توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وكان يقول: (اللي ما يحب الملك عبدالعزيز مافي قلبه إيمان)، رابطاً بين حب الوطن ورسوخ الإيمان بالله، وأن الوطن أمن لموقع يعبد الله فيه وليس ثرىً أجوف خلوًّا من الإيمان.
وكان مدرسة في العلاقات، ورثها من أمّه - رحمهما الله - التي كانت تجوب يومها تزور وتعود وتصل وتتعرف وتساعد كل من كانت تراهم في يومها، فكان سريعًا في بناء العلاقات، بطيئا في انقطاعها، ذا ذاكرة حديدية، وخصوصاً في تمييز الأصوات والتعرف إلى أصحابها، وكثيراً ما كان يدهش رفاق دربه في التعرف إليهم، وهم لا يتذكرونه إلا بعد وقت.
وكان - رحمه الله - ذا حفظ موسوعي لكتاب الله فلا تسأل عن آية إلا دلك على موضعها وسورتها، وكان محبّاً لاجتماع الشمل حريصاً على صلة الرحم، وتربية أبنائه على ذلك.
لقد فجع بموته - رحمه الله- المئات من محبّيه، وقد شهد الصلاة عليه جمع غفير اكتظت بهم جنبات جامع الملك خالد بأم الحمام، وحضر للتعزية فيه عدد كبير من أصحاب السمو والفضيلة والمعالي والأقارب والجيران والأصدقاء، فجزاهم الله عنه خير الجزاء.
ذاك هو والدي، ومعلمي، و مدرستي، رحمه الله، وغفر له، وجمعنا به في مستقر رحمته في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فاكس: 4490461
[email protected]
http://www.al-jazirah.com/104530/rj12d.htm