المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدراسات العيا ... تطلع وأمل (د. مساعد الطيار) . مهم



أهــل الحـديث
05-08-2014, 11:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد ولد آدم، وخليل ربه الذي اصطفاه من بين العالمين ليكون بشيراً ونذيراً، ثمَّ الصلاة على الصحب والآل الكرام، وعلى من تبعهم إلى يوم القيام، أما بعد:
فإنَّ من التحق ببرنامج الدراسات العليا لا يخرج بدون همِّ وتفكير في مسار هذه الدراسات، وتطلُّعٍ إلى مستقبل أفضل لها .
ومن هذا المنطلق، ومن منطلق الدعوة إلى الإصلاح والتجديد الذي يفيد العملية التعليمية في الدراسات العليا أكتب هذا المقال، وإني لأرجو أن يكون خالصاً لوجه الله، بعيداً عن الارتجالية والنقد غير البنَّاء .
وهذا الموضوع مما كان يشغل خاطري منذ أن دخلت برنامج الماجستير إلى هذا اليوم، وإني لأحسُّ أنَّ هذا الموضوع لازال بحـاجة إلى مـزيد الـدراسة والتأمل، وهو من الموضوعات الحيوية التي لا يكاد يخلو منها تفكير من مرَّ بها .
ومما لمسته من مناقشات مع بعض الذين دخلوا برنامج الماجستير أو الدكتوراه أن واقع الدراسات اليوم أقل من المأمول، وأنه بحاجة إلى تجديد وتطوير في أمور متعددة .
وإذا نظرت إلى واقع الدراسات اليوم، وجدت فيه خيراً كثيراً، غير أنه بحاجة إلى تحسين وتجديد في أمور أخرى؛ إذ لا تجد - مثلاً - تنوعا في طرح الدرس، ولا جديد فيه عما كان يتلقاه الطالب في المراحل التعليمية السابقة = سوى نزر يسير من أعضاء هيئة التدريس هنا وهناك ممن استخدموا طرائق أخرى في تجربتهم التدريسية لهذه المرحلة الهامة.
وإني لأرجو أن أكون قد فتحت نافذة في هذا الباب تدعو إلى التفكير فيه وتطويره وتحسينه حتى يكون في أفضل مستوى .
ولكم يحزُّ في النفس ما أسمعه من بعض الزملاء الذين درسوا في الغرب، وهم يحكون طريقة التدريس هناك وما تتسم به من الجدية، والحرص على البحث والفرح بالمعلومة التي يلقيها طلابهم، ولو كانت صغيرة .
فهناك ما يسمى بورش العمل، وهناك البحوث المشتركة بين اثنين أو أكثر، وهناك ورقة العمل التي يطرحها الطالب بين زملائه وأستاذه، بل بعض أساتذته الذين يحضرون من أجل هذه الورقة؛ لأنها في تخصصهم، وتأمل؛ كم سيكون أثر حضور هؤلاء الأساتذة للمذاكرة مع هؤلاء الطلاب ؟
وهناك غير ذلك من الطرائق التي تعطي الدراسات العليا منهجاً مميزاً، وأسلوباً رفيعاً يبني الطالب، ويعدُّه للبحث والتعليم الذي هو من أكبر أهداف الدراسات العليا .
ولئن كنتَ سمعتَ عن بعض الجامعات الغربية التي تسلك سبيل التطوير والتجديد في الدراسات العليا، ويتيح بعضها لطلابها إعداد مناهجهم مع أساتذتهم؛ لأنهم قد وصلوا إلى مرحلة يمكنه فيها تحديد المفيد لهم، وما هم بحاجة إليه مع أستاذهم الذي يُفترضُ به أنه وصل إلى هذه المرحلة التدريسية بجدارة، فله مؤلفاته وبحوثه ومطارحاته العلمية التي أهَّلته للتدريس في هذه المرحلة، ومن وصل إلى هذه المرحلة فإنه جدير بأن يؤتمن على طلابه وطريقة إفادته لهم، كذا ينظرون إلى أستاذ الدراسات العليا . فإن كان أعجبك ذلك فلك أن تأخذ من الحسن الذي عندهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بأن يطبقها ويستفيد منها .
ولا تنس أن لنا أسلافاً من العلماء هم أسوة في ميدان التعليم، فكم من منهج تعليميٍّ مفيدٍ موجود في مدفونات تراثهم، وليس أدل في التمثيل على أسلوب البحث والمناظرة في الدرس مما كان يتسم به التدريس عند علماء تونس المتقدمين، ومن أوضح أمثلتهم في ذلك الإمام ابن عرفة الورغمي (ت: 803)، وما دَرْسُه في التفسير الذي كان يلقيه على طلابه، وكتبه عنه تلميذه أبو عبد الله محمد بن خليفة الأبي (ت: 827) إلا مَثَلاً صادقاً للدرس الممتع الذي يتحاور فيه الأستاذ مع طلابه، واقرأ - مشكوراً - ترجمة هذا العالم الفذِّ في مقدمة محقق كتاب الحدود لابن عرفة تجد ما يسرك
في هذا الباب الذي كان - فيما يظهر - لأهل المغرب الإسلامي تميُّز فيه، والله أعلم [1] .
وإن مما يحسن أن يركَّز عليه مبدأ الجدية في الدرس والطلب، وذلك مطلب مشترك بين الأستاذ وطلابه، وكلما كان الأستاذ جادّاً في درسه، وإفادة طلابه، وتنويع طرائق درسه لهم وجد ثمرة ذلك في طلابه الذين سيرتقون بمستواهم، ويتحفَّزون للاستفادة منه، ويتطلعون إلى تطبيق مثل ما يأخذونه منه في تدريسهم وبحثهم المستقبلي .
أما إذا لم يكن في الأستاذ همٌّ للإفادة، ولا كانت عنده سُبلٌ في تطوير درسه، أو أنه وزع الموضوعات على طلابه وتركهم يحضرونها دون أن يكون له معهم مشاركةٌ فِعْليةٌ يظهر فيها أثره عليهم في البحث والتقرير = فإنه سيجد طلاباً متكاسلين، غير متفاعلين، فهم على دين أستاذهم .
ولا ينس الطالب أن يراعي هذه المرحلة التي يدرسها، وليعلم أنها مرحلة تدريب وتحصيلٍ لمناهج علمية في البحث وطرق الاستفادة من المعلومات، فلا يتأفف من كثرة المطالب التي تعود عليه بالنفع والبركة، وليذكر قول الشاعر:
وصيدُ المْحَـارِ مُحَالٌ إذا $ كَفَفْتَ ثِيَابَك خَوفَ البَلَلْ
وما طَلَبَ المْجَدَ مِنْ صَادِقٍ $ وَسَارَ عَلَى الدَّرْبِ إلا وَصَلْ
وبعد هذه المقدمة، فإني سأطرح مجموعة من القضايا التي تُعنى بجانب الدراسات العليا، على حلقات حسب ما تتسع له المقالات في هذه الشبكة التي أسأل الله أن ينفع بها، وأن يكون التوفيق والسداد حليفها، وأن يرزق القائمين عليها الإخلاص في القول والعمل .
أولاً: عقد ندوات لدراسة واقع الدراسات العليا، وما المأمول منها، ويمكن أن يعقد كل قسم من الأقسام المتناظرة مثل هذه الندوة ليكون نقاش الخصوصيات أوضح وأكثر مما لو كانت الندوة عامة في جميع تخصصات الدراسات العليا .
ويمكن أن يُطرح في مثل هذه الندوات موضوعات متعددة الجوانب مما يتعلق بالدراسات العليا، ومن أمثلتها:
1ـ مواصفات طالب الدراسات العليا، وضوابط قبوله .
وذلك للتعرف على من يمكن أن يُستشفَّ منه قدرته على العطاء والإنتاج العلمي .
2ـ تقويم المناهج الدراسية وطرق تدريسها .
فينظر، ما المواد التي تفيد طالب الدراسات العليا، وكيف يمكن تدريس هذه المواد.
3ـ طريقة تقويم الطلاب .
ويحسن التفكير بطرق جديدة لتقويم الطلاب، والبعد عن النمط التقليدي في الاختبارات الذي يصاحب الطلاب منذ الدراسة الابتدائية .
ألا يمكن أن يكون التقويم على مشاركات الطالب في القاعة، وعلى بحوثه، وعلى مدى تفاعله مع زملائه، وعلى غير ذلك من الأمور التي يمكن تقويمها في الطالب ؟
ألا يمكن أن يكون البحث المصغر في القاعة بديلاً عن الاختبار ؟
ألا يمكن أن يشترك طالبان في حلِّ بعض المشكلات العلمية، فيتدربون على البحث معًا، ويكون ذلك مما يدخل في التقويم ....الخ .
4ـ النظر في منهج الرسائل وكيفية توحيد مناهج البحث فيها، وما إلى ذلك من الموضوعات الكثيرة المتعلقة بالدراسات العليا، وفي مثل هذه الندوات تتلاقح الأفكار، ويستفيد الحاضرون من تجارب غيرهم .
ثانياً: إن لم يمكن عقد مثل هذه الندوات، فلا أقلَّ من وجود زيارات متبادلة بين الأقسام المتناظرة في جامعات المملكة وخارجها؛ لتبادل وجهات النظر، وللتعرف على الجديد والمفيد عند الآخرين، وهذه الزيارات جزء مصغر من الندوات المطلوبة، فإن لم تحصل، فلا نُعدم مثل هذه الزيارات التي لا تخفى ثمرتها .
ثالثاً: الاستفادة من خبرات بعض الباحثين والمحققين الذين هم خارج نظام التدريس بالدراسات العليا - فكم من باحث يمكن الاستفادة منه - وذلك بدعوته لإلقاء مجموعة من المحاضرات في مجال تخصصه، فهذا بارز في مجال تحقيق المخطوطات، وذاك بارز في معرفة الكتب وكيفية الاستفادة منها، وذلك بارز في معرفة الآداب العربية وكيفية الاستفادة منها، وآخر بارز في معرفة البحث عبر الشبكة العنكبوتية ...الخ .
فهل هناك ما يمنع من مثل هذه الدعوات العلمية في الدراسات العليا ؟
وإني أرى أن طلاب الدراسات العليا يتشوَّفون إلى معرفة تجارب هؤلاء، وذلك بلقائهم معهم لقاءً مباشراً، والاستفادة من خبراتهم في مجال البحث والتحقيق، ولا شكَّ أن ذلك سيفيد الطلاب، ويزيد معلوماتهم، ويختصر عليهم شيئاً كثيراً من أمور البحث .
رابعاً: الاستفادة من الحاسب الآلي بحثاً وكتابةً، ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت ذلك شرطاً في قبول الدارس في الدراسات العليا، إذ إن نفع هذا الجهاز مما لا يخفى، والاستفادة منه في البحث والكتابة تكاد أن تكون من ضرورات البحث العلمي، ومن عرف المجربين لكتابة بحوثهم بأنفسهم، والاستفادة من البرامج العلمية النافعة التي تحتوي على مجاميع علمية ضخمة تيسر الوصول إلى المعلومة، من عرفهم وسألهم تحقق من مصداق ذلك، ومدى الحاجة إليه .
كما يمكن الاستفادة من الأقراص المضغوطة التي تحتوي على فنون العلم، بحيث يستفيدون منها حال النقاش، ويخرجون منها ما يحتاجونه من آثار العلماء وأقوالهم، بالقدر الذي تفيده هذه البرامج مع الوقت المناسب لها بحيث لا يخرج الدرس عن مساره .
خامساً: اعتماد قاعات البحث والنقاش في إلقاء الدروس، والحرص على تدريب الطلاب على البحث والمناظرة والاستنباط، وكيفية كتابة البحوث؛ لأن ذلك هو المقصد الأكبر من الدراسات العليا .
ويمكن أن تطرح بعض الموضوعات التي فيها خلاف؛ مثل (ترتيب السور) على أسلوب المناظرة، بحيث ينقسم الطلاب إلى ثلاثة أقسام:
طلاب يكونون ممن يرى القول بالتوقيف في ترتيب السور، وآخرون ممن يرون القول بالاجتهاد في ترتيب السور، والباقون ممن يسمع ويحتكم إليهم في النظر والخلاف، وهذا فيه تدريب مفيد للطلاب .
سادساً: تهيئة الجو النفسي والعلمي للطلاب، وإعطاؤهم الفرصة للمناقشة، والخروج بهم من محيط الخوف من الخطأ في المناقشة إلى جو منطلق بالأخذ والعطاء، والاستعداد للوقوع في الخطأ من أجل الوصول إلى الصواب، فلا يكون الخوف من الوقوع في الخطأ دافعاً إلى السكوت والصمت وعدم المشاركة .
ولا شك أن هذا الأسلوب سيكون له الأثر الكبير عليهم أثناء تأديتهم لواجباتهم العلمية مع طلابهم في المستقبل، وسيبرز جيل يتمتع بالقدرة على النقاش الجاد المفيد، مع الأدب والاحترام للآخرين الذين قد يخالفونه في هذه القضية العلمية القابلة للأخذ والعطاء
كما أنه - في فتح باب النقاش - يمكن أن يقع تنبيه الطلاب لأستاذهم إلى أشياء قد يكون غفل عنها، فليس الأستاذ - مهما بلغ - شمساً تشرق على كل المعلومات وتغطيها .
وهو بهذا الأسلوب من تقبِّل معلوماتهم ينمِّي فيهم خُلُقَ التواضع الذي يرونه واقعاً تطبيقيّاً في أستاذهم الكبير الذي يتقبَّل منهم المعلومة بصدر رحبٍ، وسعة بالٍ، فتأمل؛ كم من الأثر العميق الذي سيتركه مثل هذا الأسلوب فيهم ؟!
سابعاً: إن مما يحسن التأكيد عليه أن طالب الدراسات العليا سيكتب بحثاً علمياً، وهذا البحث العلمي يستوعب أغلب درجات الدراسة، والدراسة النظرية إنما هي ممهدة للطالب، ومرقاة له للوصول إلى كتابة بحث علميٍّ سليم صحيح .
ومن ثَمَّ، فإنه يحسن أن تكون الدراسة النظرية التي يقضيها الطالب في فصل أو فصلين أو أكثر؛ أن تكون مما يخدمه في طريقة البحث، لا أن تكون مجرد مواد يحفظها، ولا ينجح ويتميز فيها إلا الحافظ .
ولست أشكُّ أن اعتماد مثل هذه الطريقة في الدراسات العليا مما يقلل من حرص الطلاب عليها، ويزهِّدهم فيها، بل قد يصابون بالإحباط والملل .
وإذا كان ذلك كذلك، فإنه يحسن التفكير بعد ذلك بالمواد العلمية التي تساعد الطالب في إعداده للبحث، كما يحسن التفكير بالمواد التي يأخذها؛ كيف يمكن تدريسها تدريساً يناسب تنمية قدراته في البحث ؟
ثامناً: إنه مما يرقى بالمستوى التعليمي أن يشارك الطالب في نقد ما يأخذه، ويكون له رأي - وليس كل رأي يؤخذ به -؛ لذا فمن المستحسن أن يوضع استبانة للطلاب يكتبون فيها مرئياتهم في ما قُدِّم لهم، وما كانوا يؤملونه، وأن يكون ذلك بكل صدق وتجرُّدٍ وإخلاص؛ لأجل الرُّقيِّ بالدراسات العليا إلى مستوى أفضل .
وإذا قاموا بذلك، فإن القسم يدرس مثل هذه المقترحات والملحوظات للاستفادة منها، ولإعادة خطة الدراسات العليا، إن كان جاء في مقترحاتهم ما يفيد هذه المرحلة .
وأخيراً - أيها الأحباب - إن أُريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، فأسأل الله أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن لا يُفهم على غير وجهه، وإني لأعتذر عن أي قصور أو تعبير فيه خلل، فإن كان شيء من ذلك موجوداً فلك حقُّ تعديله، فالمقال مقالك، ولا أستبعد أنك قد فكرت بمثل ما فكَّرت به، فلك منه غُنمه، وقد كفاك الله مؤنة غُرمه بصاحبك المسكين، فلا تنسه بدعوة صالحة في ظهر الغيب .