المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (04)الجهاد في سبيل الله - الغاية التي حددها الله للمسلم



أهــل الحـديث
27-07-2014, 12:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



فما الغاية الواحدة الواضحة التي حددها الله للمسلم؟ إنها "رضا الله ".

فأعلى الغايات عند المسلم أن يرضي الله سبحانه، ولو أسخط كل المخلوقين {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رَضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك، لمن خشي ربه} [البينة: 7ـ8].

{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً، يبتغون فضلا من الله ورضوانا}. [الفتح: 29].

لذلك تتجه أعمال المسلم كلها لهذه الغاية الواضحة، فلا يطلب شيئا يسخط الله، وإن اشتدت رغبته فيه، بل لو تمكن من منصب أو جاه فيه سخط الله طلقه ثلاثاً، ولو تهافتت عليه أنفس البُعَدَاء عن الله، فهو مطمئن البال، راضي النفس، ولو كان محروماً مما يتمتع به سواه، ولقد صور القرآن الكريم هذه الوحدة الواضحة واطمئنان صاحبها، إلى جانب ذلك التمزق بالنسبة للكافر أبلغ تصوير.


فقال تعالى: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون، ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [الزمر: 29].

وفي الحديث عن أبي هريرة رَضي الله عنه، عن النبي صَلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له) [البخاري رقم الحديث 2887، فتح الباري (6/81)، (11/253)].

فالأول – غير المؤمن - عبدُ شهواتِه من متع الدنيا، لا ترضى نفسه ما منع شيئا منها، وهل
ينال كل طالب شهوة كل ما تشتهيه نفسه حتى يرضى؟

والثاني –المؤمن - هو الذي يسعى لرضا الله، فهو يناله أينما اتجه، لا فرق بين أن يكون في عمل ظاهر أو خفي، في منصب رفيع أو وطيء في أعين الناس.

ولما كان غاية المسلمين رضا الله تعالى عنهم، وعملهم كله ينصب في سبيل تلك الغاية جاء خطاب الله لهم بعد أن يسكنهم الجنة، ويعطيهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ليبشرهم سبحانه بحصول هذه الغاية التي سعوا لها سعيها في الحياة الدنيا.

كما في حديث أبي سعيد الخدري رَضي الله عنه، قال: قال النبي صَلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة؟ يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) [البخاري رقم الحديث 7518، فتح الباري (13/487) ومسلم (1/167ـ171)، (4/2176)].

ولو أن قادة الأمم في الأرض -وبخاصة الناطقين بكلمة التوحد-كانوا من أهل هذه الغاية، لحققوا للبشر السعادة في الدنيا والآخرة، ولو أن البشر أدركوا هذا المعنى وأعملوا عقولهم في عواقبها، لاستجابوا لدعوة الله وتعاونوا مع دعاة الحق لتحقيق هذه الغاية.

وسيلة شريفة:

لا بد للوصول إلى أي غاية من وسيلة، ولما كانت غاية الكافر التمتع مطلقا بلا قيود، كانت وسيلته مطلقة كذلك من كل قيد إلا عدم القدرة، ولهذا كانت القاعدة عنده: "الغاية تسوغ الوسيلة"، فإذا كانت غايته جمع المال، فالوسيلة إلى هذا الجمع يجوز أن تكون بالبيع والشراء والربا والنهب والغصب والسرقة والغش والظلم، واحتيال، وهكذا.

وإذا قرر أن تكون غايته المنصب، فله أن يصل إليه بالتزوير والدعاية الكاذبة، والقدح في غيره بهتاناً، وقتل الناس وفتنتهم، حتى يصل إلى غايته.


وإذا قرر أن تكون غايته الانتصار على خصمه فله أن يصل إلى ذلك بنقض العهود والمواثيق، ولو تحقق وصفه بأنه شر الدواب: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} [الأنفال: 55ـ56].

وإن الذين تولوا -ولا زالوا يتولون -كِبْرَ هذه القاعدة الخبيثة، هم اليهود الذين نعى الله عليهم الاصطياد الذي حرمه عليهم يوم السبت، فكانوا يرسلون مصائدهم في البحر قبل هذا اليوم الذي حرم عليهم فيه الاصطياد، ثم يأخذونها يوم الأحد.

كما قال تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} [الأعراف: 163].

ولما حرم الله عليهم الشحوم احتالوا بإذابتها وبيعها وأكل ثمنها، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر رضيَ الله عنه، يقول: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: (قال بلغ عمر أن سمرة باع خمراً)، فقال: قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) [البخاري رقم الحديث 3460، فتح الباري (6/496)، ومسلم (3/1207) ومعنى جملوها: أذابوها].

وها هو ذا أحد فلاسفة: (الغاية تسوغ الوسيلة): ميكيافلي يقول في كتابه (الأمير) ناصحاً زعماء الحكم الظالمين،- وقد قبلوا نصيحته وطبقوها- وغالبهم اليوم يسيرون عليها:

"وعلى الحاكم الذكي المتبصر ألا يحافظ على وعوده، عندما يرى أن هذه المحافظة تؤدي إلى الإضرار بمصالحه، وأن الأسباب التي حملته على إعطاء ذلك الوعد لم تعد قائمة - إلى أن قال -: ولكن يتحتم على الأمير الذي يتصف بهذه الصفة أن يجيد إخفاءها عن الناس، وأن يكون مداهناً كبيراً ومرائياً عظيماً" [الأمير ص124 منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر ـ بيروت، تعريب خيري حمادي].

ألا ترى أن سياسة غالب قادة العالم اليوم -وقبل اليوم - سائرة في هذا السبيل الميكيافلي اللئيم، تظاهرٌ بحماية الشعوب، وسعيٌ في إضعافها، إعلانُ السخط على أعداء الشعوب وتآمرٌ معهم عليها، دعوى الحرص على حفظ خيراتها، مع بعثرتها ونهبها، دعوى القوة الرادعة للأعداء، والأمر على عكس ذلك كله.

ولكن وسيلة المسلم -كغايته - لا بد أن تكون محققة لرضا الله، فإذا كان الكافر ينقض عهده مرة تلو مرة، فإن الإسلام لا يبيح للمسلم أن يعامله نفس المعاملة، بل يوجب عليه إذا خاف خيانة الكافر واتضحت له قرائنها، أن يعلمه بأنه يريد إنهاء العهد ونبذه، ويعطيه مهلة كافية ولا يباغته.

اقرأ هذه الآيات: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون، فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون، وإما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 55ـ58].

{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 1ـ2].

ولقد وضع الله للمسلمين قاعدة عامة، يظهر فيها سمو الإسلام الذي جاء من عند الله وليس من عند البشر، قاعدة تلزمهم بالوسيلة المشروعة مع أعدائهم، وهي "العدل" على كل حال، كما قال سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].

تُرَى لو أن قادة الأرض كانوا من أهل هذه الوسيلة الشريفة، أكان الناس يعانون من هذه الويلات الناشئة عن قاعدة الغاية تسوغ الوسيلة؟ التي بالغ الناس في تطبيقها أفراداً وجماعات وحكومات، فأهلك القوي بها الضعيف في كل مجال من مجالات المعاملات؟

الإسلام دين الإحسان:

المراد بالإحسان - هنا - الإتيان بالعمل المطلوب من العبد على أحسن وجه في كل حالاته، في سره وعلنه، مع القريب والبعيد، ومع الصديق والعدو، وهذا لا يكون إلا للمؤمن، لأن في قلبه رقيباً لا يفارقه، وهو خوف الله سبحانه وتعالى، لعلمه أن الله مطلع على كل ما يخطر على قلبه، ويتردد في خلجات نفسه، قبل أن يعمله أو يعزم على فعله: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19].{إن الله عليم بذات الصدور} [المائدة: 7]. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14].

لذلك يعمل المؤمن الواجب عليه - ولو كرهت نفسه عمله، وكرهه كل الناس - لرغبته فيما عند الله، وخشيته من عقابه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 40ـ41].

فعله وتركه لله لا لسواه. {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا، يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} [الإنسان: 5ـ12].

ويحسن المؤمن عمله كله، لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء كما – في حديث شداد بن أوس رَضي الله عنه، قال: اثنتان حفظتهما عن رسول الله صَلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته) [مسلم (3/1548)].

والدين الإسلامي لا يتم إلا بالإحسان، وكان أحد الأسئلة المهمة التي أجاب عنها الرسول صَلى الله عليه وسلم جبريلَ، الذي جاء يسأله ليعلم الناس دينهم كما في حديث أبي هريرة وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وفيه: قال: ما الإحسان؟، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [البخاري رقم الحديث 50، فتح الباري (1/114) ومسلم (1/36)].

وأي سلطة في العالم تقدر على إيجاد هذا المعنى في قلب الإنسان، بحيث يعمل العمل في أي مكان، رآه الناس أو لم يروه، فيتقنه طمعاً في ثواب من يراقبه وخوفاً من عقابه، هل يوجد أحد غير الله تعالى له هذه الصفة: كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وهذه الرقابة الذاتية - أي التي لا تفارق المسلم - هي التي جعلت السلف الصالح - الصحابة فمن بعدهم - يعلون كلمة الله في الأرض، وينشرون العدل، ويطهرون الأرض من رجس الوثنية والظلم والطغيان والمعاصي، وهي التي جعلتهم يقولون: انتهينا وبسببها أهراقوا الخمر من دنانها، ومن الكؤوس التي كانت مرفوعة بأيديهم إلى أفواههم، عندما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90 ـ 91 وراجع تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/91 ـ 97)].

أين ذلك مما فعلته أكبر دولة مادية في الأرض في مطلع القرن العشرين، من سن قوانين شديدة وعقوبات متعددة، من سجن وتغريم، ومن استخدام وسائل إعلام متنوعة قوية، لمنع الناس من شرب الخمر، واستمرت محاولاتها أربعة عشر عاماً، قُتِلت فيها نفوس، وأُنفقت فيها أموال، وامتلأت بها سجون، دون جدوى، ثم رفعت هذه الدولة "أمريكا" يديها مستسلمة للسكارى، أسيرة بين أيديهم، ملغية قانون تحريم الخمر أمام الجماهير، أين ذاك من هذا أو أين هذا من ذاك؟ [راجع كتاب الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي ص224ـ227].

ترى بعد هذا أن دينا في الأرض غير هذا الدين، يحقق للبشر السعادة والطمأنينة وأداء الحقوق وصيانة النفوس والعقول والأموال، مثل دين الإسلام؟ وهل يجوز لأهل هذا الدين أن يقعدوا عن تبليغه ويجاهدوا في سبيل وصوله إلى العالمين؟ أليس المسلمون آثمين في القعود عن ذلك وعليهم إثم خسارة العالم كله إذا لم يبلغوه هذه الرسالة؟: {والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر].

الإسلام يحقق للإنسان معنى وجوده:

كل شيء يوجد في الكون ولا يحقق معنى وجوده، فعدمه خير من وجوده والمعنى الذي وجد من أجله الإنسان، أسمى وأجلُّ من أي معنى آخر في هذه الدنيا، لأن تحقيق معنى وجود الإنسان، يتحقق به كل معنى مفيد نافع ويقضى به على كل معنى فاسد ضار، والمعنى الذي وجد من أجله إنما هو عبادة الله. فإذا تحقق هذا المعنى في الإنسان، نالت البشرية السعادة الأبدية، وإذا غاب هذا المعنى، نالت الشقاء والخسران، وتصبح الأرض على سعتها كسجن ضاق بأهله من ذوي الإجرام والعدوان، كما هو حال البشرية الشقية ذات الحضارة المادية النكدة المعبودة من دون الله التي لا يزال أهلها في هبوط مستمر إلى دركات الحيوانية والوحشية والهمجية.

و لا يخفى ذلك على كل متتبع أدنى تتبع لأحوال الناس وحوادث الأيام، وما ذلك إلا لفقد هذا المعنى العظيم - على المستوى الذي أراده الله شرعاً من كافة البشر- الذي لم يوجد الإنسان إلا له.كما قال سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وقال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 163].

الفهم الشامل فَهِم السلفُ الصالِحُ معنى العبادة، فلم تشذ حركة أو سكنة في حياة المسلم، من الواجبات التي تؤدَى، وكذلك المندوبات والمباحات -إذا قصد بها وجه الله - والمحرمات التي تترك، وكذلك المكروهات، لم تشذ عن العبادة التي هي معنى وجود الإنسان، ولهذا كان السلف يرجون ثواب الله على نشاطهم كله، كما قال معاذ بن جبل رَضي الله عنه: "والله إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي" [البخاري رقم الحديث 4342، فتح الباري (8/60)، ومسلم (3/1456)]. أي أرجو بنومي على سريري ثواب الله، كما أرجو ذلك من قيامي الليل.

وعرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة حسب هذا الفهم الواسع بقوله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" [مجموع الفتاوى (10/149)].

فما من أمر ينوي الإنسان فعله، من الطاعات أو المباحات، قاصداً به وجه الله، ثم يفعله، أو لا يفعله، لعدم قدرته على فعله إلا كتبه الله في ميزان حسناته، فهو عبادة.

وما من أمر ينوي المؤمن تركه من المحرمات والمكروهات والمباحات، قاصداً بتركه وجه الله، ثم يتركه، إلا كتب الله له تركه في ميزان حسناته، فهو عبادة أيضاً، بل إذا هم بسيئة ثم تركها لله كتبها الله له حسنة.

فحياة المؤمن كلها عبادة، ولذلك يستكثر من الطاعات سواء كان في المسجد أو في السوق، في المصنع أو في الدكان، في المنزل أو خارجه، نائماً أو مستيقظاً: "والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي". وبفقد هذا الفقه لمعنى العبادة عند كثير من الناس كبيرهم وصغيرهم- فقد الخير في الأرض، وعظم الشر وكثر.

والبشرية التي تفقد هذا المعنى، ضائعة ضالة في عقيدتها وأخلاقها ومعاملاتها، تتصرف تصرف الأعمى الذي لا قائد له، والأمة التي تحقق هذا المعنى أمة مهتدية مبصرة تتصرف تصرفاً حكيماً، تسعد بتصرفها نفسها وتسعد الآخرين: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2].

ولقد صور الأستاذ الندوي [رحمه الله] في كتابه القيم (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) المجتمع الضال الذي فقد هذا المعنى، والمجتمع المهتدي الذي حقق هذا المعنى، تصويراً موفقاً، يجدر بالباحث أن يقتطف منه ما يناسب المقام هنا.

قال عن الأول:

"رأى – يعني النبي صَلى الله عليه وسلم – مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله، أو في غير محله، وقد أصبح فيه الذئب راعياً، والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظياً، والصالح محروماً شقياً، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك" [ص89 طبع علي بن علي ـ الدوحة].

وقال عن الثاني – المجتمع الإسلامي الذي حقق معنى وجوده: "بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة بعث رسول الله صَلى الله عليه وسلم، في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة...

عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس غيرها، فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ من عجائب الدهر وسوانح التاريخ... ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة –يعني العرب – التي استهانت بقيمتها الأمم المعاصرة، وسخرت منها البلاد المجاورة، لا يلبث أن يرى منها كتلة لم يشاهد التاريخ البشري أحسن منها اتزاناً، كأنها حلقة مفرغة لا يعرف طرفها...

تأسست هذه الحكومة المتشعبة الأطراف، فأنجدتها هذه الأمة الوليدة التي لم يمض عليها إلا بعض العقود... برجل من الرجال الأكفاء، فكان منها الأمير العادل، والخازن الأمين، والقاضي المقسط، والقائد العابد، والوالي المتورع، والجندي المتقي...

لقد وضع محمد صَلى الله عليه وسلم، مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب، أصاب الجاهلية في مقتلها وصميمها، فأصمى رميته، وأرغم العالمَ العنيد بحول الله أن ينمو نمواً جديدا ويفتح عهداً سعيداً، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جسد التاريخ…" [ص 118ـ 121].

ودين هذا شانه لا يتحقق معنى وجود الإنسان إلا به، هل يجوز التفريط فيه وعدم تبليغه للناس، أو يجوز ترك السدود التي تحول بينه وبين وصوله إلى الناس بالدعوة والتبليغ وجهاد من يصدهم عنه، لمعرفة حقيقته يتمكن الناس من سماع دعوته التي نزل بها القرآن: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}[المائدة] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف]