المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (031)الإسلام وضرورات الحياة - المبحث السادس: أداء الحقوق إلى أهلها



أهــل الحـديث
22-07-2014, 03:51 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




حقوق الناس في المال كثيرة، ومن أهم الأسباب المقتضية لضرورة حفظ المال أداء المال إلى مستحقه، وأبواب الفقه مليئة بمعني هذا المبحث.

ويكفي ذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: أداء الزكاة إلى مستحقيها:

وقد تولى الله تعالى: تعيين مصارفها في كتابه الكريم.

كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقَابِ وَالْغَارمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَريضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)}[التوبة].

والزكاة ركن من أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا بها، وتؤخذ من مانعها قهراً، فإن منعها جماعة قوتلوا على أدائها، كما فعل الصحابة في حروب الردة، ويجب أن يبعث الوالي عماله لجبايتها وأن يصرفها في مصارفها.

وفي كتب الفقه وشروح الحديث تفاصيل كاملة لأحكامها، وقد ألفت فيها كتب خاصة [وأجمعها فيما رأيت إلى الآن كتاب فقه الزكاة للشيخ يوسف القرضاوي، وقد بلغت صفحاته أكثر من مائتين وألف صفحة في مجلدين.].

والمقصود هنا بيان أنها من أهم الحقوق المالية التي يجب أن تؤدى لأهلها، ويكفي في ذلك أنها أحد أركان الإسلام الخمسة.

قال ابن حزم، رحمه الله: "الزكاة فرض كالصلاة، هذا إجماع متيقن. وقال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُر الْحُرمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُروهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُور رحِيمٌ(5)}[التوبة].

فلم يبح الله تعالى سبيل أحد حتى يؤمن بالله، ويتوب عن الكفر، ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة. ثم ساق بسنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهـما، قال: "قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله) [المحلى (5/201) والحديث في صحيح البخاري (1/17) وصحيح مسلم (1/23).].

المثال الثاني: أداء الدَّيْن:

لما كان الإنسان قد يحتاج إلى أخيه ليفرج عنه كُرَبه بإقراضه شيئاً من المال، أباح للمحتاج الاقتراض، وحث صاحب المال على إنظار أخيه المعسر الذي لا يجد ما يقضي به دينه. كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرةٍ فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْر لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(280)}[البقرة].

ولكن الشارع حذر المستدين من أن يكون قصده بالاستدانة إتلاف أموال الناس، وليس أداءها، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) [البخاري (3/82).].

وحذر عليه الصلاة والسلام، القادر على أداء حقوق الناس من تأخيرها، وعدَّ ذلك ظلماً يحل عرضه وعقوبته. فقد روى أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (مطل الغني ظلم) [البخاري (3/85) ومسلم (3/1197).].

وفي حديث الشريد بن سويد الثقفي، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) [أحمد (4/22) أبو داود (4/45-46) والنسائي (7/278) وابن ماجه (2/811) الحاكم في المستدرك (4/115) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".].

وللمبالغة في التحذير من التساهل في أداء الدين، امتنععليه الصلاة والسلام، عن الصلاة على من مات وعليه دين ولم يخلف ما يكفي لقضائه، حتى تحمل ذلك عنه بعض الصحابة فصلى عليه. كما روى سلمة بن الأكوع، رضي الله تعالى عنه، قال: "كنا جلوساً عند النبي عليه الصلاة والسلام، إذ أتي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها. فقال: (هل عليه دين؟).قالوا: لا. قال: (فهل ترك شيئاً؟). قالوا: لا. فصلى عليه.
ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صلِّ عليها. قال: (هل ترك شيئاً؟). قالوا: لا. قال: (فهل عليه دين؟). قالوا: ثلاثة دنانير. قال: (صلوا على صاحبكم). فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دينه، فصلَّى عليه" [البخاري (3/55).].

بيت مال المسلمين أولى بقضاء دين موتاهم:

وعندما فتح الله على نبيه عليه الصلاة والسلام، كان يقضي دين من مات وعليه دين ولم يخلف شيئاً.
وجعل ذلك سنة تتبع من قبل ولاة الأمر بعده، حتى لا تضيع الحقوق، وحتى تبرأ ذمم غير القادرين على أداء الدين. كما في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه وفيه: "فلما فتح الله على رسوله، كان يصلى ولا يسأل عن الدين، وكان يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً، أوكلاً، أو ضياعاً، فعليَّ وإليَّ ومن ترك مالاً فلورثته) [البخاري (6/195) ومسلم (3/1237).].

وإذا مات من عليه دين وخلف شيئاً بدئ بقضاء دينه قبل قسمة المال على ورثته. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَر مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَركَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولأبويه لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَركَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرثَهُ أَبَوَاهُ فلامِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فلامِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤكُمْ وَأَبْنَاؤكُمْ لا تَدْرونَ أَيُّهُمْ أَقْربُ لَكُمْ نَفْعًا فَريضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)}[النساء].

وقال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَركَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربُعُ مِمَّا تَركْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربُعُ مِمَّا تَركْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَركْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رجُلٌ يُورثُ كلالَةً أَوِ امْرأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُركَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْر مُضَار وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12)}[النساء]. ويجب تأخير وصيته أيضاً في غير الدين، حتى يقضى دينه" [راجع المغني لابن قدامة (6/137).].

حفظ المال بالكتابة والشهادة:
هذا، ولقد أكد الله تعالى حفظ الحقوق، ولا سيما الدين، حيث أمر بكتابته والإشهاد عليه، و لو كان شيئاً يسيراً، وإذا تعذرت الكتابة أو الإشهاد، شرع الله لضمان الدين رهن المدين ما يفي بما استدان، حرصاً على حفظ المال وعدم ضياع الحق. كما قال تعالى في آية الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ربَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فَرجُلٌ وَامْرأَتَانِ مِمَّنْ تَرضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّر إِحْدَاهُمَا الأُخْرى ولا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى ألا تَرتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً حَاضِرةً تُدِيرونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ولا يُضَار كَاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ربَّهُ ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(283}[البقرة].

تأمل هذه التأكيدات الشديدة على حفظ المال:

أمر بكتابته بالعدل، أي بدون زيادة ولا نقصان، مع تحديد الأجل، ونهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة، وأمر من عليه الدين أن يملي على الكاتب بنفسه، فإن لم يكن أهلاً للإملاء أو كان غير قادر أملى وليه، والتحذير من أن ينقص في إملائه شيئاً من الحق الذي عليه.

ورخص سبحانه في ترك الكتابة في حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون البيع والشراء نقداً، ليس فيه دين، ويكون التسليم في نفس المجلس: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً حَاضِرةً تُدِيرونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }.

الحالة الثانية: أن تكون المعاملة بين الدائن والمدين في سفر يصعب فيه وجود كاتب وشاهدين، وقد أمر المستدين أن يضع لدى دائنه رهناً يوثق به حقه بدلاً من الكاتب والشاهدين. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.

فإن لم يكن شيء لدى المدين يسلمه لصاحب الدين رهناً، وأمنه الدائن، فعلى المدين أن يتقي الله ويؤدي ما أمنه عليه صاحبه.


وأمر تعالى بالكتابة وأكد ذلك بعدة أمور:

الأمر الأول: قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}.فليس المطلوب مجرد كتابة كاتب، وإنما كتابة كاتب عدل يوثق في كتابته، بحيث لا يزيد على المدين ولا ينقص من حق الدائن.

الأمر الثاني: قوله تعالى: {ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ}.. {فَلْيَكْتُبْ}. نهى سبحانه الكاتب عن الامتناع من الكتابة، وأمره أن يكتب؛ لأن في امتناع الكاتب أن يكتب ما يحتاج الناس إلى كتابته، ضياعاً للحقوق وإهداراً للمصالح.

ولم يكتفِ سبحانه بالنهي عن الامتناع بل أتبع ذلك النهي بأمره بالكتابة تأكيداً للحكم ودلالة عليه من وجهين:

الوجه الأول: النهي الذي يقتضى التحريم.

والوجه الثاني: الأمر الذي يقتضى الوجوب.

الأمر الثالث: قوله تعالى: { كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}.

وهو تذكير للكاتب الذي يحتاج الناس إلى كتابته، بأن معرفته للكتابة نعمة امتن الله بها عليه، ولولا أنه تعالى علمه ذلك لكان مثل من يجهلها. ومن شكره لله تعالى على ذلك التعليم، أن يكتب حقوق الناس ولا يمتنع عن الكتابة.

الأمر الرابع: قوله تعالى: {ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}. فقد علم سبحانه أن الناس قد يتساهلون في كتابة الدين ويثق بعضهم في بعض، ولكنه علم سبحانه كذلك أن في عدم الكتابة أضراراً قد تنجم إما عن نسيان وإما عن موت وإما عن خيانة، وأن الكتابة أقوم لشهادة الشهود وأنفي للشك والريبة، وإن كان الدين قليلاً.

الأمر الخامس: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}. و الأقسط هو الأعدل وكونه أقسط عند الله، فهو الأرضى له والأحب إليه هو فعله، فلا يليق بالمسلم أن يعدل عما هو كذلك عند الله.

الأمر السادس: قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}. فإن الشهادة وحدها قد تُنسى، وقد يغيب الشاهد وقت الحاجة بسفر أو موت والكتابة أكثر بقاء.

الأمر السابع: قوله تعالى: ﴿ {وَأَدْنَى ألا تَرتَابُوا}. والريبة تُحدث الشجار والأحقاد بين الناس، وكل شيء ينفي تلك الريبة أو يخففها لا ينبغي التفريط فيه.

الأمر الثامن: قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً حَاضِرةً تُدِيرونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا}. ونفي الجناح في هذه الحالة الخاصة، يدل على ثبوته فيما عداها.

وقد أمر تعالى مع الكتابة بالشهادة. وأكد ذلك الأمر من وجوه أيضاً:

الوجه الأول: اشتراط النِّصاب، وهو رجلان، أو رجل وامرأتان، لتكون الشهادة مؤدية الغرض منها، وهو حفظ الحق المشهود عليه.

الوجه الثاني: اشتراط كون الشهداء مسلمين بدليل قوله تعالى: {مِنْ رجَالِكُمْ} أي المسلمين؛ لأن المسلم هو الذي يخاف الله ويؤدي الشهادة على وجهها في الغالب، وأكد ذلك بقوله: {مِمَّنْ تَرضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والمسلم إنما يرضي أخاه المسلم العدل.

الوجه الثالث: قوله تعالى: {ولا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وهو نهي عن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها، والنهي يقتضي التحريم إذا تعين المدعو لتحمل الشهادة، لما في الإباء عن الشهادة من ضياع الحقوق.

الوجه الرابع: قوله تعالى: {ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} وهو يؤكد أن النهي عن الإباء عن الشهادة للتحريم لما فيه من الإثم.

والآية الكريمة (آية الدين) والتي تليها تستوعب شرحاً مطولاً بأحكامها المفصلة في كتب التفسير وكتب الفقه، والمقصود هنا الإشارة إلى وجوب أداء الدين لصاحبه وفي هذا القدر كفاية [وقد أجاد القرطبي رحمه الله في تفسيره: الجامع لأحكام القرآن (3/377-420) في أحكام هاتين الآيتين وأكد في مواضع كثيرة على دلالتهما على وجوب حفظ المال وتنميته فراجعه إن شئت.].

المثال الثالث: المواريث:

وهي انتقال أموال الموتى إلى ورثتهم حسب قسمة الله تعالى التي فصلتها آيات سورة النساء[مضت الإشارة إليها وذكرها مبحث سابق.].

والمراد بيانه - هنا - أن الْمُوَرِّث لا يجوز له أن يتصرف في ماله في مرض موته، إلا في الثلث فأقل، إذا أراد أن يوصي لبعض أقاربه من غير الورثة، أو في بعض أوجه البرِّ الخاصة أو العامة.

ويصبح الورثة في هذه الحالة أحق بماله، فإذا أجازوا وصيته بما فوق الثلث جاز وإلا فلا؛ لأنه يجب أداء حظوظهم إليهم بعد موته مما بقى من المال، بعد تجهيزه منه وسداد ديونه وتنفيذ وصيته المشروعة.

ولهذا لما أراد سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه، أن يتصدق بثلثي ماله، وهو مريض نهاه الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أفأتصدق بشطره؟ قال: (لا، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) [صحيح البخاري (3/186) وصحيح مسلم (3/1250).].

ويجب أن يؤدى لكل وارث نصيبه بعد موته، ومحرم على القوي من الورثة أن يظلم الضعيف بالاستيلاء على نصيبه أو بعضه. وكذلك يجب على ولاة الأمور أن ينصفوا المظلوم في ذلك من ظالمه.

المثال الرابع: اللقطة:

وهي المال الذي يجده المرء ساقطاً، لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يَعرِّفه ويَعرف الوعاء الذي حفظ فيه، من كيس ونحوه، و كل العلامات التي يتميز بها.

ثم يحفظ هذا المال عنده سنه كاملة يعرف به في المجامع العامة، كالأسواق، وأبواب المساجد، ونحوها، ويمكنه في هذا العصر أن يعلن عنه في وسائل الإعلام المختلفة ولا يبين الصفة المميزة لأحد.

وإنما يذكر أن لديه مالاً ضائعاً، ويطلب ممن يدعيه أن يعرفه بعدد أو صفة، ويصف ما هو بداخله من جلد أو صندوق، وقفله ومفتاحه إن وجد شيء من ذلك.

فإذا أقام أحد بينة على أنه له، بوصف أو غيره في تلك المدة وجب أداؤه إليه، وإن انتهت السنة قبل أن يعرف مَن صاحب اللقطة، فلواجدها أن يتصرف فيها كما يتصرف في ماله.

ولكنه يضمنها متى وجد مالكها بعد ذلك، والدليل على ذلك ما رواه يزيد بن المنبعث، انه سمع زيد بن خالد يقول: "سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام، عن اللقطة: الذهب أو الورق؟ فقال: (اعْرف وكاءها و عفاصها ثم عرفها سنة، فان لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدِّها إليه) [البخاري (1/31) ومسلم (3/1346) والعفاص الوعاء الذي تكون فيه اللقطة، والوكاء آلة ربط رأس الوعاء من خيط ونحوه، ويشمل القفل. جامع الأصول (10/702).].

قال ابن حزم، رحمه الله: "من وجد مالاً في قرية أو مدينة أو صحراء، في أرض العجم أو أرض العرب، العنوة أو الصلح، مدفوناً أو غير مدفون، إلا أن عليه علامة أنه من ضرب مدة الإسلام، أو وجد مالاً قد سقط، أي مال كان، فهو لقطة، وفرض عليه أخذه، وأن يشهد عليه عدلاً واحداً فأكثر، ثم يعرفه ولا يأتي بعلامته، لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع الذي (كذا، والصواب: التي) يرجو وجود صاحبه فيها، أو لا يرجو: من ضاع له مال فليخبر بعلامته. فلا يزال كذلك سنة قمرية، فإن جاء من يقيم عليه بينة، أومن يصف عفاصه ويَصدُق فيه، ويصف وعاءه ويصدق فيه، ويصف رباطه ويصدق فيه، ويعرف عدده ويصدق فيه. دفعها إليه، ولا ضمان عليه بعد ذلك، ولو جاء من يثبته ببينة. فان لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا ولا بينة، فهو عند تمام السنة من مال الواجد، غنياً كان أو فقيراً، يفعل فيه ما يشاء، ويورث عنه، إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئاً مما ذكرنا فيصدق، ضَمِنه له إن كان حياً، أو ضمنه الورثة أن كان الواجد له ميتاً" [المحلى (8/257).].

المثال الخامس: رد الودائع:

كل الأمانات يجب أداؤها إلى أهلها، ومنها الودائع.

قال ابن حزم رحمه الله: "فرض على كل من أُودِعتْ عنده وديعة حفظها وردها إلى صاحبها، إذا طلبها منه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِر اللَّهِ ولا الشَّهْر الْحَرامَ ولا الْهَدْيَ ولا الْقلائِدَ ولا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ ربِّهِمْ وَرضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ولا يَجْرمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِر وَالتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)}[المائدة]. ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرا(58)}[النساء].

ومن البر حفظ مال المسلم والذمي، وقد صح نهي الرسول عليه الصلاة والسلام، عن إضاعة المال، وهذا عموم لمال المرء ومال غيره. فإن تعدى على بعضها دون بعض لزمه ضمان ذلك البعض الذي تعدى فيه فقط" [المحلى (8/276-277).].

المثال السادس: حق الضيافة:

ومن الحقوق التي أثبتها الشارع في المال حق الضيف، وهو إيواؤه وتقديم ما يحتاج إليه من طعام وشراب.
وقد جعل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، للضيافة ثلاث حالات:

الحالة الأولى: وجوبها على من نزل به ضيف، ومدتها يوم وليلة.

الحالة الثانية: ندبها وكونها من مكارم الأخلاق التي لا يليق بمن نزل به ضيف أن يقصِّر فيها، ومدتها ثلاثة أيام.

الحالة الثالثة: أن تطيب نفس من نزل به ضيف بالاستمرار في إكرامه أكثر من ثلاثة أيام، وذلك صدقة منه.

أما الحالة الأولى فيدل عليها حديث المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: {ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين، إن شاء اقتضى وإن شاء ترك) [أبو داود (4/127) وابن ماجة (2/1212) قال المحشي على جامع الأصول (7/55): وإسناده صحيح.].

وكذلك حديث عقبة بن عامر، رضي الله تعالى عنه، قال: قلت للنبي عليه الصلاة والسلام: إنك تبعثنا، فننزل بقوم فلا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) [البخاري (7/104) ومسلم (3/1353).].

فقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام الضيافة حقاً عند المضيف للضيف، وله الحق أن يطالبه بها، كما في حديث المقدام، وأمر عليه الصلاة والسلام، الضيف إذا لم يقره من نزل به، أن يأخذ بنفسه ما ينبغي للضيف.

واختلف العلماء في الحكم المراد بهذه الصيغة في الحديثين، وما في معناهما [راجع سنن أبي داود (4/129).].

فرأى بعضهم أنها دالة على الوجوب، كما هو ظاهر من الحديثين. ورأى بعضهم أنها دالة على الوجوب، ولكن ليس في كل الأحوال، وإنما في الحالات التي يضطر فيها الضيف فلا يجد شيئاً غير ذلك.

والغالب أن يكون ذلك في البوادي والقرى الصغيرة، وليست واجبة على أهل المدن. والسبب في القول الأول الإطلاق الذي يظهر من النصوص.

والسبب في القول بالتخصيص، أن النازل بالمدن يستطيع الحصول على قوته بماله، إذ يجد الطعام المعد والشراب، وكذلك يجد المكان الذي ينزل فيه بأجرة، بخلاف البوادي والقرى الصغيرة، فإنه مضطر إلى من يقدم له ما يحتاجه؛ لأنه قد لا يجد من يبيعه أو يؤيه بأجر.

ويرى الجمهور أن الضيافة سُنة مؤكدة وليست واجبة، وتأوَّل بعضهم هذه التأكيدات الدال ظاهرها على الوجوب، بأن الوجوب يكون في حق المضطر [راجع شرح النووي على مسلم (12/30-31) وجامع الأصول (7/56).]. وعلى كل حال فإن الضيف له حق واجب لا بد من أدائه إليه في صورة من الصور.
والذي يظهر من النصوص أن هذا الحق لا بد منه في اليوم والليلة؛ لأن الضيف قد لا يكون مضطراً، ولكنه يحتاج إلى المساعدة أول نزوله في البلد.

أما الحالة الثانية والثالثة فقد جمعهما - مع الحالة الأولى - حديث أبي شريح العدوى، رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت أذناي، وأبصرت عيناي ووعاه قلبي، حين تكلم به رسول الله عليه الصلاة والسلام..
فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته). قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: (يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه). وفي رواية: (ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه). قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء يقريه به) [البخاري (7/103-104) ومسلم (3/1352-1353) وأبو داود (4/127).].

وذهب ابن حزم رحمه الله إلى وجوب الضيافة مطلقاً. وقال: "وروينا عن مالك: لا ضيافة على أهل الحاضرة وعلى الفقهاء، وهذا قول في غاية الفساد". وردٌّ على من أوَّل الأحاديث بحال دون حال [راجع المحلى (9/174-175).].

وننبه على أن المسافر لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون عنده ما يكفيه من ماله، ويجد ما يشتريه من الطعام والشراب من ماله، ويجد المأوى الذي بستأجره منه، ففي هذه الحالة لا ينبغي له أن يحرج الناس بنزوله عندهم، بل الأولى به أن يعف نفسه ويريح غيره.

الحالة الثانية: أن يكون له مال، ولكنه لا يجد ما يشتريه مما يحتاجه من الطعام والشراب، ويستأجره من المأوى، ففي هذه الحال يعتبر كمن لا مال له، وتجب ضيافته على من نزل عليه.

ولا شك أن معنى الضيافة معقول وليس تعبداً، فإذا وجد المعنى الذي شرعت له الضيافة وجبت، وإذا فقد لم تجب، ولعل ابن حزم قصد هذا المعنى، عندما ساوى بين الحضر والبادية، وهو وجود الحاجة في كلتا الحالتين، ينبغي للمسافر - إذا كان له مال - في هذه العصور أن يعف نفسه، باتخاذ وسائل الاستغناء عن الناس، بحمل بطاقات الاتمان أو بطاقات الصرافات، التي يتمكن بها من قضاء حاجاته، ما دامت تكفيه عن الحاجة إلى غيره. والله أعلم.