المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (16)مفتاح باب الريان - رمضان محطة سفر إلى الجنة إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.



أهــل الحـديث
19-07-2014, 02:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم






في بداية طلب العلم، كانت تعترض لي مشكلات كثيرة، في كثير من علوم اللغة العربية، والعلوم الإسلامية، ثم اتضح لي أن سبب كثير من تلك المشكلات، إنما هو قلة علمي، وضعف فهمي... وتقصيري في البحث والاطلاع على جهود علماء الإسلام، ممن أفنوا أعمارهم في فقه الإسلام، تعلما وتعليما، وكتابة وتأليفا، وغوصا في أعماق معاني القرآن والسنة، وعلوم الآلة المعينة على فهمهما، واستخراج درر المسائل وغررها، وإبرازها لطلاب العلم... صافية نقية، لذيذة شهية....

وما كنت أرجع إلى كتب فقهاء الإسلام [في أي علم من العلوم] لأسألهم عن مسألة إلا وجدت عندهم جوابها، وما رجعت من عندهم خائبا – غالبا - إلا بسبب عجلتي وضعف صبري على البحث والتنقيب...

ولا زالت المشكلات تعرض لي إلى الآن، وقد مضى لي في طلب العلم ما يقارب خمسين عاما، ولا أزال أكتشف إلى ألان عجلتي في البحث وضعف صبري،،،،،

وأضرب لذلك مثالا بالموضوع الذي بين أيدينا اليوم،،، فقد أشكل علي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)

وسبب الإشكال أن نصوص القرآن والسنة، دلت على أن عمل ابن آدم كله لله، وهو معنى "الإخلاص" الذي دلت نصوص كثيرة على وجوبه، بصفة عامة في كل العبادات، كما قال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وقوله تعالى: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت...}.

ودلت نصوص أخرى على وجوبه في عبادات بعينها، كما في الصلاة التي تفتح بتكبيرة الإحرام الدالة على، المصلي إنما يؤدي صلاته لله.

وكما في الحج والعمرة اللذين يدخل الحاج والمعتمر فيهما بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) وكما في الجهاد الذي قيد في القرآن والسنة بهذا القيد: "في سبيل الله"

فكيف يخص الله الصيام وحده بأنه له (إلا الصيام فإنه لي...)؟

ورجعت إلى فقهاء الإسلام، أطلب منهم حلا لهذا الإشكال، فوقعت عيني على العبارات الآتية:

"وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات:

أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.

الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره هذا" [تفسير القرطبي (2/273)] وتكرر هذا المعنى في كثير من كتب التفسير، وشروح الحديث، وكتب الفقه....

ولم يُزِلْ هذا الجوابُ الإشكال الذي عرض لي، لأن الصائم يستطيع أن يظهر للناس أنه صائم، تصنعا ورياء، بالقول، فيقول: أنا صائم، وبالحال، حيث يمسك عن الطعام والشراب وغيرهما في الظاهر، ويتسحر ويفطر مع الصائمين، فيعرفون أنه صائم...

ولهذا أكثرت من التفكير في حل هذا الإشكال، وشعرت بأنني وجدت الحل قبل سنة في وقت الإطار من إحدى ليالي رمضان....

وهو كما يأتي: استحضرت قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة (261)]

وقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام (160)]

كما استحضرت حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيما يروي عن ربه عز وجل، قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة}. [البخاري رقم (6126) ومسلم رقم (131)]

الحل الذي فهمته، هو أن ثواب الحسنات، يكون مضاعفا عشر مرات، أو سبعين ضعفا، أو أضعافا كثيرة، غير محصورة، وهذه لا يعلم عدها إلا الله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}

فهمت من قوله تعالى في الحديث الذي رواه الرسول عليه الصلاة والسلام، عن ربه: {إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به) أن مضاعفة أجر الصيام مما استأثر الله تعالى به، فلا يعلمه العبد، وليس هو من الحسنات العشر، ومن السبعين، وإنما هو من الأضعاف الكثيرة غير المحصورة....

وكم كان فرحي بهذا الفهم الذي ظننت أنه لم يسبقني إليه أحد من العلماء....
وقد ذكرت ذلك لبعض طلابي، وطلبت منهم إبداء رأيهم في هذا الفهم، فأيدوه وسرهم ما وصل إليه أستاذهم...

ثم أخذت أفكر وأسأل نفسي: هل تظن أن فقهاء الإسلام في جميع العصور الماضية، غاب عنهم هذا الفهم وخصك الله تعالى به؟

ورجعت إلى الأحاديث التي ذكر فيها النص: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به)

وسجلت النصين الآتيين:

النص الأول: عن أبي هريرة رضي الله، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (قال الله عز وجل: كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) [مسلم رقم (1151)

والنص الثاني: أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها) [البخاري رقم (1795)]

النص الأول لم يذكر مضاعفة الحسنة، والنص الثاني ذكر فيه مضاعفتها إلى (عشر أمثالها) بعد قوله: (الصيام لي وأنا أجزي به) فشعرت بأن في النص الثاني إشارة إلى أن الذي اختص به، هو علم أجر الصائم....

وقادني ذلك إلى الرجوع إلى فقهاء الإسلام، لمعرفة ما إذا كانوا قد فهموا ما فهمته، وأخذت أقرأ بصبر وتأن شروح الحديث، وبخاصة "فتح الباري" لابن حجر الذي، عرف بطول نفسه في جمع النصوص، وأقوال العلماء واترجيح بينها...
فإذا هو ينقل عن البيضاوي النص الآتي: "وقوله: (إلا الصيام) مستثنى من محكي دل عليه ما قبله،والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه الا الله تعالى، ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه، ولا يكله إلى غيره" [فتح الباري (4/110)]

أدب الطلب.

الهدف من سوق هذا المشوار: ثلاثة أمور:

الأمر الأول: نقل خبرتنا في طلب العلم سلبية كانت أم إيجابية، لإخواننا الطلبة، ليستفيدوا منها، فيأخذوا الإيجابي منها ويتركوا السلبي.

الأمر الثاني: وجوب تلقي طالب العلم علمه على أيدي علماء، تلقوه عن علماء سابقين، ولا يكتفي بقراءة الكتب، بدون شيخ يفقهه في الدين على أسس متينة، ويصقل عقله بفكر نير، ويعلمه أدب طلب العلم، ويكون له قدوة حسنة في العمل والخلق، لينال بركة العلم ويزينه بالعمل.

فهذا هو سبيل الرسالة النبوية، أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام الوحي عن جبريل، وتلقاه عنه أصحابه، وتلقاه عن أصحابه التابعون، ولهذا كان أهل هذا السبيل، سائرين على صراط مستقيم، بدون إفراط ولا تفريط.

وعندما انحرف عن نهجهم بعض الفرق، فأخذوا علمهم من الدفاتر والورق، وآثروا على حلقات العلم والعلماء، اعتلاء المنابر لقيادة الدهماء، ضلوا عن صراط الحق و الهدى، وأضلوا من قلدهم فغوى.........

ولهذا قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي رحمه الله:

"من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.. وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:

إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله، فإن كان مخالفاً له، فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم..

والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائناً ما كان، وعلى أي وجه صدر..

وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقة زائفة ولا أحدا مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف" [الموافقات (1/91ـ95) بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله دراز.

الأمر الثالث: الاطلاع على أقوال العلماء في مسائل الاجتهاد والخلاف، ومعرفة أدلتهم وأوجه استدلالهم، وحل ما يشكل على الطالب، لأن ذلك يوسع أفق طالب العلم، ويكسبه القدرة على فقه النصوص، ويجعله يعرف قدر أهل العلم والأدب معهم، و يعرف قدر نفسه كذلك، فلا ينصب نفسه ندا لأكابر العلماء، والحال أن الفرق بينهم وبينه كالفرق بين الأرض والسماء.



نسأل الله أن يفقهنا في دينه، ويوفقنا للعمل بما علمنا.